صدمة الاستفتاء ، الأزمة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم


مهدي جابر مهدي
الحوار المتمدن - العدد: 5722 - 2017 / 12 / 9 - 07:42
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

اثار الاستفتاء الذي جرى في اقليم كوردستان وبعض المناطق المتنازع عليها يوم 25 أيلول 2017 الكثير من الجدل والتداعيات على صعيد العراق والمنطقة . وتباينت الاّراء حول الحدث وامتد تأثيرها على المستويات الشعبية والرسمية .
وانطلاقاً من قاعدة : ان فهم المشكلة جزءاً اساسياً من حلها . فالفرضية التي أسعى لإثباتها هي : ان الأزمة بالأساس هي سياسية وكذلك حلها .
أولاً : ابرز الحدث ان هناك قضية شعب لها ابعادهاالقانونية والسياسية وإطارها المجتمعي . وان فكرة الحق بتقرير المصير – السابقة للاستفتاء - توءكد شرعية ومشروعية النضال القومي للكورد بعض النظر عن طبيعة القيادة السياسية للحركة القومية الكوردية و طرق عملها ... ( الإشارة الى هذا الامر ليست سوى تاكيد المؤكد ، ومنعاً للبس وسوء الفهم الذي عّم غالبية الحوارات والاراء المتعلقة بالموضوع .)
ثانياً : جوهر الأزمة الحالية هو سياسي بالدرجة الاولى - بين حكومتين والزعامات المتنفذة فيها - ، بين الحكومة الاتحادية وحكومة اقليم كوردستان داخل الدولة العراقية ، وليس بين دولتين . واتسع النزاع ليمتد ، من العلاقة بين حكومتين ، الى العلاقة بين شعبين ( العربي والكوردي ) ويعود ذلك الى العامل السياسي .
ثالثاً : أين يكمن البعد السياسي ؟ الأزمة التي نتحدث عنها هي احدى تجليات الأزمة العامة في العراق ، وتحديداً أزمة النظام السياسي والاجتماعي بعد 2003 والخلل في عملية اعادة بناء الدولة والعجز عن تحقيق المواطنة المتساوية . وتعود أسباب ذلك الى :
١ طبيعة التغيير الناتج عن الاحتلال الامريكي للعراق والذي شرعن بقرار مجلس الأمن الدولي 1483 .
٢ سياسة المحاصصة الاثنو - طائفية ، الصيغة العراقية المشوهة للتوافقات السياسية ، التي قادت الى سيطرة نخب سعت وتسعى لإعادة تسويق نفسها بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة .
٣ الشكلانية في اليات التحول الديمقراطي - الانتخابات نموذجاً - وبهذا تتحول اليات الديمقراطية من وسيلة لتعزيز الديمقراطية الى وسيلة للانقضاض عليها ، مما يولد المظلومية التي تنتج بدورها الكراهية .
٤ الاعتماد المطلق على الاقتصاد الريعي وموارده والنظر الى الدولة كغنيمة / الدولة الغنائمية.
٥ استشراء الفساد بكل أنواعه وتحكمه بإدارة الدولة والمجتمع . نشهد في التجربة العراقية ظاهرة التحول من فساد الحكم الى الحكم بالفساد .
٦ ضعف المؤسسات وهيمنة الولاءات ٠ فألاشكال المؤسسية والآليات التنفيذية التي تطرح كترجمة لمبادئ الديمقراطية تقود بالممارسة العملية الى تكريس الاستبداد والتسلطية وإفراغ الديمقراطية من محتواها الحقيقي.
٧ الخلط ( التداخل ) الواسع بين الدين والسياسة وعدم الفصل الوظيفي بينهما . وأنتج ذلك بدورة ظاهرة الطائفية السياسية واتساع حجم المقدسات والتلاعب بالرموز الدينية وتوظيفها سياسياً . فالماضي يحكمنا الْيَوْمَ بقوة . وأصبح القتال باسم الماضي وتحت تأثيره هو الوصفة السحرية لتقسيم المجتمع .
٨ تحدي الارهاب والتطرف ومارافق ذلك من تداعيات وآثار وقيم سلبية : قتل وتهجير الأبرياء واحتلال الاراضي..
