أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الارشيف الماركسي - ارنستو تشي غيفارا - الاشتراكية والإنسان في كوبا















المزيد.....



الاشتراكية والإنسان في كوبا


ارنستو تشي غيفارا

الحوار المتمدن-العدد: 7395 - 2022 / 10 / 8 - 09:49
المحور: الارشيف الماركسي
    


اعتدنا أن نسمع من فم الناطقين الرأسماليين هذا الاعتراض الإيديولوجي بأن فترة بناء الاشتراكية، التي نرتبط بها، تتميز بتضحية الفرد على مذبح الدولة.

لن أحاول دحض هذا التأكيد على قاعدة نظرية مجردة، بل سأعيد الواقعات كما عاشها الناس في كوبا مضيفا إليها تعليقات عامة.

فقبل كل شيء، سأرسم بإيجاز الملامح الكبرى لتاريخ نضالنا الثوري قبل وبعد الاستيلاء على السلطة.

في 26 تموز 1953 وُلِدَتْ النضالات الثورية التي انتهت إلى الثورة في الأول من كانون الثاني 1959. عندما هاجمت جماعة من الرجال، يقودهم فيدل كاسترو، في فجر ذلك اليوم، ثكنة مونكادا في المقاطعة الشرقية. كان الهجوم فاشلا وتحول الفشل إلى نكبة، إذ أُلقي القبض على الأحياء وسجنوا، لكنهم عادوا إلى النضال الثوري حالما عُفِيَ عنهم. وخلال هذا التسلسل الذي لم تكن الاشتراكية فيه سوى فكرة خبيئة، كان الإنسان هو العامل الأساسي. ففي الإنسان الكائن الوحيد، الذي يحمل اسما ولقبا، كنا نضع ثقتنا، وبأهليته للعمل كان يرتبط نجاح الصراع الدائر أو فشله.

ثم جاءت مرحلة الغوار. لقد نما الغوار في أوساط متباينة في الشعب. الكتلة التي كانت ما تزال نائمة والتي كان يجب تعبئتها، وفي طليعتها المغاوير، الذين كانوا يحركون الوعي الثوري والحماس القتالي. كانت هذه الطليعة العامل الوسيط الذي خلق الشروط الذاتية الضرورية للنصر. وبمقدار ما كنا نتبنى المثل العليا للبروليتاريا، وكانت الثورة تتم في عاداتنا وفي أذهاننا، كان الفرد ما يزال عاملا أساسيا.

فكل محارب من محاربي السييرا ماسترا، اكتسب رتبة أعلى في القوات الثورية، كان يحقق عددا كبيرا من الأعمال الباهرة. وعلى هذه القاعدة كان يحصل على رتبه.

وفي خلال هذه المرحلة البطولية الأولى، كنا نتخاصم للحصول على المهام المشتملة على أكبر المسؤوليات وأفدح الأخطار دون أن تُرضي شيئا آخر غير القيام بالواجب.

وغالبا ما نرجع إلى هذه الواقعة المليئة بالتعاليم في عملنا التربوي الثوري. كان موقف محاربينا يشف عن إنسان المستقبل. فقد تكرر هذا التفاني الكلي للقضية الثورية في مناسبات أخرى عديدة من تاريخنا، وقد رأينا، خلال أزمة تشرين الأول ولدى وقوع إعصار «فلورا»، أفعال شجاعة وتضحيات استثنائية يحققها شعب بأسره.

إن إحدى مهامنا الأساسية، من وجهة النظر الإيديولوجية، هي إيجاد الصيغة لإدامة هذا الموقف البطولي في الحياة اليومية.

في كانون الثاني 1959، تشكلت الحكومة الثورية، بمشاركة مختلف الأعضاء من البرجوازية الرجعية. وكان وجود الجيش المتمرد، عامل القوة، يشكل ضمانة الحكم. لكن ظهرت في الحال تناقضات جدية أمكن التغلب عليها جزئيا عندما تقلد فيدل كاسترو في شباط 1959 قيادة الحكومة بصفته وزيرا أول. وقد وجب أن تؤول هذه الأحداث، في تموز من السنة نفسها، إلى استقالة الرئيس أوروتيا تحت ضغط الجماهير. وهكذا ظهر بوضوح في تاريخ الثورة الكوبية عنصر سيتبدى بانتظام: الجماهير.

تفسير صحيح لرغبات الشعب

هذا الكائن ذو الأوجه العديدة ليس، كما يزعمون، مجموعا من العناصر المتشابهة، كلها يعمل كقطيع مطيع (بعض الأنظمة تعتبره كذلك). صحيح أنه يتبع قادته، دون تردد، وبصورة رئيسية فيدل كاسترو، بَيْدَ أن درجة الثقة التي حاز عليها فيدل تتناسب على وجه الضبط مع تفسيره الصحيح لرغبات الشعب وآماله ومع الكفاح الصادق الذي خاضه لتحقيق الوعود التي قطعها.

لقد شاركت الجماهير في الإصلاح الزراعي وفي المهمة الشاقة، مهمة إدارة مشروعات الدولة، وعانت التجربة البطولية في بلاياخيرون، وتمرست في الكفاح ضد مختلف قُطاع الطرق الذين تسلحهم وكالة المخابرات المركزية، وعاشت أهم لحظات التاريخ الحديث أثناء أزمة تشرين الأول، وهي اليوم تواصل العمل في بناء الاشتراكية.

قد يُظن لأول وهلة أن أولئك الذين يتحدثون عن خضوع الفرد للدولة محقون في قولهم، فالجماهير تنجز، بحماس وانضباط لا مثيل لهما، المهام التي حددتها الحكومة، سواء أكانت اقتصادية أو ثقافية، دفاعية أو رياضية، الخ. وتأتي المبادهة، بصورة عامة، من فيدل أو من القيادة العليا، للثورة فتشرح لشعب الذي يتبناها. وكثيرا ما يطرح الحزب والحكومة تجربات محلية، لتعمم بعدئذ، تبعا للطريقة ذاتها.

