أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد المدلاوي المنبهي - ثلاثة أعمال فنية ومدرستان لتدبير الخلاف (تذكير بمناسبة عودة ضجة الكاريكاتور)















المزيد.....



ثلاثة أعمال فنية ومدرستان لتدبير الخلاف (تذكير بمناسبة عودة ضجة الكاريكاتور)


محمد المدلاوي المنبهي

الحوار المتمدن-العدد: 2033 - 2007 / 9 / 9 - 08:33
المحور: الادب والفن
    


تــقــديـــــم
هذا مقال كان قد كتب على إثر إقدام أحد الشباب المغاربة المقيمين في هولندة على اغتيال المخرج السينيمائي "ثيو-فان-غوغ" سنة 2004 انتقاما لما اعتبره كثير من مروجي نوع معين من تصور الوجود ومن خطاب معين للتعامل مع واقع ذلك الوجود جناية من طرف ذلك الفنان البئيس المصير في حق الإسلام والمسلمين كافة، وذلك من خلال شريطه "الخنوع" (Submission). ولقد نشر المقال حينئذ في يومية "الأحداث المغربية" (عدد 2133؛ 28 نوفمبر 2004).
وإذ سبقت ذلك الاغتيالَ قبل سنوات فتوى إسلاميةٌ وباسم الإسلام والمسلمين للإمام الخميني، الشيعي المذهب، الفارسي القومية، تقضي بهدر الدم وبالقتل المؤدى عنه لكل من أقبل عليه بقطع النظر عن صفته وملته، في حق الروائي، سلمان رشدي، الباكستاني الأصل والانجليزي الجنسية، ولم تحرك النخبة ساكنا يذكر في أوساط الفكر الديني ولا الحداثي بالعالم الإسلامي بعد سابقة رفع شريعة الحدود إلى مقام القانون الدولي؛ ثم تلت ذلك في فبراير 2006 حمى ساخنة، ضجة صاخبة امتدت من المسجد والشارع ومقرات الأحزاب إلى أروقة الديبلوماسية بعد أن أُحرقت إعلامٌ وخُـربت سفارات، وكانت تلك الضجة قد قامت حول مجموعة من الكاركاتورات الكارتونية كانت قد ظهرت في خريف 2005 في صحف إحدى بلاد قبائل الفيكينغ والساكسون الاسكانديناف، وقيل حينئد بأنها رسوم تسيء من جديد إلى الإسلام والمسلمين من خلال نبيهم، فنظمت مظاهرات هيستيرية حاشدة عبر العالم تضامنا مع النبي المصطفى الكريم في محنته مع ظلال الكاريكتور (انظر "الحوار المتمدن"، الصفحة http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=106431)، مما ينم في نهاية الأمر على أن جوهر القضية يتمثل في أن فضاء هذه المجتمعات الهائجة والهجاءة يعاني من عاهة تكوينية إزاء كل مظاهر الفن، أدبا كان ذلك الفن أم بلاستيكيات أم سينيما، وإذ عادت من جديد حمّى الرسومات الكارتونية لتطل مع مطل الخريف كــزكام الطيور، فإن التذكير بهذا المقال لا يعدم وجها من أوجه المناسبة.

نص المقال المسوق للتذكير

الأعمال الفنية الثلاثة المقصودة في العنوان هي على ترتيب ظهورها في الزمن : الشريط السينمائي "آخر إغراءات المسيح" (The last temptation of Christ) الذي أخرجه Martin Scorsese سنة 1988 بالولايات المتحدة الأمريكية، ثم شريط "المقدّس" (קדוש Kadoch) الذي أخرجه "عاموس كيتاي" (Amos Gitaï)بإسرائيل سنة 1999، ثم أخيرا شريط "الخنوع" (Subnission) الذي أخرجه "ثـيـو فان- غوغ" (Theo van Gogh)، حفيد الرسام الشهير، بهولندا سنة 2004.

ثلاثة أشرطة سينيمائة
الجامع بين هذه الأشرطة الثلاثة هو معالجتها الفنية لقضايا ذوات صلة بالقناعات الدينية وإن بدرجات متفاوتة، وذلك على شكل معالجة تُسائل بديهيات تلك القناعات مساءلة مستفزة تقلق طمأنينة الركون الطبيعي للجمهور إلى إطلاقية الأحكام وتعميمها وإلباسها لبوسات ثقافية. وتختلف هذه الأشرطة، بمقتضى طبيعة لغة الصياغة، من حيث زاوية نظر المعالجة، ومن حيث العلاقة ما بين مرسِل الخطاب، وموضوع الخطاب، وطبيعة ونوعية المتلقي المستهدَف بذلك الخطاب. فكل من شريطي "مارتن سكورسيس" و"عاموس كيتاي" يشكّل، بمقتضى نوعية تلك العلاقة، "معالجةً داخلية" يعمد من خلالها الفنان إلى اقتحام سكينة وسكونية ركنٍ من أركان ثقافته، هو، وهويته الجماعية، محاورا ضميره وضمائر أفراد جماعته ومؤسساتها، ومسائلا إياها بشأن مدى ملاءمة بعض ما يعتبر بداهات في ذلك الركن، ومقترحا ضمينا مشروعا لاستجلاء رؤى بديلة يرى أنها قد تكون أصوب، فيروّج لذلك المشروع فنيا، ويدافع عنه من خلال مفعول عمله الإبداعي.

لقد قام "مارتن سكورسيس" بمثل هذا بالنسبة لركن من أركان ثقافته المسيحية، بينما قام "عاموس كيتاي" صاحب شريط "قادوش" بنفس الشيء بالنسبة لركن من أركان ثقافته اليهودية. معنى هذا أنه من الطبيعي، بمقتضى التدافع، أن يثير الأول ردود فعل متضاربة في صفوف بني ثقافته بالعالم المسيحي، ما بين مناهض لمشروع رؤى جديدة تنذر بأن تصبح بديلة إذا ما كـُتب لها الرواج، وما بين مرحّب مؤيد لمثل تلك المشاريع ما كان ينتظر ضمنيا إلا موهوبا، أو زعيما، أو مصلحا، يصوغ بالنيابة عنه ما كان يشعر به، هو سلفا، بشكل غامض كمصدر من مصادر عدم الارتياح في منظومته الثقافية. وقل نفس الشيء بالنسبة "لعاموس كيتاي" فيما يخص العالم اليهودي.
معنى هذا، بالمقلوب، أو بالمفهوم المستفاد من المنطوق، هو أن نفس معالجةِ كلّ واحد من هذين الفنانين، لو أنها كانت قد تمّـت انطلاقا من خارج المنظومة الثقافية للجماعة المعنية، من نصرانية في الحالة الأولى ويهودية في الحالة الثانية، أي انطلاقا من مواقع منظومات أخرى، كالمنظومات الإسلامية أو البوذية أو الشامانية، لما اكترث بتلك المعالجة لا النصارى ولا اليهود أكثر من اللازم، لأن الرؤية المروّج لها فنيا بانسبة لموضوعي عمليهما كانت ستكون حينئذ بمثابة مجرد حكم إغزوطيقي (exotic) من أحكام الغرباء، غير ملزِم للفكر وغير فاعل في الإحساس، ولا يشكل بالتالي رؤية منافسة من داخل المنظومة المتناولة.

