العثرة الثانية على الطريق إلى الشيوعية


فؤاد النمري
الحوار المتمدن - العدد: 6074 - 2018 / 12 / 5 - 19:16
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

العثرة الثانية على الطريق إلى الشيوعية

تمثلت العثرة الأولى في صعوبة نظرية التطور الإجتماعي (الماركسية) على الأفهام حيث اعتمد ماركس في كتابة نظريته على فلسفته المادية الديالكتيكية التي تشرح نفاذ القانون العام للحركة في الطبيعة في المجتمعات البشرية عبر الزمان والمكان .
أما العثرة الثانية فقد تمثلت في أن متثاقفي البورجوازية الوضيعة كانوا الأسبق لتبني الماركسية رغم أنها تقضي بهلاك البورجوازية الوضيعة بمختلف أطيافها، لكن متثاقفي البورجوازية الوضيعة بجميع نحلهم ليس لهم أي مستقبل في النظام الرأسمالي ؛ فالرأسماليون لا يحتاجون ثقافتهم في إنتاج وتسويق إنتاجهم وليسوا على استعداد لأن ينفقوا سنتيماً على إنتاج الثقافة .

في ثمانينات القرن التاسع عشر شكل عدد من المثقفين الروس في جينيف – سويسرا منظمة باسم "مجموعة تحرير العمل" ذات التوجه الماركسي كان منهم جيورجي بليخانوف وبافل أكسلرود . نقلت هذه المجموعة الماركسية إلى الإنتلجنسيا الروسية والتي شكلت بدورها الحزب " الديموقراطي الإجتماعي" في العام 1894 . اجتمع في هذا الحزب تياران متباينان، تيار يتزعمه بليخانوف ولينين يدعو إلى الثورة الإشتراكية يقودها العمال، وتيار آخر معاكس يؤمن بالتطور السلمي الإقتصادي من أجل تحسين شروط العمل , ذلك ما أدى بعد أربع سنوات فقط، أي في العام 1898، إلى تشكيل تيار بليخانوف – لينين "حزب العمال الإشتراكي الديموقراطي" في روسيا وكان حزب "البوند" حزب العمال اليهود من المشاركين في الإجتماع التأسيسي لهذا الحزب الذي سمي فيما بعد بالحزب الشيوعي البولشفي .
في العام 1901 كتب ستالين أطروحته تحت عنوان "الواجبات الملحة للحزب الإجتماعي الديموقراطي" يؤكد فيه ما كان قد أكده ماركس وهو أن "تحرير العمال يتوجب أن يقوم به العمال بأنفسهم" ؛ وأن النضال السلمي من أجل تحسين شروط العمل لن يؤدي إلى نتيجة بالإضافة إلى أنه يساعد قوى السلطة الرجعية في قمع قوى التقدم . ولذات السبب كتب لينين في العام التالي (1902) كتابه الشهير "ما العمل".

