العلمانية حتمية تاريخية وضرورة اجتماعية


ياسين المصري
الحوار المتمدن - العدد: 6414 - 2019 / 11 / 20 - 18:26
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

في المقال السابق بعنوان: لماذا لا تزول الغُمَّة عن هذه الأُمَّة؟، قلت:« وكما هو واضح، نجد المتأسلمين أينما وجدوا يثقون ثقة عمياء في منتجات الكفرة من الكومبيوتر إلى الآي باد والتابلت والآي فون والسيارة والدبابة والطيارة وغيرها، ويقبلون بشغف على التمتع باستعمالها واقتنائها، ولكن إذا توقف الأمر على المنتجات الفكرية والتاريخية والعقائدية لهؤلاء الكفار، فهم في نظرهم كذبة ومدلسين وكارهين لهم ولديانتهم وثقافتهم ولا هم لهم سوى التآمر عليهم وعلى عقيدتهم».
وقلت أيضًا: «إن الإسلاموية لا تقف حائلا بين حلول مشاكل المجتمع فحسب، بل هي التي تخلقها وتؤججها وتقويها، ليقتات من ورائها جيوش مجيشة من رجال الدين والدجالين وقطاع الطرق والسياسيين المنحرفين والعجزة الفاشلين والمرضى النفسيين”.
وخير دليل على ذلك حادثة استهلّ بها الدكتور فرج فودة كتابه (حوار حول العلمانية)، وقد اشتهرت تلك الحادثة كطرفة سياسية في عشرينيات القرن الماضي، وبالتحديد في عام 1913م، وفي مركز السنبلاوين - أحد مراكز محافظة الدقهلية - حيث رشح أحمد لطفي السيد نفسه لمجلس النواب، وأحمد لطفي السيد لمن لا يعرفه هو أحد القامات الفكرية الهامة في التاريخ الحديث، يلقب بأستاذ الجيل، وأبو الليبرالية في مصر، وقد وصفه العقاد بأنه أفلاطون الأدب العربي، وهو صاحب المقولة الشهيرة: “الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية”!.
منافِسُه في الانتخابات كان الافندي المحامي المغمور عبد العزيز سليط الذي وجد في جهل المجتمع بالمصطلحات الغربية ومعانيها وسيلة شديدة الدهاء والخبث يمكنه استخدامها لإثارة الرأي العام ضدَّ غريم كان وزيرًا ومديرًا للجامعة وحاصل على رتبة الباشاوية وصاحب وجاهة اجتماعية وفكرية لا تجعله في مقارنة معه، فأخذ يجوب المناطق معلناً أن "لطفي السيد رجل ديمقراطي ـ والعياذ بالله ـ ومن يريد ترك الإسلام واعتناق الديمقراطية فلينتخبه وذاك شأنه وهو ما عليه إلا البلاغ".
وباءت جميع محاولات المدافعين عن لطفي السيد بالفشل، وفاز هذا المحامي الخبيث بعضوية البرلمان، خاصة عندما سُئل السيد في مؤتمر شعبي عن الموضوع فأجاب صراحة أنه "ديمقراطي وسيظل مؤمناً بالديمقراطية حتى النهاية". وفهم الناس، كما تعلّموا، أنّ الديمقراطية مرتبطة "بالكفر والإلحاد"، بل إنها تدعو إلى "الفسق والفجور". وفهم من وعى منهم الدرس جيّدا أنّ  كلمة ”ديمقراطي“ تعني أنّ "مراتك تبقى مراتي..!"
بالطبع كان الأحرى بالمسؤولين آنذاك ألَّا يطلبوا من هذا المحامي الخبيث أن يتوقف فحسب عن استغلال الدين، بل ويقدمونه أيضًا للعدالة بتهمة خداع المواطنين الجهلة لتحقيق مآرب شخصية بوصوله إلى منصب عام، لا بد وأنّه سوف يستغله بالمثل. بعد قرن تقريبا من تلك الحادثة، لا يبدو أنّ ما يحدث الآن قد تغيّر، إن لم يكن قد ازداد، حتى وإن ادّعى البعض غير ذلك!