أما شريط حفيد الرسام الشهير، "فان-غوغ"، فإنه يمثـّل، بالمقابل من ذلك وبالفعل، معالجة غرائبية إغزوطيقية، تنطلق من خارج المنظومة التي تناول ذلك الفنان ركنا من أركانها. فالمخرج "فان-غوغ" فنان من عالم الثقافة الحداثية ذات الخلفيات الإغريقية-الرومانية-المسيحية، قدّم للسوق الاستهلاكية لذلك العالم على الخصوص، على سبيل المنوعات الاستهلاكية، تصويرا غرائبيا (fantastic) لإشباع فضول العامة في تلك السوق، ولتأكيد القناعات القديمة لدى أولئك العامة، وذلك من خلال تقديم لبعض أبعاد ثقافة بعض المجتمعات الإسلامية كما تصورها ذلك المخرج؛ وذلك بنفس الشكل الذي تعج به خزانات العالم الإسلامي مثلا بكتب وأشرطة ومسلسلات غرائبية عن اليهود في التاريخ، وعن اليهودية في حد ذاتها، وعن المسيحية، وعن المسيحيين، وعما يسمى بــ"الغرب" عامة، من باب إشباع فضول العامة وتأكيد القناعات القائمة سلفا لديهم.
وكما أنه لا اليهود ولا النصارى لم تكترث يوما أكثر من اللازم بمثل تلك الغرائبيات نظرا للعلل التي ذكرناها، تلك الغرائبيات التي تبدأ مثلا باعتبار ما بين أيدي أهل الكتاب من كتب مقدّسة عبارة عن ركام من التحريفات الإرادية من وضع الوُضّاع من الربيين والرهبان، وتنتهي بحكايات وتصويرات مروية شعبوية على نفس الطريقة التي يبدو أن السينمائي الهولندي قد وشـّـى بها وزيـّن شريط "الخنوع" (أنظر وصفا لسيناريو الشريط في اليومية المغربية الأيــــام ع:159، 24-30 نوفمبر 2004، ص:7 ، والعهدة على الراوي)، فإن القياس في هذا الباب يقتضي ألا يكترث المسلمون بمثل ما سّوقه السينمائي الهولندي، حفيد الرسام الشهير المجنون، صاحب اللوحتين الشهيرتين "حقل القمح" و "عبّاد الشمس".

مدرستان في تدبير الخلاف
لكن، كما أن القياس لا يفيد مع غياب نصاب من العقلانية مشترك فيه ما بين طرفي التناظر، فإن أبرز فرق بين حيثيات الأشرطة الثلاثة التي يجمعها الشأن الديني، يتمثل بالضبط في عكس ما يُـتوقع. فإذا كان تدافع بني ملة المنظومة المسيحية إزاء الرؤية الفنية المستفزة التي يقترحها عليهم واحد من بني جلدتهم، قد أسفر في نهاية المطاف عن حصول تراكم هائل في ميادين النقد السينمائي، ونقد الفكر الديني نفسه، ومقارنة الأديان، وتطوير الفلسفة، واللاهوت، والتصوف، والأخلاق، بالرغم مما تخلّل ذلك الحصول في البداية من مظاهراتِ ردودِ الفعل الأولية تمّ خلالها في أسوء الحالات الهجومُ على بعض قاعات العرض السنمائي، كما حصل في فرنسا؛ وإذا كان ذلك القبيل من التدافع قد خلّف نفس القبيل من التراكم في حظيرة العالم اليهودي بشأن الرؤية الفنية التي يروج لها شريط "قادوش" لــ"عاموس كيتان" من خلال نظرته إلى الفكر الديني لبني ملته وجلدته في معاملة ذلك الفكر للمرأة، فإن ثقافة الجهاد وإعمال حد السيف في فصل المقال لم تمهل حفيدَ "فان-غوغ" حتى يتمكن من استقبال المادة النقدية المتعلقة بعمله، السخيف فنيا على كل حال، حسب ما يتضح من مقتطفاتٍ من السيناريو (انظر اليومية المغربية الأيــــام ع:159، 24-30 نوفمبر 2004، ص:7).

