ديناميات الصراع وأزمة بناء الدولة 2-3


مهدي جابر مهدي
الحوار المتمدن - العدد: 7566 - 2023 / 3 / 30 - 22:11
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

( 2 )

تتنوع وتتعدد الازمات في العراق وتأخذ مستويات وتجليات عديدة بفعل تشابكاتها وتعقيداتها من جهة ، وتوجهات الفاعلين السياسيين وتغير مواقفهم من جهة اخرى . فالطبقة السياسية تعمل بعقلية الغنيمة ، اي ان اهتمامها الاول يتركز على حصتها من مغانم السلطة وبذات الوقت تعمل على ابقاء العراق في موقع للدول الخارجية .
ولذلك لم تنجح الانتخابات ولا المؤسسات في ترسيخ الديمقراطية بل اختصرت جميعاً في تقاسم السلطة والنفوذ واحلال الصفقات بديلاً عن فاعلية المؤسسات .
فالانتخابات البرلمانية الاخيرة (2021) لم تحقق ما كان يأمله المواطن في الاصلاح الحقيقي ولم تؤد الى معالجة الازمات . وتحولت الانتخابات من آلية لتحقيق الديمقراطية الى وسيلة للانقضاض عليها . وكانت الاغلبية الصامتة والمعارضة التي قاطعت الانتخابات ، والتي تقدر ب 60 % من الناخبين بمثابة جرس انذار وعقاب للاداء السياسي . ولكن القوى السياسية المتحكمة بالسلطة لم تكترث لهذا التحدي وواصلت تجاهلها للأزمات وقاد ذلك الى اشتداد التناقض بين الدولة واللادولة . فقد فرضت المليشيات سياسة الامر الواقع عبر السلاح و تغولت واصبحت قوة موازية للمؤسسات الرسمية بل وتهددها خدمة لمصالح احزاب سياسية ودول .
وتجلى ذلك بوضوح في ظاهرة نشوء مراكز متعددة من داخل الدولة ومؤسساتها وتعمل ضد الدولة ومقوماتها ، اشبه بدويلات داخل الدولة ، تتمتع بكل ما تقدمه الدولة لها من مزايا وبذات الوقت تعيق عمل مؤسسات الدولة ، وبالتالي تم رهن الدولة للدويلة .
وبين الابعاد المحلية والخارجية للأزمة يجد العراقيون انفسهم متروكين بلا خدمات اساسية مثل الكهرباء والماء والصحة والتعليم وبقية الشؤون الحياتية . وبعد مرور عشرين عاماً لم تستطع الحكومات المتعاقبة من توفير مستلزمات الحياة الكريمة في بلد تزيد وارداته السنوية من النفط ما يفوق المائة مليار دولار سنوياً .
هذه القضايا غذت الاحتجاجات الشعبية و ادى الى فقدان الثقة بالسياسة والسياسيين نتيجة المسار الانحداري للاوضاع . واصبحت مسافة السلطة Power Distance بين الدولة والشعب واسعة واتسعت الهوة بينهما .
وحسب التقديرات الرسمية ان عدد العراقيين تحت خط الفقر او قريبين منه يبلغ حوالي خمسة عشر مليوناً ( 15 مليون ). وبيانات وزارة التخطيط تشير الى نسبة 25 بالمئة من السكان . اما البطالة فقد ارتفعت من 13.5 بالمائة من عام 2019 الى 16.5 بالمائة في 2022 .
ورغم تحذيرات القوى السياسية المدنية والديمقراطية غير الحاكمة ومنظمات المجتمع المدني من تداعيات الاوضاع والدعوات الى المعالجة السلمية للأزمة ورفض اللجوء الى العنف، من خلال خارطة طريق عقلانية للحل ، الا ان القوى المتنفذة واصلت سياسة التجاهل والايغال في نهج المحاصصة والفساد.
كما دعت الامم المتحدة الى الحوار الجاد للخروج من الازمة . واشارت ممثلة الامم المتحدة في احاطتها امام مجلس الامن الدولي يوم 17آيار 2022 الى " ان الطبقة السياسية منشغلة بالصراع على السلطة." و اكدت : " ان ثمن الانسداد السياسي باهض جداً واحتمال الانفجار الشعبي وارد ." وفي الاول من ايلول دان مجلس الامن الدولي اعمال العنف التي جرت في 29 و30 آب 2022 ودعا الى ضبط النفس وبدء الحوار بين اطراف النزاع .
وفي احاطتها امام مجلس الامن الدولي في 4 تشرين الاول 2022 قالت بلاسخارت : ( ان الفساد سمة اساسية للاقتصاد السياسي العراقي وهو متغلغل في الحياة اليومية ويعمل كأداة للخدمات السياسية اكثر من كونه أداة لخدمة الشعب .) واكدت بلاسخارت ذات الموقف في احاطتهاالاخيرة في الثاني من شباط / فبراير 2023 حين اشارت الى ان " الفساد في العراق تحول الى منظومة عاملة لسنوات ." و " ان تحديات العراق لم تظهر بين ليلة وضحاها ."

كل هذه الاوضاع ومستجداتها جعلت من العراق ارض رخوة و وفرت الظروف المناسبة الى اتجاه البلد نحو الفوضى وعدم الاستقرار المزمن بعد عجز القوى المتنفذة عن ايجاد لغة مشتركة للخروج من حالة الاستعصاء السياسي .

