أغنية يا حريمة ( هاجس الحب في عراق القرن العشرين )


نعيم عبد مهلهل
الحوار المتمدن - العدد: 7527 - 2023 / 2 / 20 - 00:47
المحور: الادب والفن     

أغنية يا حريمة
( هاجس الحب في عراق القرن العشرين )

نعيم عبد مهلهل

عند سكينة الروح تنام ذاكرة الأغنية ، ومتى استيقظت تستيقظ معها الذكريات كلها ، تلك السكينة المسكونة بسكينة واحدة تحرك الرمش كما تحرك السفينة شراعها وتذهب بنا حيث ذهب نوح ع بحثا عن ساحل الأمان .
وفي خيال هاجس التذكر مع تلك السكينة استعيد الاغنيات التي كانت تحث فينا عاطفة الاشتياق كما كان سقراط يحث في الكلمات عاطفة الفلسفة ، غير ان الاغاني فلسفتها هناك أساطير الغرام وقصص وعت عليها ارواحنا منذ صباها الاول واستمرت الى اعمارنا المتقدمة .
وأغنية حسين نعمة الخالدة ( يا حريمة ) هي واحدة من ايقونات عصر الحب المثير في فاصلة الالهام المميز في العراق ،الالهام الذي تزامن مع صوت كوكب الشرق ونجاة الصغيرة ووحيدة خليل وداخل حسن ووديع الصافي وفيروز وحاسبينك التي لحنها الراحل طالب القره غولي لفاضل عواد وهو يبكي .
وطالما جلست مع الفنان الكبير حسين نعمه في بيته وتحدثنا عن هذه الاغنية التي يقول انها واغنية غريبة الروح تمثل هاجسا لايمثل جمالية بحة صوتي بل احساس روحي في عمقها وانتمائها الى تلك الفترة الشهية من القرن العشرين وحين استلمتها من ملحنها ومؤلفا كنت ادرك تماما انني مع ياحريمه سأذهب الى شواطئ حلم اخر في هاجس واحلام اولئك الذين احبوا صوتي منذ اغنية يا نجمة وحتى الاغنية الاخيرة ( بين عليهَ الكُبر ).
اترك حسين نعمه واذهب الى ما يقول مؤلفها عنها الشاعر ناظم السماوي :
(( كنت في سجن نقرة السلمان وكانت هناك فتاة في العشرين من عمرها توددت اليّ وتحولت الزيارات الى حب قوي لكن بعد عدة شهور اختفت الفتاة وما عادت تأتي الى السجن وحين سألت قالوا ان اهلها زوجوها فوقع علي النبأ كالصاعقة .
وبعد ايام كتبت قصيدة يا حريمة وظلت معي ، ثم اعطيتها للملحن الكبير محمد جواد اموري فبقيت عنده لأكثر من عام ونصف العام ثم لحنها بعد وفاة زوجته. ، وكان المطرب حسين نعمة يمر بأزمة عاطفية مع زوجته السابقة ، فأسندت اليه الاغنية وكأن الجميع ( مطرب / ملحن / شاعر) يمرون بأزمة حقيقية ، فجاءت الاغنية ( على الجرح ) لتنفس عن مكنونات دواخلنا.))
حديث المؤلف عن اغنيته ياحريمه ،هو شهادة صادقة عن لحظة كاتبها ، وعلي ان اتخيل الراحل محمد جواد اموري وهو يلحنها ليستعد مع صدى اجراسها دموع فراق لزوجته الاولى . فتأتي اخيرا الى حسين نعمة جاهزة بأجمل معاني الحسرة والحزن واللوعة والحنين ولتستقر عند حنجرة دافئة حملت الصدى السومري الحزين والرخيم لحنجرة حسين نعمة.
كلما اسمع يا حريمة اشعر ان الكلمات تسرق من فوق شفايفنا وتذهب بعيدا الى محطات اعمارنا ، المراهقة والمدرسة وخوذة الجيش وجبهات الهروب والتعليم في الاهوار والرسائل التي كنا نكتبها بلحظة غرامية الى نساء ولدن في اديم الفرات وحقول البساتين المحيطة بالناصرية واحلام حقائب السفر في هاجسنا للهروب الى امكنة حلم اخرى ، ومتى اخفقنا في تحقيق احلام تلك الحقائب عدنا الى صوت حسين نعمة ونحن نردد خلفه مطلع الاغنية ونتخيل ان الشاعر كتبها من اجلنا وكذلك فعل ملحنها ومطربها.
يا حريمه هي ايقاع روحي بسكينة ما نهواه ونتمناه ونحصل عليه ، انها صدى الوجوه التي صعدت الى علياء الفردوس من اباء وامهات واحباب ،والذين بقوا يمثلون افقا سحريا لمودة الذكرى التي صنعتها ياحريمه في ارواحنا ونقشت بحروفها المسمارية على الطين وسلالم الزقورات وصرائف الاهوار ودكات بيوت المدينة ذكريات عاطفية وفلسفية وروحية وغنائية تؤرشف الى كل مواطن الحب في اعماقنا وفي حنجرة الرجل الذي انشدها كما ينشد الكهنة المندائيين طقوس حلم الماء والبياض في ازمنة سومر البعيدة .
اغنية يا حريمة هي من بعض هاجس الغرام في عراق سبعينات القرن الماضي ،ولدت في سجن نقرة السلمان الصحراوي في بادية السماوة وانتشرت على عموم العراق كما تنتشر نسائم عطر حدائق البيوت التي يسكنها الفقراء والعشاق والجنود الذين كانوا ينتظرون موتهم وجروحهم في حرب برزان وعبادان وبقية حروب القدر التعس لشبابنا واحلامنا.
ولدت اغنية يا حريمة من رحم الدمعة والحسرة وانطفاء شمعة الحلم .لكنها في الحقيقة ايقظت نور الأمل والمتعة في الملايين من قلوب واجفان الذين سمعوها.