هذا هو الفرق الجوهري بين مدرستين في التعامل مع الخلاف والاختلاف، مدرسة تدبيــر الخلاف، ومدرسة تدبيــز الخلاف (من الدِباز والاقتتال). فالفرق بينهما، من الناحية الشكلية للحرف العربي، عبارة عن نقطة تميـّـز بين الراء والزاي. إلا أنه، في الجوهر، فرق بحجم الهوة الفاصلة بين الموت والحياة. فلقد جاهد في الفنان الهولندي المشاغب البئيس شابٌّ مغربي حملته الغيرة والعزة على مشاعره الدينية بمواصفاتها التي ربتها فيه ثقافته العميقة، شاب تربى فضائيا وزمانيا في هولندا، أوحت له الثقافة الإطلاقية والفكر الحقوقي الرائج في صفوف بني جلدته وملته من خلال الخطاب، والخطبة، ومن خلال التكوين والمخيال الذي يشكل معالمَه الخطابُ، بأن الفنان الهولندي عدوّ لجماعة المسلمين وأته يجب - تبعا لذلك وبمقتضى فقه الحقوق في الإسلام كما تـُـصوره ثقافة العامة من بني قومه - أن يـُـقتل "بقطع النظر عمن يقتله" كما يقول في هذا الباب الفقيه المغربي، السيد عبد الباري الزمزمي في حق من يكفرهم، فناب ذلك الشاب عن الجماعة وأدى ما كان يشعر به كفرض كفاية عليها.
لو أن الفنان الهولندي، حفيد الفنان الهولندي، كان يدين بالإسلام ممارسة أو مجرد انتماء ثقافي وهوياتي، فانقضّ عليه مهووس من نفس الملّة، نيابة عن الحق الإلهي، وعن حق الجماعة، ليضع حدا لحياته دفاعا عن الله وعن الجماعة من حيث لم يوكّـله أحدٌ، لا وحيا، ولا بيعةً، ولا انتدابا انتخابيا بالتصويت، لذكّرنا اغتيال ثيو-فان-غوغ، في أسوء التصورات، بقـَـدَرِ الفيلسوف الهولندي، اليهودي الثقافة العقلاني الفكر، "بيـنيـديـكت دي سبينوزا" (B. Spinoza 1632-1677م)، مطور فلسفة الوجود والأخلاق والحقوق، حين انقض عليه ذات يوم مهووسٌ يهودي من الموحّدين المتشددين من بني ملته وجلدته، فطعنه بسكين في ظهره، كما حصل لثيو-فان-غوغ، بدعوى أن فلسفته حول "وحدة الوجود" تقوّض أسس الملة اليهودية خاصةً والتوحيدَ عامةً، ولقنا بأن هولندا لم تتقـدم كثيرا، منذ ذلك الحين، في ميادين الفكر والأخلاق وثقافة تدبير الخلاف.(1)
فماذا فعل الفنان الهولندي "فان-غوغ" ليقام عليه الحدّ "بقطع النظر عمن يقيمه" - وهو غير الملزَم بشريعة الحدود- وذلك انطلاقا من قناعات ثقافة الحدود، وفتاوى هدر دم الأفراد بالمشاع وبلا حدود، تلك الثقافة التي كان قد شُـبّـِـه للبعض بأنها قد توارت وولت منذ حين من الدهر، إلى أن أحياها المغفور له على ما أتى في جيله في هذا الباب، الإمام الخميني، في حق الطريد المهدور دمه إلى اليوم، الكاتب سلمان رشدي، حيث دعا الإمام إلى قتل الكاتب جزاء لما حبّـرت يداه من مقامة أدبية عجائبية (fantastique)، وذلك "بقطع النظر عمن يقتله" فينال المليون دولار في الدنيا قبل جزاء الخُـلد في الآخرة.
لم أشاهد شريط فان-غوغ؛ ولكن القصاصات الإخبارية التي عرضت مقتطفات من سيناريو البرلمانية "أيان هيرسي علي" (Ayaan Hirsi Ali)، الذي أُنجـِز على أساسه الشريط، تتحدث عن تصوير، هو كاريكاتوري في حد ذاته، لوضعية خنوع فعلي، تعيشها المرأة عموما في معظم المجتمعات الإسلامية بحكم ميراث ثقافةِ وأدٍ أعرابيةٍ، ضاربةٍ في التاريخ الأنثروبولوجي، وتتلـبّـس مند حين من الدهر بلبوسَ التـديّن والأوامر الإلهية، تلك الوضعية التي لا تحتاج، في الحقيقة، إلى كل البهلوانيات المخيالية والغرائبية لسيناريو البرلمانية الهولندية ذات الأصل الصومالي كما لخصته الصحافة، لكي يتم التعبير عنها بشكل فــنّى ودون الحاجة إلى التوظيف المرَضي والسهل لجسد المرأة نفسها سعيا وراء مفعول فنّي يُـستصدَر بدغدغة عُـقَـد الإثارة بدل الاعتماد على قوة البناء الفني. إنه تصوير غير ملزِم على كل حال بما أنه تمّ من الخارج، بالمفهوم الذي بيّـناه سابقا.
وعلى العكس من ذلك، فإن تصوير "عاموس كيتاي" لوضعية المرأة اليهودية في المجتمعات اليهودية ملزم لبني ثقافته من حيث هو موقف. ذلك أنه تصوير تم من داخل المنظومة الثقافية اليهودية وناطق باللغة العبـرية، يقدم رؤية منافسة من الداخل، مبنية على ثقافةٍ عالـِمة، وعلى دراية تامة بالشريعة اليهودية، شريعة العبادات والمعاملات (הלכה). تلك الشريعة التي يحمد اليهودي المصلّي بمقتضاها ربّـَه مثلا في فجر كل يوم على أنْ لم يخلقه امرأة ً (ברוך אתה יהוה ... שלא עשני אשה)، والتي تحمد المرأةُ من جهتها بمقتضاها ربّـَها في كل صلاة صُبحٍ كل بوم على أنْ خلقها حسب مشيئته (ברוך אתה יהוה ... שעשני כרצונו) كما هو مثبت في كتاب الصلوات المعروف بـــ"السيدّور" (סדור)، وكما أبرز الشريط ذلك من خلال مشهدين للوضوء (רחיצה) ولصلاة الفجر (תפילת השחר)، ودعمه بمشهد مثير للكيفية الفحولية "الثورية" (من الثور لا من الثورة ) التي يداهم بها داعيةٌ يهودي متشدد ومتزمت ويقتحم بها جسدَ زوجتـَـه المستسلمة في عتمة الفراش، وهو عاضٌّ بالنواجد على مُضغةٍ من قميصه استجماعا منه لقواه الفيزيقية الفحولية، مخالفا بذلك كل تعاليم التربية الجنسية الزوجية التي كان قد فصلها، مع ذلك حجة اليهودية، الربي الطبيب الموسوعي، القرطبي المتشبع بالعقلانية الرشدية (نسبة إلى ابن رشد) والذي درّس في جامعة القرويين بفاس قبل أن يصبح طبيبا خاصا لصلاح الدين الأيوبي، موســـى بن ميمون، في مؤلـَّــفه الموسوعي، "كتاب المعرفة"؛(2) تلك الشريعة التي تحكم، من جهة أخرى على المرء بتطليق زوجته طلاقَ إكراه إذا ما مرت على الزواج عشرُ سنين ولم تــُــنجب الأنثى. انه الحكم الذي شكّـل الفكرة المحوريّة التي قامت عليها درامية العلاقة ما بين بطلي شريط قادوش ، ألا وهما الزوج ميئير (מאיר)، والزوجة ريـبيـقا (רביקה). كانا زوجين متفاهمين ومتشبّث أحدهما بالآخر، ففــرّق بينهما أبو الزوج قهرا، بصفته ربّيا منحدرا من جالية سيفارادية من شمال إفريقيا، حيث مارس تطليقَ الإكراه عليــهما بأن أجبر ابنـَه على تطليق زوجته كي يستأنـف الزواج من غيرها استكثارا لنسل بني إسرائيل، بينما استعمل نفس الأب نفوذَه كربّي دائما، فأخذ أختَ الزوجة المطلقة كزوجة لابنه الثاني، المتشدّد في دينه، والصاخب في دعائه، والعنيف في مقاربته الجنسية البدائية لتلك الزوجة التي لا تحبه، والتي ينقلب عليها كلّ ليلة بسياط حزام سرواله (חגורת מכנסים) عقابا لها على برودتها، التي تترجم في اعتقاده، حبّها المستمر لعشيقها الذي مُـنعت من الزواج منه. وينتهي الشريط بموت ريـبيـقا كمدًا بعدما أصبحت تضطر للتردد خفية كالزانية على زوجها، ميـئـير، الذي لم يعد زوجها شرعا بحكم طلاق الإكراه، فتجده كل مرة وقد انغمس بسبب الكمد في معاقرة الكحول و في "التداوي بالتي كانت هي الداء" كما قال أحد أصاحب الدنان والغلمان من بني ثقافة أخرى معروفة بتناقضات الانفصام الاسكيزوفريني.
ومع كل هذا، وبالرغم من المساءلة الجريئة والمكشوفة لجوانب حسّاسة من الشريعة، تتعلق بعُـقد الجنس، التي ارتبطت بها الخطيئة الأولى والجريمة الأولى، وبالأحوال الشخصية المتداخلة مع شؤون الإرث وانتقال الثروات، وكذا بسلطة طبقة الربّيين على الخصوص، وبالرغم من تداخل كثير من العادات الانثروبولوجية (عادات يهود شمال إفريقيا مثلا) مع القيم الدينية المطلقة في أذهان كافة العامة وأشباه الخاصة، وكذا في أذهان كثير من الخاصة، فإن شريط "قادوش" لم يسل قطرة دم، وإنما أسال مدادا غزيرا وحثّ اجتهادا كبيرا سنختم هذا المقال بعيّنة من مقتطفات نصوصه على سبيل التمثيل للاعتبار.
أما شريطُ "آخر إغراءات المسيح" فأبلغ خطرا بالنسبة للجماعة المعنية به بالدرجة الأولى، أي العالم المسيحي؛ ذلك لأنه يتناول من الداخل، بالمسائلة الفنية، عُـمدةَ أقانيم العقيدة المسيحية ذاتها، مخضعا إياها للخلخلة والفحص وإعادة البناء، تماشيا مع تطوّر العقل المعاصر المتطور في تصوره الجديد لأوجه ما يمكن أن يشكل بالنسبة للانسان عوالمَ للغيب وفي تصوره للإعجاز، ولتخوم العلاقات الممكنة بين عالمي اللطيف والكثيف، واللاهوت والناسوت، بعدما لم يعد ذلك الفكر المسيحي ينزعج ويفزع ويجزع ويُصعق أمام إسهامات العلوم الانسانية، من إثنولوجيا، وسوسيولوجيا، وسيكولوجيا، وفيلولوجيا، وتاريخ، وأركيولوجيا، خصوصا على إثر امتحان ذلك الفكر من خلال تجربته مع تراث "لفائف البحر الميت" (Dead Sea Scrols) مند الأربعينات من القرن العشرين؛(3) تلك اللفائف التي شاركت في أوديسا تحقيقها العلمي المقارن طاقاتٌ أكاديمية من كل ملل التقاليد الإبراهيمية مما عدا ملة الإسلام التي اقتصر دور بعض أبنائها في تلك التجربة في ترويج تجارة تهريب ذلك التراث الذي احتضنته مغارات أرضهم، وذلك بالنبش عن عناصره في مظانها وبيعها في السوق السوداء بأبخس الأثمان للمغامرين في العلم والتحقيق والفيلولوجيا من علماء اليهود والنصارى، وذلك مند أن عثر راع من بدو الضفة الغربية بفلسطين في فبراير 1947 على جرة كانت بها سبع لفائف مخطوطة بمغارة "خربة قُــمران" أثناء بحثه عن شاة سائبة من شياهه (انظر الحوار المتمدن، الصفحة http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=107179). إن الشريط يتناول بالمساءلة علاقة اللاهوت بالناسوت، والناسوت باللاهوت، في شخص المسيح، مع إلحاح أكثر على البعد البشري والوجه الآدمي لهذه الشخصية المسيحية، ذلك البعد وذلك الوجه الذين تتصارع على صعيدهنا وتتغالب، بمقتضى تعريف الآدمية ذاتها، كلُّ نوازع النفس الأمّارة بالسوء من جهة مع كل مجاهدات النفس الزكية من جهة ثانية، مما يسفر، على مستوى واقعية الانسان، بما هو آدمي خُـلق هلوعا، من تناوبٍ وتداخلٍ للأمل واليأس، وللإيمان والشك، وغير ذلك من تناقضات الجزع إذا ما مسّ الانسانَ الشرُّ، و الممانعة إذا ما مسّه الخير، وهي تقلبات لم تـُـعـصَم منها الأنبياء.
إن الشريط يشكل وجهة نظر جريئة لفنان سينمائي ((يهتم بطرح الأسئلة أكثر من اهتمامه بتقديم إجابات جاهزة عنها تعتمد سبرَ مظان الكتاب المقدس واستقراءَ نصوصه كما يتعين على الفقيه أن يفعل لإرساء أحكامه واجتهاداته أو تأويلاته التي يتعين من حيث المبدإ أن تساير باستمرار تدرج تطور معرفة الانسان وتجربته. إنه شريط يقدم قراءة أخرى للتنزيل، قراءة همّها الوحيد هو فهم شخصية المسيح، تلك الشخصية الربانية بامتياز؛ أي فهم تلك الشخصية بما هي إنسان، إنسان لا يتوفّر – بحكم آدميته بالضبط – على أجوبة جاهزة لكافة الأسئلة. إنها قراءة وقف من خلالها صاحبـُها على أن المسيح لم يكن يلقّن الحقائق للناس كما يفعل المدرّس، ويتـيـقّــن المرءُ من خلالها بأن لا هالةَ نورانيةً إعجازيةً كانت تكلل رأس المسيح ابن مريم، بما أنه لا شيء يميّزه ، من حيث طبيعة النوع، عن سائر بني آدم. (...). فماذا لو أن المسيح قد قـُـدّم للناس في النهاية كإنسان آدمي وليس كابن لله تعالى؟ ماذا لو أخذت شخصية المسيح تتحدث كما يتحدث نجارٌ كان يصنع صلبان التنكيل لفائدة قادة الرومان وليس كماهية لاهوتية خارقة وغيبية؟ وماذا لو أن فرصا قد أتيحت له ليتصرّف بمحض اختياره كآدمي تتجاذبه النزاعات؟ ألا، قـُـلْ إذن، أنت، يا أيها الذي لا تؤمن بأيّ شيء، أو أنت الذي تطـّـرح عنك، على الأقل، رمزياتِ وإعجازياتِ الفكر الغيبي؛ هل ستهتــمّ حينئذ أكثر بمسيح يتمّ تصويره وتقديمه إليك من هذه الزاوية، تحت هذه الأضواء الجديدة، بما أنه سيكون حينئذ شبيها لك في آدميتك يقاسمك تناقضاتها ومعاناتها؟))