وكما هو الحال مع مصطلح الديموقراطية، يعاني مصطلح العلمانية هو الآخر، كمنتج فكري للغرب، من نفس الجهل، فمنذ مطلع القرن الحالي ومع ظهور الجماعات الإسلاموية الإجرامية وتخبط الفقهاء ورجال الدين في مواقفهم وبفتاواهم الشاذة والمتناقضة في مجتمعات العربان، زادت المعركة ضراوة بين أعداء العلمانية ودعاتها، إذْ يرى فريق منهم أن "العلمانية كفر وإلحاد وغزو ثقافي من الغرب الكافر للقضاء على ديانتنا الغراء"، بينما يرى فريق آخر "أن العلمانية هي أن يكون الإنسان إنسانا، وأن يُحَكِّم عقله وضميره في شؤونه الحياتية، ويدافع عن حرية الفكر والإبداع، وبالتالي من يقف ضد العلمانية فهو ظلامي يريد العودة إلى العصور الوسطى ويقف ضد الحتمية التاريخية".
مصطلح العلمانية Secularism كغيره، نشأ بعد معاناة الغرب لسنوات طويلة من الظلم والقهر والانحطاط والفساد السياسي - الديني واستبداد الجهل على العلم، فظهر لحتمية تاريخية وضرورة اجتماعية، تبعًا لمنطق يغيب تمامًا عن الفكر العروبي، هو الضبط المستمر لسيرورة الأحداث التاريخية والسياسية والدينية والاجتماعية والفكرية. هذا الضبط المستمر أنتج تلك المصطلحات، والتزم داخليًا بها وبمقرراتها. وهي بالطبع مصطلحات لم يتم إنتاجها للعربان أو المتأسلمين، ولذلك يصعب عليهم فهمها ومن ثم الالتزام بها بحكم ثقافتهم الدينية الطاغية، ووقوع النخب المثقفة والدينية بين فكي المصالح الشخصية والمصالح العامة، بالرغم من أهميتها لأي مجتمع مهما كان، ليعيش أفراده بكرامة ورفاهية واطمئنان.
تعود جذور العلمانية إلى المسيحية، فعندما سئل السيد المسيح لمن نعطي الجزية قال اعطوني دينارا، ثم رفع الدينار وقال: لمن الصورة ولمن الكتابة؟ قالوا: لقيصر، قال: "اعطوا ما لقيصر لقيصر... و ما لله لله". ولذلك عندما انحرف الكنيسة الكاثوليكية كمؤسسة عن هذا المبدأ، انبثقت العلمانية كمنهج سياسي خلال الثورة التنويرية عليها، وليست ضد المسيحية ومعاداتها بأي حال من الأحوال. وفي القرن الثامن عشر قُدّم الفيلسوف السويسري جان جاك روسو (1712- 1778) الذي يعد من أهم مفكري عصر التنوير مصطلح « الدين المدني» في الفصل الأخير من كتابه (العقد الاجتماعي)، كحلٍ لما تحدثه المسيحية من تأثيرات تقسِّم ولاءات الناس بين الكنيسة والدولة؛ لم يكن روسو يريد الإطاحة بالمسيحية ومحوها على الإطلاق، وإنما جعْلها ديناً للبشر يتعلق بالعبادة الجوانية للإله، وبالالتزام الشخصي بالأخلاق، ولا شيء آخر.
واستخدِم المصطلح لأول مرة مع توقيع صلح وستفاليا (عام 1648م)، الذي أنهى أتون الحروب الدينية المندلعة في أوربا، وبداية ظهور الدولة القومية الحديثة (أي الدولة العلمانية) مشيرًا إلى "علمنة" ممتلكات الكنيسة بمعنى نقلها إلى سلطات غير دينية هي سلطة الدولة المدنية. واتسع المجال الدلالي للكلمة على يد الكاتب الإنجليزي جون هوليوك (1817-1906م) الذي عرف العلمانية بأنها: "الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية دون التصدي لقضية الإيمان سواء بالقبول أو الرفض". المزيد في كتابه:
Holyoake, G.J. (1896). Origin and Nature of Secularism, London: Watts & Co., p.50
الآن استقر مفهوم العلمانية في الغرب على عدم قيام الحكومات بإجبار أحد على تبني معتقد أو دين أو تقليد معين لأسباب ذاتية أو موضوعية، كما أنها تكفل الحق في عدم تبني دولة ما لدين ما كدين رسمي لها. ويؤكد المصطلح بوجه عام على الرأي القائل بأن الأنشطة والقرارات البشرية - خاصة السياسية منها - يجب ألَّا تخضع بشكل ما لتأثير الشخصيات أو المُؤسّسات الدّينيّة. وهي في ذلك لا تقف ضد الديانات أو ممارساتها، بل على الحيادِ منها، بل وتعمل على حمايتها وحرية ممارساتها في الأماكن المخصصة لها.
