البشر تجربة إلهية فاشلة!


ياسين المصري
الحوار المتمدن - العدد: 7464 - 2022 / 12 / 16 - 13:58
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

الطبيعة المعقدة للبشر وما ينجم عنها من مشاكل في حياتهم، جعلتهم لا يتوقفون أبدًا عن الجدل حول وجود الله من عدمه، وهو جدلٌ قديم بينهم، ومتجدد بتجدد الأجيال. ويدور ويجول في أذهانهم وفي خواطرهم ويجري على ألسنتهم من وقت إلى آخر، ولا احد يدري ما إذا كان الله موجودًا بالفعل أم أنه صنَعهم كتجربة فاشلة، ثم اختفي إلى الأبد، وتركهم ضحايا للأنبياء والساسة ورجال الدين!.
البعض يحاول إثبات وجوده والبعض الآخر يحاول إثبات العكس، ولا أحد منهم يصل إلى نتيجة حاسمة. بينما الساسة ورجال الدين وسدنته لا يهتمون بوجوده أو بعدم وجوده، لأن جُلَّ اهتمامهم مركز على دفع الناس بشتى الطرق إلى طاعتهم والخضوع لسطوتهم والإيمان بأكاذيبهم وهلوساتهم الإلهية.
كثيرًا ما نسمع المقولة الشعبية الشائعة: الله عَـرفوه بالعقـل!، ومع ذلك، لم نجد دليلًا منطقيًا واحدًا منذ وجد الإنسان على سطح الأرض بفيد بأن أحدًا عرف أي إله بعقله. فالآلهة ، بشتى صنوفها وتعدادها، مجرد وهم موجود في أذهان الذين يحتاجون إليها، وبشكل إحتياطي أو احترازي في أذهان الذين قد يحتاجون إليها في وقت ما، لذلك فالمهمة الاساسية لرجال الدين هي العمل الدؤوب على تكبيل البشر وأسرهم جميعًا بهذا الوهم، كي تبقى مؤسساتهم قائمة ومتسلطة، وحياتهم تنعم بالثرّاء والهناء. راجع مقال الكاتب بعنوان: « وجود الله أو عدم وجوده!» على الرابط التالي
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=726674
يعرف البشر جميعًا أن الله كائن خفي، ورغم ذلك يزعم رجال الدين أنه غير محدود وفوق العقل والمادة والمكان والزمان، وهو على كل شيء قدير، ويُصِرُّون على أنهم هم وحدهم الذين يعرفون كيف يفكِّر وماذا يحب وماذا يكره وماذا يريد من البشر!. المشكلة الوحيدة التي تعترض عملهم هي الكيفية التي يمكنهم بها إقناع أكبر عدد من الناس أو حملهم على الإيمان بأقوالهم، كي يظلوا قابعين في بروجهم المقدسة!
ألفين بلانتينجا (Alvin plantinga) فيلسوف أمريكي ولد عام 1932، وشغل منصبَ أستاذ فلسفة الأديان وأصول المعرفة والغيبيات بجامعة نوتردام، والذي وصَفَتْه مجلة (TIME) الأمريكية بأنه فيلسوف الإله، يتحدث عن "الإيمان" بوجود إله، ولا يتحدث عن وجود الإله ذاته، فيقول في كتابه بعنوان " الله والعقول الأخرى: دراسة مُبرِّرٍ منطقيٍّ للإيمان بالله": « إنَّ الإيمان بوجود إله يعتبر شعورًا فطريًّا بديهيًّا لا يحتاج إلى دليل».
God and Other Minds: A Study of the Rational Justification of Belief in God was originally published by Cornell University Press in 1967. An edition with a new preface by Plantinga was published in 1990
ويذهب فيلسوف لاهوتي أمريكي آخر هو رالف مك إينرني (Ralph McInerny) (1929 - 2010)، أبعد من بلانتينجا، فيقول في كتابة ”حكمة الأب دولينج The Wisdom of Father Dowling (Thorndike Press Large -print- Basic Series,11.1.2009))“ بأن « الانتظام في بنية الوجود وثبات القوانين الطبيعية يجعل القول بوجود خالق "بديهة منطقية"»، ويطالب ممن ينكر ذلك أن يقدِّم الدليل.
