أنا لسْتُ مُدينًا بشيء لوطن مسلوب الإرادة!


ياسين المصري
الحوار المتمدن - العدد: 7738 - 2023 / 9 / 18 - 18:53
المحور: اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم     

عندما دعا الأديب والشاعر والصحفي والناشط السياسي الروسي قسطنطين سيمونوف (1915 - 1979)، زميله إيفان بونين 1870) - 1953) الحائز على جائزة نوبل في الأدب عام 1933، إلى مغادرة فرنسا والعودة إلى روسيا، قال له الأخير:
« أرجو أن تفهمني؛ من الصعب عليّ أن أعود إلى وطني شيخاً هرماً، فكل أصدقائي وكل أهلي يرقدون الآن في قبورهم، وسأسير هناك وكأنني أعبر مقبرة».
بالمثل، سألني منذ أيام أحد أقربائي بما يشبه هذا السؤال، قائلا: ألا تريد أن تقضي البقية القليلة جدا من حياتك في أرض الوطن؟، وكان أحد أقربائي هذا قد ترك الوطن أيضا في وقت مبكر من حياته، ولكنه عاد إليه مرة أخرى بعد اقتناعه بأنه كوَّن ثروة قد تمكنه من العيش فيه بسلام ووئام؟
فآثرت أن أقول.
***
قبل رحيلي عن أرض الوطن في بداية عام 1969 كان قد مرَّ ثماني سنوات على صدور رواية ”اللص والكلاب“ (عام 1961)، للعبقري المصري نجيب محفوظ، وكنت قد اقتنيتها فور صدورها، وقرأتها مرارًا. عند صدورها كان البكباشي الفاشل عبد الناصر في قمة مجده، وفي غاية السُؤْدَد والسُموِّ والسيادة، يقفز كل يوم قفزات بهلوانية لإثارة حماسة الغوغاء وإلهاب مشاعر الدهماء، إذ أقدم بعنجهية غير محسوبة على تأميم قناة السويس، فتسبب في وقوع العدوان الثلاثي على مصر، ومع ذلك تمكن من استغلال هزيمته فيها لتأكيد هيمنته على البلاد وترسيخ استبداده بالعباد، وكان قد أخذ في بناء السد العالي في أسوان، كمشروع للتباهي والمنْجَهة رغم تحذير الخبراء من أن أضراره أكثر من فوائده، وشرع في أجراء تغييرات راديكالية وعشوائية متوالية داخل الدولة، مما أحدث فوضى اقتصادية واجتماعية وثقافية داخل المجتمع لم تنتهِ إلى يومنا هذا.
وفي عام 1960 انشغل الرأي العام في مصر لعدة أشهر، بحادث حقيقي كان بطله يدعى "محمود أمين سليمان"، الذي هرب من السجن لينتقم من زوجته ومحاميه لخيانتهما له، ولكي يحقق انتقامه ارتكب العديد من الجرائم في حق الشرطة وبعض أفراد المجتمع الذين لا ذنب لهم.
أدرك العبقري نجيب محفوظ بذكائه المفرط عمق التغييرات التي تحدث في المجتمع، واستلهم من الحادث روايته هذه، وبنى شخصياتها وأحداثها على الواقع السياسي والاجتماعي الذي تعيشه مصر بعد تسع سنوات فقط من اغتصاب العسكر للسلطة في البلاد عام 1952، وتضمنت الرواية مناقشة أفكار فلسفية من قبيل العبث السياسي والاجتماعي الدائر في المجتمع، والموت ومعنى الحياة، والبحث عن العدالة الاجتماعية الضائعة.
منح "محمود أمين سليمان" اسما آخر هو "سعيد مهران"، في الرواية، ليبرز نموذجا لشخصية المصري المحبط والمغترب من الأوضاع السياسية والاجتماعية في البلاد؛ بسب عدم وفاء الساسة بوعودهم في تحقيق العدالة والحرية والمساواة للشعب، فكان وهران يعاني، إلى جانب الغربة والفقر، من الشعور بالتمزق والضياع والعجز عن التأثير على السياسة العليا لبلاده، فراح يسرق الأغنياء كجزء من تحقيق العدالة المتخيَّلة في ذهنه، ولاعتبار أن ثرائهم يعود إلى سرقتهم لمجهودات المواطنين البسطاء. قبض عليه وقضى أربع سنوات في السجن قبل هروبه لينتقم من الذين أوقعوا به. وصل به الحال إلى درجة جعلت كل طموحه في الحياة أن يموت موتاً بلا معنى وبلا مبالاة. عندئذ قد تسترد الحياة معناها المفقود!
