لماذا لا تصلح الديموقراطية في المجتمعات الإسلاموية؟ محاولة تفكيك الواقع المتأزم في مصر 3/5


ياسين المصري
الحوار المتمدن - العدد: 5997 - 2018 / 9 / 17 - 00:46
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

-3-

الليبرالية والعلمانية

تختص الليبرالية بالتعامل مع مسألة الحرية، بمعني أن تكون الحرية مطلقة لجميع أفراد المجتمع ما لم ينشأ عن ذلك ضرر حسي مباشر في حق الآخرين، في حين تتعامل العلمانية مع مسألة الحُكم، وهي - في تعريفها الشائع - تعني فصل الدين وتحييده وإبعاده عن حُكم الدولة، وكلاهما من أهم مقومات الديموقراطية الحديثة.
لاجدال في أن المفكرين الأحرار وغير المأدلجين والواقعيين في جميع أنحاء العالم وفِي كل العصور يبحثون دائمًا عن أفضل السبل لعيش البشر مع بعضهم البعض في أمان وسلام. ويَرَوْن أن علاقة البشر ببعضهم البعض لا يمكن أن تحددها تعاليم ميتافيزيقية غيبية صادرة عن إله لا يوجد بينهم، وبواسطة أنبياء ورسل مزعومين وأشخاص موتورين يزعمون أنهم يحملون كلمته ليحجروا بها على حياة البشر أو يدمِّرونها. لذلك توصلوا إلى ضرورة فصل الدين عن الثقافة العامة والسياسة، أي فصل الدين عن الدولة في إطار ممنهج لليبرالية العلمانية التي ترتبط عادةً بـالحرية والمساواة الاجتماعية، وبذلك يقع الدين دائمًا على الطرف المعاكس؛ بحيث تصبح جميع التقاليد والأفكار والتعليمات الدينية الميتافيزيقية مجرَّدة من السلطة الملزمة لأفراد المجتمع، حتى أن بعض المفكرين من أنصار الليبرالية العلمانية مثل ريتشارد دوكينز وكريستوفر هيتشنز وسام هاريس يَرَوْن إلغاء الدين من التعليم أو حتى إعلان أن تدريسه أمر غير قانوني أو بمثابة إساءة للأطفال.