وكأي منتج بشري فعَّل، من الطبيعي أن تتسم العلمانية بالمرونة والقابلية للتحديث والتكيُّف مع ظروف المجتمعات التي تتبناها، وتختلف حدة تطبيقها ودعمها من قبل الأحزاب والجمعيات الداعمة لها من مجتمع إلى أخرى.
هذا المفهوم الواضح للعلمانية يكتنفه الغموض والالتباس في الخطاب الديني والعلماني على حد سواء لدي العربان، ومن ثم يتعرض - على عكس الأجناس الأخرى - للانحراف والتحريف عن أصوله وتوجهاته التي أفرزتها معطيات الواقع الغربي؟
فما هو السبب في ذلك؟
هذه المصطلحات ولدت في الغرب، وليست وليد شرعي نابع من رحم ثقافة العربان وتاريخهم الذاتي، ولا تنتمي في مبادئها وأصولها إلى الواقع المعاش في دولهم، والذي تنعدم فيه كافة مبادئ الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، ويخضع لسيطرة ثيوقراطية حادة، لم تألف الحريات الفردية بأي شكل من أشكالها، والتي أصبحت أمراً بديهياً في الفكر الإنساني وممارسات الدول المتحضرة. ويأتي في مقدمة هذه الحريات حرية الاعتقاد لأنه من الصعب بمكان، إن لم يكن من المستحيل تحقيق العدالة الإجتماعية التي من المفترض أن تنادي بها كل المذاهب والأديان إذا لم تتوفر هذه الحرية التي تفتقدها المجتمعات العربية حتى الآن. ومما يزيد الطين بلة في هذه المجتمعات أن إسلاموييتهم لا تسمح لمن اعتنقها بتغييرها واعتناق ديانة آخر أو الإعلان عن إلحاده.
منذ عام 1929 كان هناك إجماع في منطقة العربان على المقولة العلمانية الشهيرة للزعيم المصري سعد زغلول « الدين لله والوطن للجميع» خصوصا عند الوطنيين الرافضين للحكم العثماني، واستمر هذا الإجماع حتى النصف الأول من القرن العشرين في أجواء النضال ضد لاحتلال الأوروبي وصولا إلى فترة حكومات ما بعد الاستقلال التي وضعت أسس الدولة الوطنية. ولكن في نهاية سبعينيات القرن الماضي بدأت مرحلة "صحوة البترودولار الإسلاموية"، التي اتسمت بالتخلف الثقافي والحضاري، وبرز جيل جديد من المتأسلمين الداعين إلى إعادة الخلافة الإسلاموية، ورفض العلمانية، واعتبارها دعوة لحبس الإسلاموية في المساجد.
انكب هذا الجيل الجديد من رجال الدين والمتأسلمين على تشويه صورة العلمانية في الوعي الجمعي لمجتمعاتهم، وجعل الكثيرين من المواطنين لا يفرقون أو لا يميزون بين العلمانية كطريق أو منهج للتسامح وتقبل الآخر واحترام عقيدته، وبين الموقف العقائدي والفكري في رفض أو قبول الدين أو دين معين، فالعلمانية ليست ضرورية للتعايش بين الإيمان والإلحاد فحسب بل في تعايش الأديان مع بعضها البعض.