ومع ذلك تُخدع الدولة أحيانا. فعندما يحصل خطأ من هذه الأخطاء، نلاحظ نقص الحماس لدى الجماهير من تناقض نشاط كل واحد، ويشل العمل حتى يتقلص إلى إبعاد تافهة، عندها تحين لحظة تبديل الطريقة.

هذا ما حدث في آذار 1962، حيال سياسة التشيع التي فرضها هانيبال إسكالانته.

الوحدة الديالكتيكية بيت فيدل والجماهير

بديهي أن هذه الآلية لا تكفي لضمان اتخاذ قرارات فعالة وأنه ينقصها ترابط أكثر التحاما بالجماهير.

يجب علينا أن نحسّْن هذه الآلية خلال السنوات القادمة، بَيْدَ أننا نستعمل في الوقت الحاضر، بالنسبة للمبادهات الصادرة عن الطبقات العليا في الحكومة، الطريقة شبه الحدسية التي تنحصر في معاينة ردود الفعل العامة تجاه المشكلات المطروحة. إن فيدل معلم في هذه الأمور، ولا نستطيع تثمين الأسلوب الخاص الذي يندمج فيه بالشعب إلا إذا رأيناه أثناء العمل، ففي الاجتماعات العامة الحاشدة، نلاحظ ظاهرة مماثلة لظاهرة الطنين في مقياسي نغم، فيبدأ فيدل والشعب بالاهتزاز في حوار متزايد الشدة حتى يبلغ أوجه النهائي الذي يكرسه هتافنا بالنضال والنصر.

ومن الأمور الصعبة، بالنسبة لمن لا يعيش تجربة الثورة، أن يفهم ذلك الديالكتيك الوثيق القائم بين كل فرد والجماهير، وذلك التفاعل بين الجماهير وقادتها.

يمكن أن نرى بعض الظاهرات المماثلة، في المجتمع الرأسمالي، عندما يظهر رجال سياسيون قادرون على إثارة التعبئة الشعبية. بَيْدَ أن القضية لا تكون عندئذ حركة اجتماعية، ذلك أن الحركة تدوم ما دام حيا ذلك الذي أمدَّها بالدفع، أو حتى نهاية الأوهام الشعبية، التي يفرضها المجتمع الرأسمالي. ففي هذه الحركة الأخيرة، يوجه الإنسان نظام قاس، لا تصل إليه الأفهام، عادة. والفرد المنحط يرتبط بالمجتمع في مجموعه بحبل غير منظور: هو قانون القيمة. وهذا القانون يؤثر في أوجه حياته كلها، ويكيف مصيره.

القوانين غير المنظورة للرأسمالية

إن القوانين العمياء للرأسمالية، القوانين التي لا يراها معظم الناس، تفعل في الفرد دون أن يشعر بفعلها. فلا يرى سوى أفق واسع يبدو له غير محدود. بهذه الصورة تطمح الدعاية الرأسمالية إلى تقديم حالة روكفلر –حقيقة أم لا- على أنها درس في امكانات النجاح. فالبؤس الذي يجب تكديسه لينبثق مثال كهذا، ومجموع الحقارات التي تتضمنها ثروة على هذا القدر من الضخامة لا تظهر في اللوحة ولا تستطيع القوى الشعبية أن ترى دوما هذه الظاهرات بوضوح. (كان يجب أن ندرس هنا الشكل الذي يفقد فيه العمال، في البلدان الرأسمالية، وعيهم الأممي تحت تأثير إشراكهم في قدر معين من استثمار البلدان التابعة، وكيف أن استعدادهم للقتال في بلادهم، يضعف، تبعا لذلك، إلا أن هذا الموضوع يخرج عن نطاق بحثنا).

وعلى أية حال، فإن الطريق الذي يجب اجتيازه، في مجتمع كهذا مليء، بالعقبات، ويبدو في الظاهر، أن فردا يمتلك صفات معينة يستطيع وحده اجتيازه للوصول إلى الهدف، ويترصد الناس المكافأة البعيدة بَيْدَ أن الطريق مقفر، يضاف إلى ذلك قانون الغاب: ذلك أن فشل الآخرين يتيح وحده النجاح.

سأحاول الآن تعريف الفرد، صانع هذه المأساة الغربية والمثيرة، مأساة بناء الاشتراكية، في وجوده المزدوج ككائن وحيد وعضو في المجتمع.

أعتقد أن الأسهل الاعتراف بصفته ككائن غير تام. فعيوب المجتمع القديم تستمر في الوعي الفردي ويجب القيام بعمل متواصل لمحوها. والتسلسل مزدوج: من جهة، المجتمع الذي يؤثر في تربيته المباشرة، ومن جهة أخرى الفرد الذي يخضع في موقف واع من التربية الذاتية.

محاربة الماضي بقسوة

يجب على المجتمع الجديد السائر في طريق التكوين أن يحارب بقسوة كبيرة الماضي الذي يتردد صداه لا في الوعي الفردي وحده، حيث تثقل كاهله بقايا تربية موجهة بانتظام نحو انعزال الفرد، بل يتردد أيضا في الصفة ذاتها لهذه الفترة الانتقالية التي تدوم فيها العلاقات التجارية. فالبضاعة هي النواة الاقتصادية للمجتمع الرأسمالي، وما دامت هذه البضاعة موجودة، ستظل آثارها بادية في تنظيم الإنتاج، وبالتالي، في الوعي.

أبرز ماركس في رسمه المبسَّط، فترة الانتقال على أنها نتيجة التحويل المتفجِّر للنظام الرأسمالي الذي تمزقه تناقضاته، ولقد رأينا، في الواقع، كيف تنفصل عن الشجرة الإمبريالية بعض البلدان التي تكون فروعها الأضعف، وهي ظاهرة توقعها لينين.