هذا المسلك الأخير مقتطف نموذجي أوردناه كعينة من الأدبيات النقدية المسيحية التي راكمها ما أسال شريط "آخر إغراءات المسيح" مـن مــداد، ومـــــا حـــــثّ عليـــــه مـــــن اجتهـــــاد (أنظرالموقع : .com/Culte/Cultewww.Filmdeculte.( إنه - مع ذلك - الشريط الذي يروّج لمنظور "آدمية المسيح ابن مريم" في وسط عقائدي يضفي بعدا لاهوتيا على عيسى ابن مريم من حيث إنه مؤيّد، في اعتقاد ذلك الوسط، بــ"روح القدس" (Saint Esprit) الذي نفخ الله منه في فرج مريم ابنة عمران التي حصنت فرجها، مما يجعل المسيح في اعتقاد ذلك الوسط ماهية خاصة هي حلقة الوصل بين هيئتي الوجود من لاهوت وناسوت. إنه الشريط الذي يروج لمنظور آدمية المسيح، بالرغم من كل قناعات عامة المؤمنين من المسيحيين، وذلك على خلفية خلافات كلامية وتاريخية قائمة ما بين كلاميي اليهود، وكلاميي النصارى، والمؤرخين الزمنيين، حول سِـيَــر الأنبياء والحواريين وحول شخصية المسيح كماهيةٍ عقائدية وكشخص تاريخي، وحول دور من كان قبله من اليهود "الأسينـيـيــن" بقـمران (Les Esseniens de Qomran )، ومن جاء بعده من الرسل مثل بولوس على الخصوص، في تأسيس المسيحية بما هي عقيدة (dogma) مهيكلة كلاميا ومؤسـسيا من خلال الكنيسة، وليس بما هي مجرد إيمان. (انظر الموقع http://spirizine.free.fr/n1/esseniens.html)

هذا، بينما نجد اليوم بأن شريطا عالج من خلاله صاحبُه جزئية وضعية المرأة في أغلب المجتمعات الإسلامية معالجة سخيفة فنيا في أسوء الحالات، قد أسال مباشرة دمَ صاحبه على قارعة الطريق بشارع من شوارع امستيردام، عاصمة بلاده؛ وذلك على يد شاب منحدر من الهجرة المغربية تـُـحرك جوارحَه وصفاتٌ مما ناله من ثقافة بني جلدته وملته الذين ما يزال بعضهم يستشهد بمرجعياتٍ تقدَّم إجمالا على أنها سُنن وسـيـَرٌ تستنبط روح الملة ومقاصدها من وقائعها، مع أنه تختلط فيها، في واقع الأمر، أحداثُ ظروفِ الحرب "الإعلامية" (أمداح حسان بن ثابت، أهاجي كعب بن زهير، الخ) والعسكرية (غزوات، فتوحات) لبداية إقامة الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة، وتتداخل فيها مع ملحميات وأزليات ثقافة الغزو وشوكة عصبيات "أيام العرب" وعنف الأعراب كنمط للعيش؛ فيسنِـدُ ذلك البعضُ من المستشهدين إلى خاتم من ولّى من النبيـئيـن، بناء على تلك المرجعيات والمرويات، فتاوى هدرِ دماء الشعراء (كعب بن زهير، كعب بن الأشرف، الخ) باعتبار ذلك فلسفةَ حقوقٍ عامةَ لتدبير الحياة المدنية اليومية للناس في المدينة الفاضلة للملة التي ختمت الرسالات بعد أن جاء نصر الله والفتح وأخذ الناس يدخلون في دين الله أفواجا بلا إكراه في الدين؛ وليـُـجري ذلك البعض من المستشهدين، بعد ذلك، بالقياس الفاسد، تلك الروحَ ذاتَ الشوكة الأعرابية ويحكِّـمها في كافة الفنانين والمبدعين عبر العالم ابتداء من الروائيين (سلمان رشدي) وليس انتهاء بالسينمائيين (ثيو فان-غوغ) ليس فقط في المدينة أو "دار الإسلام بل على صعيد الكوكب الأرضي المعولم، كمساهمة من هذه الملة في إعلاء صرح الحضارة الإنسانية في إطار رسالة الاستخلاف في الأرض!
أقول: "ما تلقاه ذلك الشاب من وصفات وجرعات"، نظرا لأن قاعدة الدعوة إلى القتل "بقطع النظر عمن يقوم بالقتل" إنتاجٌ مغربي خالص في طبعته المسوّقة، وله براءة اختراع محلية (Made in Morocco) في الأدبيات المغربية، بالرغم من كل التـلبـيـسات التي تلجأ كل مرة، حسب الظرفية الإعلامية، إما إلى تبرئة النفس كليةً عن طريق نفي وجود ثقافة وأعمال إرهابية بالمغرب نفيا قاطعا، وادعاء كون الأمر مجرد اختلاق من طرف المخابرات الداخلية أو الضغوطات الخارجية أو هما معا،(4) وإما بتحميل المسؤولية المعنوية للشرق أو للغرب أو لهما معا فيما لم يعد قابلا للإنكار، فنسمع مثلا توجيهات لرأي العامة من قبيل "أن عمليية تصدير الفكر والإنتاج الفقهي المرتبط بالمخططين والمنفذين لعمليات تستهدف المصالح الأمريكية واليهودية وحتى الأوروبية، إلى جانب استهدافها لرموز وممثلي الأنظمة العربية القائمة، تتم أساسا من دول الاتحاد الأوروبي إلى المغرب وليس العكس" (أنظر الأسبوعية المغربية "الأيـــــام" ع: 159، 24-30 نوفمبر 2004؛ ص:6). فالقاعدة "الدعوية" المذكورة كانت في حقيقة الواقع قد صيغت على أعمدة الصحافة المغربية مما هو قوتٌ فكري يومي، و كذا من على منابر المحاضرات على لسان أحد الشيوخ المحترمين المغاربة، الشيخ عبد الباري الزمزمي، أثناء حديثه عما يعتبره لدى الزعيم السياسي المغربي الثوري "المهدي بن بركة" مروقا يستحق عليه القتل "بقطع النظر عمن قتله" (راجع مقالا في الموضوع في يومية "الأحداث المغربية"، عددي 1069 يونيو 2003 ؛ وكذلك موقع "الحوار المتمدن"، صفحة http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=107344 ، وصفحة http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=106690).