إنهمرت سيل من الأراء على صفحات الكتب ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة ومواقع الإنترنت من رجال دين أو هواة الكلام في الدين من أمثال د. محمد عمارة والشيخ يوسف القرضاوي ومحمد إبراهيم مبروك من مصر وعماد الدين خليل من سوريا والشيخ مهدي شمس الدين من لبنان وغيرهم الكثير، تهاجم جميعها العلمانية - دون علم - وتحط من قيمتها أمام الإسلاموية، فوضعت بذلك خطوطًا حمراء لمن يتجرأ ويتكلم بإيجابية عن علمنة المجتمع وإخراجه من ظلمات الجهل والانحطاط والفساد.
أمّا بخصوص المفكرين العربان، ومع بساطة سؤال: ما العلمانية؟ والذي تبدو الإجابة عنه أكثر بساطة، وحاضرة على الدوام باعتبارها هي "فصل الدين عن الدولة، أو أن يدع الناس ما لقيصر لقيصر وما لله لله، أوَ أنْ يكون الدين لله والوطن للجميع"، نجد أن دلالاتها وأبعادها إنتقلت إلى فكرهم بشكل مثير للجدل، وذلك كإفرازا طبيعي لاختلاف ثقافتهم ومدى سيطرتها على عقولهم ونفوسهم، وكذلك اختلاف الممارسات السياسية من حولهم عن السائد في البيئة التي أنتجتها وحددت مفهومها. فاختلفت إسهاماتهم بشأن تعريفها وتحديد أبعادها، على سبيل المثال المفكر المغربي د. محمد عابد الجابري يرفض تعريفها باعتبارها فقط فصل الدين عن الدولة، لعدم ملاءمتها لواقع العربان الإسلاموي، ويرى استبدالها بفكرة الديموقراطية بمعنى "حفظ حقوق الأفراد والجماعات"، والعقلانية بمفهوم "الممارسة السياسية الرشيدة".
في حين يرى الباحث المصري د. وحيد عبد المجيد أن العلمانية (في الغرب) ليست أيديولوجية ذات منهجية عمل، وإنما مجرد موقف جزئي يتعلق بالمجالات غير المرتبطة بالشئون الدينية. ويميز بين "العلمانية اللادينية" - التي تنفي الدين لصالح سلطان العقل - وبين "العلمانية الوسطية" التي تتخذ منحى وسطًا، وتفصل بين مؤسسات الكنيسة ومؤسسات الدولة مع الحفاظ على حرية الكنائس والمؤسسات الدينية في ممارسة أنشطتها.
وجاء د. فؤاد زكريا - أستاذ الفلسفة - في الوسط ليصف العلمانية بأنها الدعوة إلى الفصل بين الدين والسياسة، والتزم الصمت إزاء مجالات الحياة الأخرى كالاقتصاد والأدب. وفي ذات الوقت يرفض سيطرة الفكر المادي النفعي، ويضع "القيم الإنسانية والمعنوية" مقابل المادية، حيث يرى أن هناك محركات أخرى للإنسان غير الرؤية المادية مثل التدين والأخلاق وتحقيق الذات.
أمَّا المفكر المصري د. عبد الوهاب المسير في كتابيه: ”العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى 2002“، حاول التوفيق - بل التلفيق - بين الثقافة الإسلاموية الطاغية وبين العلمانية، بتقسيم الآخيرة إلى علمانية جزئية وعلمانية شاملة. فالعلمانية الجزئية هي رؤية جزئية للواقع، لا تتعامل مع الأبعاد الكلية والمعرفية، ومن ثم لا تتسم بالشمول، بمعنى أنها تلتزم الصمت حيال المجالات الأخرى من الحياة، مثل وجود مطلقات أو مسلمات أو كليات أخلاقية أو وجود ميتافيزيقا وما ورائيات تراعيها "العلمانية الأخلاقية" أو "العلمانية الإنسانية". ولأن المسيري مغرم بالتحليل وإعادة تشكل الصور، وإعطائها مصطلحاته الخاصة، فقد كان موقفه من العلمانية مستندا على إعادة تعريفاتها وتقسيماتها، ومن ثم دوائر تداخلها مع الإسلاموية. لذلك يصعب تصنيفه وفق التصنيفات التقليدية من العلمنة، هل هو إسلامويا أم علمانيا. بكلمات أوضح نجده يسخِّر قلمه لينتقد العلمانية بوصفها مجرد "مفاهيم وقيم غربية" وفي نفس الوقت لا يوافق على موقف المتأسلمين في تعاطيهم معها، ونجده يعرِّف نفسه بأنه إسلاموي، ومع ذلك يقرُّ لمن يعتبرونه علمانيًا بأن علمانيته جزئية فحسب. فلا يعرف المرء أين يقف تحديدًا هل في صف العلمنة أم في صف الإسلاموية؟!