تشممت الكلاب المدربة بدلته، وتحسست بخياشيمها عَرقَه وإفرازات جسده، وهو يعاني من القلق والتوتر والهلع، فاتخذتها علامة للاستدلال عليه، ومطاردته، والإيقاع به عن طريق التوجه إلى حيث يكمن لها في المقابر. إنها تقوم بوظيفة الكشف عن المخفي والمستور خدمة لأسيادها الذين يقومون بإطعامها. هنا نتوقع نهاية مهران واندحاره وذوبان شخصيته بعد محاصرة الكلاب له. لكن نجيب قبل تحديد وتأكيد الحصار، يوقفنا عند اقتناع مهران بعبثية الحياة وعدم جدواها، مع تعدد مصادر نباح الكلاب من حوله:
« وصاح صوت وقور:
- سلم، وأعدك بأنك ستعامل بإنسانية.
كإنسانية رؤوف ونبوية وعليش والكلاب!
- حسن ماذا تنوي؟ اختر بين الموت وبين الوقوف أمام العدالة.
فصرخ بازدراء:
- العدالة!
- أنت عنيد، أمامك دقيقة واحدة...
ورأت عيناه المعذبتان بالخوف شبح الموت يشق الظلام.
إنطلق الرصاص كالمطر.
وفي جنون صرخ
يا كلاب!
وأخيرا لم يجد بدا من الاستسلام، فاستسلم بلا مبالاة .. بلا مبالاة ..»!
تمثلت عبقرية نجيب محفوظ في رسم شخصية سعيد مهران على أنه بالرغم من كل المطاردات والتوترات والقلق وعدم الراحة، فإن القارئ لا يشعر بذلك قط في شخصيته، وكأن نجيب يُخبرنا بأننا أمام مريض نفسي في المقام الأول وليس لصاً أو مجرمًا!
بعد ذلك تحولت الكلاب نفسها إلى لصوص!
***
من ناحية أخرى، هناك ”نظرية أو متلازمة“ شائعة في علم النفس عن ”الضفدع المغلي Boiled frog“، تقول: إذا انتزع ضفدع من مياه بحيرة طبيعيّة معتاد على العيش فيه والتكيُّف معه، ووضع بداخل إناء مملوء بالماء، ثم وضع تحت الإناء شمعة او اي اداة تسخين بدرجة حرارة متدنيّة ”تسخين بطئ“ وتدريجيّ، فلن يشعر الضفدع بالخطر بسبب التغيّر البطئ جِدّاً لمناخ بيئته الجديدة، وسوف يعمل على تعديل درجة حرارة جسمه تدريجياً وببطء لتتواءم مع تغير درجة الحرارة، وسيشعر بالإسترخاء والكسل وربما اللامبالاة ومن ثم يتعوّد على ارتفاع درجة حرارة المياة اكثر فأكثر، أو يتأقلم تدريجيّاً معها حتّي تخور قواه بالكامل و يُصبِح غير قادر علي الحركة او الهروب فيستسلم ثم يموت ….
من الواضح في هذه التجربة أن الماء المغلي لم يكن وحده هو السبب في موت الضفدع، بل أن العامل الحاسم في موته من عدمه، كان قدرته على اتخاذ قرار الخروج في الوقت المناسب من الوعاء، عندما بدأت درجة حرارة الماء تتغير من حوله، لكنه قرر التأقلم معها. وما إن يبدأ الماء في الاقتراب من الغليان، يكون الضفدع قد أصبح غير قادر على تعديل درجة حرارته، ومن ثم لا يستطيع القفز خارج الإناء، فيموت؛ إي انه لن بتمكن في الوقت المناسب من القفز خارج الإناء قبل أن تستنزف طاقته ويصبح عاجزا عن الهرب والنجاة بنفسه، حتى وإن سنحت له الفرصة بذلك.
