من استنكر الشيوعية ؟


فؤاد النمري
الحوار المتمدن - العدد: 6597 - 2020 / 6 / 19 - 22:09
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

من إسـتنكر الشـيوعية ؟

في 25 يوليو 59 سلمني للشرطة في رام الله أحد الشيوعيين الخونة، وفي أكتوبر نقلت إلى معتقل الجفر الصحراوي محكوماً غيابياً بالسجن لخمس عشرة سنة بتهمة الشيوعية . كان إذاك عدد الشيوعيين في معتقل الجفر 340 شيوعياً صمدوا على مبادئهم في المحاكم العسكرية العرفية ورفضوا استنكار الشيوعية لقاء إطلاق سراحهم .
كان هذا العدد الكبير من الشيوعيين في السجن، خليك عن الأعداد الأخرى من الشيوعيين الذين لم تتمكن السلطة من القبض عليهم، يشكل قضية كبيرة وحساسة بالنسبة للأردن الذي لم يزد عدد سكانه آنذاك على 4 ملايين جميعهم تقريبا ينتسبون إلى عائلات كبيرة وعشائر معروفة ذات حضور . ما كان النظام الأردني المعروف بالتسامح ليتحمل مثل هذا الحمل الثقيل لأكثر من سنتين أو ثلاثة لولا تدخل المخابرات الأميركية (CIA) وكانت تدفع 50 مليون دولاراً سنويا لقاء بقاء الشيوعيين في السجن .
يحضرني في هذا المقام أن أحد الشيوعيين كتب مؤخراً يطالب الحكومة بتعويض الشيوعيين عن سنوات سجنهم، لا شك بأن لأولئك الشيوعيين حقاً بالأموال التي قبضتها الحكومة من المخابرات الأميركية لقاء سجنهم ومن باب تحقيق الحقوق لأصحابها يتوجب على الحكومة أن توزع كامل هذه الأموال على الشيوعيين الذين سجنوا ما بين 1957 و 1965 لكي يكون ذلك درس عبرة للمخابرات الأميركية على الأقل، رغم أن أحد قادة الحزب،النائب السابق فائق وراد خطب يرد على رئيس الوزراء وصفي التل الذي حضر إلى السجن ليوصينا بالمواطنة الحسنة إذ أكد وراد على أن الشيوعيين تحملوا الكثير في النضال دفاعاً عن حقوق الشعب الأردني ولا يريدون مكاقأة من أحد لقاء ذلك .
في العام 61 استحضرت المخابرات الأميركية خبيراً ألمانياً في التعذيب قدم نفسه في التحقيق مع أحد الرفاق على أنه جندي نازي حارب في ستالينجراد وعرف أهوالها وجاء إلى الأردن ينتقم من الشيوعيين . كان برنامج ذلك النازي استجلاب الصف الأعلى من الشيوعيين في الحفر وحبسهم في زنازين فردية محكمة الإغلاق بحيث لا تسمح بالتنفس من هواء نظبف ووحبات الطعام قذرة وفقيرة بالكاد تحوي السعرات الكافية لاستمرار الحياة . من خلال ذلك البرنامج المعادي للحياة وقد استمر لأكثر من عامين سقط منا الكثيرون واستنكروا الشيوعية. وفي 6 نيسان 65 أفرج عنا بموجب عفو عام . لم تمضِ سنة على الإفراج حتى أعيد اعتقالهم في 21 حزيران 66 لأن السلطات الأردنية كانت تحضًر لاتقلاب عسكري في سوريا بقيادة الضابط السوري المقدم سليم حاطوم . في حملة الاعتقالات تلك سقط عدد من شيوعيي الصف الثاني في الحزب واستنكروا الشيوعية . ومن المفيد في هذا القام أن أشير إلى أن الشاعر الكبير الصديق عبد الرحيم عمر كان قد استنكر الشيوعية قبل الإفراج عن الشيوعيين بوقت قصير إثر قراءته رسالة من ابنته الصغرى تشكو من غياب والدها . وكنت قابلته مصادفة في سيارة السجن قبل خروجه من السجن أخبرني بأنه رغم استنكار الشيوعية وبعد توقيعة على ورقة الاستنكار أكد لضباط المخابرات .. "أنتم وإن أكرهتموني على استنكار الشيوعية أحب أن أؤكد لكم أنني ما زلت شيوعيا أرى الشيوعيين خير بني البشر" – وبالمناسبة علمت مؤخراً أن الحزب حدث أن افلس ماليا ولم يجد ما يغطي مصاريفه الضرورية فاتصل فهمي السلفيتي قائد الحزب بعبد الرحيم عمر يطلب المساعدة فما كان من عبد الرحيم إلا أن باع مصاغ زوجته بالكامل وتبرع بكامل المبلغ للحزب . تسلم فهمي السلفيتي المبلغ ودموعه تغرق خديه .

استنكار عبد الرحيم عمر ذكرني يلقائي العاصف الأخير مع الأمين العام العامل للحزب طيب الذكر فهمي االسلفيتي في أيار 65 إذ حين أكدت له أن ثلثي الذين استنكروا الشيوعية وخرجوا من السجن هم أكثر شبوعية من الذين لم يستنكروا وبقوا، انتفض الرفيق فهمي غاضباً وصاح قائلاً.. "لن أسمح لك بإهانة رفاقنا الصامدين" . أخبرني رفيقه فؤاد قسيس وقال .. " تذكرك فهمي السلفيتي أثناء خروجنا منسحبين من كونفرنس الحزب 1970 وقال يلوم نفسه .. كان يجب أن نصغي أكثر لفؤاد النمري"، خاصة وأن قائد الحزب ومؤسسه فؤاد نصار وصف الذين وقفوا في الكونفرنس ضد فهمي السلفيتي ورفاقه بأنهم "من مدرسة فؤاد النمري" .

