طلاق الثورة الشيوعية


فؤاد النمري
الحوار المتمدن - العدد: 6286 - 2019 / 7 / 10 - 19:44
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

طلاق الثورة الشيوعية

قبل بضعة عقود كان ماوتسي تونغ قد وصف الثورة الشيوعية بحق على أنها بيت كبير ذو أبواب كثيرة في مختلف الإتجاهات ويدخل من جميع هذه الأبواب إلى داخل البيت أناس لهم أسبابهم المختلفة. أما اليوم وبعد تجربة مريرة امتدت لعقود، تكشّف أن لهذا البيت الكبير باباً واحداً للخروج حيث جميع الذين يخرجون مطلّقين الثورة الشيوعية يتزاحمون أمام هذا الباب الواحد الأحد وهو باب شيطنة ستالين . لا يستطيع أحدهم تطليق الثورة الشيوعية واستنكارها قبل أن يستنكر ستالين ويشيطنه . من هنا، ومن هنا فقط بتنا نجد أن القائد الأعظم للثورة الشيوعية ستالين، وهو مفخرة عمال العالم وسائر الشيوعيين حيت بهمته دون غيره انعطف العالم إلى الطريق إلى الشيوعية، بتنا نجده الشيطان الرجيم . ليس من باب آخر لطلاق الثورة الشيوعية سوى باب شيطنة ستالين .

تسنّت الفرصة للبورجوازية الوضيعة السوفياتية بقيادة الجيش للإنقلاب على الإشتراكية في الإتحاد السوفياتي بعد اغتيال ستالين بالسم في عشاء 28 فبراير شباط 53 من قبل رفاقه في المكتب السياسي، بيريا ومالنكوف وخروشتشوف، وما كانت لتتسنى تلك الفرصة لولا اغتيال ستالين وهو من وصفته الموسوعة البريطانية أقوى قائد ظهر عبر تاريخ البشرية . لكن سرعان ما أدركت البورجوازية الوضيعة أن إرث ستالين سيحول دون نجاح إنقلابها على الإشتراكية وعلى البروليتاريا السوفياتية، فكان أن أمرت رجلها نيكيتا خروشتشوف الذي نصبته قائداً للحزب بدل مالنكوف أن يبدأ معركة تفكيك الستالينية وشيطنة ستالين (Destalinization) ؛ ولما لم يكن خروشتشوف مؤهلا، لا نفسياً ولا فكرياً، للقيام بمثل هذه الثورة الثقافية المضادة فقد كلف العسكر أحد أهل الإختصاص لكتابة الخطاب الذي كان على خروشتشوف أن يلقيه من ضمن أعمال المؤتمر العشرين للحزب . لكن خروشتشوف عرف أن الخطاب كله أكاذيب وتلفيقات والمكتب السياسي لن يرفضه فقط بل وسيستنكر ويشجب مجرد عرضه ويحول بالتالي دون قراءته في المؤتمر الأمر الذي من شأنه أن يزعزع ثقة العسكر بخروشتشوف وقد غدت كل رأسماله . لذلك لجأ لحيلة المكر والخديعة، فبعد أن أنهى المؤتمر أعماله طلب خروشتشوف من لجنة تنظيم المؤتمر جلسة إضافية كي يتحدث فيها للمؤتمرين دون أن يفصح عن موضوع الحديث . اللجنة لم تسأل عن الموضوع لأن الجلسة ليست رسمية وليست من أعمال المؤتمر . فوجئ الحضور بخطاب غريب على أسماعهم كله أكاذيب وافتراءات ليس بحق ستالين فقط بل وبحق الوطن، بوصف الإتحاد السوفياتي دولة بناها ستالين بالقهر وبالحديد والدماء !! – نشرت الغارديان البريطانية في 25 فبراير شباط 2006 بمناسبة الذكرى الخمسين للخطاب تقول ..
Unexpectedly, delegates at the 20th congress of the Communist party had been ushered into a final, closed session at central committee headquarters in Moscow. When the Soviet leader, Nikita Khrushchev, took the tribune and began to speak, some members of the audience fainted. Others clawed their heads in despair. Most could not believe their ears .
" كان مفاجئاً أن يستدعى المندوبون في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي لجلسة سرية نهائية في قاعة اللجنة المركزية في موسكو . عندما وقف على المنبر القائد السوفياتي نيكيتا خروشتشوف وبدأ الحديث غاب عن الوعي عدد من الأعضاء الحضور . وشد آخرون على رؤوسهم بالأكف محبطين . غالبية الحضور لم يصدقوا أسماعهم "
البروفيسور غروفر فر (Grover Furr) فنّد في كتابه “Khrushchev Lied” كل أكاذيب خروشتشوف في خطابه المذكور، لكنني هنا أتوقف عند أكذوبتين وقحتين تدحضان كل أكاذيب خروشتشوف في خطابه السري المهرّب، تساوقا مع مبدأ ستالين الذي يقول .. "الحقيقة يحرسها جيش من الأكاذيب" .