وسواء كانت هذه التجربة قد تمت بالفعل أو أنها مختلقة، ففيها الكثير من الحقيقة عن تقوقع بعض المجتمعات داخل بيئة من الممارسات والأفكار السيئة أو غير الأخلاقية، فيفقد أفرادها القدرة على إدراك التهديدات السلبيّة التي تنشأ وتكبر بشكل تدريجي وبطيء من حولهم، بحيث يصل بهم الأمر الي الضعف والانحدار والجهل ثم الهلاك …
إن الإنسان بطبيعته يتميز بقدرة عالية على التكيُّف والـتأقلم، مما تفقده يقظته في كثير من الأحيان تجاه ما يستنزف طاقته، ويشل إرادته، ويحمله على الاستمرار في تقديم التنازلات في علاقات حياتية مزعجة أو كارثية يفقد فيها أبسط حقوقه الخاصة والعامة على حد سواء، وهي الشعور بالارتياح أو يقع ضحية لسحر الواقع. يفقد الوعي بما يحيط به، فيعجز عن تجنب ”نقطة الذروة“ التي يصل فيها إلى حد البلادة واللامبالاة وموت المشاعر كلية.
فضلت في الوقت المناسب ألَّا أعيد سيرة سعيد مهران، ولم أشأ أن أجعل من نفسي ضِفدعاً مغليّاً… ألا أقع في بئر عميق يصيبني بالألم ويؤدي بي إلى نهاية محْزنة.
يقول المثل: إذا لم تشعر بالانتماء لا تطيل البقاء.
ولدت في إحدى القرى الصغيرة - (عزبة)، تنتمي إلى قرية أخرى كبيرة - في دلتا الوجه البحري، وكانت تتميز بالهدوء والانسجام الاجتماعي. كانت الأسرة تشكل نصف القرية وكانت متوسطة الحال ماديا، وفقيرة معنويا، بمعنى أن القليلين منها منها يفكون الخط بالكاد. كنا أول جيل يتعلم في مدارس حكومية، خارج الكتاتيب الدينية.
لما قامت مجموعة من حثالة الضباط في الجيش المصري بانقلاب على الملكية، وتمكنوا من اغتصاب السلطة واحتلال البلاد، وإذلال العباد من خلال موجة من العبث السياسي لم تنتهي حتى اليوم ولا أحد يعرف متى تنتهي؟ وكيف؟، كنت آنذاك في الثالثة عشر من عمري، لم أتحمس لهم (كثيرا)، خاصة عندما رأيت أركان الوطن تهتز وتتساقط أعمدته يوما بعد يوم تحت أقدام الرعاع والدهماء والمخدوعين. كنت أبحث عن الحقيقة بعقلية صبيانية، ولم أجد سوى المقالات التي كان يكتبها عرَّاب الاغتصاب الصحفي محمد حسنين هيكل في الأهرام كل يوم جمعة تحت عنوان: ”بصراحة“، كنت انكب على قراءتها، دون أن أفهم الكثير منها، دأبت على جمعها لعلي أقرأها فيما بعد بعقلية ناضجة، ولكنني لم أقرأها ثانية، فقد تخطاها العقل، وتجاوزتها الأحداث، وعفى عليها الزمن، فصارت فريسة دسمة للفئران تتسلَّى به في ركن مهجور ومظلم ومترب من البيت الريفي الكبير. لقد تجاوز الواقع كل ما قاله هيكل ”بصراحة“ وأثبت أنه كان ”بوقاحة“.
وقعت البلاد في قبضة عصابة من الجهلة الفاشلين النرجسيين، فاستعملوا ”نظرية الضفدع“ عمدًا أو بغير عمد في سياستهم تجاه الشعب المصري. قلبوا الموازين الاجتماعية رأسا على عقب ووضعوا المجتمع في دوامة من الأحداث العشوائية، وخلقوا بداخله بيئة شاذة وفكر غير طبيعي، وممارسات همجية سريعة أحيانا وبطيئة أحيانا أخرى، أدت بالضرورة إلى التدمير المادي والمعنوي المعهود حاليا في مصر، وأصبح من الشائع أن يلتقي المرء بشخصيات مكررة لسعيد مهران، محاصرون من الكلاب، ومازالوا على قيد الحياة إلى حين!
لم يظهر في الأفق القريب أو البعيد آنذاك، ما يبعث على الأمل.
قضيت عشر سنوات وكأنها عشرة قرون في دراسة لم أكن أرغبها، وقد فرضت عليَّ كما فرضت على غيري، من قبل ما يسمَّى ” مكتب التنسيق “، وهو مجرد إسم مضلل ومدمِّر من الأسماء الكثيرة والشعارات العديدة التي استجدت من قبل الحكام العجزة الأشرار، والتي تعد من أسوأ الأسباب التي أدت إلى انهيار التعليم في مصر.
