العثرة الأولى على الطريق إلى الشيوعية


فؤاد النمري
الحوار المتمدن - العدد: 6070 - 2018 / 12 / 1 - 17:31
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

العثرة الأولى على الطريق إلى الشيوعية

بعد أن كتبت عن تعثر العمل الشيوعي في لبنان والعراق كمثالين على العثرات على الطريق إلى الشيوعية أبدأ اليوم الكتابة عن سلسلة العثرات على الطريق إلى الشيوعية بدءاً بالعثرة الأولى التي يجسدها عسر نظرية التطور الإجتماعي (الماركسية) على الأفهام .
فأن يعي الشيوعيون هذه السلسلة من العثرات على الطريق إلى الشيوعية التي كان قد رسمها ماركس وإنجلز في العام 1848 في خريطة المانيفيستو ذلك من شأنه أن يعيد رسم الطريق إلى الشيوعية بحبر مميّز ويُيسّر فهم الخريطة الماركسية على الشيوعيين الخُلّص .

في يناير 1848 رسم كارل ماركس ورفيقه فردريك إنجلز خريطة الطريق إلى الشيوعية في البيان الشيوعي (Manifesto) وقصرا عبور الطريق على العمال وأهابا بالعمال في العالم لأن يتحدوا (يا عمال العالم إتحدوا فلن تفقدوا إلا أغلالكم !!) للقيام بالثورة الإشتراكية عبوراً للشيوعية حيث لم يعد هناك تقسيم للعمل وأدنى استغلال للإنسان . إلا أنه حتى عمال غرب أوروبا وهم الأكثر إنخراطا في الإنتاج الرأسمالي والأكثر عرضة للإستغلال والإدراك بالتالي لقضيتهم إلا أنهم مع ذلك لم يستطيعوا ترسّم الطريق إلى الشيوعية . لم يكن ذلك بسبب الجوع والجهل فقط بالرغم من أثرهما الكبير في هذا السياق بل لأن خريطة الطريق إلى الشيوعية، المانبفيستو، رُسمت بحبر فلسفي مركب من ألغاز كثيرة وصعبة . ذلك هو فلسفة "المادية الديالكتيكية" التي ترسم القانون العام للحركة في الطبيعة، النافذ بكل أشياء الطبيعة ومنها المجتمعات البشرية، وهو سر وجود الطبيعة سواء بشكلها الحالي بالقدر الذي نعرفه أم بمختلف أشكالها المستقبلية التي لا نعرفها . ما كان لكل علماء الطبيعة في مختلف حركاتها الميكانيكية والحرارية والكيماوية والنووية إكتشاف قانون المادية الديالكتيكية قبل أن يكون هناك رجل عبقري بصورة إستثنائية هو كارل ماركس يدرس الفلسفة بصورة استثنائية عكس مشيئة والده رجل القانون في جامعة استثنائية يدرس الفلسفة فيها جيورجي هيجل فيلسوف الديالكتيك المثالي، وبجانب ذلك كله هناك النظام الرأسمالي يخيم على ألمانيا وكل غرب أوروبا وهو النظام الذي كشف أستار هذا القانون العام في الطبيعة . العمال لا يجيدون القراءة فما بالك بقراءة الفلسفة التي فسرت ما يعانون من استغلال وفقر . بل حتى من نقلوا فلسفة المادية الديالكتيكية بلغة ثورية من شيوعيين يحسنون مثل هذه اللغة أو من غيرهم من المثقفين لم يحسنوا فهم المادية الديالكتيكية ؛ فهناك شيوعيون قضوا عمراً في العمل الشيوعي ما زالوا يعتقدون أن كارل ماركس لم يضف شيئاً إلى ديالكتيك هيجل من غير ترديد عبارة أن ماركس قلب ديالكتيك هيجل إلى الوقوف على القدمين بدل الرأس دون أن يدركوا الفرق النوعي في الحالتين علما بأن ماركس نفسه كان قد كتب في خاتمة الطبعة الألمانية الثانية لكتاب رأس المال الجزء الأول 1873 يقول .. "ديالكتيكي ليس فقط لا علاقة له بديالكتيك هيجل بل هو ضده" . ديالكتيك هيجل تأسس على ديالكتيك سقراط بعد تطويره (Elaboration) بينما ديالكتيك ماركس هو قانون فيزيائي كوني (Geophisical Law) . ديالكتيك هيجل يعالج منهج فكري يخص الإنسان المفكر دون سائر الأشياء بينما ديالكتيك ماركس هو قانون نافذ في كل أشياء الطبيعة بل هو سبب وجودها وسبب اندثارها .
الصراع الطبقي وهو المحور الرئيسي الذي تدور حوله الطريق ألى الشيوعية المرسوم في المانيفيستو لم يدرك كنهه أو حدوده حتى كبار القوم في الأحزاب الشيوعية . لم يدرك هؤلاء أن الطبقات المختلفة مضطرة وفقاً لتقسم العمل في المجتمع أن تتبادل منتوجاتها الضرورية جميعها للحياة ؛ ففي التبادل تتمثل المعركة الأشد هولاً للصراع ؛ العمال يصارعون الرأسماليين في مبادلة قوى العمل في أجسامهم بالأجور التي يتعين على الرأسمالي أن يدفعها قبل وصول العمال إلى المصنع والبدء بالعمل . الفلاحون يصارعون العمال والرأسماليين في مبادلة إنتاجهم من الغذاء بمختلف البضائع الصناعية التي يحتاجونها في معاشهم . الصراع الطبقي يبلغ أشده في السوق وليس في المصنع كما يقصر ساحته سائر الشيوعيين .