وإذا تركنا جانبًا هذا اللغط اللاهوتي نجد الأبحاث العلمية تثبت أن الكون يخضع منذ نشأته لما يطلق عليه نظرية ”الانتظام الذاتي auto-organization“، التي تبيَّن أن المادة قادرة على الانتظام والسعي ذاتياً نحو الثبات، وأن الصيرورات البعيدة عن التوازن تؤدي إلى تخلُّق وإيجاد مفاجئ لبنَى منتظمة في عملية "البنى المبدِّدة dissipative structures". يقول إيليا بريغوجين (1917 - 2003) وهو العالم الكيميائي والفيزيائي البلجيكي من أصل روسي والحاصل على وسام رمفورد في عام 1976 وجائزة نوبل في الكيمياء في عام 1977: « لقد ظهرت الحياة عبر تتالي اللا إستقرارات. فالضرورة، أي البناء الفيزيائي - الكيميائي للمنظومة والضغوط القسرية التي يفرضها عليها الوسط، هي التي تحدِّد عتبة المنظومة الاستقرارية. والمصادفة هي التي تحدد أي تموُّج سيتوسع وينمو بعد أن تبلغ المنظومة». ويؤكد بريغوجين في كتابه "نظام ينتج عن الشواش ، حوار جديد بين الإنسان والطبيعة" ( من منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب 2008 ، ترجمة طاهر بديع شاهين ودائمة طاهر شاهين) ، على أنه « منذ لحظة ولادة كوننا، ولدت حرية باطنة في الطبيعة، حرية إبداعية تعطي الكون معناه وانتظام بنيته واستقرارها إلى حد كبير. فلقد تمخض الانفجار الكبير Big Bang منذ اللحظة الأولى عن شواش هائل. وكانت التشكيلات الشواشية التي يمكن أن يتخذ العالم أحد أنماطها أكثر بكثير من عدد الحالات المنتظمة، كما يقول هوكنغ».
وتعد نظرية الشواشية أو فَوْضَى الكَوْن (Chaos theory) واحدة من أحدث النظريات الرياضية الفيزيائية - وتشير إلى أن تكوين الكون نشأت بعد الانفجار الكبير بصورة فوضوية مضطربة في بدايته، ثم بدأت تتشكل وتستقر جزئياته بفعل حركتها وتفاعلاتها في عملية الانتظام الذاتي. حتى وصل إلى ما هو عليه الآن. ويؤكد بريغوجين وغيره من العلماء مثل البريطاني جون غريبين، في كتابه "البساطة العميقة ،الانتظام في الشواشي والتعقد"، لجون غريبين، عرض د. صبحي رجب عطا لله ، تنفيذ الهيئة المصرية العامة للكتاب 2013، على أن ثبات أو استقرار الكون لم يكتمل بعد، فمازلت هناك اضطرابات تؤدي إلى البراكين والزلازل والتغيرات المناخية التي تعمل في نفس الاتجاه.. وعلى عكس عمليات الهدم التي يقوم بها الإنسان على سطح الأرض.
لمعرفة المزيد عن نظرية الشواش راجع الرابط التالي:
https://ar.wikipedia.org/wiki/نظرية_شواش
الواقع أن وجود الله من عدمه شأن ديني - فلسفي بحت، ولا يملك أحدٌ دليلًا واحدًا على هذا الوجود من عدمه، وأننا في هذا الأمر كمن يقبض على الهواء. ولكن "الإيمان بوجوده" موجود وراسخ بالفعل لدي الكثير من الناس على جميع المستويات، ولا يحتاج إلى دليل، هذا الإيمان "ما هو إلَّا بمثابة رفض الحقيقة" تبعًا لتعريف الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه. فإذا كان الله موجودًا بالفعل وفي استطاعته إظهار وجهه، فسوف يصبح حقيقة لا يمكن رفضها، وتبرر الإيمان بها. نحن جميعًا تؤمن مثلا بوجود شيء أسمه القمر، تراه ولا تستطيع لمسه، ولكنه حقيقة، الإيمان بوجوده مبرر لِذاته ولا يحتاج إلى علل أو جدل، بينما الإيمان بوجود أو عدم وجود إله لا يعني شيئًا سوى قبول حقيقة الوهم المفترض، وتأكيدها في غياب كلٍّ الأدلة والمنطق السليم والبرهنة عليها بشكل عقلاني، لأن الكثير من البشر يحتاجون إلى الوهم الديني في حياتهم، حيث يُكسِبُهم اليقين فيما يتعلق بمعرفتهم عن الواقع الموضوعي المعاش، فاليقين يولِّد مشاعر الراحة وقابلية التوقُّع ويزيل القلق الذي يشعرون به على نحوٍ طبيعي تجاه المجهول. ومن هنا، يحظى الاعتقاد الديني بإخلاص كبير وإيمان راسخ، عندما يقدم يقينًا تامًّا في تأويلاته وتفسيراته!
