عصر التسييس


مهدي جابر مهدي
الحوار المتمدن - العدد: 3994 - 2013 / 2 / 5 - 01:19
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

( السياسية هي من يحصل على ماذا وكيف ؟ هارولد لازول )

السياسة كظاهرة اجتماعية رافقت الانسان منذ نشاطاته الاولى ، وتطورت مع التغيرات التي طرأت على حياته . وتراكم على مرٌ الزمن رصيد معرفي هائل من النظريات والمدارس والافكار والمفكرين والتجارب . وتوسع علم السياسة منذ ظهوره الاول قبل الفي سنة .

1- أكد الفلاسفة الاوائل على ان السياسة هي صنع الخير العام ، وفن ادارة شوؤن المجتمع والدولة بطريقة ديمقراطية حتى لا تكون لعبة للاندفاعات العمياء .
وربط ارسطو بين علمًي السياسة والاخلاق عبر مجموعة العلاقات الاجتماعية ، بينما عرُف معجم الاكاديمية الفرنسية السياسة بكونها "المعرفة بكل ما له علاقة بفن الحكم في دولة ما ، وادارة علاقاتها الخارجية " اي علم حكم الدولة .
وصاغ هارولد لازول تعريفه للسياسة بطريقة السؤال حينما قال : ان السياسة هي من يحصل على ماذا وكيف ؟ اي الفرد والمجتمع والاهداف التي يسعى لتحقيقها والطريقة التي يستخدمها من اجل تلك الاهداف .
يمكننا القول ان السياسة هي السلوك السياسي للانسان من خلال اهتمامه بالشأن العام . وهي النشاط الاجتماعي الذي ينظم الحياة العامة ويضمن الاستقرار ويحقق التوازن من خلال الشرعية ، وتنظيم العلاقة بين الافراد والجماعات المتنافسة ويحدد اوجه المشاركة في السلطة بواسطة الحق والعدالة والسلم الاجتماعي وضبط الصراعات وادارة التعدد الثقافي والاجتماعي والسياسي .
ومهمة الحاكم السياسي ان يسوس امور الناس ويدير امور البلد منطلقا من علم السياسة بكونه علم وفن دراسة وادارة الحكومات والمؤسسات والسلوك والممارسة السياسيين - لأن علم السياسة ينصب على دراسة النشاطات السياسية للانسان مثل الحكم والتصويت وتكوين التنظيمات السياسية والضغط السياسي وجماعات المصالح – ويسعى لفهم الواقع السياسي للجماعة من خلال مجموعة من الفرضيات والمفاهيم والنظريات التي تصيغ السلوك السياسي للجماعة وطبيعة التفاعلات السياسية داخل المجتمع .
لعلنا هنا بحاجة للتذكير بما طرحه فيلسوف العلم توماس بيكون وكتابه : بنية الثورات العلمية ،والذي صاغ فيه نظرية عن تقدم العلم وابتدع مصطلح Paradigm _ _ النموذج المعرفي او الارشادي – والذي بالاستناد اليه يمكن قياس التطورات التي تحدث في العلوم والنقلات النوعية في طريقة نظر العلماء الى المشكلات البحثية التي يتعرضون لها .
والنموذج المعرفي حسب تعريف بيكون هو – اجماع المجتمع العلمي في لحظة تاريخية ما على طريقة لتحديد المشكلات وطرائق معينة لدراستها ، ومن خلال ذلك صاغ بيكون القانون العام ( العقل محك الحكم على الاشياء والظواهر ) لنجد ان التقدم عبارة عن عملية طويلة ومستمرة ويكمن مقياسها الرئيسي في الممارسة ، التطبيق ، وكذلك يؤكد ضرورة اخذ المستجدات التي يأتي بها الواقع المتغير بالأعتبار واستيعابها بصورة او بأخرى .

