ثقافة ”البهللة والسبهللة“ الدينية!


ياسين المصري
الحوار المتمدن - العدد: 7880 - 2024 / 2 / 7 - 00:14
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

بإيجاز شديد، تُعرّف الثقافة (Culture)، بأنها كل ما يضيء العقل، ويهذب الذوق، ويرفع مستوى السلوك، وينمي موهبة النقد، ويحسن من مستوى الحياة البشرية، والكلمة مشتقة من التَّثقُّف بمعنى الاطلاع الواسع في مختلف فروع العلم والمعرفة دون التخصص، فهناك الكثير من المتخصصين الذين يتقنون تخصصاتهم جيدا، ولكن تنقصهم الثقافة، ومن المستحيل أن يكونوا مثقفين، ولذلك يُعرَّف الشخص ذو الاطلاع الواسع على أنّه شخص مثقّف بصرف النظر عن مستوى تعليمه او منصبه أو مهنته.
الثقافة يجب أن تكون عملية ومفيدة ومتعددة، لتمكن المرء من الحصول على أساسيات مختلف العلوم والمعارف، التي تربطه بنفسه وبالأشياء من حوله، فيعرف اساسيات علوم الطب والهندسة والزراعة والسياسة والاجتماع …إلخ، كما يعرف ما هي الأغذية المفيدة والضارة لجسمه، ويعرف كيف تعمل الكهرباء، ويعرف معنى الحرية والمسؤولية، وأسلوب العيش في سلام ووئام مع الآخرين، وعدم السماح لأحد بقهره أو استغلاله … وهكذا. فالمهمة الأساسية للثقافة هي تمكين المرء من تحقيق الإنتقال من الوضع البيولوجي (غريزة القطيع) إلى الوضع الثقافي ( العقل النضوج المتكامل) ....
ومن ناحية المصطلح، فتُعرَّف الثقافة على أنّها نظام يتكوّن من مجموعة من المعتقدات، والإجراءات، والمعارف، والسلوكيات التي يتمّ تكوينها ومشاركتها ضمن مجتمع أو مجتمعات معينة، فالثقافة التي يكوّنها أيّ شخص لنفسه يكون لها تأثير قوي ومهم على سلوكه، وعندما تتكوَّن لدي الأغلبية العظمى من أفراد المجتمع، فإنها تشير إلى مجموعة من السمات التي تميّز هذا المجتمع عن غيره، منها: الفنون بمختلف أصنافها، والأعراف، والعادات والتقاليد السائدة، والقيم، والموقف من الدين، وغير ذلك.
يهتم علم الإنسان الثقافي أو الأناسة الثقافية (Cultural anthropology)، بدراسة الثقافة من جوانبها المختلفة، وهو أحد فروع علم الإنسان العام، الذي يركز على دراسة بناء الثقافات البشرية وأدائها لوظائفها في كل زمان ومكان. ويرجع الفضل في تأسيس هذا الفرع والعمل على تطوير وتنظيم موضوعاته في إطار واحد حول الثقافة إلى العالم الإنجليزي السير إدوارد بيرنت تايلور (Edward Burnett Tylor) (1832 - 1917)، وقد قدم تعريفا للثقافة ما زال سارياً حتى يومنا هذا على الرغم من ظهوره عام 1878م، وهو أنها: ذلك الكل المركب الذي يضم المعرفة والعادات والتقاليد والمعتقدات والأخلاق والفن والقانون، وأية قدرات أخرى يكتسبها الإنسان باعتباره عضواً في المجتمع، وأكد تيلر أن الثقافة عبارة عن نظام متكامل من العناصر السابقة، والتي يكتسبها الإنسان بوصفه أحد أفراد المجتمع.
الثقافة إذًا لا يمكن فرضها على الإنسان بالقوة، أو تقديمها له بشكل جزئي أو متحيز أو مبهم، بل يجب أن تقدم له ككل وبشكل واضح وشامل، ليأخذ منها ما يشاء، وبالقدر الذي تمكنه منه قدراته الشخصية وسعيه الدؤوب لاكتساب المعرفة، والتزوّّق بالفنون والالتزام بالقوانين العصرية المنظمة لعلاقاته بغيره، كما التزامه بالعادات والتقاليد التي ترفع من قيمته وتحقق ذاته، دون إجبار من الآخرين. لذلك تجتهد الدول المتحضرة في تعبئة جميع المؤسسات التعليمية بمستوياتها المختلفة والإعلامية بأنواعها المتعددة، لخدمة مواطنيها، وتمكينهم من تحقيق أهدافهم في تحصيل الثقافة التي يسعون إليها، ومن ثم تنعكس معالمها إيجابيا على سلوكهم الاجتماعي ككل.