في كتاب "وَهْم الإله" (The God Delusion)، لعالم الأحياء البريطاني ريتشارد دوكنز، وهو كتاب يتناول فلسفة الدين من منظور إلحادي، وقد نشر في عام 2006، فكان الأكثر مبيعًا في العالم، النسخة العربية على الرابط التالي:
https://www.books4arab.com/2015/03/pdf_97.html
يشرح دوكنز المغالطات المنطقية في المعتقدات الدينية ويستنتج « أن احتمال وجود الله هو احتمال ضئيل جدًا، وأن الإيمان بوجود إله شخصي هو مجرد وهم ». ويتفق في كتابه مع مقولة روبرت بيرسيغ (2017 -1928) أنه « عندما يعاني شخص من وهم يسمى ذلك جنوناً، وعندما يعاني مجموعة أشخاص من وهم يسمى ذلك ديناً».
https://gutezitate.com/autor/robert-m.-pirsig
ومن الملاحظ أن قول دوكنز عن "الاحتمال الضئيل جدًّا لوجود الله"، لا يتفق مع الإيمان الوهمي الخالص بوجوده، ويترك باب التكهنات مواربًا كي يسمح بمزيد من المخاتلة والخداع في هذا الشأن. إن وجود هذا الإيمان واستدامتة في عقيدة ما لا يعني باي حال من الأحوال أنها عقيدة صحيحة وأن إلهًا موجودًا، حتى ولو باحتمال ضئيل جدًّا؛ فالعقائد مثلها مثل العادات والتقاليد تستمد ديمومتها من قدرتها على الاستمرار، وليس لأنها صحيحة أو عادلة أو ضرورية. وكلما كانت الديانة مرنة أو هلامية، فإنها تسمح لرجال الدين باستغلالها واللعب بها على عقول البشر، مما يعطيها القدرة المطلوبة لاستمراريتها.
إنَّ الإصرار على الوجود اللحظي للآلهة في حياة البشر يكتسب أهميته من الايمان الراسخ باهتمامها بما يحدث لهم، وفي قدرتها على التدخل في عالمهم وتغيير ظروفهم بأي وسيلة وفي أي قت، وهذا يرجع إلى الطبيعة البشرية التي تجعلها ذات صلة بحياتهم من منظور استثمار الوقت في عبادتها والتكهن برغباتها. فالآلهة في نظر المؤمنين، لم تخلق العالم كي تغاده. وهنا تكمن نهاية التفكير العقلاني، وبداية تشكيل الملجأ الأخير لجدلية تجاوزت جميع النظريات التجريبية والمنطقية، والإيمان بها هو ببساطة قبول تأكيدات لا أساس معقول لها.
***
المشكلة أكثر تعقيدًا لدي المتأسلمين، خاصة فيما يتعلق بالكلام المنسوب إلى إلههم، إذْ يتسبب في إيجاد علاقة ملتبسة وغامضة بينهم وبينه، وتجعلهم يعانون من اضطرابات الشيزوفرينيا الخطيرة، فهم يؤمنون بأنه من ناحية "رحمن رحيم" ومن ناحية أخرى يحثهم على التقتيل والصلب وتقطيع أيدي الآخرين وأرجلهم من خلاف أو نفيهم من الأرض: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائدة 33)} ،
ويقول: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (الكافرون 6) ...