ففي هذه البلدان، نمت الرأسمالية نموا كافيا لتشعر الشعب بنتائجها بشكل أو بآخر، بَيْدَ أن تناقضاتها هي، ليست هي التي تفجِّر النظام في آخر المطاف. إن الكفاح التحرري ضد الطاغية الأجنبي، والبؤس الذي تحدثه أمور طارئة خارجية كالحرب، تكون نتيجتها زيادة ضغط الطبقات المتميزة على الطبقات المستثمَرة، وحركات التحرير التي تستهدف قلب الأنظمة الاستعمارية الجديدة، هي عوامل تطلق عادة الحركة الثورية. وينجز العمل الواعي ما يتبقى.

لم تتم في هذه البلدان بعد تربية كاملة موجهة نحو العمل الاجتماعي، ولا تتيح ظاهرة التملك وضع هذه الثروات في متناول الجميع.

إن تبدُّلا سريعا وبلا تضحيات أمر مستحيل، بفعل التخلف في التنمية من جهة، وهرب الرساميل العادي نحو البلدان «المتمدنة» من الجهة الأخرى. فما يزال علينا أن نقطع مراحل كثيرة قبل أن نصل إلى مستوى كافٍ من التنمية الاقتصادية، والإغراء كبير جدا للسير على دروب مطروقة، واللجوء إلى المصلحة المادية كدافع لتنمية اقتصادية متسارعة.

وعندئذ نتعرض لخطر هو أنه تخفي الأشجار الغابة: فثمة خطر لأن نقع في مأزق إذا تتبعنا وهم تحقيق الاشتراكية بمساعدة أسلحة عفنة ورثناها عن الرأسمالية (البضاعة باعتبارها وحدة اقتصادية، نجاعة العمل، المصلحة المادية الفردية باعتبارها حافزا، الخ). والواقع أننا ننتهي إلى مأزق بعد أن نجتاز مسافة طويلة تصالبت أثناءها الطرق في أغلب الأحيان، مما يجعل من الصعوبة بمكان معرفة اللحظة التي ضللنا فيها الطريق. وفي هذه الأثناء، تكون القاعدة الاقتصادية المتبناة قد فعلت فعلها التخريبي في تنمية الوعي. فمن أجل بناء الشيوعية، يجب تبديل الإنسان في الوقت الذي نبدل فيه القاعدة الاقتصادية.

من هنا الأهمية العظيمة لانتقاء تعبئة الجماهير انتقاء صحيحا. ويجب أن تكون هذه الأداة بصورة أساسية أداة أخلاقية، دون أن ننسى استخدام الحافز المادي استخداما صحيحا، ونخص بالذكر الحافز ذا الطبيعة الاجتماعية.

يجب أن يكون المجتمع مدرسة جبارة

سبق أن قلت إن من السهولة بمكان إعمال الحوافز الخلقية في ساعات الخطر الأقصى، لكن، لكي تظل هذه الحوافز حية، يجب تنمية قيم جديدة في الوجدانات، ويجب أن يصير المجتمع كله مدرسة جبارة. إن الخطوط الكبرى لهذه الظاهرة مماثلة لخطوط تكوين الوعي الرأسمالي في حقبته الأولى. فالرأسمالية تلجأ للقوة، لكنها تعلم بالإضافة إليها إيديولوجيتها، إيديولوجية الطبقة المسيطرة. ويقوم بالدعاية المباشرة أولئك الناس المكلفون بشرح حتمية النظام الطبقي، سواء أكان من أصل إلهي أو فرضته الطبيعة بصورة آلية. وهذه الدعاية تجرد الجماهير من سلاحها، حيث ترى نفسها مظلومة من قبل شر يستحيل عليها مكافحته.

ثم يجيء الأمل، وبهذا تفترق الرأسمالية عن الأنظمة الطبقية السابقة التي لم تكن تدع أي مخرج ممكن.

يرى البعض، أن الصيغة الطبقية ستظل صالحة: المكافأة لأولئك الذين يطيعون، ذلك هو الدخول بعد الموت إلى عوالم رائعة أخرى يكافأ فيها الطيبون، وهكذا، تستمر التقاليد القديمة. ويرى آخرون أمرا مبتكرا: فالانقسام إلى طبقات يظل أمرا محتوما، بيْدَ أن الأفراد يمكن أن يخرجوا من الطبقة التي ينتمون إليها بالعمل، والمبادهة، الخ. هذه التربية الذاتية بقصد النجاح يراء محض: فهم يحاولون أن يعظوا لغاية مصلحيّة. إن هذه الكذبة، النجاح الفردي، في متناول الجميع.

أما نحن فنرى أن التربية المباشرة ترتدي أهمية أكبر بكثير. فالتفسير مقنع لأنه صحيح، ولا يحتاج إلى الحيل. والتربية المباشرة تتم من خلال جهاز الدولة التربوي تبعا للثقافة العامة، التقنية والإيديولوجية، بواسطة هيئات رسمية مثل وزارة التربية وجهاز التربية في الحزب. فتنغرس التربية في الجماهير ويميل الوضع الجديد المقترح لأن يصير عاما، وتتبناه الجماهير وتضغط على أولئك الذين لم يتربوا بعد. ذلك هو الشكل غير المباشر لتربية الجماهير، وهو شكل يساوي في قوته الشكل الثاني.

تربية الفرد الذاتية

بَيْدَ أن هذه التربية واعية، ويتلقى الفرد باستمرار تأثير السلطة الاجتماعية الجديدة ويدرك أنه لم يتآلف معها تآلفا تاما. ويحاول، بالتربية غير المباشرة أن يتكيف مع وضعه يبدو له عادلا، وهو أمر لم يستطع تحقيقه حتى الآن بسبب نقص تنميته الخاصة. فهو يربي نفسه بنفسه.

في هذه الحقبة من بناء الاشتراكية، نستطيع أن نساعد في ولادة الإنسان الجديد. إن صورته لم تحدد بعد كل التحديد، ولا يمكن أن تكون كذلك باعتبار أن هذا التطور مواز لتنمية بنى اقتصادية جديدة. فعدا أولئك الذين يدفعهم نقص تربيتهم نحو طريق وحيد، نحو الإرضاء الأناني لأطماعهم، هنالك الذين يميلون، حتى في داخل الإطار الجديد للتطور الجماعي، إلى التقدم منعزلين عن الجماهير التي يرافقونها.