الليبرالية في عمومها هي اتجاه وفكر سياسي واقتصادي يدعو إلى حرية الفرد الكاملة في اختيار نمط حياته الخاصة وإيمانه بالمعتقدات وإبداء الرأي بدون التعدي على الآخرين، أي أنها تخلِّصه من القيود التي تفرضها عليه مؤسسات الدولة السياسية والدينية، إضافة إلى التحرر التجاري والإقتصادي وعدم تدخل تلك المؤسسات إلّا في أقل الحدود.
أمَّا العلمانية بفهومها الإصطلاحي تعني فصل المعتقدات الدينية عن الحياة العامة وسياسة إدارة الدول، وعدم إجبار أي إنسان على تبنّي دين أو مُعتقد معيّن، مع ضرورة الاعتماد على البحث العلمي المجرد في تحليل المشاكل الاجتماعية والتعامل معها واستبعاد الآراء الدينية عن ذلك. والتأكيد على رفض التدخل في حياة الفرد من قبل المؤسسات الدينية، حيث تبدأ مهمة الدين داخل دور العبادة وتنتهي مع الخروج منها. وقد كان الكاتب الإنكليزي جورج هوليوك (1817 - 1906) أول من أشار إلى هذا المصطلح في عام 1851 في كتابه:
Holyoake, G.J. (1896). Origin and Nature of Secularism, London: Watts & Co., p.50
دون تفاصيل محددة لمعالمه، ولكنه ذهب إلى أن العلمانية تتصدَّى للفكر الديني المتكلس وتدعم العلم والقوانين الوضعية كأساس للحياة العامة وتستبعد كل ما يتعلق بالدين والغيب واختصاره بعلاقة خاصة تربط الإنسان وربه ولا تتجاوز ذلك. 
ولعل أبرز التطورات الجديدة في الليبرالية المعاصرة هو ” ليبرالية العولمة ” ومن دلالتها الفكرية : التخفيف من التدخل الحكومي في انتقال المال عبر الحدود والأسوار السياسية، وذلك لتحقيق أعلى الأرباح، مما جعل الاقتصاد وسيلة سياسية للسيطرة، وتسبب في نقل الثقافات الحضارية بين الأمم، وأصبح الأقوى اقتصادياً هو الأقوى سياسياًّ والأعلى ثقافيًّا، مما قد يتسبب سقوط دول وإضعاف أخرى (دول فاشلة)، إذ إن ليبرالية العولمة تعمل على انتفاء سيادة الدول على حدودها ومواطنيها والوقوف في وجه انتقال الثقافات وتلاقحها، فضلاً عن عدم سيطرتها على النظام الاقتصادي الحر.
وفِي لغة العربان أشتق مصطلح العَلمانية (Secularism) من كلمة عَلَم القادمة من اللغات السامية الشقيقة: السريانية والبابلية واليهودية، لتشير إلى ما هو منتمي إلى العالم أو الدنيا أي دون النظر إلى العالم الروحاني أو الماورائي الغيبي. وفي اللغات الأوروبية أشتق من اليونانية بمعنى “العامة” أو “الشعب”. وفِي معناه الأدق هو نقيض لفكر الإكليروس أو الطبقة الدينية المتحكمة. وفِي العصر الحديث بات المصطلح يشير إلى القضايا التي تهم عامة الشعب بعكس القضايا التي تهم خاصته، أي أنه بشكل عام لا يهتم سوى بالقضايا الأرضية وجدها.
وتقدم دائرة المعارف البريطانية تعريف العلمانية بكونها: “حركة اجتماعية تتجه نحو الاهتمام بالشؤون الأرضية بدلاً من الاهتمام بالشؤون الآخروية. وهي تعتبر جزءًا من النزعة الإنسانية التي سادت منذ عصر النهضة الداعية لإعلاء شأن الإنسان والأمور المرتبطة به بدلاً من إفراط الاهتمام بالعزوف عن شؤون الحياة والتأمل في الله واليوم الأخير. وقد كانت الإنجازات الثقافية البشرية المختلفة في عصر النهضة أحد أبرز منطلقاتها، فبدلاً من تحقيق غايات الإنسان من سعادة ورفاه في الحياة الآخرة، سعت العلمانية في أحد جوانبها إلى تحقيق ذلك في الحياة الحالية” راجع:
Bonnie.، Honig, (2009-01-01). The Oxford handbook of political theory. Oxford University Press. صفحة 636. ISBN 9780199270033. OCLC 474737332.
ولكن هناك تلميحات قديمة للفكر العلماني تعود للقرن الثالث عشر في أوروبا حين دعا مارسيل البدواني في مؤلفه «المدافع عن السلام» إلى الفصل بين السلطتين الزمنية والروحية واستقلال الملك عن الكنيسة في وقت كان الصراع الديني والدينيوي على أشده بين بابوات روما وبابوات أفنيغون في جنوب فرنسا. راجع :
"Think Tank Will Promote Thinking" نسخة محفوظة 29 أكتوبر 2017 على موقع واي باك مشين.