بعد ربع قرن من صدور البيان الشيوعي تبين أن عمال باريس في مركز رأسمالي متقدم لم يقرأوا المانيفيستو ولم يفهموا منه جوهر وظيفتهم الثورية فكانت النهاية المفجعة المأساوية لكومونة باريس 1871 . ذللك ما دفع ماركس إلى أن يحل الأممية الأولى في العام 1873 وقد تحقق بأم عينيه أن العمال حتى في غرب أوروبا لم يرتق وعيهم إلى مستوى الثورة الإشتراكية . ما هو جدير بالملاحظة هنا أيضاً هو أن ماركس ورفيقه إنجلز وهما نبيّا الثورة الشيوعية ورائداها عزفا عن تشكيل أي تنظيم شيوعي بعد حل الأممية الأولى في العام 1873 وحتى العام 1889 حين لاحظ إنجلز أن أحزابا إشتراكية ذات وزن قامت في العديد من بلدان أوروبا الغربية، فدعا حينذاك إلى تشكيل الأممية الثانية . عقد الإجتماع التحضيري في باريس في الرابع عشر من يوليو تموز 1889 وحضره 24 وفدا منها 22 وفدا من الدول الأوروبية بالإضافة إلى الأرجنتين والولايات المتحدة . أما الإجتماع التأسيسي فقد عقد في بروكسل في 16 أوغست آب 1891 وحضره موفدون من 15 دولة أوروبية فقط ووفد من الولايات المتحدة .