***
أما كلمتا ”البَهْلَلَة والسَّبهْلَلَة“، فهما من الكلمات العربيَّة الفصحى، رغم شيوعهما على ألسنة العوام، وهما مشتقتان من الفعل الرباعي المجرد (بَهْللَ)، يقال: بَهْلَلَ عليهم أي تَكَلَّمَ كلاما فارغا، ومنه (بُهْلُول) بضمّ الباء وهو الشخص «الَمرِح الكثير الضحك» وأيضا « المعتوه، الأحمق، المجنون» وجمعه (بَهَالِيل)، بحسب المعجم الوسيط.
وكلمة (سبهللة) تعنى: الهباءً أو العبث، أي دون هدف، وقد عرفها معجم المعاني الجامع (عربي عربي)، بأنها الفراغ الذي لا شيء معه، والأمر أو الشيء الذي لا ثمرة فيه. ويُنسب إلى عمر بن الخطاب قوله: « إني لأكره أن أرى الرجل سبهللا لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة». وبذلك يكون ”السبهلل“ هو الشخص الفارغ الذي لا شيء معه، ولا فائدة ترجى من ورائه.
***
تحدث عادة في المجتمع أشياء بسيطة، بحيث لا يلتفت إليها الكثيرون، ولكنها ذات دلالات عميقة، فقد سمعنا مثلا عن شخصية كانت لا تساوي شيئا في بلدها روسيا، ولكنها ما أن جاءت إلى مصر أصبحت فجأة نجمة مشهورة برقصها وحجم صدرها ومؤخرتها فقط لا غير، هي: الراقصة (صافيناز)!
وسمعنا أيضا عن شخصية أخرى هو أحمد زويل الذي كان يعيش في بلده مصر فقيرا معدما، مجرد مدرس بسيط للكيمياء مثله مثل آلاف المدرسين، لا يساوي شيئا ولا يهتم به أحد، ثم هاجر إلى أمريكا، فأصبح عالماً مشهوراً وحصل بعد سنوات قليلة على جائزة نوبل في الكيمياء.
العيب هنا ليس في الراقصة ولا في مدرس الكيمياء، ولكنه في المجتمع الغارف من رأسه إلى أخمص قدميه في مستنقع ثقافة قائمة على البهللة والسبهللة، فأصبح لا يهتم سوى بصدور ومؤخرات النساء، وأهمل بل وحقَّر المعلمين والمثقفين والعلماء الحقيقيين. إنها ثقافة بني يعرب الدينية المفبركة، التي تستهوي أعدادًا غفيرة من البهاليل والسبهلليين، الذين أعجبتهم وشغلت أهواءهم، فراحوا يُروجونها على مدار الساعة فوق المنابر المتاحة، ويحاولون بشتى الطرق والأساليب تبرير ما فيها من (المخازي النبيوية الكريمة)!.
إنها ثقافة سائلة أنشئت لها المؤسسات والمعاهد والجامعات والمساجد والمنابر، وتبنتها الحكومات الضعيفة لحمايتها ولملمة تشرذمها بأساليب الكذب والخداع، إلى جانب العنف والإرهاب، وذلك لما تعانيه هذه الثقافة من خلل بنيوي، يتسم بالسيولة الشديدة وقد يكون هذا الخلل هو السبب في بقائها حتى اليوم، رغم أنه كثيرًا ما يؤدي إلى إفرازات لا حصر لها من الجماعات الإجرامية والتيارات المتطرفة والإسلامويات المتعددة.
ولأنها ثقافة غير محددة المعالم، يتزايد فيها أعداد البهاليل والسبهلليين من رجال الدين المحترفين والهواة والحكام الجهلة في دول بني يعرب وفي مصر بوجه خاص، ولديهم مقدرة فذة على تلوين الديانة الإسلاموية بالألوان التي تحقق مصالحم الشخصية تبعًا لاختلاف الأزمنة. صبغوها بالصبغة الاشتراكية في ستينات القرن الماضي لتتماشى مع اشتراكية البكباشي عبد الناصر المزعومة، فتوجَّه وعاظ السلاطين والمفكرون والكتاب والإعلاميون إلى ”الأسلمة اليسارية“، لتمجيد العمَّال البسطاء والفقراء، ولعن الطبقات المستغلة، وتقديم الإسلاموية على أنها أيديولوجية ثورية ضد الإستعمار والإمبريالية وسيطرة الرأسمالية، وبرزت رموز دينية كأبي ذر الغفاري ( وهو لص وقاطع طريق من الصعاليك)، في ثوب ثوري يساري إلى جوار علي بن أبي طالب وابنه الحسين في ثورتهما الهاشمية البروليتارية ضد البرجوازية الأموية - وكانت الآية القرآنية المفضلة لتلك المرحلة هي: {كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم} (الحشر 7) ..