٩ ضعف - ان لم نقل غياب - الثقافة الديمقراطية المدنية وتقاليدها . ومن البديهي الإشارة هنا الى ان الثقافة المدنية لا تنشأ نشوءاً آلياً و دون تمهيد مسبق وبمجرد زوال النظم السلطوية الحاكمة والتحول الى شكل نظام الحكم الديمقراطي ، أو حتى بمجرد ترسيخ هذا النظام .
١٠ التأثيرات السلبية للتدخلات الإقليمية والدولية .. وآخر الأمثلة الصارخة وليس اخيرها ، الموقف من الاستفتاء.

هذه الظواهر أدت الى ان يكون العراق دولة فاشلة تعاني من الأزمات .. والازمة السياسية جزء من أزمة شاملة ، أزمة دولة ، أزمة مجتمع، أزمة اقتصاد . والازمة هنا تعني التهديد الخطر لاهداف و قيم و معتقدات الأفراد والمجتمعات وهي لحظة حرجة تواجه الكيان السياسي وتحدد مصيره عبر حلقات متتابعة واحداث تراكمية . وتتحول حالة الاستعصاء هذه - اذا لم تحل -الى مرحلة اخطر : الصدام .. لكن ذلك لا يعني استحالة الحل .
هذه الأزمة جاءت نتيجة لتراكمات متعددة بدورها تنتج حلقات اخرى من الأزمات تعود الى بداية تشكيل الدولة العراقية الحديثة .
كل ذلك وغيره أدى الى تعثر التحول نحو الديمقراطية اتساع ميكانزمات الخراب وتصاعد منسوب التوتر في المجتمع وتقوية الولاءات الضيقة على حساب المواطنة والمدنية وملل المواطن من تكرار الوعود .
رابعاً : الاستفتاء كاشف وليس منشئ للازمة بفعل الإخفاقات المتراكمة في التجربة العراقية بعد 2003 . ويرتبط ذلك بعدة قضايا ، أقف عند أهمها :
١ طبيعة العلاقة غير المتوازنة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم . تلك العلاقة التي تميزت بغياب الثقة واعتماد المعالجات التوافقية / المحاصصاتية للمشكلات بديلاً عن الوسائل القانونية والدستورية ( لذلك يرى الإقليم الْيَوْمَ انه فقد المكاسب المتحققة ، وترى الحكومة الاتحادية الى إجراءات ما بعد الاستفتاء ماهي الا عودة للقواعد الدستورية .. وهذا أيضاً يعبر عن التباين في الفهم والتناول للمشكل . )
٢ - قرار رئاسة الإقليم باستفتاء الانفصال من جانب واحد جاء نتيجة قراءة غير دقيقة و غير مدروسة وسوء تقدير للأوضاع و موازين القوى في العراق والمنطقة من جهة ، وفِي ظل انقسام سياسي حاد من جهة ثانية ، وتفاقم الأزمة الاقتصادية واستشراء الفساد في الإقليم من جهة ثالثة .
هذه العوامل شجعت اعتماد سياسة الهروب الى الامام التي اعتمدها الإقليم بزعامة السيد مسعود البارازاني وبدعم وتشجيع من غالبية الأحزاب الكوردستانية .
اكثر الانتقادات التي وجهت للاستفتاء ركزت على كونه اجراءً احادي الجانب ، دون التشاور والتنسيق مع الحكومة الاتحادية وكذلك عدم قبول المجتمع الدولي من حيث : التوقيت/ النطاق / التداعيات / الأثر .
٣ - رد الفعل السلبي والحاد من الحكومة الاتحادية تجاه الإقليم واتخاذ سلسلة من الإجراءات السياسية والاقتصادية والعسكرية من خلال استثمار الرفض الدولي والإقليمي للاستفتاء . وقد وثقت المنظمات الدولية والمحلية سلوكاً ملموساً من الوحشية والإساءة والأذى الذي مارسته القوات الحكومية ، خاصة بعض فصائل الحشد الشعبي والمثال الصارخ على ذلك ما جرى في مدينة طوزخورماتو .