والمهم أن يكتسب الناس كل يوم وعيا أكبر لضرورة اندماجهم في المجتمع ولأهميتهم كمحرك لهذا المجتمع في الوقت ذاته. فلم يعودوا يتقدمون تماما لوحدهم، عبر طرق ملتوية، نحو رغباتهم البعيدة. بل يتبعون طليعتهم المكونة من الحزب والعمال الطليعيين، والناس الطليعيين الذين يتقدمون متصلين بالجماهير ومتحدين معها اتحادا وثيقا.

إن أبصار الطلائع تتجه نحو المستقبل ونحو مكافأتها، بَيْدَ أن هذه المكفأة لا تستشف كشيء ما فردي، فمكافأتهم، هي المجتمع الجديد الذي سيكون فيه الناس متباينين، مجتمع الإنسان الشيوعي.

طريق طويل ومليء بالصعاب

الطريق طويل ومليء بالصعاب. فأحيانا يجب أن نتراجع، إذ نقع في مأزق، وأحيانا أخرى، نفترق عن الجماهير، إذ نتقدم بسرعة كبيرة، وفي بعض المناسبات، نسير ببطء شديد ونشعر بلهاث أولئك الذين يتعقبونها قريبا جدا. ففي طموحنا كثوريين، نسعى إلى السير بأسرع ما يمكن، ونشق طريقنا، لكننا نعلم أننا نأخذ مادتنا من الجماهير وأن هذه الجماهير لن تستطيع التقدم بسرعة أكبر إلا إذا شجعنا بالإقتداء بنا.

ورغم الأهمية المعطاة للحوافز الخلقية، فإن وجود الانقسام إلى مجموعتين رئيستين (طبعا، عدا العدو الصغير من أولئك الذين لا يشاركون، لسبب أو لآخر، في بناء الاشتراكية)، يدل على النقص النسبي في تنمية الوعي الاجتماعي.

إن المجموعة الطليعية متقدمة إيديولوجيا أكثر من الجماهير، فالجماهير تعرف القيم الجديدة لكنها تعرفها معرفة غير كافية. وفي حين أن تغييرا كيفيا يحدث لدى الطلائع يتيح لها التفاني في وظيفتها الطليعية، تكون الجماهير أقل وعيا ويجب أن تخضع لضغوط ذات شدة معينة، تلك هي ديكتاتورية البروليتاريا التي تمارَس لا على الطبقة المغلوبة وحدها، بل تمارس فرديا على الطبقة الظافرة. وهذا يتضمن، لكي يكون النجاح شاملا، ضرورة سلسلة من الآليات: المؤسسات الثورية –مجموعة متناسقة من الأقنية، والمراتب، والمسننات المشحمة جيدا- التي ستتيح وحدها الاصطفاء الطبيعي لأولئك المهيئين لأن يسيروا في الطليعة وتوزع المكافآت والعقوبات حسب استحقاقات كل واحد.

تحديد كامل لهوية الحكومة والجماعة

لم نتوصل بعد إلى إحلال مؤسسات الثورة. فنحن نسعى إلى شيء جديد يتيح التحديد الكامل لهوية الحكومة والجماعة بمجملها (مؤسسات متآلفة مع الشروط الخاصة لبناء الاشتراكية والبعيدة قدر الامكان عن الأماكن المشتركة للديموقراطية البرجوازية المنقولة إلى مجتمع جديد في طور التكوين، مثل المجالس التشريعية). فقد قمنا ببعض التجارب، دون تسرع كبير، بهدف خلق مؤسسات الثورة بصورة تدريجية. وكان لاجمنا الأكبر الخوف من أن تفصلنا علاقة صورية عن الجماهير وعن الفرد ولا يفقدنا التطلع إلى آخر وأهم مطمح ثوري، مطمح تحرير الإنسان من انحطاطه.

ورغم تلكؤ المؤسسات، التلكؤ الذي يجب التغلب عليه تدريجيا، فإن الجماهير تصنع الآن تاريخها كمجموعة واعية من الأفراد تناضل من اجل قضية واحدة.

إن الإنسان أكثر كمالا، في النظام الاشتراكي رغم توحيده الظاهر، وإمكانيته في التعبير والضغط على النظام الاجتماعي أكبر بكثير رغم غياب آلية متآلفة تمام التآلف.

وما يزال من الضروري زيادة اشتراكه الواعي، الفردي والجماعي في جميع آليات الإدارة والإنتاج، وربط هذا الاشتراك بالتربية التقنية والإيديولوجية، بحيث يشعركم أن هذه التسلسلات مترابطة ترابطا وثيقا وتقدمها متوازيا. وهكذا، سيبلغ الوعي الكلي لكيانه الاجتماعي، وتحقيقه التام كمخلوق إنساني، بعد أن يحطم قيوده.

وسيترجم ذلك بصورة ملموسة بإعادة احتلال طبيعته الخاصة به من خلال العمل المتحرر وبالتعبير عن شرطه الإنساني، عبر الثقافة والفن.

يجب أن يكتسب العمل صفة خاصة

لكي يستعيد الإنسان طبيعته، يجب أن يكف الإنسان-البضاعة عن الوجود وأن يدفع له المجتمع نصيبه لقاء القيام بواجبه الاجتماعي. فتعود وسائل الإنتاج إلى المجتمع والآلة كالخندق حيث يتم القيام بالواجب. ويبدأ الإنسان بتحرير فكره من القلق الناجم عن ضرورة سد حاجاته المباشرة بواسطة العمل ويبدأ بالتعرف إلى نفسه في عمله وفهم عظمته الإنسانية من خلال الشيء الذي يخلقه والعمل الذي ينجزه. فلم يعد يفترض عمله التخلي عن جزء من كيانه بشكل قوة مباعة، لم تعد ملكا له، بل يصير إصدار من ذاته ومجلوبا للحياة المشتركة، وإنجازا لواجبه الاجتماعي.