التناقض البنيوي بين العمال الذين يعيشون وعائلاتهم على القيمة التبادلية لقوى العمل في أجسامهم وبين البورجوازية الوضيعة وسائر فرق الإنتلجنسيا منها تعيش على نصيبها من فائض القيمة من خلال مشاركتها الرأسمالي في استغلال العمال، هذا التناقض الذي يفسر العداوة الراسخة بين الطبقتين – العمال والبورجوازية الوضيعة - لا تلغية آو تتجاوزه الخطابات القوية والرنانة . قوى الشكيمة التي وصلت حد إلغاء الذات التي امتلكها آباء الشيوعية ماركس وإنجلز ولينين وستالين هي من قوى الجبارين في الأساطير وليست من قوى البشر . وعليه ليس لنا أن نتوقع أن حزب العمال الإشتراكي الديموقراطي الروسي قد تطهر من النزوعات البورجوازية بمجرد إنشقاقه على الحزب الديموقراطي الإجتماعي . لقد عانى حزب البلاشفة بقيادة لينين من النزوعات البورجوازية لدى المناشفة ومعهم "أبو الماركسية" بليخانوف في المؤتمر العام الثاني للحزب المنعقد في لندن في العام 1903 وقد رفض المناشفة التمييز بين عضو الحزب المكلف بالإعداد والقيام بالثورة الإشتراكية وبين الفرد العادي خارج الحزب غير المكلف بأية مهام سياسية . كما عانى الحزب من النزوع البورجوازي لدى الأممية الثانية عندما قررت في مؤتمرها العام 1912 المشاركة في الحرب الاستعمارية التي ستنشب من أجل إعادة تقسيم الأسواق وهو ما يعني ليس الدفاع عن الأنظمة الرأسمالية الإستعمارية فقط بل ومن أجل ذلك أيضاً أن يقتل الاشتراكي الألماني الإشتراكي الفرنسي والعكس صحيح أيضاً . لذلك انشق البلاشفة على تلك الأممية البورجوازية وأدانوها ومن فيها بالخيانة العطمى ومنهم كاوتسكي وبليخانوف وتروتسكي . عانى حزب البلاشفة كثيراً من النزوع البورجوازي الصارخ لدى تروتسكي منذ دخوله الحزب في ايلول سبتمبر 1917 وحتى طرده في العام 1928 . كان تروتسكي عدو البلاشفة منذ 1903 لكنه انضم لحزب البلاشفة قبل أسابيع قليلة من انتفاضة أكتوبر مستهدفاً أن يكون زعيم البلاشفة بالرغم من أنه ليس بلشفياً . في مارس آذار 1918 رفض أن يوقع معاهدة برست لوتوفسك التي قضت بانسحاب روسيا من الحرب وعاد إلى موسكو يطالب بإزاحة لينين كعميل لامبراطور ألمانيا، وفي المؤتمر العاشر للحزب في 1921 شكل كتلة (يسارية !!) من فلول الفوضويين تعارض سياسات لينين وفي ذكرى الثورة العاشرة شكل مظاهرة في لينينغراد تنادي بإسقاط قيادة الحزب . وهو ما دعا إلى طرد تروتسكي من الحزب ومن البلاد بعد أن قام بأعمال تخريبية . شكل تروتسكي المثقل بالنوازع البورجوازية سلسلة من العقبات المتتالية على طريق الاشتراطية حتى اغتياله بعد أن عمل جاسوسا لمكتب التحقيقات الفدرالية في الولايات المتحدة .
كان من أوائل إهتمامات لينين مقاومة النزوعات البورجوازية في أعضاء الحزب الشيوعي ولذلك اشترط على الأحزاب الشيوعية الأعضاء في الأممية الشيوعية (الكومنتيرن) أن يقوم الحزب دوريا بتطهير صفوفه من عناصر البورجوازية الوضيعة التي تكون قد نجحت في التخلل بين صفوفه، تصفيتها دون اعتبار لموقعها في الحزب . وفيما بععد المؤتمر العاشر في العام 21 أسر لينين لستالين بأن راودته فكرة الإستقالة من الحزب ولما استفسر ستالين عن سبب تلك الفكرة الغريبة قال لينين أن السبب هو أن قيادة الحزب ليس فيها ماركسيون . وفي العام التالي 1922 طلب لينين من قيادة الحزب طرد مائة ألف من أعضاء الحزب الشيوعي تطهيرا للحزب من النزعات البورجوازية . مات لينين في يناير 1924 وترك الحزب في عهدة ستالين وكانت وصيته الوحيدة هي بذل كل شيء في سبيل الحرص على سلامة الثورة وسلامة الثورة تتأتى من سلامة الحزب .
العاصفة المجنونة الهوجاء الني زكمت فضاء العالم وما زالت منذ خطاب العار لخروشتشوف منذ أكثر من 60 عاماً تتحدث عن "جرائم" ستالين في تصفية الحزب . ستالين لم يصفِّ أكثر من بضعة آلاف من أعضاء الحزب كما تستوجب شروط العضوية في الأممية الشيوعية ما بين 1928 – 38 بينما صفى لينين في عام واحد قبل تسلم ستالين لقيادة الحزب أكثر من 20 ألفا . أما الأعضاء الذين تم إعدامهم فقد صدرت بحقهم أحكام بالإعدام لا شبهة فيها من محاكم ذات شأن بمحاكمات علنية .
كان التقصيرالأكبر الذي قصره ستالين هو أنه لم يصفِّ بيريا وخروشتشوف ومالنكوف ولو فعل ذلك قبل أن ينجحوا باغتياله بالسم أثناء العشاء في بيته في 28 فبراير شباط 53 لوفر على العالم شرورا مستطيرة وأرواح الملايين حيث اغتيال ستالين بالسم منع عبور العالم، كل العالم، مرحلة الإشتراكية إلى الشيوعية . ستالين لم يعد شخصاً بعينه بل غدا قائد مسيرة الثورة الشيوعية العالمية المظفرة الذي كان ونستون تشيرتشل يصلي لربه كل صباح لحفظ صحة وسلامة ستالين لأنه القائد الوحيد القادر على صيانة السلم في العالم، وهو القائد الذي آمن به روزفلت القائد الوحيد الذي سيبني عالما يسوده السلام والديموقراطية . إيمان هذين الزعيمين في بريطانيا وأميركا بستالين ما كان ليكون لولا أنهما تحققا من القوة الهائلة التي كان يحركها ستالين في الحرب حتى كان أن اعترف تشيرتشل في رسالة لستالين بتاريخ 6 ابريل 43 تقول .. " أنا أعي بعمق إدراكي أنكم العمالقة ونحن لسنا مثلكم "، وهو ما دعا الرئيس الأميركي الأعظم روزفلت ألا يُستضاف أثناء مؤتمر طهران ديسمبر 43 إلا في السفارة السوفياتية وينام في غرفة قريبة من غرفة ستالين كاسراً بذلك كل الأعراف الدبلوماسية .