خامساً : يتميز العراق بالتنوع الاجتماعي والسياسي والثقافي . هذه الظاهرة - العالمية الطابع - ليست سبباً في الأزمة ، بل يكمن السبب في الإدارة غير السليمة للتنوع ، تلك الإدارة التي أضعفت الهوية الوطنية وغذّت الهويات الفرعية المتناحرة قومياً و مذهبياً . والتي سعت لترويج فكرة القطيعة، خاصة بين العرب والكورد و التبشير باستحالة التعايش المجتمعي المشترك . كما اعتمدت سياسة تقود الى تحول التنوع الهوياتي من مصدر اثراء الى سبب للبلاء .
والتنوع - كما أكدت اليونسكو - ضروري للجنس البشري بقدر ضرورة التنوع الحيوي بالنسبة للطبيعة . كشفت الأزمة عن إشكالية ثقافية عند العراقيين بتنوعهم القومي والديني تتمثل بعدم تقبل الاخر ، رأياً وسلوكاً، إضافة الى قوة ثقافة الاقصاء والإلغاء والتعنت والتزّمت . وهذه السمات تشمل النخب السياسية والثقافية ، وبالطبع تمتد الى المواطن العادي الذي غالباً ما يكون ضحية التجاذبات السياسية .
وفِي الوقت الذي يقترب فيه العالم من مفهوم المواطنة العالمية ( الكونية ) نعود نحن بقوة الى روابط مقابل الدولة نتيجة تصادم وليس تكامل الهويات المتداخلة . وأثبتت تجارب الدول على ان اقتتال الهويات يؤكد فشل التعددية الثقافية في التعايش والتوافق على قيم جامعة وعلى الولاء لدولة وطنية متعاقد على مؤسساتها.. وان التحديدات الهوياتية الاثنية متقلبة وتخضع لعدد من التلاعبات من الشخصيات النخبوية والمتخصصين بالعنف .
وكما هو معروف قامت الدولة الوطنية في العراق بعد التحرر من الاستعمار لتحقيق هدفين : الأول ، ضمان الوحدة الوطنية . والثاني ، تحقيق التنمية من خلال التوزيع العادل للثروة . وبعد حوالي قرن من الزمن ، لم يتحقق لا هذا ولا ذاك . ولإزالت هذه الإشكالية حاضرة بقوة ، مما يعيق التكامل المجتمعي .
سادساً : الخلافات السياسية غذّت الكراهية بين الشعبين - العربي والكوردي - بفعل الوسائل غير النزيهة والإجراءات والممارسات السلبية التي اعتمدتها الأطراف السياسية المتصارعة ( خاصة الأحزاب السياسية ) ووسائل التواصل الاجتماعي والجيوش الالكترونية التي تم توظيفها في هذا الإطار .
حروب الكراهية بين الطوائف والأديان والأقوام اقترنت بتغذية سياسية لإذكاء الأحقاد وتكريس ثقافة التكاره والإلغاء والتخوين وفق رؤية : " من ليس معي فهو ضدي " . وفِي ظل مناخات التوحش هذه ، حل التكفير محل التفكير وتزايدت الاتهامات المتبادلة بين عصبيات وتخندقات وتناحرات وتنافرات متقابلة تقوم على تعطيل العقل وتهييج العواطف ومعها فضائيات تسعى لبرمجة الاذهان وأحزاب تتغنى بالأوطان وتهين الانسان .
وساد الوضع الذي أصبحت فيه الانفعالات والشحن العاطفي والمعتقدات الشخصية اكثر تأثيراً في تشكيل وصناعة الرأي العام من الوقائع الموضوعية . و قاد ذلك الى انتاج قيم جديدة مشبّعة بالكراهية . كل ذلك ولَّد ثنائيات قاتلة : عربي / كوردي ، مسلم / مسيحي ، شيعي / سني ، ديني / علماني ، واضيف لها مؤخرا مؤمن / ملحد ...... كلها تبشر ، كما اسلفت ، باستحالة التعايش السلمي وتنظّر لعلاقة بين طرفين احدهما غالب والآخر مغلوب في خطابات تستل مفرداتها من قواميس الطغاة .