أستطيع هنا أن أزعم أن من كتب الخطاب لخروشتشوف يعرف ستالين أكثر من خروشتشوف الغبي الذي لا يحسن الكتابة ولذلك هو أطلق جيشاً من الأكاذيب كي يلغي حقيقة كبرى يعرفها العدو قبل الصديق وهي "إنكار الذات"، الإنكار الذي لم يتعرف العالم على مثيل له حتى في ماركس وفي لينين رغم أنهما مثال في إنكار الذات .
رحل ستالين عن هذا العالم دون أن يترك خلفه من متاع الدنيا متاعاً ذا قيمة، جاكتين رثين لم يصلحا لعرض جثمانه على المودعين وسروالين وغليونين . لم يتمتع بحياة عائلية فزوجته انتحرت لأنه لم يمنحها العناية الكافية كما انتقد نفسه أثناء تشييع جثمانها وظل يزور قبرها كل عام حتى رحيله . لم يوافق على استبدال ابنه البكر ياكوف بجنرال ألماني بسبب الفرق في الرتبة ولما أعادت القيادة المعاملة ليوافق على المبادلة لأن الكابتن ياكوف ابن القائد ستالين ؛ لم يوافق ستالين وعلل الرفض بالشرح على المعاملة "كلهم أبنائي" . وفي رسالة لوالدته يعتذر ستالين قائد الدولة الأعظم عن أنه لا يملك أكثر من 120 روبلاً يرسلها إليها وإن لم تكفها النقود فلتخبره بيتدبر الأمر !! وعندما توفي لينين أقسم فوق جثمانه أن التراب لن يغطي وجه لينين ليبقى مزاراً يقتبس منه الزوار من مختلف أركان الأرض قبس الثورة، وطلب أن تيقى صورة لينين تتصدر دواوين الدولة وليس صورته ومات ستالين وصورة لينين فوق رأسه في مكتبه . وكتب لأحد المواطنين الذي كان قد كتب في إحدى الصحف أنه على استعداد لأن يضحي بنفسه من أجل ستالين، ليقول له بأن عليه أن يحترم نفسه ولا يضحي بها من أجل أشخاص مهما علا شأنهم . كان ستالين وزيراً في أول وزارة شكلها لينين في 7 نوفمبر 1917 وفي العام 1922 حل محل لينين في قيادة الحزب والدولة وظل يقضي كل أعماله ماشياً على قدميه ولم يركب السيارة إلا بعد أن اتخذت قيادة الحزب قراراً يقضي بوجوب تنقل الأمين العام للحزب بمركبة محروسة بعد أن جرت محاولة لاغتياله في العام 1928 . كان ستالين في نهاية العشرينيات وبداية الثلاثينيات يسافر في القطار إلى الجمهوريات الأسيوية البعيدة وهو القائد الأعلى للإتحاد السوفياتي يحث الفلاحين للإيفاء بالتزاماتهم بحصة الدولة القانونية من إنتاجهم الزراعي وكان حيثما ينام، كما كتب رئيس الوزراء مولوتوف، يعلق وجه لينين الشمعي مضاءً فوق رأسه – مثل هذا الطقس ينفي وحده كل ادعاء بطقوس عبادة الذات . أثناء توجهه بالقطار إلى برلين لحضور مؤتمر بوتسدام أبرق إلى جوكوف الحاكم العسكري لبرلين يطلب إليه عدم تنظيم أي استقبال له لأن ذلك يؤذي مشاعر الشعب في ألمانيا وكان كل من الرئيس الأميركي ترومان ورئيس الوزراء تشيرتشل قد استقبلا في برلين باستقبال عسكري مهيب رغم أنهما لم يشاركا في فتح برلين . وأثناء المؤتمر في بوتسدام صاح بتشيرتشل يقول .. " أنا أعلم أنك ما جئت إلى هنا إلا لتأخذ نصيبك من غنائم الحرب أما أنا فلم آتِ إلى هنا إلا لأدافع عن حقوق الشعب الألماني الديموقراطية " – كيف يمكن هنا اتهام ستالين بطقوس عبادة الذات وهو بتسامح بكل آلامه المريرة بسبب الجرائم الفظيعة التي اقترفها الألمان بحق الشعوب السوفياتية .
الحادثة الأبرز التي تقطع بأن أحداً في تاريخ البشرية لا يماثل ستالين في إنكار الذات كانت في عودته من بوتسدام إلى موسكو مع بداية آب أغسطس 45 للإحتفال بانتصار الاتحاد السوفياتي التاريخي في الحرب، وحين هتفت جموع رجال الحزب والدولة والجيش في قاعة الأعمدة الكبرى في موسكو .. " مرحى للرفيق ستالين صاحب النصر الأعظم ! " لم يستقبل الرفيق ستالين الهتاف ولم يشرب النخب، فظن الحضور أن ستالين لم يسمع الهتاف، فأعادوا الهتاف مرة أخرى لكن ستالين لم يشرب النخب مرة أخرى ؛ إذاك قال الرفيق ستالين .. "أريد أن أصحح لكم أيها الرفاق .. ستالين ليس هو صاحب النصر الأعظم بل الشعب الروسي العظيم هو صاحب النصر الأعظم " اشربوا معي نخب الشعب الروسي صاحب النصر الأعظم " . كان ستالين قاسياً جداً بحق نفسه كما وصفه تشيرتشل . ليس مثل هذا الشيوعي المثال هو من يمارس طقوس عبادة الذات (Cult of Personality) وهي التهمة التي ترتكز عليها مختلف الإتهامات الأخرى . كانت القضية التي شغلت وحدها مختلف نشاطات ستالين طيلة عمره هي قضية العمال قضية الإنتقال إلى الشيوعية . لم يورث ستالين غير "دولة اشتراكية عظمى محل فخر كافة السوفياتيين" ؛ هذا ما أكده خروشتشوف نفسه في خطابه يفتتح المؤتمر العام الاستثنائي للحزب الشيوعي في فبراير شباط 59 .