كذلك نجد د. حسن حنفي - صاحب نظرية "اليسار الإسلامي" - يتأرجح بمكر واضح بين ذلك التقسيم العلماني الجزئي والشامل ويرى أن العلمانية هي "فصل الكنيسة عن الدولة" كنتاج للتجربة التاريخية الغربية، ويعتبر - على حق - أنها (في مناسبات أخرى) تعَد رؤية كاملة للكون تغطي كل مجالات الحياة وتزود الإنسان بمنظومة قيمية ومرجعية شاملة، مما يعطيها قابلية للتطبيق على مستوى العالم. ولكنه راح يتحدث عن شيء أسماه ”الجوهر العلماني للإسلام“ - الذي يراه ديناً علمانياً لأسباب منها: غياب اللاهوت وعدم وجود المؤسسات الدينية الوسيطة (التى تبيع صكوك الغفران) في الإسلاموية، وأن الأحكام الشرعية من الفرائض والمحرمات والمكروهات وغيرها تعبِّر عن مستويات الفعل الإنساني الطبيعي، وتصف أفعال الإنسان الطبيعية. وذهب في تلك الأسباب إلى أن الفكر الإنساني العلماني والعقلاني الخالص يوجد متخفٍ في التراث الإسلاموي القديم سواء في علوم الحكمة أو التجربة الذوقية لعلوم التصوف، أو كسلوك عملي في علم أصول الفقه، بحسب قوله!.
ليس بوسع المرء أن يجادل طويلا في هذه الأسباب التي تصور علمانية الإسلاموية، ويكتفي بالقول إن هناك ثمة فصلا ًحتمياً للدين والكهنوت عن الدولة في كل المجتمعات الإنسانية تقريباً، ما عدا في المجتمعات الموغلة في التخلف والبدائية، وذلك لعدم إمكانية أن تتوحد المؤسسات الدينية والسياسية في أي مجتمع متحضِّر، وأن مجرد التمايز السياسي عن الديني من شأنه أن تكون القيمة الحاكمة والمرجعية النهائية للمجتمع وضمن مؤسسات صنع القرار، وهي قيمة مطلقة من الناحية الأخلاقية والإنسانية والدينية تتجاوز المنفعة المادية بكل جوابها. 
بينما د. مراد وهبة - أستاذ الفلسفة - وكذلك الكاتب السوري هاشم صالح، ود. سيد القمني والراحل د. فرج فودة وغيرهم، يقفون بوضوح إلى جانب العلمانية بشكلها الشامل التي يتحرر فيها الفرد من قيود المطلق والغيبي وتبقى الصورة العقلانية المطلقة لسلوك الفرد مرتكزة على العلم والتجربة المادية. ولم يحاولوا ربطها بالإسلاموية من قريب أو بعيد، وأوضحا بأن النص الإسلاموي يتعارض معها إلى حد عدم إمكانية تطبيقها في المجتمعات العروبية مالم يتم التوافق على تاريخية النص وعدم إقحامه في شؤون الدولة السياسية، كما هو الحال في الدول المتحضرة.