هكذا حضرت الأحقاد والكراهيات والعصبيات والسجالات العقيمة ، وغابت العقلانية والحكمة والتسامح . نعم علينا الاعتراف بوجود انقسامات مجتمعية وسياسية وثقافية ودينية وطائفية حادة تتميز بالصراع وصولاً الى الصدام - كما جرى بعد الاستفتاء في كركوك - وطبعاً مع الاستقواء بالخارج .
ورغم كل ذلك لا يمكننا القول ان الأزمة بين شعبين ، بل بين نخب حاكمة سعت الى جر المواطنين في صراع المصالح عبر التضليل وتشويه الحقائق . ولكن علينا الإقرار بان التأثيرات السلبية للخلافات بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم انعكست على الشارع بصور مباشرة وغير مباشرة . جدير بالإشارة هنا ، فالعوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية والتنشئة الاجتماعية و
السياسية وغياب التقاليد الديمقراطية وهيمنة ثقافة الخضوع والتبعية ( الناس على دين ملوكهم ، كما يقول ابن خلدون ) والنظام السياسي المأزوم والنخب الفاشلة والإخفاقات في تحقيق الديمقراطية وتكريس المظلومية و التدخلات الخارجية ، أدت الى الانقسام الذي ولَّد بدوره حالة التكاره .
سابعاً : ضعف - ان لم نقل غياب - الرأي / الموقف المحلي الثالث العقلاني والضاغط على الأطراف المتخاصمة . بالمقابل نشهد الانشداد والتزمت في مواقف أطراف الصراع وسيطرة " الصقور " التي تطرح الشروط تلو الشروط وتعقيد المواقف بدلاً من ابداء المرونة . سيطرة قوى التطرّف التي اعتمدت التضليل والتلاعب بالعواطف ومراوغات اللغة السياسية والخطابات الشعبوية واستعراضات الولاء المزيف يقابلها ضعف قوى الاعتدال والعقلانية . كل ذلك أوصل الأزمة الى حافة الحرب الأهلية . ولا نغفل دور العديد من النشاطات التي نظمتها منظمات المجتمع المدني في أربيل وبغداد والتي تناولت الأزمة ، وسعت لتشجيع الحوار وفق قاعدة " لا غالب ولا مغلوب " ، ودعت الى نبذ خيار العنف . وقدمت تلك النشاطات التي شارك فيها العديد من المثقفين والأكاديميين وأعضاء البرلمان والإعلاميين والسياسيين من النساء والرجال، صورة واقعية للازمة وكذلك سبل وآليات حلها .
الا ان تلك الفعاليات لم ترتق ِالى المستوى المطلوب من جهة والمواقف السلبية للقوى المتنفذة ازاءها . مما اضعف قدرتها على التأثير والفعل .. وهنا نشير الى ان القطاع الثالث - منظمات المجتمع المدني - لا يزال دون مستوى الطموح رغم كثرة التنظيمات ، في حين نلحظ تأثيره الواضح في بلدان الديمقراطيات المستقرة .
ثامناً : تعتبر الأحزاب السياسية من اهم المؤسسات في عمليات التحول الديمقراطي وكما يقال : " الأحزاب عماد الديمقراطية " بما تجسد من مفهومي المشاركة والمؤسسات معاً ، و لما لها من دور هام في العمل السياسي الديمقراطي الذي يقوم على التنافس والانفتاح ، خصوصاً في الديمقراطيات الناشئة . و الحزب السياسي هو شكل للتنظيم الاجتماعي يعبر عن مصالح مجموعة من الناس ، ويحدد الأساليب الملموسة لتحقيق ذلك .