أقول : "ما تلقّاه ذلك الشاب من وصفات وجرعات من ثقافة بني جلدته وملته"، لأنه سبق لي أن تحدثت في المقال المشار إليه على التو في يومية "الأحداث المغربية" عن ذلك الخطاب المهووس ضد الغرب، ذلك الذي استشرى في أوساط معنية من النخبة المغربية في السنين الأخيرة، ذلك الخطاب الذي يتوعد ذلك الغرب في صميم وجوده، وفي صميم قيمه الاقتصادية والدستورية والفلسفية والأخلاقية والفنية، انطلاقا من صميم ديار ذلك الغرب في غالب الأحيان، حيث يمارس ذلك الخطاب ما يعتبره مروجوه "دعوةً مشروعة إلى دين الله" في ذلك الفضاء، مستفيدين من حريات نفس ذلك الفضاء الذي يعتبرنه في نفس الوقت "ديار كفر وحرب"، والذي ينادون، في المقابل، بشأن نشاط رعاياه داخل ديارهم هم (أي ديار الإسلام) بتحكيم روح "محاكم التفتيش" (Inquissizion) على الجميع تحت شعار "محاربة التبشير" تارة، أو محاربة الإلحاد أو الماسونية، أو الشيوعية المادية تارة أخرى، أو الردة، أو الإباحية، أو عبادة الشيطان، تارات أخرى، ألخ. إنها حال ذلك الفقيه المغربي المحترم - نوردها على سبيل المثال - الذي هاجر من عاصمة شرق المغرب، و"حرگ" حرگـا قانونيا، كما يفعل الكثير من مواطنيه بالجهة الشرقية بالمغرب ليس على سبيل الحصر، فولّى وجهه شطر ديار ذلك الغرب معتبرا هجرته هجرةً "في الله ورسوله"، لا في دنياً يُـصيبها، ولا في امرأة ينكحها، فيـمّـم الأراضي المنخفضة (Pays Bas = Netherlands)، في ضيافة قوم "بني هولضدة"، الذين آووه على الفور وكثيرا من بني جلدته وملته، وأطعموهم من جوع، كما أمّنوا يوما ما كثيرا من طريدي بني قومه من خوف، فانبرى الشيخ بعد حين يهوي من مواقع جهاديته بمعاول خطبه المنبرية على قيم قوم "بني هولنضة" الأخلاقية، وعلى قوانينهم الدستورية، ومنظومات حرياتهم التي لم تسعفه ثقافته أن يرى من معالمها سوى "تقنـيـنها لعلاقات اللواط والسحاق"؛ هذين الميلين السيكولوجيين اللذين ألفت فيهما مع ذلك أدبيات بني قومه قبل غيرها دواوين غلمانية (أبو نواس) وبورنوغرافية ("الروض العطر ونزهة الخاطر"، "الإيضاح في علم النكاح") لم تكن تخلو منها خزانة، واللذين تـُـركا في "فلسفة" تدبير الأخلاق العامة لديهم في ركن "المسكوت عنه" مما يعالـِج ملكوتُ الكبتِ و الصمتِ أمرَه بمجرد إدانته شرعا ونفاقا من حيث المبدإ، واعتباره غير موجود من حيث الواقع، إلى أن ترتبط به فضائح من مثل بشاعات سفاح مدينة تارودانت الذي أدين أخيرا باغتصاب ثم قتل فريق كامل من الأطفال، والذي هو مجرد مثال، أو مثل ما تحفل به الصحافة من قصص هذا الفقيه أو ذلك ممن ضبط في فضاء المسجد مستسلما لمثل تلك الميولات، فيـُـحمَـل الفعلُ الشنيع حينئذ، بعد وقوعه وضبطه، على مسؤولية الشيطان الرجيم كمجرد زلة شاذة من زلات ابن آدم في صموده أمام الشيطان، والشاذ لا حكم له. فلم يكن ذلك الفقيه يعلم بأن تلك المنظومة القانونية والدستورية التي لم يتبين منها سوى تقنين اللواط والسحاق والتي انبرى يهوي عليها بمعاوله الناهية عن المنكر هي نفسها التي كانت تحميه في تطاوله ذاك على مؤسسات البلد المضيف إلى أن تثبت إدانته شكلا، ومسطريا، وجوهرا، وليس بمقتضى مجرّد الوشاية ومحاكمة النيات (راجع كلام هذا الفقيه في جريدة "التجديد" المغربية، ع 29/ 09/ 2001 ص 6؛ وقد تم إيراد هجوماته الخطابية تلك في نفس أجواء الهجوم الإرهابي ليوم 11 سبتمبر 2001).
إنها من جهة أخرى حال ذلك الإمام الآخر، وهو مشرقي هذه المرة، ممن يعتبرون هجرتهم الإفرنجية إلى ديار "بني الأصفر" "هجرةً في الله ورسوله"، لا في نسوة ينكحونهن على سنة الله ورسوله، ولا في كمشة أوروهات أو دولارات معدودة يكسبونها من ريع بعض المؤسـسات الدعوية ومن عرق الجاليات المهاجرة كيـدٍ عاملة، والذي بلغت به عجرفة ثقافته المتوترة التي ينتصب فيها "الليـبـيـدو" الجنسي كمرجعية أسمى للعقل في الحال، وفي المآل، وفي السلوك، وفي الاجتماع، وفي السياسة، وفي الديبموماسية، إلى حدَّ أن رفضِ "تعففا ورفعا للشبهات" مصافحة "وزيرة الاندماج" في بلاد الهجرة (هولندا) التي كانت قد جاءت لتتداول مع الأئمة في شأن متاعب اندماج الماهجرين على إثر اغتيال فان-غوغ بالضبط، وذلك لا لشيء إلا لأن هذه الوزيرة أنثى من الناحية البيولوجية، ولكون صاحبنا، ممثل مسجد مدينة "تيلبورغ"، ذكرا من الناحية البيولوجية، وفحلا من الناحية الثقافية، مما يجعل في نظره وسيكولوجيته أي تماسّ بين هذين القطبين ينذر بنقض الوضوء أو ربما بوجوب الاغتسال رفعا للذرائع، بقطع النظر عن حال المصافح من هذا الجانب أو ذاك من حيث ما إذا كان قد "قصدَ ووجدَ"، أم "قصدَ ولم يجد"، أم "لم يقصد فوجدَ"، أم "لم يقصد ولم يجد" كما فصل ذلك فقه العبادات، وبقطع النظر عن حالة الأنثى المصافحة من حيث ما إذا كانت حسناء تسبي نظر الناظرين وتزعزع زهد الزاهدين، أم كانت مجرد "وخش لا تصلح للفراش" على حد تعبير الفقهاء، تلك التي لها أحكام خاصة في أحكام "بيع البراءة" مثلا،(5) وفي أحكام "النكاح" من حيث أنه يجوز مثلا للمرء المحصن أن يستعين بخدماتها في الدلك والفرك في الحمام لحك ظهره دون حرج.
فإذا كان أمثال ذلك الشيخ المغربي السابق، الذي كان يؤرقه لواطُ بعض الهولنضيين، وسحاقُ بعض الهولنضيات، قد أفتوا بمثل تلك الأحكام في حق أمـّة أكرمت ضيافتهم فأخذوا يؤلّبون عليها الجيل الجديد من المهاجرين من على المنابر، ويوغرون صدره على رموزها، مستغلين اضطرابات هذا الجيل السوسيو-الثقافية، فإن من طبائع الأمور أن يمرّ ذلك الجيل الذي تمّ تكوينه وتأطيره إلى مرحلة الممارسة والعمل بعد استكمال تكوينه عن طريق شحن جماجمه بوصفات التأليب والإيغار التي تعلّق كلّ نقائص الذات الفردية والجماعية على مشجب خارجي، من "الماسونية العالمية" إلى "بروتوكولات صهيون" و"الشيوعية الملحدة"، إلى أغوال وشياطين "CIA"، و "الموساد" التي يسندون لها من صفات الوجود والحضور والسمع والبصر والعلم والقدرة ما يجعلها من وجهة علم الكلام ندا للذات الإلهية.