بعد الدراسة الإجبارية، قضيت في العمل سنة ونصف تقريبًا في إحدى وزارات الفساد المتناثرة في أرجاء البلاد. قال لي أحد رؤسائي من كبار الفاسدين أنصاف المتعلمين: « يابني غمَّض عينيك، ومشِّي حالك! أنت لسه في بداية حياتك»، لم أسطع تمشية حالي على النحو الذي يريده، ومشيته على عكس ما يقصده.
كنت أنجز عملي بدون أية بهجة “كل يوم يشبه الآخر، ولا جديد”!)،
من الناحية الدينية أذكر أنني دخلت المسجد لأول مرة في حياتي عندما كنت أجهز نفسي للثانوية العامة لعل الله المزعوم ينفخ في صورتي. كان إمام المسجد (الشيح قدح، هكذا كان إسمه) قد اعتلى المنبر وبدأ في إلقاء الخطبة، بدأت في آداء ركعتين - تحية المسجد - كما تعلمته من أفواه المشايخ. توقف غاضبا عن مواصلة الخطبة، وقال بصوت جهوري: إجلس يا جدع!، لم ألتفت إليه وواصلت الصلاة، قال غاضبًا: ح تجلس ولَّا انزل لك!، وجدت أيدي عديدة تحاول قصر الشر وتسحبني من جلبابي للجلوس، فجلست!
وفي يوم ما ولنفس الغرض ذهبت لآداء صلاة المغرب في شهر رمضان، وكان الشيخ قدح بعد صلاة التراويح يلقي دروسه الدينية على الحاضرين، استمعت إليه وهو يسرد بالتفصيل عذاب القبر وحساب الملكين والثعبان الأقرع. أردت الانصراف لمواصلة مذاكرتي، وعندما هممت بالانصراف قال لي: على فين يا سيد؟ قلت: على البيت، قال: ليه؟ نار يا حبيبي نار أحسن مننا؟ قلت: نعم، وتركت المسجد كلية ولم أتِ إليه مرة أخرى حتى اليوم.
وفي عام 1965 رشحتني الجامعة ضمن آخرين للاشتراك في أول دورة في معهد إعداد قادة الشباب الاشتراكي (حلوان 18 نوفمبر) في هذه الدورة لم أتكلم كثيرا وانصب نشاطي على النواحي الفنية والأدبية وفي حفل التخرج حضر البكباشي عبد الناصر بنفسه، وتفضل عليَّ بجائزة عبارة عن (ڤازة زهور)، لا ادري ماذا حل بها، ولكنني مازلت أذكر شكلها ولونها حتى اليوم. نجحت وانتقلت إلى الدورة الثانية، وفيها لم استطع أن أحبس نفسي عندما رأيت أساتذة الاشتراكية الناصرية يأتون إلينا بالسيارات الفارهة وكروش مترهلة وأختام من الذهب المرصَّع بأشياء لامعة في الأصابع المتورمة. فسقطت ولم أنقل إلى الدورة الثالثة والأخيرة. أدركت تدريجيا أن أولئك لن يجلبوا الجنة للشعب، إنما يحاربون سلطة العهد البائد لتحل محلها سلطة القطط السمان والضباع الجائعة، ونحن أدوات لهم. 
إن فقدان الهوية يؤدي إلى عدم الاطمئنان ويولد لدي المرء إحساسًا جارفًا بضرورة الخروج من المستنقع الجديد، دون حساب ليوم العودة القريبة أو البعيدة.
صرت من أغرب الغرباء في وطن احتلته عصابة من اللصوص،
تملكني إحساس دفين يزداد كل يوم بفقري المعنوي، ونقص قيمتي في هذا الجو السياسي المعبأ بالأكاذيب والخداع …

داهمني الوقت يدفعني للخروج منه بأي ثمن. جمعت نفسي على عجل، ورحلت وفي أعماقي سلسلة متضاربة من الفرح والحزن. لم أفكر فيما إذا كنت سأعود يوما ما، أم لا؟
وجدت أن الظروف الذي يخلقها الحكام الجدد لا تلائم تطلعات أمثالي من الشباب لمستقبل هذا الوطن، فقد بدأ للتو تهميش الشعب بكامله واستغلاله كأداة ديماغوجية حمقاء، وبدأت صعوبة التعبير عن الآراء الشخصية، وإن كان لأحد منهم مكان في مؤسسات الدولة فهو مكان ”لأكل العيش“ فقط، وفي غير اختصاصه، أو على الأقل ليس بمستوى أمانيه.