إننا نعمل كل ما في وسعنا لإعطاء العمل ذلك البعد الجديد للواجب الاجتماعي ولربطه من جهة بتنمية التكنيك، الذي سيأتي بشروط حرية أكبر، ومن جهة أخرى، بالعمل الطوعي، هذان العاملان يستجيبان للتخمين الماركسي القائل إن الإنسان لا يبلغ واقعيا، تمام شرطه الإنساني إلا عندما ينتج دون إكراه من الضرورة الجسمانية لأن يبيع ذاته كبضاعة.

ما تزال هنالك، بالتأكيد، أوجه قسرية في العمل، حتى عندما يكون طوعيا. فالإنسان لم ينجح بعد في القيام بالعمل الذي يقع على عاتقه حسب منعكس شرطي ذي طبيعة اجتماعية وما يزال ينتج في أغلب الأحيان تحت ضغط الوسط (هذا ما يدعوه فيدل الإكراه المعنوي). ولا يستطيع أن يتمتع كل التمتع بعمله، المنجز في إطار العادات الجديدة، دون ضغط الوسط الاجتماعي، ولن يتاح له ذلك إلا في الشيوعية.

إن التبدل لا يحدث آليا في الوعي، كما لا يحدث في الاقتصاد. وتكون التحولات بطيئة منتظمة، فثمة فترات تسارع، وفترات جمود بل وفترات تراجع.

الحقبة الانتقالية الأولى نحو الشيوعية

سبق أن قلنا إنه يجب أن تعتبر أيضا أننا لا نواجه حقبة انتقال صرف كتلك التي وصفها ماركس في نقد برنامج غوتا وأرفورت، بل طورا جديدا، لم يتوقعه: الحقبة الانتقالية الأولى نحو الشيوعية أو حقبة بناء الاشتراكية.

تجري هذه الحقبة وسط نضالات طبقية عنيفة وتعمل عناصر الرأسمالية التي تظل باقية على طمس معالم طبيعتها بحيث يصعب فهمها.

فإذا أضفنا إلى هذا السكولاستيك، الذي أعاق تنمية الفلسفة الماركسية ومنع بصورة منتظمة دراسة هذه الحقبة التي لم تحلل أسسها الاقتصادية، يجب التسليم بأننا ما نزال في المهد وأن علينا أن نباشر البحث عن جميع المميزات الأولوية لهذه الحقبة، قبل أن نضع نظرة اقتصادية وسياسية ذات مدى أكبر.

وستعطي هذه النظرية أولوية كلية لعمودي بناء الاشتراكية: تكون الإنسان الجديد وتنمية التكنيك. في هذين المجالين ما يزال علينا أن نفعل الكثير، بَيْدَ أن تأخر هذه القاعدة الأساسية أي التكنيك أقل تبريرا لأن القضية بالنسبة لنا ليست التقدم على العلماء، بل أن نتبع لفترة من الزمن الطريق الذي شقته البلدان الأكثر تقدما في العالم. ولذا يلح فيدل إلحاحا كبيرا على ضرورة التكوين التقني والعلمي لبلادنا وخاصة لطليعتها.

الضرورة المادية والضرورة الخلقية

من الأسهل تمييز الضرورة المادية والضرورة الخلقية في ميدان الفاعليات غير المنتجة. فمنذ زمن طويل، يحاول الإنسان التحرر من الانحطاط بواسطة الثقافة والفن. وهو يموت يوميا خلال ثماني ساعات يقوم خلالها بدوره كبضاعة لينبعث بعدئذ في الإبداع الفني.

بَيْدَ أن هذا الدواء يحمل بذور المرض ذاته: فالذي يسعى إلى الاتحاد مع الطبيعة هو كائن منعزل، يدافع عن فرديته التي يطغى عليها الوسط ويقوم برد فعل أمام أفكار جمالية ككائن وحيد، يطمح إلى أن يظل نقيا. فليست القضية سوى محاولة للهرب.

إن قانون القيمة لم يعد الانعكاس البسيط لعلاقات الإنتاج، فالرأسماليون الاحتكاريون يحيطونه ببناء معقد يجعل منه خادما مطيعا، حتى عندما تكون الطرائق المستخدمة تجريبية صرفا.

وتفرض البنية الفوقية نمطا من الفن يستلزم عملا تربويا للفنانين جد متقدم فالمتمردون يخضعون للتكنيك والمواهب الاستثنائية وحدها تستطيع أن تخلق عملا شخصيا. ويصير الآخرون أجراء أذلّاء أو يفشلون. ويشيرون إلى البحث الفني الذي يعتبرونه تعريفا للحرية، بَيْدَ أن هذا «البحث» له حدوده، التي لا يمكن رؤيتها حتى نصطدم بها، أي حتى نطرح المشكلات الواقعية للإنسان ولانحطاطه. إن القلق الذي لا مبرر له أو الإلهيات العامية تكوّن متنفسات موفقة للقلق الإنساني: فنحارب الفن منذ أن يصير سلاحا للفضح، فإذا احترمنا قواعد اللعب، نحصل على جميع الأمجاد، المماثلة للأمجاد التي يمكن أن يحصل عليها فرد اخترع فريرات. والشرط الوحيد هو عدم محاولة الإفلات من القفص غير المرئي.

وثبة جديدة للعمل الفني

عندما استولت الثورة على الحكم ذهب إلى المنفى أولئك الذين أُخضعوا خضوعا كليا. أما الآخرون، الثوريون أو غير الثوريين، فقد سلكوا طريقا جديدا. وتلقى البحث وثبة جديدة ومع ذلك، كانت الطرق مرسومة إلى حد ما وتخفّت فكرة الهرب تحت كلمة «حرية». وقد ظل هذا الموقف، لدى الثوريين، انعكاسا في وعيهم للمثالية البرجوازية.