ماذا تقول التجربة العراقية بعد 2003 ؟
تميزت التجربة الحزبية في العراق ، بما في ذلك إقليم كوردستان ، بالتشوه من جهة ، والطابع الطفيلي من جهة ثانية ، والتحول الى أدوات للفساد و للتغطية على نهب المال العام من جهة ثالثة .( مع وجود استثناءات محدودة تتعلق بالأحزاب الصغيرة والهامشية التي يتطفل الكثير منها على الأحزاب الكبيرة .) ويضاف الى ذلك وجود الأذرع المسلحة ( قوات مسلحة / مليشيات ) للعديد منها ، خاصة الأحزاب الكبيرة . ( لغاية نهاية نوفمبر 2017 منحت المفوضية المستقلة العليا للانتخابات ، الإجازة لحوالي 150 حزباً ، 38 منها لديها قوات مسلحة . )
وبدلاً من الدور التنويري والتحديثية للأحزاب ، نجد الكثير من الأحزاب العربية اعتمدت ومارست النظرة والسلوك الشوفينيين . وبالمقابل مارست الكثير من الأحزاب الكوردية ، بما في ذلك بعض الأحزاب العلمانية ، سياسة التعصب القومي .
اما فساد الأحزاب ، فهو حديث ذو شجون ، فالمال السياسي يثير الإشكالية، لا بل يمثل الخطر الذي يهدد ملامح الديمقراطية . وبذلك تحولت غالبية الأحزاب السياسية - خاصة الحاكمة - من أدوات للتحديث السياسي و الاجتماعي والثقافي الى كوابح للتنمية والتطور والاستقرار .
ارتباطاً بالاستفتاء ، نجد ان الغالبية العظمى من الأحزاب العراقية والكوردستانية لعبت دوراً سلبياً في الأزمة ، و افتقدت العقلانية في التعامل والتعاطي مع الأحداث و جنّدت الرأي العام باتجاه المواقف المتطرفة ، وهيّجت المشاعر والعواطف باتجاه تغذية التكاره بين الشعوب .
تاسعاً : القوميات والأديان غير العربية وغير الكوردية ، كالتركمان والكلدواشووريين السريان الأرمن و الصابئة المندائيين والايزيديين والشبك وغيرهم ، أصبحوا بدرجة رئيسية ضحايا للصراع وأزمة الاستفتاء - رغم ان معاناتهم تعود الى قبل ذلك خاصة من الإرهاب وكذلك تعسف الأنظمة السياسية - واجبروا في أحايين كثيرة للخضوع والانحياز لهذا الطرف أو ذاك . وغالباً ما جرى الصراع المسلح في مناطقهم التي تحولت الى ساحة لتصفية الحسابات ، إضافة لكونهم ضحايا إرهاب داعش . وأدى ذلك وغيره الى تهجيرهم وهجرتهم وصودرت أملاك الكثير منهم . وجدير بالإشارة هنا الإبادة الجماعية التي تعرض لها الأيزيدين وكذا المسيحيين.
ان الثمن الكبير الذي دفعته الأقليات في العراق قياساً لنسبتها الى السكان عالي جداً، لأنه يهدد وجودها من جهة ، ويثير القلق من مخاطر افراغ العراق من تنوعه الثقافي والاجتماعي والديني من جهة أخرى . ولانغفل هنا الدور السلبي الذي تقوم به الأحزاب المتنفذة والحاكمة - العربية والكوردية - إزاء الأقليات والعمل على استدراجها لمواقفها السياسية وزجها في الصراعات السياسية بما في ذلك أزمة الاستفتاء .
عاشراً : سؤال الحل ؟ هل بالإمكان وقف تداعيات الأزمة عند هذا الحد ؟ وهل من الممكن إيجاد معالجة ملائمة للازمة وتداعياتها ؟
دلت الوقائع على ان الانفصال أو تقسيم العراق ليس حلاً، لأنه سيقود بدوره الى صراعات وازمات جديدة بين الأجزاء وداخل كل جزء . يكمن الحل - نظرياً - في بناء دولة القانون والمؤسسات والمواطنة الديمقراطية ببعديها السياسي والاجتماعي والاقرار بالتنوع وضمان ذلك دستورياً. وبالطبع المشكل يكمن في العوائق الداخلية والخارجية التي تقف امام هذا الحل ومن بين أهمها ، الطبقة السياسية الحاكمة والمستفيدة من هذه الأوضاع الشاذة .