ثم يقول: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (آل عمران 19) ... وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران 85) .. إلخ
وأنه مصدر كل الأشياء بما فيها من خير أو شر: {... وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} (النساء 78) و{قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا}... (التوبة 51)، وعلى النقيض نصوص أخرى تقول: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (النساء 79) و
{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} (آل عمران 165)، { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (الشورى 30) وتحدثت نصوص أخرى عن الابتلاء والامتحان: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (البقرة 155)،
{وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا (يطهرهم من الذنوب) وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (يفنيهم ويهلكهم)} (آل عمران 141).
وتظهر سذاجة وعجز إله المتأسلمين في الآيتين التاليتين من سورة الأنفال:
{ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا … (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
هذه العلاقة الملتبسة والغامضة والتي تعاني من اضطرابات الشيزوفرينيا الشديدة، نجدها أيضًا وبشكل فج مع نبي الأسلمة، فهو ”على خلق عظيم“. مما جعل الشاعر يقول له:
زانتْك في الخلق العظيم شمائلٌ *** يغرى بهن ويولع الكرماء
بينما شمائله التي « يغرى بهن ويولع الكرماء»، تشمل جميعها - تقريبا - أفعالًا لا تتفق أبدًا مع الأخلاق والمبادئ الإنسانية، كالسلب والنهب والقتل والزنا والكذب ... إلخ، ووقوف الإله إلى جانبه وتحت تصرفه 23 عامًا، ليبرر له نزواته وأهوائه العامة والخاصة قبل أن يتوارى الإثنين إلى الأبد خلف ”فانتازيا“ رجال الدين.
هذا التناقض الخطير فيما يريده الله من عباده المتأسلمين، وفيما يقوله أو يفعله نبي الأسلمة يعطي لرجال الدين الإسلاموي مجالًا رحبًا ومرونة تفوق العقل في فانتازيا تبرير الفعل ونقيضه، مما يفقد المتأسلم وعيه بذاته، ليظل مدى حياته متعلقًا بذواتهم، متشبثًا بهذيانهم.
منطق العقل يقول: إنَّ من يدَّعي معرفة كائن (الله) ذي أهمية مذهلة في حياة البشر، عليه أنْ يطرح على الطاولة مستوىً معقولًا من الدقة بصدد ماهية هذا الكائن بالضبط، وكيفية معرفة المرء بوضوح ما سيعتقد به إِنْ كان سيقبل إتِّباع دِيانته. ولكن السماح بغير ذلك يفتح فجوة فكرية هائلة لرجال الدين لحث البشر على القيام بأعمال مشؤومة وشريرة، والتحدث باسم كائن ذي قوة هائلة [مزعومة] بهدف اكتسابهم الخضوع المعطى لكائنٍ كهذا بالوكالة وبالنيابة عنه.
إن الاهتمام الأساسي لرجل الدين هو ما يحظى به من خضوع أتباعه له بوصفه الممثل الوحيد لوهم الإله، فمما لا جدال حوله هو أن المرء لا يصنع شيئا، إلَّا لاحتياجه شخصيًا أو لاحتياج الآخرين إليه ومن ثم يستفيد من تسويقه لهم، وهنا نسأل: ما هي "مصلحة الله في صنع البشر"؟ هل صنعهم على أساس أن له فائدة تعود عليه شخصيا من ورائهم، أم أنه خلقهم حصريًّا لعبادته على حد قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} (الذاريات 56 و57). طبعًا إذا كان هو الرَّازق فلن يريد منهم رزقًا وإن كان هو مُطْعِمهم من جوع فلن يريد منهم أنْ يُطْعِمون! لمعرفته أن فاقد الشيء لا يعطيه. ولكن مالفائدة التي يحصل عليها من عبادتهم له؟ وأي عبادة يتوقعها منهم؟ هنا يأتي دور من يعرفونه ويتولون أمره بالنيابة، ليقدموا لنا، في جميع إجاباتهم، طرحًا سَخِيفًا، هو أن الفائدة تعود على البشر أنفسهم، إِذْ بعبادته وطاعتهم له، يفلتون من عذاب جهنم وينعمون بجنَّات تجري من تحتها الأنهار وحياة أبدية مريحة وحور عين ومكافآت أخرى تتوق إليها النفس المتصحِّرة، وكأن الإنسان مجرد "فأر تجارب" لمن صنعه.