وكما أن الضجة التي أقيمت في الداخل بالمغرب حول الفنادق، وحول اليهود، وحول المراقص والكازنوهات، قد أوغرت صدور شباب مكبوت وذي مشاكل سيكو-اجتماعية، وبعثت بهم توا إلى الجحيم ذات مساء يوم 16 ماي 2003، فإن ما أقدم عليه الشاب المغربي من مقترَفٍ "جهادي" ضد أحد رجال الفن بالبلد المضيف لا يمكن فصله، من جهته، عن مضامين خطاب التربية. وإذا كانت تجاوزاتُ الشيخ المغربي، المؤلـبة على القوم الضالين في ملته واعتقاده، لم تخلـف في حينها أيّ اكتراث يذكر لدى النخبة المغربية، مما يدل على أن الأمر يتعلق، في العمق، بمدرسة واحدة رغم كل مظاهر الاختلاف السطحي، فإنه لم يحصل كذلك أي زلزال ضميري أو أخلاقي لا في الشارع المغربي، ولا على الشاشات المغربية، ولا على صفحات تكوين الرأي العام، على إثر هول ما يعكسه حادث اغتيال "فان-غوغ" من تدني معنويات هذه الأمة وهذا الوطن الذي أصبح بين عشية وضحاها بمثابة حفرة لتفريخ، وتربية، وتصدير الكائنات المدمّرة على صعيد الكوكب الأرضي، بعد أن لم يكن هذا البلد يصدّر سوى أبطال الرياضة، ورجال العلم، والأعمال، والسياسة والديبلوماسية والمكرمات. فلا أحد ممن تخصصوا في تحريك الشارع بالملايين "نصرة" لقضايا العراق أو فلسطين وغيرها في توظيف احترافي مقيت لآلام الشعوب، لم تأخذه العزة على سمعة ومعنويات هذا البلد الذي كان آمنا والذي أصبح يشار إليه بالبنان كإنذار بانحداره إلى درك الأمم التي أثبتت من خلال سلوك بني جيلها الحالي عجز ثقافتها عن الاندماج في الحداثة، والتي يهددها القانون الطبيعي بالاضمحلال مهما طال المرض وتعددت التماثلات الخداعة للشفاء.

فبينما هز حادث اغتيال الفنان "ثيو فان-غوغ" بالمملكة الهولندية التي كانت آمنة أمينة، كل أوساط الفن والسينما والثقافة على الصعيد العالمي نظرا للدلالات الرمزية لهذا الاغتيال على مستوى فلسفة الحقوق والأخلاق إلى درجة أن المدير العام لليونيسكو، "كويتشيرو ماتسورا"، قد اضطر إلى الخروج عن صمته،(6) نجد الخرس قد أصاب، في المقابل، الكتّاب المغاربة، والفنّانين المغاربة، بفنونهم السبعة، وباتحاداتهم، وبيوتاتهم، وبمسؤوليهم في الهيئات الثقافية والحقوقية والدينية. ولم يخلّـف هذا الحادث البشع في تعليقات المراقبين المغاربة النزرة أكثر من تخوفات منفعية دنيئة من "الانعكاسات المحتملة" لتلك الجريمة الهمجية النكراء على المصير الاجتماعي والاقتصادي لحوالي ثلث مليون من المغاربة الذين يستضيفهم وطن الفنان المغتال، والذين يدرّون على موطنهم الأصلي من كدّ عرق جبينهم، ضمن رواج وازدهار البلد المضيف، ما يوفّر للبعض في البلد الأصلي - بما في ذلك النخبة الفكرية المغربية - رواتب رتيبة ومطردة تضمن له التفرّغ لتزجية الوقت ما بين المقاهي، والحانات، وحلقات الدعوة، والوعظ، والتهييج، وصالونات المضاربات السياسيوبة. فالجريمة بالنسبة لهؤلاء جميعا لم تكن مقـلـقة في حد ذاتها، لا فلسفيا، ولا أخلاقيا، ولا حضاريا، من حيث هي فعلٌ في حد ذاته، وسلوك في فضاء المدينة. إنما وحدَها النتائجُ السلبية المحتمل ترتّبها عن ذلك الفعل اجتماعيا واقتصاديا وديموغرافيا بالنسبة للجالية المغربية، والانعكاساتُ الماديةُ لكل ذلك على ميزان الأداءات، هي ما يستحق الاهتمام عند أولئك، وهم الذين يعتقد كثير منهم بأنه المعني بقول التنزيل "كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر" في أطار الاستخلاف في الأرض والكون.

وهكذا، فإن عدم توفر النخبة المثقفة، أو بالأحرى النخبة التي تحتكر أدوات تصريف الخطاب في السوق الثقافية، على أفكار أصيلة ومتجددة لمساءلة أي بديهية من بديهيات وقناعات الموروث، في أي قطاع من القطاعات الفكرية والثقافية، أو قـُـل عدم توفر تلك النخبة على الشجاعة وعلى استقلال الضمير وحرية التفكير الداخلية اللازمة لمعالجة ما قد يكون لديها من بصيص أفكار، معالجةَ اجتهاد فلسفي أو فقهي أو قانوني أو إبداعي فني، معالجةً تنطلق من الداخل وتحاور الذات المتسائلة وتروج كل ذلك في الساحة ليؤطر الناس في وجودهم، هو ما جعل الطاقات الخام تعبر في النهاية عن نفسها بالانفجار العنيف، انفجار من لا يجد من مواردَ لتأكيد وجوده ولإعطائه معنى سوى الطاقة البدائية الخام، فيفجرها في وجه وسطٍ يكون قد فشل فشلا ذريعا في أن يتواصل معه بجدلية الفكر والفعل وفي أن يرجّـح معطياته، بفضل تلك الجدلية، لصالح الذات عن طريق إقامة التوازن بين ضرورات التكيـيـف وإمكانيات التكيّف. ذلك العجز هو ما يفسر تنامي هذه الطاقات التي لا تنضب من المتأهبين لإصدار فتاوى القتل في حق كل متجرّئ، خارجي أو داخلي، يجرؤ على مس طابوهات هذا المجتمع، الذي يبدو أنه استحلى إيقاع وتيرة العودة غير الواعية إلى راحة زمن عصر جديد من عصور الانحطاط، تضبط إيقاعَـه السريالي، من جديد، ساعاتُ الفنان "سالفادور دالي" المترهلة كالعهن المنفوش، وذلك بعد شبه استفاقة في الزمن التاريخي الحيّ لم تُعمّــر أكثر من قرن من الزمن ما بين منتصفي القرنين التاسع عشر والعشرين؛ عصر انحطاط دوري جديد-قديم، يشقى فيه من جديد كلُّ ذي علم بعلمه، وينعم فيه أخو الجهالة بجحيم شقائه وشقاءات بني قومه وملته.
فإذا كان المرء كثيرا ما يتساءل، في لحظات "تفلسفه" حول سوسيولوجيا الثقافة وتاريخ الفكر، عن المنطق الذي يحصل بمقتضاه في التاريخ أن تنحدر أمة شامخة، وصرح فكري زاهر، من عالم الأنوار إلى غياهب الظلمات، بالرغم من تواصل الأجيال واتصالها اتصالا بيولوجيا، وتواتر منظومات مؤسسات التربية والتعليم ومتون العلم في مظانها، واستمرارية التاريخ في ديمومته الفيزيقية؛ كيف يحصل أن يسفر كل ذلك الاتصال والتواثر الفيزيقي والمؤسسي بين الخلف والسلف من الأجيال عن انقطاع مفاجئ أو تدريجي لسند العلم والأخلاق والقيم الحضارية. ولعل الجواب يتمثل في أن مثل ذلك الانقطاع إنما هو عبارة عن حصيلة تراكمية لمعنويات جيل أو عدة أجيال ممن يفلح منطقُ الاستهلاك في إحلال مطامعـهم المادية الآنية محل مطامـحـهم المعنوية المثلى، فتقوم الأولى بذل الثانية كمحرّك ومبرّر للحياة، فلا يقتدر الواحد من أمثال تلك الأجيال، بفعل ذاك، مثلا، أن يفعل كما فعل مالك بن أنس حين كان ينادي في الناس و قد أُركِب على ظهر أتان، كما يروى، في إطار محنته التشهيرية، فيقول: "من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا مالك بن أنس؛ طلاق المكره لا يلزم"، رافضا بذلك ابتزاز أصحاب الوقت من العباسيين الذين حاولوا لأغراض سياسية أن يستصدروا منه تخريجا عامّا في فقه الأيمان (جمع "يـميـن" بمعنى "قـسـم"، "حلـِف") والأحوال الشخصية تتحمّل الأجيال تبعاته في الحياة اليومية للأفراد، وذلك لمجرّد أن يتمكن أصحاب الوقت أولئك من معالجة نازلة سياسية ظرفية تتعلق بالبيعة وبولاية العهد. أما اليوم، فلا القضاة، ولا الوزراء، ولا زعماء الأحزاب، ولا ذوو المناصب من الفقهاء، ولا مديرو الوكالات أو المقاولات والمؤسسات عامة، ولا رؤساء المنظمات الثقافية، ولا أحد على الإطلاق، يقدم على الاستقالة حينما تصطدم الآلة الوقتية بالمبادئ، إذ الكل يدعي في أحسن الأحوال بأنه مُـكره يطبق التعليمات الفوقية، ويجد في ادعائه ذاك توفيقا كاذبا بين إراحة ضمير زائفة، وحسابٍ نفعي عميق غير معترَف به. إنه المنطق الذي تفضي سيادته خلال حين من الدهر إلى انقطاع سند العلم والمبادئ والقيم وإلى انتمائها جميعا إلى عالم التاريخ بعد حين من الدهر.