كنت من أوائل المتعلمين من غير الأزهريين في القرية، حيث يتفشى الجهل والفقر والمرض، وكنت أول المغادرين لها من شبابها المتعلمين. لقد شعرت بالغربة عندما بلغت الرشد في الوطن الذي أحببته كثيرا، لأنه بالفعل كان يستحق كل الحب سواء من أبنائه أو من الغرباء في كافة أنحاء العالم.
عندما وصلت إلى بلاد الغربة، وكنت أبحث فيها عن موطئ قدم، التقيت مصادفة بمجموعة من الشباب المصريين الذين يدرسون في جامعتها على حساب الشعب المصري، ليلقنونني درسا في الوطنية:
-« إزاي تترك الوطن اللي رباك وعلمك …»
رددت عليهم باختصار شديد وأنا أجاهد لإخفاء ما في نفسي من ألم:
- « طالما في مصر أمثالكم فلن تقوم لها قائمة، وسوف تخرب على أيديكم …»
أولئك المغرضون والمنافقون والمذلولون وعبَّاد الأصنام البشرية يعتقدون أن الدولة أحسنت إليَّ وإلى غيري بالتعليم، وكأنه مكتوب عليَّ وعلى غيري أن نبقى أميين مثلنا مثل الملايين من المصريين، مالم تتفضل علينا الدولة بالتعليم، أي غباء هذا.
الوطن حيث تتوفر مقومات الحياة لا مسبِّبات الموت، بحسب قول الشاعر السوري محمد الماغوط في كتابه: سأخون وطني.
كان الفيلسوف المتصوف والأديب العراقي العظيم أبو حيان التوحيدي (922 - 1023 م) أول من تحدث عن الاغتراب، فقال: « أغرب الغرباء من صار غريباً فى وطنه، وأبعد البعداء من كان بعيداً من محل قربه .. لأن غاية المجهود أن يسلو عن الموجود، ويغمض عن المشهود، ويُقصَى عن المعهود .. يا هذا .. الغريب من إذا ذكر الحق هُجِرَ وإذا دعا إلى الحق زُجِرَ .. يا رحمتا للغريب ! طال سفره من غير قدوم، وطال بلاؤه من غير ذنب، واشتد ضرره من غير تقصير، وعظم عناؤه من غير جدوى » .أبو حيان التوحيدي من كتابه (الإشارات الإلهية والأنفاس الروحانية)، حققه وقدم له الدكتور عبد الرحمن بدوي ، الطبعة الأولى 1981.
وقد رأى الفيلسوف وعالم النفس الألماني "إريك فروم" صاحب كتاب "الخوف من الحرية" أن الانسان يصاب بالاغتراب عندما يصبح أكثر شكاً وقلقاً وعزلة وخوفاً في مجتمع لم يعد مهتماً ببناء علاقات إنسانية طبيعية وسليمة بين أفراده.
من المؤسف حقا إن الذين كُتِب عليهم أن يعيشوا على أرض الوطن، سواء كانوا قِلَّة من الأثرياء أو أغلبية عظمى من الفقراء، ما زالوا حتى الآن يعانون من الغربة المتزايدة يوما بعد يوم: يقول الأستاذ محمد حسين يونس في مقال له بعنوان: « عندما نغترب في بلدنا» : « فنحن نعيش غرباء فى هذا الوطن، منكمشين، ملعونين، مطاردين، مهددين من أنصاف متعلمين أو جهلة أميين بعد أن حصرونا (نحن معدومي الحيلة) في مساحات تأثير ضيقة. بخداعهم وقوانينهم ودستورهم .. وهددونا بكتبهم الصفراء وسيوفهم البتراء ومليشياتهم وجباتهم .. وكبلونا بالإحتياج وإستنزاف الثروات .. وبجهاز أمني إدارى معوق .. حتى تدهور الحال وأصبحت هذه البلد من عداد الامم الفاشلة التي تتسول قوت يومها وتقترض من كل من هب ودب بدون خجل .. وتصل الفاقة بأهلها إلي حد محبط لم يتمناه أكثر الناس عداوة للمصريين» . 
https://m.ahewar.org/s.asp?aid=784737&r=0
سوف أبقى بعيدًا عن وطن محتل ووضع سياسي مختل، أجتر ذكرياتي في صمت وهدوء، حتى يغيبني الموت، وأتلاشى من الوجود. لم يعد هذا الوطن وطني، لقد خسرته لاكسب نفسي، أما وطني - الذي كان - فعليه السلام، وله منّي كل المحبة والاحترام.