من الطبيعي أن تعود المصلحة على الله "منَفِّذ المشروع" وليس على البشر خلافا للمنظور الديني الذي يضع غاية وهدف المشروع في الإنسان ذاته بدلا من وضع شرح عن فائدته لله شخصيا.
ولكن أحدًا ممن يزعمون أنهم يعرفون الله حق المعرفة لم ولن يتمكن من وضع إجابة منطقية أو عقلانية واحدة عن هدف الله من هذه التجربة البشرية الفاشلة على كوكب الأرض. فإن كان ربهم خارق بالمقاييس والمواصفات المنسوبة له، لا يكون إذن بحاجة لتنفيذ هذه التجربة من الأساس، ومن الأجدى له أن يخلق حياة بشرية أخرى عوضًا عنها ليجني فائدة حقيقية على أرض الواقع بمجريات مشروعه. فهو يعلم الغيب ويعلم الماضي والحاضر والمستقبل، مما يعني أن مجرد مداعبة الفكرة بعقله تكفيه ليصل إلى نتيجة المشروع من بدايته لنهايته دون الحاجة لتنفيذه!
إن الذين يؤمنون بالله لديهم رغبات وأماني يتمنون تحقيقها بحسب قول مؤسس علم النفس الحديث النمساوي الشهير سيجموند فرويد، أما رجال الدين وسدنته لا يجدون ما يحملهم على الإيمان بإله لمعرفتهم الأكيدة أن وجوده مجرد وهم، عليهم أن يسَوِّقوه للمؤمنين حتى يستمرون في تحقيق رغباتهم وأمانيهم في الحياة الدنيا. إنهم يخدعون المؤمنين بهم، ويتطاولون على المنكرين لهم، فتصبح المشكلة الحقيقية للخداع في كونه ليس إِيمَانًا أو إنكارًا فحسب، بل أيضًا كذِبًا وَقِحًا، وانحطاطا رُعاعيا قذرًا، وهم على قناعة بأن الإيمان لا يعطينا أجوبة، بل يوقفنا عن طرح الأسئلة، ولذلك يجعلون منه سيفًا مسلطًا على رقابنا وعقولنا وحياتنا بأكملها، خاصة وأن الأمر برمته يتوقف على مطالبهم ومدى التزامنا بها لتحقيق مآربهم الشخصية وحدها.
الثقافات التنويرية أدركت في العصر الحديث أهمية أن يُترَك الإيمان بالآلهة لحرية الناس، فلا يجبر عليه أحد منهم، حتى لا يتم التلاعب به وخداع البسطاء منهم.
يقول الفيلسوف الهولندي سبينوزا (1632 - 1677): « لا أعرف أن كان الله فعلًا قد تكلم، ولكن إنْ فَعَل، فلا أعتقد أنه قال شيئا غير ما يلي:
تَوقَّف عن الصلاة، أريدُك أن تخرج إلى العالم وان تتمتع بالحياة، أريدك أن تتمتع وتغَنِّي وتعمل، وان تتمتع بكل ماقمتُ به من أجلك.
توقف عن الذهاب إلى تلك المعابد المظلمة والباردة، والتي بنيتَها وقلت عنها أنها بيتي!. بيتي في الجبال والأشجار والوديان والبحيرات والأنهار.
توقف عن ترديد القراءات المقدسة التي لا علاقة لي بها، فإذا لم تتمكن من قرائتي أثناء الفجر، في منظر طبيعي، في نظرة صديق، في زوجتك، في زوجِك، في نظر طفلِك، فلن تتمكن من أن تجدني في أي كتاب!!
لا أريدك أن تؤمن بي، أريدك أن تحسَّ بي في ذاتِك، حين تهتم بالحيوانات، وحين تحتضن طفلَك الصغير.
اياك أن تقتل من أجْلي.....
اياك أن تقطع رؤس الاخرين وتنْهَبُهم من أجْلي.....
فأنا لست بحاجة إليك أن تفعل هذا ....
ولا تبحث عني بعيدا، فلن تجدني، إنني هنا في الطبيعة، انا الكون، انا المحبة !!».