فالأمل يولد من الفشل . والفشل هنا يشمل جميع الأطراف كل ُ حسب مسؤوليتة . فبعد ان أصدرت المحكمة الاتحادية العليا قرارها الملزم في 20 نوفمبر 2017 والقاضي بعدم دستورية الاستفتاء وإلغاء كافة الاثار والنتائج المترتبة عليه .( المقصود هنا ليس إلغاء الاستفتاء لان الحدث قد وقع ، ولكن إلغاء اثاره .)
واليوم تبرز امام كل الأطراف المعنية فرصة لاستثمار هذا الامر والبدء بحوارات بناء الثقة على كل المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية وفق مرجعية الدستور وضمانة أو مراقبة الأمم المتحدة . وهذا يتطلب اعتماد خارطة طريق لحل المشكلات و صياغة عقد شراكة جديد يقوم على التوازن بين الحقوق والواجبات. هذه الأزمة تدعونا لضرورة الإصلاح الشامل في بيئة النظام السياسي في عراق ما بعد 2003 .
ما الذي يخلق الوعي بضرورة الإصلاح ؟ انه الخلل بين واقع معاش وبين وعي بتأخر هذا الواقع وتطّلع الى تغييره . نعم ، الوعي بالخلل يعبّر عن حاجة داخلية للإصلاح . فالتحول الديمقراطي، كمرحلة وسيطة بين نظام غير ديمقراطي ونظام ديمقراطي يتم في ثناياها التفكيك التدريجي للنظام غير الديمقراطي القديم وبناء نظام ديمقراطي جديد عبر عملية إصلاح منظمة تطاول عناصر النظام السياسي مثل : البنية الدستورية والقانونية ، المؤسسات والعمليات السياسية ، أنماط المشاركة السياسية ، وطبيعة النظم الانتخابية ( لاوجود لممارسة ديمقراطية دون وجود انتخابات حرّة نزيهة ، وان أهمية النظام الانتخابي تتجاوز كونها الوسيلة الإجرائية لتنظيم عملية الانتخابات ونتائجها نحو الأهمية السياسية في تنظيم المؤسسات السياسية ، ومن هنا تأتي صحة فرضية الربط بين النظام الانتخابي والديمقراطية ، بين إصلاح النظام الانتخابي وإصلاح النظام السياسي .) الا ان الحالة العراقية الراهنة لم تحقق ذلك ولازال العراق يعاني من عملية سياسية هجينة ومعّتلة . ومن هنا فان أزمة الاستفتاء ماهي الا احد تجلياتها .
لذا من الضروري التأكيد على مرجعية الدستور - رغم ما يعتريه من نواقص وثغرات - وتطبيق مواده دون انتقائية ومنها المادة 140 ومعالجة المواد الدستورية التي تنظم بقانون والتي تزيد عن 50 مادة ومنها المتعلقة بمجلس الاتحاد . وتشريع القوانين المهمة مثل : النفط والغاز .اخذين بالاعتبار الحاجة الموضوعية لتعديل الدستور رغم إدراكنا بصعوبة ذلك حالياً .
والمطلوب هنا ، الضغط الشعبي المنظم والواعي والمجتمع المدني الفاعل والنشط والمؤثر وتعاون جميع القوى السياسية والوطنية المدافعة عن حقوق الانسان عبر اليات سلمية ، منها الانتخابات الحرّة النزيهة ، . كل هذا و غيره سيوفر الأرضية للعيش الطوعي المشترك في إطار وطن ديمقراطي يضمن للجميع ، دون تمييز ، الحرية والكرامة بعيداً عن كسر الإرادات وسياسة الغالب والمغلوب والاخذ بالاعتبار حقوق الأقليات من القوميات غير العربية وغير الكوردية ، والاقرار بحقوقها ومراعاة خصوصياتهم القومية والدينية .
لتكن صدمة الاستفتاء المدخل الواقعي للعلاج المناسب وفرصة لإصلاح الخلل الشامل في بنية النظام السياسي في العراق .. وعلينا العمل والانتقال من الصدمة بلا علاج الى علاج بالصدمة - صدمة الاستفتاء- بإرادة مشتركة من الساعين لتحقيق العراق الديمقراطي الاتحادي المزدهر والمستقر ..