وفي عصر السادات الإنفتاحي تم اكتشاف أن الإسلاموية تؤيد الإقتصاد الحر، وأنها - فجأة، وبرعاية الرئيس المؤمن - أصبحت عدو للمذاهب الإلحادية كالشيوعية والاشتراكية، وعليه انتقل المفكرون ورجال الدين والإعلاميون من معسكر اليسار إلى معسكر اليمين، وراحوا يؤيدون الأمريكيين باعتبارهم أهل كتاب، وليسوا ملاحدة مثل الماركسيين. وبعد معاهدة كامب دافيد صارت الآية المفضلة للمرحلة هي: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله} (الأنفال 61). وعلى المستوى الإجتماعي الرأسمالي كانت أية المرحلة هي: {ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا} (الزخرف 32). والتي تفنن الشعراوي في شرحها..
وكانت للشعراوي أهمية خاصة في هذه المرحلة، فقد روَّج للأسلمة اليمينية، حيث يجب على الفقير أن يرضى بقضاء الله العادل، ولا يتطلع إلى ما في يد الغني..إلخ، كما صرَّح متفاخرا أنه سجد لله شكرا على هزيمة مصر الشيوعية أمام إسرائيل في 67 ، بل وكان له دور كبير في الترويج لشركات توظيف الأموال التي نصَبت على آلاف المصريين بإسم الإقتصاد الإسلاموي .. ولكن أهمية الشعراوي الكبرى تكمن في تأسيسه لتيار تأسلمي شعبوي جديد يمكن تسميته ”التأسلم الفلّاحي أو الريفي“.. فمع تزايد هجرة المصريين من الريف إلى القاهرة، وعودة الكثير منهم من الخليج الوهابي، تم استقبالهم بالإسلاموية المناسبة لهم: شيخ يجلس على مصطبة ويفسر الكتاب القرشي الصحراوي بلهجة ريفية مصرية فيضرب الأمثال بالجاموسة والحمار والجِلة والقّلة والزير والدود وأبو قردان وغراب البين لجماهير جالسة على الأرض مفغورة الأفواه من فرط الإنبهار..
وبعد أن كانت الإسلاموية تتسم في يوم ما بقدر من النخبوية - مع شيوخ على مستوى عالي مثل محمد عبده أو شلتوت أو عبد الحليم محمود - صارت لها نسخة شعبية رائجة تصل للمواطن البسيط. تلك النسخة التي ستنجح أخيرا في إزاحة الشعبوية اليسارية الناصرية من الساحة السياسية..
لم يكن الشعراوي هو الشخصية الشعبوية الوحيدة، فكان هناك مثلا من هو أكثر شعبوية منه، هو الشيخ الكفيف كشك، والذي تميَّز بالقفشات الفكاهية مع طول اللسان والوقاحة والجعير والغوغائية، فيسخر من الفنانين في أقاويل مشهورة: « شريفة فاضل، لا هي شريفة ولا أبوها فاضل.. عبد الحليم حافظ ظهرت له معجزتين: أنه يمسك الهوى بإيديه وأنه يتنفس تحت الماء.. وقال عن أم كلثوم: « امرأة في السبعين تقول "خدني لحنانك خدني"، يا شيخة خدك ربنا..» كما قال: « كنا نبحث عن إمام عادل فجاءنا عادل إمام … إلخ». وعلى العكس من الشعراوي - الذي كان صديقا للفنانات التائبات وسببا في هدايتهن - فقد كان كشك يمثل المعارضة الثورية للنظام والنخب، وإلى الآن تحكى الأساطير عن شجاعته أمام الجهات الأمنية وكيف أنه مات ساجدا كما تمنى، بشكل حوَّله لأسطورة شعبية في أذهان العوام..