من نماذج خطاب تدبير الخلاف
وإذا كان هذا واقع حال مجتمع انقطعت عنه أسباب وأسانيد الاتصال بمبادئ ومفاهيم الحضارة والأخلاق والعلم فانحدر إلى درك بدائيةٍ جعلت أبطاله يعمدون مثلا، من خلال طقوس جماعية، على فصل رأس كائن بشري عن جسده عن طريق "قطع الحلقوم والودجين بلا رفع الآلة قبل التمام" قبالة عدسة المصورين منهم ليعرضوها على الشاشات أمام أنظار العالمين باسم "الله أكبر"، ويطعنون الفنانين على الأرصفة باسم "لا إله إلا الله"، واصلين بذلك السند هذه المرة من جديد بتقاليد أجيال "القرامطة" و"الحشاشين"، وبالفكر والذوق المناهضين للحضارة وللعلم والفلسفة والفن والتصوّف؛ وإذا كنّا قد أوردنا مقتطفا من نماذج خطاب تدبير الخلاف مما خلّفه عمل فني في مجتمع آخر مثل شريط "آخر إغراءات المسيح"، فإنا نختم هذا المقال – استكمالا لعناصر المقارنة – بنموذج من خطابات المناظرة وتدبير الخلاف، مما خلّفه شريط "قادوش" في أوساط النخبة اليهودية.
يقول أحدهم أو إحداهنّ على موقع من مواقع شبكة البينون أو "الويب"، مدعّما قوله بإحالات دقيقة على مصادر الشريعة اليهودية مما لا يتّسع المجال والمقام لإيراده (www.Adathshalom.org/kadoch/htm) ما يلي :

((لماذا يقلق هذا الشريط [شريط قادوش ] راحة عدد لا يستهان به من اليهود؟ لا شك أن ذلك راجع إلى أنه من المؤلم أن يشاهد المرءعلى الشاشة كلَّ هذا الغم والكرَب الذي تعاني منه النساء داخل سجن رهيب هو الفكر الديني اليهودي. فالظلامية التي يندّد بها الشريط تلحق بالغ الأذى بصورة الدين اليهودي في الأذهان، وربّما حتى بصورة دولة إسرائيل. لعلّ الأمر مـنّي من قبيل ردود الفعل الانفعالية؛ ولكني أرى أن هذا الشريط يثير فعلا إحساسا بالاشمئزاز وبالسخط. لذلك أودّ أن أفند بعض الأمور تفنيدا جذريا حتى يكون في ذلك تنبيه لكلّ من عسى أن يشاهد هذا الشريط، إلى أن ذلك العمل يشوه الواقع.
لكن، أفهي الحقيقة، كما هي قائمة في الواقع، هي ما لحقه التشويه فعلا من خلال الشريط؟ إني أشكّ في ذلك. فالذي لحقه التشويه بالفعل – حسب اعتقادي – ليس هو الواقع، الذي هو حدٌّ لا يرتفع. إن ما تم تشويهه من خلال ذلك الشريط هي المثل والمقاصد التي نتعلق بها [ نحن اليهود ]. فتعلّـقـنـا باليهودية وبدولة إسرائيل يقوم في الحقيقة، ويجب أن يقوم، لا على أساس تشخيص هذا الواقع الأخلاقي أو ذاك مما هو قائم من أوجه الواقعية التاريخية لكل من ذينك الكيانين [أي اليهودية ودولة إسرائيل]، ولكن على أساس المقاصد والآمال التي تفيض عن جوهريهما، والتي نُـسقطها نحن من خلالهما على المآل (...).
وانطلاقا من هذا الفهم لطبائع الأمور في جوهرها، فإن شريط "قادوش"، بتركيزه على انحطاط وتدهور سلوك معين في التّــدين، يكون قد طمس ما تحفـل به اليهودية من أسباب الأمل والخلاص التي من شأنها تدعيم الثقة والإيمان لدى الشعب اليهودي.
لكن، لنعد الآن من جديد إلى "الواقع" الذي يصوّره شريط "عاموس كيتاي". أفهو عمل مشوّه فعلا من خلال ذلك التصوير بالقدر الذي تدّعيه بعض المعالجات النقدية الحانقة عليه؟ يدّعي البعض مثلا أن الحكم الفقهي الذي يتمحور حوله سيناريو الشريط والذي يقضي بأن يطلّق الزوجُ زوجته إذا ما قضت في ذمته عشر سنين بدون إنجاب حكمٌ معطّل منذ زمان، وأنه حكمٌ متعذّر التطبيق عمليا، وأن "عاموس كيتاي" إنما قام بالنبش عن هذا الحكم ونفض الغبار عنه بهدف الإساءة إلى ذوي العباءات السود [ يقصد الربيين الأصوليين ]. الحقيقة أن متن فقه "المشنا" التلموذية ينصّ بالفعل على أنه "لا يسمح لمن تزوّج منذ عشر سنوات ولم تنجب له زوجته، أن يستمرّ لأكثر من ذلك في التخلي عن واجب الإنجاب، وللمرأة الطالق أن تتزوج بعد ذلك من رجل آخر".
من الواضح أن القناعة والمبدأ الكامنين وراء هذا الحكم هو اعتبار الإنجاب والمساهمة في التكاثر شرطَ صحةٍ بعديّ لمؤسسة الزواج، يتعين عند عدم تحقّــقه القيامُ بالطلاق وإعادة الزواج من الغير. ويلاحظ [حجة اليهودية] الإمام "موسى بن ميمون" [القرطبي] بأن صياغة هذا الحكم تدل ضمنيا على أن العقم يمكن أن يكون مصدره الرجل أو المرأة على السواء، كما يمكن أن ينجم عن عدم التوافق البيولوجي بينهما (انظر حاشية الميشنا التلموذية). أما الشريط فيرسّخ الانطباع بأن المشرّع لا يؤاخذ بتبعات عدم الإنجاب وما يترتب عليه من إخلال بواجب التكاثر إلا المرأة على وجه الحصر (...)".))
وبعد أن يستعرض الناقد السينمائي أو الناقدة، المتفقّه أو المتفقهة في الشريعة اليهودية ومقاصديتها، عشرات الاجتهادات الربّية التي تحاول أن تجعل من شروط تطبيق "طلاق المكره" شروطا شبه متعذّرة عمليا، يواصل قائلا :

((أكيد أن ليست مهمة أي عملٍ سينمائي فنّي ورسالتُه هي استقراء واستعراض تفاصيل ترسانة الاجتهادات الفقهية المتراكمة في الموضوع و في الباب عبر الأجيال والقرون. إلا أن اختيار شريط "قادوش" وإبرازه لأكثر تلك الاجتهادات تشددا في الأحكلم وندرة في الإجراء والتطبيق، وتصويره لذلك كحصيلة لإرث اليهودية، يجعل الدين اليهودي برمّته [في أعين مشاهد الشريط] موضوعا للحكم السلبي الذي يحصل عند مشاهدة ذلك الشريط. إن السؤال الذي يطرح نفسه إذن هو ما إذا كان "عاموس كيتاي" على صواب حينما قام بتصوير هؤلاء الناس وتلك الوضعية انطلاقا من ذلك الأفق المظلم. لا يسعني هنا إلا أن أعبر عن رأي شخصي بهذا الصدد فأقول بأن الوضعية التي صورها الشريط لا يمكن أن تعتبر حالة تمثيلية لا بالنسبة لليهودية في مجملها، ولا حتى بالنسبة للأصولية المتشددة في خصوصيتها، وذلك من حيث إن تلك الوضعية تشكل حالة قصوى.
إلا أن مهمّة ورسالة الفنان [من جهة أخرى] غالبا ما تتمثل في وضع الأصبع على جانب من جوانب الواقع، لا تدركه الأبصار ولا البصائر لدى عامة الناس دائما، وإن كان عدم الإدراك هذا لا يقلل شيئا من واقعية ذلك الواقع. فمهمّـة ورسالة الفنان تتمثلان إذن في إبراز سمات وقسمات ذلك الجزء من الواقع حتى يبرز بشكل ملفت أمام العيان فيتمّ التعرف على معالمه بكلّ ما تمثـّــله من بشاعة حقيقةِ الواقع الذي لا يرتفع مهما حجبه الروتين والعادة. وفي هذا الباب، ومن هذا المنظور، يصوّر لنا شريط "قادوش" بالفعل انحرافا نموذجيا من الانحرافات التي تحصل، والتي تنعكس غالبا على صعيد أو آخر، وعلى جانب أو آخر من جوانب وأصعدة الحياة الدينية في ارتباطها بالحياة عامة : إنه الانحراف المتمثل في وَرَع أو وُروعية وتوارع يبلغُ من الإفراط ما يجعل التقوى تستحيل إلى تنكيل. إنه التقيّـد الأعمى بنصّ الشريعة على حساب روحها ومقاصدها. إنه التشدّد وتزمّت بعض الأشخاص الذين يرمون بكل ثقلهم لفرض أفكارهم وآرائهم ومعاييرهم في الفهم، غير مكترثين بكرامة الفرد البشري، وغير عابئين بحق الفرد في تحمّل مسؤوليته عن ذاته وضميره، وفي تدبير عناصر زاده العاطفي. إن أهم رسالة يمكن استخلاصها من شريط "قادوش" والتي لها راهنية مستمرة ودائمة هي أنه لا يمكن أن يكون هناك إنسان يستلهم الولاية والكرامة والقداسة من ربّه، حيثُ لا وجود لإنسان يستلهم روح العدل الإلهي.))