( 3 )
اثبتت التجربة العراقية بعد 2003 ان موازين القوى لاتتحدد فقط بنتائج الانتخابات ، ولا بعدد المقاعد البرلمانية ، وانما ايضاً بعوامل ومؤثرات اخرى ، داخلية وخارجية ، منها السلاح والنفوذ الشعبي واضافة الى العامل الخارجي ، وتحديداً الاقليمي .
فقد افرزت نتائج الانتخابات البرلمانية التي جرت في العاشر من اكتوبر 2021 عن فوز واضح للتيار الصدري (73)مقعداً. ان شعار (الاغلبية الوطنية ، لا شرقية ولا غربية )، الذي رفعه مقتدى الصدر كان المقصود منه ابعاد خصومه ، تحديداً ، الاطار التنسيقي الموالي لايران . وتم الاعلان عن تشكيل تحالف (انقاذ وطن )الذي يضم نواب التيار وتحالف السيادة و الحزب الديمقراطي الكوردستاني . يقابل ذلك ما يطرحه الاطار التنسيقي الشيعي ، من بديل وهو تشكيل حكومة توافق وطني تشارك فيها الاحزاب السياسية وبالتالي اعادة انتاج المحاصصة .
لذلك رد الاطار التنسيقي بتعطيل عمل البرلمان واعاقة انتخاب رئيس الجمهورية ومايتبع ذلك من تسمية الكتلة الاكبر ، وتكليف رئيس الوزراء ، وهذا ماسمي بالثلث المعطل ، والذي يسميه الاطار التنسيقي ب الثلث الضامن .
وكرد فعل على هذه الاوضاع ، اعلن التيار الصدري استقالة جميع نوابه من البرلمان في 12 حزيران 2022 واقرت الاستقالة رسمياً في 19من الشهر نفسه .ولجأ بعدها التيار الى الشارع وصولاً الى اقتحام البرلمان والاعتصام امامه تحت شعار محاربة الفساد. في حين توجه اتباع الاطار التنسيقي الى الاعتصام قرب الجسر المعلق تحت شعار الدفاع عن الدولة ومؤسساتها .
استثمرت قوى الاطار انسحاب نواب التيار في مليء الفراغ في البرلمان عبر البدلاء في جلسة استثنائية عقدت بتاريخ 23 حزيران . ومع اعلان مجلس النواب رسمياً استبدال النواب المستقيلين من التيار بنواب من كتل اخرى تكون مرحلة جديدة من الصراع السياسي في العراق قد انطلقت . اقترنت الصراعات السياسية بحرب اعلامية شرسة جندت لها كل وسائل الدعاية والتضليل والقذع والتشهير والاتهامات المتبادلة وغذتها الفضائيات و وسائل التواصل الاجتماعي وشارك فيها عدداً كبيراً من " المحللين " السياسيين من الطرفين وعمقت ذلك ،حرب التغريدات بين الاطراف المتصارعة .
اندلع القتال بين الفصائل المسلحة من الطرفين يومي 29 و30 آب 2022 في بغداد (المنطقة الخضراء ) وفي البصرة ، اضافة لحرق مقرات بعض احزاب الاطار التنسيقي في بغداد وعدد من المحافظات .وبلغت الضحايا اكثر من 30 قتيلاً ومئات الجرحى .
و بعد بيان المرجع الديني السيد كاظم الحائري في 28 آب 2022 الذي اعلن فيه اعتزاله ودعوته الى انصار التيار الصدري بتقليد السيد خامنيئي في ايران ، اعلن السيد مقتدى الصدر في اليوم التالي 29 آب اعتزاله العمل السياسي . وفي 30 آب اعتذر للشعب العراقي في مؤتمر صحفي ودعا انصاره الى الانسحاب من ساحات القتال ووقف الاعتصام السلمي ...
وهكذا شهد العراق حالة التحول من الاعتصام السلمي الى الصدام المسلح بين القوى المتنفذة على صعيدي السلطة والمجتمع . ان الاحتكام للسلاح مثل تطوراً جديداً وانتقالة نوعية في الساحة السياسية في معركة السلطة . اي ان قوى النفوذ لا تتورع عن استخدام السلاح فيما بينها( داخل التيارات الشيعية ) ، مثلما استخدمته قبل ذلك ضد المحتجين في حراك تشرين . كما اثبتت تلك الصراعات من جديد ، ان المصالح الضيقة لتلك القوى تعلو على المصالح الوطنية العليا .
وجدير بالذكر ، انه بعد انسحاب نواب التيار الصدري ، جرت عملية تغير واسعة في الخارطة السياسية عامة ، والتحالفات السياسية خاصة . ولم يعد مجلس النواب يمثل الا اقلية الأقلية .
كل هذه التطورات وتفاعلاتها خلال السنوات 2019 – 2022 ادت الى اشتداد ديناميات الصراع بين القوى المتنفذة واوسع القطاعات المجتمعية من جهة وبين القوى المتنفذة ذاتها من جهة اخرى .
والجدير الذكر هنا ، وفي خضم هذه الصراعات ، نلمس ضعف ، ان لم نقل غياب تأثير القوى المدنية والديمقراطية بفعل تشتتها وانقساماتها ، مما افقد قدرتها على توجيه الضغط الشعبي ضد ممارسات القوى المتحكمة بالمشهد السياسي .