2- نعيش اليوم في عصر التسييس ، بكل معنى الكلمة ،من حيث الحضور القوي والفاعل للسياسة في الحياة اليومية وتأثيراتها المتعددة في الواقع ، فقد اصبح كل نشاط سياسي يحمل مضامين سياسية بصور مباشرة او غير مباشرة ، وبالتالي فأن فهم السياسة بات ضروريا لفهم المتغيرات والتحولات ، خاصة ونحن نعيش عصر عالمية العلم وعولمة الظواهر واتساع ثورة المعرفة والاتصال ، وهذا يساعدنا في فهم كيفية ادراك الانسان لمصيره وحقوقه والتحكم في اوضاعه ... كل ذلك لا يعني ان السياسة واضحة ، بل لازال الغموض يرافقها ، خاصة ذلك التناقض بين المعنى الفلسفي الاخلاقي والمعنى الواقعي المتعلق بالدولة والسلطة والطبقة السياسية الحاكمة .
ومع التطورات والتغيرات التي شهدها العالم ولايزال ، وصل علم السياسة الى اكبر قدر من الاتساع والتنوع الكمي والنوعي . وبدأت تظهر وبقوة اسئلة تتعلق بتلك الهوً ة السحيقة بين السياسة كعلم والسياسة كممارسة اضافة الى السؤال المتعلق بموقع السياسة في عالم متغير .
فعلى صعيد الواقع ، وفي احيان كثيرة ، تحولت السياسة الى وسيلة للوصول الى السلطة بأي ثمن بما في ذلك الاستبداد والطغيان . وجرًاء ذلك اصبح الناس – خاصة في بلدان تفتقر للديمقراطية ببعديها السياسي والاجتماعي - ضحية لألاعيب السياسة وديماغوجية القادة والنخب والطبقة السياسية ، وانتج ذلك وغيره ، حالة من اللامبالاة
السياسية عند المواطنين ، اضافة الى حالة من كرًه السياسة . وهذه واحدة من مآسي السياسة ، خاصة عندما يترافق معها ، وصول حكام غير قادرين على اداء دور يقوم على المعرفة والكفاءة والتنظيم والعدل والحكمة والعقلانية فيستعيضون عن ذلك بوسائل اخرى كالديماغوجية والقمع والاكراه .
وحيث يؤكد علم السياسة ، ان الديمقراطية حالة مكتسبة تتميز بطاقتها الاستيعابية وقدرتها على توفير مناخ ايجابي ، وآليات مجربة لتداول السلطة وارضية محايدة يلتقي فيها التنوع على قواسم مشتركة عبر الاعتراف بالآخرالمختلف ، نجد في الواقع نقيض ذلك ، فبأسم الديمقراطية تنتهك حقوق الانسان ويتسلح الافراد بالمذاهب والطوائف وبالقتل والنهب وبأشد اشكال العنف وحشية ، ليترافق كل ذلك مع النزعة المتجذرة الى السلطوية واحتكار السلطة والاستفراد بالقرار وثقافة الاقصاء والالغاء.. لنصل في
ضوء ذلك كله الى وضع نجد فيه ان البديهيات في السياسة تحولت الى اشكاليات .
ان احتكار القرار وقصر النظر في التعاطي مع المشكلات وعقلية الاستئثار والتفرد والآنية المتعجلة الحق افدح الاضرار بالسياسة وبالمواطنين والمصالح الوطنية .
من هنا ، لابد من اعادة النظر بمفهوم السياسة وطريقة التعاطي معها ، والمطلوب اعادة تعريف مفهوم السياسة بما يجنبه الامراض التي تفشت في الممارسة والسلوك وازالة العقبات التي تحول دون ان تكون السياسة للصالح العام حقا من خلال اعتماد معايير العلم وبناء وعمل المؤسسات السياسية وآليات عملها في اطار الحقوق والمسؤليات الدستورية . وان لا تقتصر السياسة على المعرفة المنظمة للقوانين والقواعد المتعلقة بالدولة ، وانما ايضا مدى ملائمتها مع مصالح الناس بصورة عادلة ، وبعكس ذلك ستقود السياسة الى الويلات والكوارث وتؤكد ذلك تجارب العديد من البلدان ومنها العراق .......