انتهى كلام الناقد السينمائي المتفـقـه في الشريعة اليهودية ومقاصدها؛ وبانتهائه ننهي هذا المقال بالتساؤل: هل هذا الناقد مؤيد أعمى لــ"عاموس كيتاي"، يحشر مخالفي هذا الأخير في الرأي مع فئة الأبالسة والشياطين؟ أم هو مناهض مسعور للعمل ولصاحبه، يحكم على العمل بوجوب الإحراق، وعلى صاحبه بوجوب تصفيته وقتله "بقطع النظر عمن قتله"؟ لقد اتضح من خلال إيراد مقتطفات ملموسة بأن لا هذا ولا ذاك. فهل معنى هذا أن كلام الناقد لغو ولَـفٌّ وبهلونياتُ من التقيّــةٍ والنفاقٍ، مما هو أشدّ وبالا على المدينة من مؤامرة الصمت إذا تواطأت عليه ألسنة وأقلام النخبة؟ هذا كذلك غير صحيح نظرا لوضوح الأفكار ولانفــراز المفاهيم وللفصل بين مستويات التصوّر والطرح والمعالجةِ غير المداهِـنة وغير المتحاملة في نفس الوقت. معنى هذا أن الخيار الشقيّ بين أربعة أوجه لشرّ واحد، ليس قدرا محتوما ولا قضاء مبرما على العقل، ألا وهي (1) وجه التشـــيّــع المتــشــنّـج الأعمى، و(2) وجهُه المقابل في المناهضة المسعورة؛ و(3) وجه مؤامرة الصمت، و(4) وجه مؤامرة لغو خطاب اللف والتقــية والنفاق، الذي لا جوهر لزبده، ولا مسؤولية لصاحبه.
انتهى؛ 28 نوفمبر 2004
------------------------------------------
(1) استطاع سبينوزا أن يعيش بعد محاولة الاغتيال هذه؛ ويروي الذين ترجموا له أنه احتفظ طيلة بقية حياته بالمعطف الذي اخترقه خنجر الإرهابي الذي استهدف حياته، وذلك حتى يتذكر باستمرار حقيقة عداء العامة وأشباه الخاصة للفكر الأصيل.
(2) انظر Maïmonides 1990 Le livre de la connaissance. trad. André Zaoui. PUF
(3) انظر الموقع: http://religion.rutgers.edu/iho/dss.html وكذلك كتاب
Baingent, Michael y Richard Leigh (1992) El escandalo de los manuscritos del mar Muerto; las revelaciones que hacen temblar al Vaticano. Circulo de Lectura
(4) من ذلك مثلا قصة الخلايا النائمة المتهمة بالإعداد لضرب البوارج الأميريكية بجبل طارق سنة 2002 (انظر الحوار المتمدن، صفحة http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=106690)
(5) من ذلك مثلا أن ظهور الحمل يعتبر عيبا في الجارية " العِـلــّـية الرائعة الجمال"، يُـفسخ بموجبه بـيعُـها بيعَ براءة (أي "مع ضمان السلامة من العيوب") في مذهب الإمام مالك، وذلك "لعِـظم الغرر والضرر"، حسب تقدير الفقهاء، بالنسبة للمشتري الذي يروم من شرائه جمالَ جارية يطؤها في إطار ما ملكت الأيمان. بينما اختُـلف في اعتبار حالة الحمل نفسها عيبا حينما يتعلق الأمر بجارية "وخش" لا تصلح للفراش، بما أن قرينة القبح فيها تدل على أن المشتري ما كان ليروم منها "وظيفة الفراش".
(6) لقد صرح المدير العام لليونيسكو قائلا "أدين اغتيال " ثيو فان-غوغ" الذي اقتـُرف ببرودة دم عن طريق طعنه ثم إطلاق عدة عيارات نارية عليه. فهذا الوجه من أوجه التلفزة الهولندية يجسد، بطريقته الخاصة، حرية التعبير. فالديموقراطية ودولة الحق والقانون في حاجة إلى أن يتمكن أناس من أمثاله من التعبير بحرية حتى وإن كانت تعابيرهم أو أفكارهم تسبب الحرج أحيانا. للمرء الحق في أن لا يشاطر امرءا آخر رأيه، ولكن ليس له الحق في أن يخرسه"



#محمد_المدلاوي_المنبهي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عن تقاليد الموسيقى الأمازيغية لدى اليهود المغاربة
- انتخاباتٌ تشريعية بالمغرب بدل -قومة- 2006 التي لم تقع
- من برج بابل إلى برج مانهاتان ومن التتر إلى الطالبان
- بذل المجهود لرسم ما بين العلم والرأي من حدود(1*)
- التسونامي والله Tsunami and God (بقلم الربي بنيامين بليخ)
- التربية والتعليم، وتفجير طاقات الشباب (تذكيرات لا بد منها)
- الحافظ الصغير (من وحي الكاريكاتور الذي زعزع أركان أمة) 1*
- العطلة (1*)
- قضية الصحراء: عودة إلى تطوير الخطاب والسياسة في المغرب (*1)
- أسئلة حول التنوع الثقافي واللغوي في وسائل الإعلام بالمغرب (* ...
- اللغة العبرانية في عشرية تدبير اللغات الأجنبية بالمغرب (*1)
- فصيلة الأسئلة المغيَّبة في النقاش حول حرف كتابة الأمازيغية ( ...
- أسئلة حول اللسانيات والبحث العلمي بالمغرب (حوار)
- هل من تعارض وطني بين إنصاف الأمازيغية وتأهيل العربية؟ (حوار)
- موقع اللغة الأمازيغية من التعدد اللغوي بالمغرب
- انطباعاتٌ عن طباع وطبوعٍ وإيقاعاتٍ من بايروت
- عن اللقاء حول مسألة الديموقراطية في المملكة المغربية


المزيد.....




- فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024
- الحبس 18 شهرا للمشرفة على الأسلحة في فيلم أليك بالدوين -راست ...
- من هي إيتيل عدنان التي يحتفل بها محرك البحث غوغل؟
- شاهد: فنانون أميركيون يرسمون لوحة في بوتشا الأوكرانية تخليدً ...
- حضور فلسطيني وسوداني في مهرجان أسوان لسينما المرأة
- مهرجان كان: اختيار الفيلم المصري -رفعت عيني للسماء- ضمن مساب ...
- -الوعد الصادق:-بين -المسرحية- والفيلم الأميركي الرديء
- لماذا يحب كثير من الألمان ثقافة الجسد الحر؟
- بينهم فنانة وابنة مليونير شهير.. تعرف على ضحايا هجوم سيدني ا ...
- تركيز أقل على أوروبا وانفتاح على أفريقيا.. رهان متحف -متروبو ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد المدلاوي المنبهي - ثلاثة أعمال فنية ومدرستان لتدبير الخلاف (تذكير بمناسبة عودة ضجة الكاريكاتور)