كان من المسلم به أن جميع الوفود التي حضرت المؤتمر التأسيسي في العام 1891 ترفع راية الماركسية خاصة وأن رئيس الأممية ومؤسسها هو فردريك إنجلز . توفي إنجلز في العام 1894 ولم يحضر المؤتمر الرابع للأممية حيث عقبه في الرئاسة كارل كاوتسكي . في المؤتمر السابع المنعقد في شتوتغارت في العام 1907 اتخذ المؤتمر وباقتراح من لينين قراراً يقول في حالة قيام حرب استعمارية بين الدول الرأسمالية يتوجب على العمال والقوى الإشتراكية أن تستولي على السلطة في البلدان المتحاربة وتستعيد السلام والأمن لشعوب تلك الدول . لقد مثل ذلك القرار نصراً كبيراً للبلاشفة بقيادة لينين . في المؤتمر التاسع المنعقد في بازل/سويسرا في العام 1912 اتخذت الأممية قراراً يلغي قرار مؤتمر شتوتغارت ويقول على الأحزاب الإشتراكية أن تدافع عن الوطن بوجه الأعداء وهو ما يعني قيام الحزب الإشتراكي بالدفاع عن الدولة البورحوازية الرأسمالية في الوطن . العضو الوحيد الذي رفص ذلك القرار واعتبرة ليس إلغاءً لقرار مؤتمر شتوتغارت 1907 فقط بل خيانة لبروليتاريا العالم أيضاً، هو حزب البلاشفة بقيادة لينين ولذلك انسحب البلاشفة من الأممية الخؤون وانفصلوا نهائيا عن المناشفة الذين حافظوا على عضويتهم في الأممية الثانية . وهكذا ثبت بالدليل الحي والقاطع أن أحزاب الإشتراكيين الديموقراكيين في أوروبا التي قامت أصلاً كممثلة للعمال لم تكن تقرأ الماركسية قراءة صحيحة باستثناء حزب البلاشفة حيث كان لينين قائدهم هو الوحيد الذي يقرأ الماركسية قراء صحيحة على حقيقتها . انهارت الأممية الثانية بقيادة المرتد كاوتسكي في العام 1916 وبالمقابل نجح البلاشفة بقيادة لينين باعلان الثورة الإشتراكية العالمية في العام 1917 . وهكذا لم يعرف العالم شيئاً من الماركسية إلا من خلال القراءة اللينينية، ولم يعرف العالم شيئاً من اللينينية إلا من خلال قراءة ستالين لها . في العام 1914 كتب لينين يقول .. "بعد نصف قرن ليس هناك بين الماركسيين من يفهم الماركسية"، قال هذا بوجه كاوتسكي قائد الأممية الثانية، الوريث الشرعي لكل إرث الماركسية، وبوجه بليخانوف الذي كان يوصف في روسيا ب "أبو الماركسية" .
ليس من أسف يعادل أسفنا ونحن اليوم نضطر، بعد انهيار مشروع لينين في الثورة الإشتراكية العالمية وقد انتصرت فيما يوازي نصف المعمورة، لإستعادة حكمة لينين في العام 1914 ونؤكدعلى أن "بعد قرن ونصف القرن ليس هناك بين الماركسيين من يفهم الماركسية" .
سيزعق في وجهنا غضباً واستنكاراً أدعياء الماركسية الذين لم يقرأوا ماركس قراءة صحيحة، لكن ما حجتهم وقد وافقوا على الإحتفاظ باقتصاد الحرب عندما وافقوا على إلغاء الخطة الخمسية الخامسة في سبتمبر ايلول 1953 التي ألغت اقتصاد الحرب لصالح الإقتصاد السلمي الإشتراكي . وما حجتهم في السكوت على طرد سبعة أعضاء من الكتب السياسي للحزب من مجموع تسعة أعضاء في يونيو حزيران 1957 وهو أمر مخالف للقانون وللنظام الحزبي . وتنعدم كل حجة لهم في موافقتهم على إلغاء دولة دكتاتورية البروليتاريا كما أعلنت عصابة خروشتشوف في مؤتمر الحزب الثاتي والعشرون في العام 1961 ، ودكتاتورية البروليتاريا هي الدمغة الوحيدة المميزة للنظام الإشتراكي كما أكد ماركس في نقده لبرنامج غوتا ؛ وزاد خروشتشوف أن شرع في نفس المؤتمر مبدأ المرابحة في الدورة الاقتصادية في الإتحاد السوفياتى . لم يبق ما هو اشتراكي في الاتحاد السوفياتي في ستينيات القرن الماضي وما بعدها . سكت هؤلاء المتمركسون غصباً عن ماركس دون أن يصدر عنهم أي معارضة أو إحتجاج وكان ما يقطع في عيبهم هو أن خروشتشوف قائد الردة على الاشتراكية كان أول المعترضين .
سيعترف هؤلاء مثلما اعترف خروشتشوف أنهم لم يجرؤوا على معارضة جنرالات الجيش ؛ نحن نعلم ذلك مسبقاً ولذلك جردناهم من الإنتساب لماركس . عشرات الملايين من المواطنين السوفياتيين ضحوا بأرواحهم دفاعاً عن النظام الإشتركي دون أن يكونوا ماركسيين أو ماركسيين على قدر هؤلاء القوم الجبناء أمام العسكر وقد فشلوا في أن يتمثلوا بهم دفاعاً عن الإشتراكية ؛ فأي حجة تبقى لديهم ليدافعوا عن ذواتهم ؟
جميع الذين ظلوا يعتبرون الاتحاد السوفياتي بلداً إشتراكياً في الستينيات، خليك عن كونه مركز الثورة الإشتراكية، لا ينتسبون لماركس بأدنى نسب . فشل هؤلاء في قراءة ماركس القراءة اللينينية .
خلاصة القول هي أن النظرية التي تحكم التطور الإجتماعي هي نظرية محيطية صعبة على الأفهام ولذلك ما كان ليكتشفها غير عبقري مثل كارل ماركس، وما كان العمال ليتحصنوا بها رغم أنها حصنهم المنيع فتركوا أبوابها مفتوحة لأفاقيّ البورجوازية الوضيعة فسحرت نفراً منهم وركنوا فيها يدافعون عنها حتى الموت مثل لينين وستالين وأنور خوجا وتشاوتشيسكو . إنهزم العمال بعد نهاية النصف الأول من القرن العشرين لأنهم ظلوا خارج حصن الماركسية .
ما من قضية شيوعية اليوم غير دفغ العمال إلى حصنهم المنيع، الماركسية .