وقد زعموا، في البلدان التي مرت بتطور مماثل، أنهم يحاربون هذه الميول بجمود عقائدي مفرط. وتحولت الثقافة العامة أو كادت إلى حرام وأعلن عن تمثيل للطبيعة صحيح صوريا أنه غاية الطموح الثقافي، وتحول هذا التمثيل فيما بعد إلى تمثيل آلي للواقع الاجتماعي الذين كان يراد إبرازه، المجتمع المثالي الذي يكاد يخلو من النزاعات والتناقضات التي كانوا يحاولون خلقها.

إن الاشتراكية فتية، ولها أخطاؤها. وتنقصنا، نحن الثوريين، في أغلب الأحيان المعارف والجرأة الثقافية الضرورية لمواجهة مهمة تنمية الإنسان الجديد بطرائق متباينة عن الطرائق الاتفاقية جدا، المختومة بخاتم المجتمع الذي خلقها (ومرة أخرى تظهر مشكلة العلاقات بين الشكل والمحتوى). إن ارتباكنا عظيم ومشكلات البناء المادي تستغرق وقتنا. فليس ثمة فنانون كبار يتمتعون في الوقت ذاته بسلطة ثورية عظيمة. وعلى رجال الحزب أن يأخذوا تلك المهمة على عاتقهم ويسعوا إلى بلوغ الهدف الرئيسي: تربية الشعب.

الواقعية الاشتراكية قائمة على فن القرن الماضي

إنهم يسعون عندئذ إلى التبسيط، إلى المستوى الذي يفهمه الناس كلهم، أي إلى ما يفهمه الموظفون. فينعدم البحث الفني الأصيل وتنحسر مشكلة الثقافة العامة إلى تملك للحاضر الاشتراكي والماضي الميت (وبالتالي غير المؤذي). هكذا تولد الواقعية الاشتراكية على قواعد من القرن الماضي.

بَيْدَ أن الفن الواقعي في القرن التاسع عشر هو كذلك فن طبقي ربما يزيد رأسمالية محضا. عن ذلك الفن المنحط، فن القرن العشرين، الذي يشف عن قلق الإنسان المنحط. لقد أعطت الرأسمالية، في الميدان الثقافي، كل ما تضم في ذاتها، ولم يبق منها سوى جيفة نتنة تتبدى في الفن بانحطاطها الحالي. لكن لماذا يزعمون البحث في الأشكال الجامدة للواقعية الاشتراكية عن طريقة العمل الصالحة الوحيدة؟ لا نستطيع أن نعارض بالواقعية الاشتراكية «الحرية» لأن الحرية لم توجد بعد، ولن توجد ما دامت تنمية المجتمع الجديد لم تكتمل، فلا يزعمنّ أحد إدانة جميع أشكال الفن اللاحقة للنصف الثاني من القرن التاسع عشر من أعلى العرش الحبري للواقعية المغالية لأننا نقع في خطأ برودوني، خطأ العودة إلى الماضي، وهكذا فليس التعبير الفني للإنسان الذي يولد ويبني ذاته اليوم، لباسا من القوة.

وينقصنا تنمية آلية ثقافية إيديولوجية تتيح البحث وتقتلع العشبة السامة التي تتكاثر بسهولة كبيرة على الأرض الخصبة، أرض التسليف من قبل الدولة.

الإنسان الذي يجب أن نخلقه

لم نسقط، في بلادنا، في خطأ الواقعية العامية، بل في الخطأ المعاكس. وذلك، لأننا لم نفهم ضرورة خلق إنسان جديد لا يكون إنسان القرن التاسع عشر، ولا إنسان قرننا المنحط والمعفّن. إنه إنسان القرن الحادي والعشرين، ذاك الذي يجب أن نخلقه رغم أنه ما يزال مجرد طموح ذاتي وغير منتظم. تلك هي على وجه الضبط إحدى النقاط الأساسية لدراستنا ولعملنا وبمقدار ما نحصل على نجاحات ملموسة على قاعدة نظرية، سنستخلص منها، بالعكس، نتائج نظرية ذات صفة عامة على قاعدة أبحاثنا الملموسة، نكون قد قدمنا مجلوبا ثمينا للماركسية اللينينية، لقضية الإنسانية. إن رد الفعل على إنسان القرن التاسع قد أوقعنا من جديد في انحطاط القرن العشرين، فليس ذلك خطيرا جدا، بل يجب أن نصلحه تحت طائلة فتح الطريق أمام التحريفية.

إن الجماهير الكبرى التي ينمو وعيها، والأفكار الجديدة التي تتقدم بالموازاة في أحضان المجتمع والامكانات المادية لتنمية جميع أعضائه تنمية كاملة، تجعل العمل مثمرا أكثر بكثير. فالحاضر مصنوع من النضالات، والمستقبل لنا.

خطيئة المثقفين الأصلية

وباختصار، فإن ذنب الكثير من مثقفينا وفنانينا نتيجة خطيئتهم الأصلية: ذلك أنهم ليسوا ثوريين أصليين. يمكن أن نحاول تطعيم شجرة الدردار لتثمر إجاصا، وإنما يجب أن نزرع في الوقت ذاته أشجار إجاص. وستلد الأجيال الجديدة متحررة من الخطيئة الأصلية. فكلما وسعنا حقل الثقافة وإمكانات التعبير، زادت فرصنا في أن نرى انبثاق فنانين استثنائيين. ومهمتنا هي منع الجيل الحالي الذي تمزقه نزاعاته من أن يَفسد ويُفسد الأجيال الجديدة. ويجب ألّا نخلق أجراء خاضعين للفكر الرسمي، ولا داخليين مجانين يعيشون في حمى حصتهم المجانية ويمارسون حرية بين هلالين فسيجيء الثوريون الذين سينشدون نشيد الإنسان الجديد بصوت الشعب الأصلي. فالأمر تهيئة تتطلب الوقت.