ليس هناك من قاوم طبقة البورجوازية الوضيعة (Petty Bourgeoisie) مثل لينين وستالين . فلينين طلب في العام 21 طرد 100 ألف عضو من الحزب الشيوعي لاشتباههم بنزوعات بورجوازية، وفي العام 22 كتب في كتابه "الضريبة العينية" يقول .. "يجب فضح أولئك الشيوعيين الذين لم يدركوا بعد خطورة ما تلعبه البورجوازية الوضيعة على المستوى الإقتصادي والسياسي فهي اليوم العدو الرئيسي للإشتراكية – مؤكدا على كلمة الرئيسي " . وتصفيات ستالين لعناصر البورجوازية الوضيعة التي كانت قد نجحت في التسلل بين صفوف الحزب فكانت الصيحة الأعلى في النصف الثاني من القرن العشرين وحتى اليوم , مع كل ذلك استطاعت البورجوازية الوضيعة أن تستولي على الدولة، دولة دكتاتورية البروليتاريا، وتلغيها في العام 61 ساعدها في ذلك العدوان الهتلري الغاشم بالدرجة الأولى حيث اضطر الإتحاد السوفياتي إلى التحول إلى اقتصاد الحرب المنافي للإقتصاد الإشتراكي لثلاثة عشر عاماً 1938 – 51، وتجنيد 16.5 مليون جندياً من المواطبين السوفييت . وساعدها بالدرجة الثانية اغتيال ستالين على أيدي رفاقه في المكتب السياسي الذين لم يتطهروا من النزوعات البورجوازية .
استولت البورجوازية الوضيعة وقيادتها في الجيش على الدولة حتى قبل أن يتوقف قلب ستالين عن النبض وبدأ خمود الثورة الإشتراكية وقد نشطت المخابرات السوفياتية في إخمادها حت كانت النهاية في العام 91 .

ما هو في غاية الأهمية في هذا المقام هو التنبيه إلى أن البورجوازية الوضيعة نهضت تلغي الإشتراكية ليس لتبني الرأسمالية كما يعتقد الكثيرون ومنهم عامة الشيوعيين المفلسين حيث أن البورجوازية الوضيعة هي أصلا ضد الرأسمالية قبل أن تكون هناك اشتراكية وقد نبّه ماركس وإنجلز إلى ذلك في الفصل الأول من البيان الشيوعي وقالا أن البورجوازية الوضيعة (Lower Middle Class) تقاوم الرأسمالية كما ستقاوم الإشتراكية لأن كلا النظامين يقضيان بتحويلها إلى بروليتاريا وهو ما تقاومه .
لهذا تحديدا وصفنا ردة البورجوازية الوضيعة السوفياتية على الثورة الإشتراكية إنما هو الهروب من الاستحقاق الإشتراكي نحو الفوضى، فوضى الإنتاج، ليس إنتاجاً رأسمالياً وليس إنتاجاً إشتراكياً، وليس بين البينين بل هو الفوضى بعينها .
لذلك يتوجب على مختلف السياسيين من كل الأطياف ألا يهربوا من حقيقة العصر وهي عصر فوضى الهروب من الاستحقاق الإشتراكي حيث الحقيقة الراسخة في التاريخ هي أن التاريخ لا يعود إلى الخلف فيعود العالم إلى النظام الرأسمالي .