يحرص المطلقون للثورة الشيوعية أن ينسبوا جرائم ستالين المزعومة لنوازع شخصية لستالين نفسه حيث أن افتراضها لأسباب ثورية اقتضتها الثورة الشيوعية لا يعود لحكم التجريم المعنى المقصود وهو إدانة ستالين المبرر الوحيد لطلاق الثورة الشيوعية . لذلك ينسب المطلقون للثورة الشيوعية إغراق ستالين بالدموية لحرصه الشديد على التخلص من منافسيه على القيادة .
التحقيق الذي أمر به خروشتشوف لكشف جرائم ستالين وجد أن مجموع الذين تم إعدامهم لأسباب سياسية بلغ أقل من 125 ألفاً ما بين 1922 حين تولى ستالين القيادة و 1953 حين رحيله أو الأحرى ترحيله . ففرضاً لو أن مجموع الذين نافسوا ستالين على القيادة بلغ 5 آلاف فما علة قتل الآخرين 120 ألفاً !؟
في التحقيقات التي أمر بها خروشتشوف لم يجد المحققون محاكمة واحدة يعتورها أدنى شبهة بمخالفة قانونية . التحولات الإجتماعية العميقة التي تمت في مجتمعات روسيا القيصرية وهي أكثر المجتمعات الأوروبية تخلفاً للوصول إلى أرقى المجتمعات في العالم كان سيقتضي أكثر من مائتي او ثلاثمائة ألف إعدام سياسي . لربما أُعدم في أميركا مثل هذا العدد في نفس الفترة دون أدنى تغيير اجتماعي علماً بأن عدد سكان روسيا القيصرية كان ضعف سكان الولايات المتخدة .
البولشفي الأرفع يوسف ستالين سيضيف إلى إنجازاته العظمى لخير وسعادة البشرية إنجازاً جديداً وهو فضح خيانة أولئك المتزاحمين أمام باب الخروج من الثورة الشيوعية فيتحداهم بأن يجدوا خطأُ واحداُ أو مخالفة واحدة للقانون وللأعراف الشيوعية السائدة اقترفها ستالين ؛ بل وأن يجدوا تجاوزاً واحداً فقط لقرارات المكتب السياسي للحزب .
نعم، خطأ واحد مهما كان هامشياً وصغيراً يصلح لتبرير طلاق الثورة الشيوعية والخروج من بيت الثورة الشيوعية، من بابها الذي بات وحيدا وهو باب شيطنة ستالين .
الماركسية إنما هي في التحليل الأخير القراءة العلمية الموضوعية للتاريخ، وستالين كان فارساً في القراءة الماركسية اللينينية للتاريخ ولذلك كان آخر ما كتب في مفكرته يقول .. " سيهيلون على قبري زبالتهم الكثيرة غير أن الرياح كفيلة بأن تذرو بها بعيدا " .
أيها الرفيق المعلم ستالين، الخونة كلهم زبالة والتاريخ يلفظ الزبالة إلى مزابله !!