في مجتمعنا يلعب الشباب والحزب دورا عظيما. وللشباب أهمية خاصة لأنهم عجينة الخزف التي يمكن أن نصنع منها الإنسان الجديد المتحرر من كل عيوب الماضي. فلنعالجها وفق مطامحنا. وتزيد تربيته كمالا كل يوم ولا ننسى دمجه بالعمل منذ البداية. إن طلابنا المجانين يقومون بعمل جسماني خلال عطلتهم أو أثناء الدراسة فالعمل مكافأة في بعض الحالات، وأداة للتربية في حالات أخرى، وليس ذلك عقابا أبدا. لأن جيلا جديدا يولد.

الحزب، منظمة طليعية

الحزب منظمة طليعية. فيقترح الرفاق أفضل الشغيلة للدخول فيه والحزب قلة، إلا أن له سلطة عظيمة نظرا لصفة كوادره. إننا نطمح إلى أن يصير الحزب جماهيريا، عندما تكون الجماهير قد بلغت درجة تنمية الطليعة، أي عندما يكونون قد تربوا على الشيوعية، وتنصرف جهودنا كلها إلى هذا الاتجاه. فالحزب مثال حي، ويجب أن تعطي كوادره دروسا من الحمية في العمل والتضحية، ويجب أن يقودوا الجماهير، بعملهم، إلى نهاية مهماتها الثورية. وهذا يتضمن سنوات من النضال الشاق ضد صعوبات بناء الاشتراكية، والأعداء الطبقيين، ومخالفات الماضي، والإمبريالية. أود الآن أن أشرح الدور الذي تلعبه الشخصية، والإنسان بصفته قائدا للجماهير التي تصنع التاريخ. ويتعلق الأمر بتجربتنا وليس بطريقة عمل.

لقد أعطى فيدل الثورة وثبتها خلال السنوات الأولى وقادها دوما، وأضفى عليها صبغتها. إلا أن ثمة مجموعة من الثوريين تتطور في الاتجاه ذاته الذي يتطور فيه القائد الأعلى، وجمهورا عظيما يتبع القادة لأن هؤلاء القادة عرفوا كيف يفسرون مطامحه.

لكي يشعر الفرد أنه أغنى

ليس المقصود هنا عدد الكيلوغرامات من اللحم التي نأكلها، ولا عدد المرات التي نستطيع فيها الذهاب إلى المسابح، ولا عدد الأصناف الكمالية التي نستطيع استيرادها بالأجور الحالية. المقصود على وجه الضبط أن يشعر الفرد أنه أغنى داخليا وأكثر مسؤولية بكثير. فإنسان بلادنا يعلم أن العصر المجيد الذي يعيشه هو عصر تضحية، وهو يعرف معنى التضحية لقد جربها أوائل الناس في السييرا ماسترا، ثم عرفناها في كوبا كلها. وكوبا هي طليعة أمريكا اللاتينية ولأنها تشغل هذا المكان الطليعي، لأنها تدل الجماهير الأمريكية اللاتينية على الحرية الحقيقية، يجب أن تقدم التضحيات. وفي داخل البلاد يجب أن يقوم القادة بدورهم الطليعي ويجب أن نقول بكل صراحة، إن مهمة الثوري، في ثورة حقيقية تعطي كل شيء ولا ينتظر منها أية مكافأة مادية، هي مهمة عظيمة ومقلقة في القوت ذاته، اسمحوا لي أن أقول، ولو بديت بمظهر مضحك، إن الثوري الحقيقي الأصيل ينقاد لمشاعر عظيمة كريمة، ويستحيل تصور ثوري أصيل دون هذه الصفة. فقد تكون إحدى مآسي القائد الكبرى، أنه يجب أن يضم إلى جانب المزاج العاطفي عقلا هادئا (ويتخذ قرارات أليمة دون أن تتقلص أية عضلة من عضلاته). يجب أن ترتفع طلائعنا الثورية إلى المثالية بحبها للشعب، وللقضايا المقدسة، وأن تجعله وحيدا، غير منقسم. ولا تستطيع هذه الطلائع أن تمارس حساسيتها اليومية على مستوى الناس الآخرين ذاته.

الأممية البروليتارية واجب

إن لقادة الثورة أطفالا لا يتعلمون، في لجلجاتهم الأولى، أمهات ونساء ضحَّين، هن أيضا، في سبيل انتصار الثورة. وتتناسب دائرة الأصدقاء تناسبا دقيقا مع دائرة رفاق الثورة. فلا حياة خارج الثورة. وفي هذه الشروط، يجب أن يكون المرء إنسانيا كثير الإنسانية، وأن يتمتع بحس عظيم من العدالة والحق كي لا يقع في الجمود العقائدي المتطرف، وفي مدرسية باردة، وكي لا ينعزل عن الجماهير.

يجب أن يناضل كل يوم ليبتدى هذا الحب الإنساني في واقعات ملموسة، تكون مثالا للجماهير ومعبئة لها.

الثوري –في حزبه- المحرك الإيديولوجي للثورة، يتلف في هذه المهمة المتواصلة التي تنتهي بالموت، إلا إذا انتصر بناء الاشتراكية في العالم كله.

فإذا بردت حماسته الثورية بعد أن تحقق المهمات الملحة، على النطاق المحلي، وإذا نسي الأممية البروليتارية، كفّت الثورة عن أن تكون محركا وتغرق في خمول مريح يستفيد منه أعداؤنا اللدودون، الإمبرياليون، الذين يحققون كسبا. إن الأممية البروليتارية واجب، وهي أيضا ثورية. هذا ما نعلمه لشعبنا.

أخطار الجمود العقائدي ونواحي الضعف لدينا

أكيد أن الوضع الحالي يشتمل على الأخطار. وهو لا يشتمل على خطر الجمود العقائدي وحده، ولا على خطر تجميد علاقاتنا بالجماهير وسط مهمتنا العظيمة، بل يشتمل كذلك على نواحي ضعف يمكن أن نسقط فيها. فالرجل الذي يكرس حياته كلها للثورة لا يستطيع أن يتلهى بالتفكير بما ينقص ولده، بأحذيته العتيقة، بالضروري الذي تفتقر إليه عائلته. وإذا ما سمح لهذه الشواغل بالتسلط على فكره، خلق أرضا صالحة لتنمية الفساد.