من ذلك لا يتثنى للمواطن العادي أن يستوعب مفاهيم تلك المصطلحات الغربية في مجتمعات يقف فيها النخب السياسية والثقافية أمام سدود منيعة من عقيدة عمياء ليتنازعوا على أبسط الأشياء، ويجعلوا منها قضايا غامضة وشديدة السيولة، ينتقي منها المرء ما يراه مناسبًا له ولحياته الشخصية دونما اعتبار للصالح العام في مجتمعه!، الأمر الذي يجعل حظوظ تحقيق نظام علماني في مجتمعات العربات ضئيلة للغاية، خاصة مع المد الإسلاموي فيها، ومع إصرار أصحاب هذا المد عـلى رفض فكرة قبول الآخر ومحاولتهم تفسير العالم الذي أصبح معقداً في عصرنا الحالي بطرق تقليدية قد تكون نجحت في القرن السابع الميلادي، لكن الزمن تجاوزها الآن، فهذا النمط التقليدي القديم لا يستطيع تقبل التنوع الثقافي والإثني والأيديولوجي لكل أفراد المجتمع.
صحيح أن النظام العلماني منتج غربي ولكنه في الأساس ضرورة إنسانية وحتمية تاريخية، وأنَّ غياب أية أفق لتطبيق قريب له في بلدان العربان يجرِّد أي فرد فيها من حق المواطنة، خاصة وأن أهم حق للمواطنة لا يعني سوى المساواة بين الرجل والمرأة وبين المسلم وغير المسلم وبين المسلم المؤمن وغير المؤمن، ولكن تحقيق هذه المواطنة مرهون في الأساس بإصلاح الإسلاموية ذاتها، يقوم به المتأسلمون أنفسهم والتصدي بأنفسهم لهيمنة النص الديني. إذ لم يفعلوا ذلك، فسوف تتراكم عليهم العواقب ولن يستطيعوا ركوب قطار الحضارة.
إن معضلة التعاون سواء الخفي والمعلن أو المباشر وغير المباشر بين السلطات الحاكمة والمؤسسات الدينية في بلاد العربان المتأسلمين تقف عقبة كأداء أمام حتمية الإصلاح الديني الإسلاموي. إنهما يتبادلان المصالح معًا، بحيث تخفف المؤسسات الدينية من احتجاجاتها على الملوك والرؤساء الفاسدين والعجزة والفاشلين وفي المقابل يفسح لهم هؤلاء المجال بالتحرك بحرية والقيام بنشاطاتهم الدينية في تخدير المواطنين دون رقابة أو محاسبة، ضمن الحدود التي تحددها الحكومات كي لا ترى سلطتها في وضع حرج. كل هذا وغيره يحدث على حساب المفكرين الليبيراليين والإصلاحيين المتأسلمين. ولن تحل هذه المعضلة إلا بتنوير العوام وإقناعهم بضرورة النظام العلماني الذي يعمل على رعاية حرية الإنسان وحمايتها، وعلى رأسها حق الفرد في التفكير والتعبير عن الرأي وإعلان المعتقد، وحقه في أن يمارس شعائره الدينية أو لا يمارسها، وحقه في أن يحدد بنفسه درجة علاقته بالدين وطبيعة هذه العلاقة، وحقه في أن يعارض الحكومة ويناقض توجهاتها بأسلوب قانوني سلمي، ويمنح حرية الاعتقاد لكل الأقليات الدينية ويحفظ لغة وثقافة كل الأقليات الاثنية ويسمح بالتعددية في كل فئات المجتمع وغير ذلك من الحقوق المندرجة في المواطنة. إن رعاية الدولة لهذه الحقوق وحمايتها إياها تسهمان في تعزيز النزوع العلماني لدى المواطنين، وتكملان دور الدولة بوصفها أداة للضبط وأداة لحماية حقوق الإنسان وعقيدته في وقت واحد.
ولكن، للأسف الشديد، لا تبدو في الأفق بوادر مبشرة بالخير في الوقت الحاضر، لتطور أنظمة الحكم العروبي إلى أنظمة علمانية، مما قد يؤخر إقامة مجتمعات مدنية فيها عشرات السنين، ليس لانعدام الحتمية التاريخية والضرورة الاجتماعية ولكن لأن السياسة الممارسة من قبل تلك الأنظمة تعتمد على ثقافة تكريس الأحادية في كل شيء، وأن جوهرها هو الطلب إلى الناس أن يطيعوا ويسلموا لها بكل شيء، وهذا يفضي بدوره إلى نزوع مضاد للعلمانية، كما هو نقيض للعقلانية والديمقراطية.