أما فيما بخص الشباب المتعلمين، فقد ظهر نموذج إسلاموي مختلف يناسبهم: دكتور العلم والإيمان مصطفى محمود، والذي لم يهتم بتخصصه الطبي، وراح يلفِّق - بكل وقار - ربط الدين بالمكتشفات العلمية الأوروبية، ويهزم صديقه الإفتراضي الملحد بالضربة القاضية..
ثم هناك - بالطبع - التأسلم الإخواني، وهو خط شعبوي من التأسلم السياسي يرجع إلى عصر سقوط الخلافة (1922م)، وظل محافظا على شعبويته التي تزايدت بشكل كبير مع صحوة بني يعرب البترودولارية في السبعينات، وراح يتراقص بين المعارضة والمداهنة لجميع الحكام..
ولأن البلاد قد ابتليت بحكام جهلة وعجزة، فقد تم فتح المجال للتيار السلفي الوهابي لينتشر كالسرطان تحت جلد المجتمع، وأكثره بعيد عن السياسة لا يتكلم في حكم ولا يعرف الفرق بين الخمَّارة والبرلمان، وإنما يكتفي بحشو أدمغة متابعيه بالصلوات والنوافل والأذكار ورياض الصالحين، إلى جانب حكايات عذاب القبر وناكر ونكير والثعبان الأقرع، والحور العين والغلمان المخلدين، والحنين إلى زمن واإسلاماه، والمرأة العفيفة المنقبة دائمًا والتي لا تخرج من دارها إلا إلى بيت زوجها ثم إلى القبر..
وكانت الثمانينات هي عصر الحجاب: روَّج له المشايخ والسلفيون، كما قام الإخوان - المسيطرون على الجامعات - بشراء وتوزيع قطع القماش على الفتيات، كما تكفلت الأسلمة الريفية باستخدام سلاحها الفلاحي الأثير ضد السافرات، وهو تشويه سمعتهن والطعن في رجولة آبائهن أو أخوانهن أو أزواجهن، حتى يتقون الله ويسترون عوراتهم خوفا من الفضيحة والعار ..
وفي التسعينات، وإلى جانب التأسلمات اليسارية واليمينية والأزهرية والريفية والغوغائية والسلفية ظهر التأسلم المودرن (الكيوت) المخفف، متمثلا في عمرو خالد، والذي فرِّخ فيما بعد معز مسعود ومصطفى حسني وغيرهما. وهم جميعًا من الهواة المرتزقة بالدين، شباب مهندمين متأنقين بلباس أوروبي، لا يشبهون السلفيين إلَّا في بعدهم عن السياسة، ولا يشبهون الإخوان إلا في سطحيتهم وجهلهم بالدين، إلى جوار اشتراكهم جميعا في اليمينية المحافظة، ولكن بشكل يتناسب مع قيم السوق الحديث، وتزيين السلعة وإخفاء عيوبها وتقديمها لمستهلك لا يقرأ ولا يفهم، في شكل مخدر لذيذ وبديل لأي فعل أو عمل مفيد..
وفي أواخر عصر مبارك دارت الأحداث من الموت السياسي إلى الاحتقان الشعبي، ثم الانتفاضة الشعبية، وفوز العسكر في الصراع على السلطة مع الإخوان المتأسلمين. فحدث على المستوى الإجتماعي مزيد من الفقر والعوز والإحباط والضياع، إلى جوار الغوغائية الشعبية المتمثلة في الانهيار السلوكي والفني والإعلامي والقضائي والتعليمي والثقافي بوجه عام..
وكالعادة تحوَّرت الإسلاموية لتفرز شكلا جديدا، يمكن أن نسميه "التأسلم الشوارعي" أو "التأسلم السرسجي".. والكلمة الأخيرة يصعب شرحها لغير المصريين: فهي تعبير شبه عنصري نقيض للرقي والتهذيب، موجه لمجموعة من الشباب المراهقين السوقيين أصحاب السمات المتشابهة: يرتدون الملابس اللامعة الفاقعة، والأحزمة الغريبة الشكل، والسراويل الضيقة، والشعر المحلوق من الجانبين مع كتلة أمامية مرتفعة، وغالبا نراهم يسمعون الأغاني الصاخبة (أغاني المهرجانات) الخالية من التهذيب أو يرقصون عرايا الصدور بالشوارع حاملين المطاوي، أو يقفون على النواصي يجعرون بفم مفتوح أو يتحرشون بالفتيات، باختصار يمكننا تخيل الممثل محمد رمضان..