اليوم وبعد 55 عاما أعيد التأكيد على أن الذين استنكروا الشيوعية من أجل الخروج من السجن هم بالطبع أكثر تمسكاً بالشيوعية من الذين يقوا ثم فيما بعد استنكروا الشيوعية دون إكراه، استنكروا ستالين والإشتراكية التي بناها ستالين .
وكيف يفسر الخونة الذين استنكروا الشيوعية دون إكراه وانتقلوا يحاربون في طليعة أعداء الشيوعية، كيف يفسرون مضاعفة أعداد البروليتاريا عشرة أضعاف ومضاعفة الإنتاج القومي أكثر من عشر مرات ما بين 1928 و 1938 ؟ قد يدعي بعض هؤلاء الأفاقين أن ستالين ساق جماهير الطبقة الوسطى مكرهة للعمل كبروليتاريا، لكن كيف أوجد ستالين أدوات إنتادج ومصانع جديدة تعمل فيها تلك الأعداد المتزايدة من العمال، فهل تم ذلك بفعل القمع والإرهاب أيضاً !؟ بل وماذا عن هدف ستالين من تحقيق كل هذا عن طريق القمع والإرهاب !؟ هل تم ما تحقق لقيادة ستالين لمصلحة طبقة اجتماعية أخرى غير طبقة البروليتاريا !؟ وهل كان لأهداف شخصية وهو الذي كتب لوالدته يعتذر منها لأنه لا يملك أكثر من 120 روبلا يرسلها معاشاً لها وأن تخبره إن لم تكفِ ليتدبر الأمر ؛ ويكتب لابنه الضابط في الجيش فاسيلي يعتذر من أنه لا يملك ثمن بذلة جديدة يرسله له منبها إلى أن الجيش يوفر اللباس الحسن لأفراده . وعندما مات سُجلت رسميا موروثاته: سترتان وثلاثة سراويل قديمة وغليونان فقط . وبالطبع رفاقه في القيادة لم يكونوا أيسر حالاً منه .
وكبف لدولة يقودها طاغية دموي تثبت في الحرب العالمية الثانية على أنها أقوى دولة في الأرض حيث الإمبراطورية الإمبريالية الفرنسية حاربت هتلر خمسة أسالبع ثم استسلمت وانهزمت الإمبراطورية الإمبريالية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس انهزمت في معركة دنكرك ولم تعد تجرؤ على مواجهة هتلر طيلة الحرب ؛ وحتى إنزال النورماندي الهزيل، الذي جرى بعد أن تأكدت هزيمة هتلر في معركة كورسك الشهيرة، كان قد جرى بغير موافقة تشيرتشل واحتاج لحماية سوفياتية لفك الحصار عنه في جبال الأردن في شرق فرنسا . والولايات المتحدة تساعدها بريطانيا عجزت عن مواجهة اليابان . الإتحاد السوفياتي وحده قام بتحطيم ألمانيا النازية ومعها ثلاث عشرة دولة أخرى واحتلال برلين ورفع راية المنجل والشاكوش فوق الرايخ الهتلري، كما قام بتحطيم جيوش اليابان خلال الأسابيع اللاثة الأخيرة من شهر أغسطس 45 ولولا ذلك لما استسلمت اليابان حيث حاربت في مواجهة أعظم دولتين في الأرض الاتحاد السوفياتي والولايات التحدة لثلاثة أسابيع بعد القنبلتين الذريتين في هيروشيما وناغازاكي ولم تستسلم إلا في 2 سبتمبر ابلول 45 . استسلمت لأميركا وفقاً للتفاهم بين ستالين وروزفلت في يالطا في فبراير شباط 45 .
كبف يمكن لدولة مهزومة فلي مارس آذار 1918 أمام جيش إمبراطور ألمانيا تغدو في العام 41 أقوى دولة في العالم يمجدها رؤساء بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة !! تقدم دفاعاً عن سيادتها 27 مليون شهيدا منهم 9 ملايين عسكريا وخسارة 106400 طائرة عسكرية و 83500 دبابة وبعد كل هذا تحتل الجيوش السوفياتية برلين وكل عواصم أوروبا الشرقية !؟

يدعي اليوم الذين يستنكرون الشيوعية دون إكراه أنهم يستنكرون ستالين واشتراكية ستالين دون إكراه لأنهم شيوعيون مخلصون للشيوعية . لكن ما يفضح أكاذيب هؤلاء الذين يستنكرون الشيوعية طوعاً وباتوا يحاربون الشيوعية والشيوعيين مع طلائع الأعداء هو أن ستالين يحتل صفحة في التاريخ باعتباره المثال الأعلى للشيوعيين، والإشتراكية التي طبقها إنما هي اشتراكية لينين نصا وروحاً .
الخيبة والسقوط هما نهاية الذين يستنكرون الشيوعية طوعاً من خلال استنكار ستالين واشتراكية ستالين .
هؤلاء هم فقط من بستنكر الشيوعية طوعاً وليس الذين استنكروا الشيوعية بالإكراه