كاظم الركابي ( شلونكم ..والخجل الذي في عيونكم )


نعيم عبد مهلهل
الحوار المتمدن - العدد: 7555 - 2023 / 3 / 19 - 16:22
المحور: الادب والفن     

يقول الاسبان ان قصائد التوربادور التي يلقيها الشعراء الشعبيون في شوارع مدن الاندلس هي عاطفة القلب الذي يريد ان يكتب بشفتي الالقاء وليس على الورقة ، ويبدو أن هذا الشعر منذ ذلك الوقت اصبح لسان حال المناطق الشعبية الفقيرة وكانت تصاحبه القيثارات والالقاء الحماسي برجفته المسكينة حتى يكون اقرب الى القلب .
وحين قتل الفاشيون المغني الشيلي فكتور جارا في ساحة الملعب الرئيسي للعاصمة سانتياغو .كانت همسة نيرودا في نزعه الاخير تقول : الصوت والقصيدة لايُقتلان لانهما الوحيدين من يستطيعا صنع الغرام والخجل في قبلة فم واحدة. وكان جارا وقتها مطربا شعبيا يساريا تغلب وجهه ملامح ( المستحة ) ولكنه يشتعل حماسا مع استمرار الغناء دون الحاجة حتى الى مايكرفون.
الحياء يشكل جزءاً من براءة العاطفة الانسانية ، وهو رد فعل يسكن المرأة اكثر من الرجل ومن اعرضه حمرة الخد ورعشة الشفتين والارتباك ومرات ذهاب العيون الى جهة تعاكس جهة من ننظر اليه ، واعرف أن الحياء في جانبه النفسي هو من بعض مواهب الروح في محبة قلقها ورغبتها ان يكون الصمت هو القبول وردة الفعل ، ولكنه في مرات يتصاعد الى مرتبة الوفاء كقول للشاعر الاموي جرير يقول : لولا الحياء لهاجني استعبار....ولزرت قبرك والحبيب يزار.
هنا لاول مرة اقرا تداخلا بين الرثاء والحياء إن كان مقصده هنا ( الخجل والمستحة ) .وفي اية حال فأني ارى في الحياء جزء من عفوية الروح وخلق عاطفتي يرسله لنا الوجه للتعبير عن كلام واشارة واغلبها القبول في مصارحات الغرام او طلب الزواج او المديح.
هذه مقدمة لورقة كتبها المرحوم كاظم الركابي بخط يده لمقدمة قصيدة ( اشلونكم ) واهدى الورقة الى الفنان علي جودة .وعلي ارسلها اليَّ .وانا الان افك طلاسمها عبر المخفي والمعلن في هاجس الشاعر عندما تسكنه المناداة والسؤال عبر تلك المفردة الجلفية المؤسطرة بكل قداسات الحنين والشغف واللهفة ( شلونكم ) وهي تعني في تفكيك المفردة ما هو لونكم ولكنه هنا ليس السؤال عن اللون المرئي ( الاحمر والاخضر والاصفر والازرق ) بل تسأل عن الحال والوضع وهي رغبة في الاطمئنان .ولكنها في انشودة كاظم موجهة الى جهة اللهفة والغرام .
القصيدة في المرادف الروحي لازمنة المكان وتواريخه العاطفة تعود بفنية وقصد وعذوبة الى ذات المناجاة التي كانت تتهدج بها قلوب ونواح واسئلة الامهات والعشاق وحتى كاهانات المعبد ، تلك الاسئلة المسكونة ببوح العاطفة وترادفات نبض القلب والتعبير عن الهاجس والاحساس أيام كان الفقراء في سومر حين لايتوفر الخبز في بطونهم يعوضون عنه بكتابة الرسائل الغرامية .
تفكيك هذه الورقة التي بخط المرحوم كاظم الركابي لايقودنا الى اشكاليات النقد في شرح النص وفك طلاسمه ، أنما النص هنا تصبغه عاطفة الخجل والمناجاة والتصوير الدقيق لعاطفة العشق في جعل السؤال هو ذاته الذي كان الشعراء الجوالون في مدن الارض يحفزون فيه رغبة الناس لاشعال المزيد من العاطفة وعلى شتى المستويات الجنود واصحاب البسطيات والعطاريين وثملي الحانات وهلم جرا.
لون المسحته في العيون وتقريب مناخات البيئة الجنوبية بشكلها الحضري والريفي وتأجيج العاطفة من خلال السؤال الاسطوري ( شلونكم ) هو ما جعل قصيدة كاظم الركابي تذهب الى ايقاع سمفوني تعزفه عشرات الالات ، لتتفوق على الكثير من مواهب السماع فينا .
لقد كتب لنا نصا بحروف مسمارية تتدفق فيه امطار العطر واناشيد القلب وحاجة البشر ليكون الانصات عندهم صانعا مهارا لذلك المستحى الذي يلون الوجوه بالتعابير عندما تكون اسئلة الشاعر هي في دهشتها موجهة الى الجمع وليس المفرد ، فتتحول العشيقة الى نحن وهنا تكمن اسطورية هذا النص وفتنته وقدرته على السكن في وجدان اي واحد منا.