هذا الجيل في العموم لا يمكن أن نصفه بأنه إسلاموي النزعة بالشكل التقليدي، بل قد يحتوي على عناصر علمنة شعبوية، كما أنه قد يمتلك معايير أخلاقية بدائية فطرية تنبع من "الجدعنة والفهلوة والرجولة والتكاتف وأخد الحق وزمالة الشارع"، لا من الدين أو القانون، مما يتجلى مثلا في ظاهرة الأولتراس التي تخلط الكرة بالسياسة بالثورة..
هذا التأسلم السرسجي يجمع بين ثقافة دينية تكفيرية وثقافة شعبوية شوارعية لا تستطيع التعبير عن مشاعرها بشكل مهذب حضاري..فنجد الشاب الشوارعي في المنتديات يدافع عن الإسلاموية بالسب والشتم دون أن يكلف نفسه قراءة كتاب واحد مفيد، وتجده في الشوارع يثور دون أن يفهم ما الذي يثور ضده أو ما الذي يريده.. فهو يتعامل مع قضاياه كما يتعامل تجاه خناقة في الشارع.. وهو يجمع بين سمات الإسلاموية وسمات الشارع المصري، على تناقضهما، ويقدم خطابًا إسلامويا سياسيا يتسم بزوال هالة التهذيب اللفظي التي كانوا يرفعونها، على أساس أن المتأسلم ليس بفحاش ولا طعَّان ولا لعَّان..إلخ، واضطروا للرجوع إلى خصال نبيهم الكريم، فصارت منشوراتهم ومقاطعهم وتعليقاتهم تمتلئ بالسب والفحش بأقذر الألفاظ لكل من يخالفهم. هذا نراه في نموذج مثل أحمد البحيري، والذي وصف الراحل فرج فودة بسبة قذرة في عنوان أحد مقاطعه، وكذلك يفعل بشكل منحط للغاية تجاه كل خصوم جماعته .. كما نراه يتجسد في ظاهرة إخوانية معارضة لدي عبد الله الشريف، صاحب البرنامج الشهير، فالرجل خطابه سياسي، ولغته شعبية تليق بسائقي التوكتوك، إلا أن لحيته سلفية، وهذا - ولا شك - من أهم أسباب شعبويته - فكأنه رأس داعشي تم تركيبه على جسد شاب ثوري شعبوي.. وعبد الله هذا، صاحب السمت السلفي والذي كان يعمل خطيبا لأحد المساجد، لا يلتزم بالقواعد الإسلاموية التقليدية، فهو يتساهل مع معلومة أو شائعة تؤيد موقفه، بل ويبدو أحيانا وكأنه يتعمد الكذب (متجاهلا وصية "فتبينوا")، وهو يسخر من خصومه (ضاربا عرض الحائط بآية "لا يسخر قوم من قوم") كما أنه يتجاهل "ولا تنابذوا بالألقاب" فيطلق الأوصاف المسيئة على خصومه..
ولكن هذا لا يمنع وجود عناصر إسلاموية نابعة من التعليم الأزهري، والتي لا يقابلها بديل فكري أو أيديولوجي يصل للشارع سواها: تلك العناصر تتجلى في بعض سلوكيات ريفية محافظة تستخدم مصطلحات العورة والدياثة وتحقر المرأة بشكل عام، وتعكس الكثير عن الفصام الذي يعيشه المجتمع. يتزعم هذا النهج عبد الله رشدي الذي أفتى بأن « من قباحات العلمانية ”العلاقات المفتوحة“ وهي تعني - بحسب قوله - أن يدخل الزوجان معهما طرفا ثالثا يختارانه بالتراضي بحيث تصير العلاقة ثلاثية من رجل وامرأتين أو امرأة ورجلين وليس ذلك خيانة لأن الخيانة تكون سرا بينما هذا بالتراضي»!..
هذا الإفراط المتعمَّد في البهللة والسبهللة الدينية من شأنه تضليل المواطنين وتحويل أنظارهم عن مشاكلهم اليومية، وزيادة الغباء العاطفي لديهم، ودفعهم إلى مزيد من الانحطاط والسفالة. ومع توالي الحكام الجهلة واستمرار القهر السياسي والاجتماعي في البلاد، وغياب الفكر العلمي والشفافية في تسيير الشأن العام، سوف يستمر ظهور تيارات البهللة والسبهللة الإسلاموية بقدر حال المجتمع وثقافته وتحولاته، فهذه التيارات بالمحصِّلة هي جزء من ثقافة المجتمع، ترتقي بارتقائه وتنحدر بانحداره.