لقد رأينا دوما، فيما يتعلق بنا، أن أولادنا يجب أن يحصلوا على ما يحصل عليه الأطفال الآخرون، لكن يجب أن يكونوا محرومين مما حرم منه الأطفال الآخرون. ويجب على عائلتنا أن تفهم هذه الحقيقة وأن تناضل من أجلها. فالثورة تقوم من خلال الإنسان، بَيْدَ أن على هذا الإنسان أن يقوِّي، يوما بعد يوم، روحه الثورية.

هكذا نتقدم. وعلى رأس الرتل الكبير فيدل –لا نخجل من هذا القول- وخلفه تسير خيرة كوادر الحزب، وبعدها مباشرة، وقريبا منها كل القرب بحيث نشعر بقوته الهائلة، يأتي الشعب الذي يمضي بحزم نحو الهدف المشترك. إنه مركَّب من أفراد اكتسبوا وعي ما يجب عمله، وعي أُناس يناضلون للخروج من مملكة الضرورة ليدخلوا في مملكة الحرية.

وينتظم هذا الجمهور العظيم، ويتناسب انضباطه مع ضرورة يفهمها الجميع فلم يعد جمهورا متفرقا، منقسما إلى ما لا نهاية، يحاول فيه كل واحد، بأية وسيلة، وبالكفاح العنيد ضد أنداده، أن يجد سندا يواجه به المستقبل غير الأكيد.

إننا نعلم أننا ما نزال بحاجة إلى التضحيات، وأن علينا أن ندفع ثمن وضعنا البطولي كأمة طليعية. ويجب أن ندفع، نحن القادة، ليحق لنا القول إننا طليعة الشعب، الذي يسير في طليعة أمريكا اللاتينية.

فنحن ندفع كلنا، بانتظام، حصتنا من التضحيات، واعين أننا سنجد مكافأتنا في القيام بالواجب وفي التقدم معا نحو الإنسان الجديد الذي يلوح في الأفق.

اسمحوا لي ببعض الاستنتاجات.

إننا، نحن الاشتراكيين، أكثر حرية، لأننا أغنى، ونحن أغنى لأننا أكثر حرية.

لقد أصبح هيكل حريتنا الكاملة جاهزا. لا ينقص سوى مادته وألبسته، وسنخلقها.

إن حريتنا وخبزنا اليومي ملونان بلون الدم ومنتفخان بالأضاحي.

تضحيتنا واعية، إنها ثمن الحرية التي نبنيها.

الطريق طويل وجزء منه غير معروف. فنحن نعرف حدودنا. وسنجعل من أنفسنا إنسان القرن الحادي والعشرين.

سنتقوى في العمل اليومي إذ نخلق الإنسان الجديد بتكنيك جديد.

الشخصية تلعب دورا معبئا عظيما وموجها كبيرا منذ أن تجد أسمى فضائل الشعب ومطامحه ولا تبتعد عن الطريق.

الجماعة الطليعية هي التي تفتح الطريق، خيرة الطيبين، الحزب.

الخزف الأساسي لعملنا هو الشبيبة. نضع فيها آمالنا كلها ونعدها لتحمل هدفها. تقبلوا تحياتنا، طقسية كقبضة من الأيدي أو «السلام عليك يا مريم».

الوطن أو الموت!

عن : أرنستو تشي غيفارا الأعمال الكاملة
من صفحة 507 إلى 523
===



#ارنستو_تشي_غيفارا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خلق فيتنامين، أو ثلاثة أو أكثر..ذلك هو الشعار(!)
- خطاب الجزائر
- حرب العصابات


المزيد.....




- حوار مع الرفيق فتحي فضل الناطق الرسمي باسم الحزب الشيوعي الس ...
- أبو شحادة يدعو لمشاركة واسعة في مسير يوم الأرض
- الوقت ينفد في غزة..تح‍ذير أممي من المجاعة، والحراك الشعبي في ...
- في ذكرى 20 و23 مارس: لا نفسٌ جديد للنضال التحرري إلا بانخراط ...
- برسي کردني خ??کي کوردستان و س?رکوتي نا??زاي?تيي?کانيان، ماي? ...
- صدور أسبوعية المناضل-ة عدد 28 مارس 2024
- تهنئة تنسيقيات التيار الديمقراطي العراقي في الخارج بالذكرى 9 ...
- الحرب على الاونروا لا تقل عدوانية عن حرب الابادة التي يتعرض ...
- محكمة تونسية تقضي بإعدام أشخاص أدينوا باغتيال شكري بلعيد
- القذافي يحول -العدم- إلى-جمال عبد الناصر-!


المزيد.....

- تحليل كلارا زيتكن للفاشية (نص الخطاب)* / رشيد غويلب
- مَفْهُومُ الصِراعِ فِي الفسلفة المارْكِسِيَّةِ: إِضاءَةِ نَق ... / علي أسعد وطفة
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة 5 :ماركس في عيون لينين / عبدالرحيم قروي
- علم الاجتماع الماركسي: من المادية الجدلية إلى المادية التاري ... / علي أسعد وطفة
- إجتماع تأبيني عمالي في الولايات المتحدة حدادًا على كارل مارك ... / دلير زنكنة
- عاشت غرّة ماي / جوزيف ستالين
- ثلاثة مفاهيم للثورة / ليون تروتسكي
- النقد الموسَّع لنظرية نمط الإنتاج / محمد عادل زكى
- تحديث.تقرير الوفد السيبيري(1903) ليون تروتسكى / عبدالرؤوف بطيخ
- تقرير الوفد السيبيري(1903) ليون تروتسكى / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الارشيف الماركسي - ارنستو تشي غيفارا - الاشتراكية والإنسان في كوبا