وخلال عصر النهضة في أوروبا كتب الفيلسوف وعالم اللاهوت غيوم الأوكامي (1287 - 1347) حول أهمية: “فصل الزمني عن الروحي، فكما يترتب على السلطة الدينية وعلى السلطة المدنية أن يتقيدا بالمضمار الخاص بكل منهما، فإن الإيمان والعقل ليس لهما أي شيء مشترك وعليهما أن يحترما استقلالهما الداخلي بشكل متبادل". راجع :
"The three types of secularism". http://www.patheos.com
غير أن العلمانية لن تنشأ كمذهب فكري وبشكل مطرد إلا في القرن السابع عشر، ولعلّ الفيلسوف الهولندي باروخ إسبينوزا (1632- 1677)، كان أول من ركز عليها وعمَّق مفهومها، إذ قال أن الدين يحوّل قوانين الدولة إلى مجرد قوانين تأديبية. وأشار أيضًا إلى أن الدولة هي كيان متطور وتحتاج دومًا للتطوير والتحديث على عكس شريعة ثابتة موحاة. ورفض إسبينوزا اعتماد الشرائع الدينية رفضًا مطلقًا، مؤكدًا على أن قوانين العدل الطبيعية والإخاء والحرية هي وحدها مصدر التشريع بين البشر.
https://www.theguardian.com/commentisfree/belief/2011/jul/07/secularism-neutrality-religion-atheism
الحقيقة أن إسبينوزا عاش في هولندا، حيث كانت أكثر دول العالم حرية وانفتاحًا آنذاك. ومنذ استقلالها عن إسبانيا، طوّر الهولنديون قيمًا جديدة، وحوّلوا اليهود ومختلف الأقليات في بلدهم إلى مواطنين يتمتعون بحقوق كاملة، وساهم جو الحريّة الذي ساد بينهم في بناء إمبراطورية تجارية مزدهرة ونشوء نظام تعليمي متطور. إن نجاح الفكرة العلمانية في هولندا، وإن لم تكتسب هذا الاسم، أدَّى - بحسب رأي عدد من الباحثين ومن بينهم كارن أرمسترونغ - إلى تطور الفكرة العلمانية وتبينها كإحدى صفات العالم الحديث.
وكتب الفيلسوف الإنكليزي جون لوك 1704 - 1632)) عن العلمانية، يقول: “من أجل الوصول إلى دين صحيح، ينبغي على الدولة أن تتسامح مع جميع أشكال الاعتقاد دينيًا أو فكريًا أو اجتماعيًا، ويجب أن تنشغل في الإدارة العملية وحكم المجتمع فقط، لا أن تنهك نفسها في فرض هذا الاعتقاد ومنع ذلك التصرف. يجب أن تكون الدولة منفصلة عن الكنيسة، وألا يتدخل أي منهما في شؤون الآخر. هكذا يكون العصر هو عصر العقل، ولأول مرة في التاريخ البشري سيكون الناس أحرارًا، وبالتالي قادرين على إدراك الحقيقة”. راجع:
النّزعات الأصوليّة في اليّهوديّة والمسيحيّة والإسلام، كارين آرمسترونغ، دار الكلمة، دمشق 2005، ص.102
ومن ناحيته صرَّح الرئيس الثالث للولايات المتحدة توماس جيفرسون (4 مارس، 1797 - 4 مارس، 1801)، بقوله،:“إن الإكراة في مسائل الدين أو السلوك الاجتماعي هو خطيئة واستبداد، وإن الحقيقة تسود إذا ما سمح للناس بالاحتفاظ بآرائهم وحرية تصرفاتهم”.
يمكن القول بأن العلمانية ليست أيديولوجية أو عقيدة بقدر ما هي طريقة للحكم، ترفض وضع الدين أو سواه كمرجع رئيسي للحياة السياسية والقانونية، إذ تتجه مباشرة نحو الاهتمام بالأمور الحياتية للبشر بدلاً من الأمور الآخروية، أي الأمور المادية الملموسة بدلاً من الأمور الغيبية.
وإذا نظرنا إلى الديمقراطية على أنها حكم الأغلبية دون الاهتمام بحريات الأفراد، فيما يُعرف بالديمقراطية اللاليبرالية، فإنها بهذا المعنى الضيِّق لا تقتضي فصل الدين عن الدولة بالضرورة بل تعتمد فقط على اختيار أغلبية الشعب التي قد تكون دينية أو لادينية. وإذا أدخلنا حرية التعبير اللازمة لمنافسة عادلة للمعارضة السياسية في تعريف الديمقراطية، فسوف يتطلب ذلك فصل الدين عن الدولة بما يسمح بحرية للسياسيين والمفكرين العلمانيين والأفراد بالتعبير عن آرائهم السياسية بلا قيود دينية، بدون هذه الحرية يختل مبدأ الحرية الأساسية للدعاية الانتخابية التي يمكن أن تتضمن ما هو مخالف للدين.
العلمانية لا تتجزَّأ، ولا يجب أن تشكل سوى جزءا ضئيلًا من معنى الليبرالية بحيث تفصل الدين فقط عن الدولة، إذ أن هذا لا يكفي لضمان حرية وحقوق الأفراد، بل لابد وأن تفصل جميع المعتقدات الشمولية عن الدولة سواء كانت دينية أو غير دينية، بحيث لا يحدث انتهاكات لحريات وحقوق الأفراد لأسباب غير دينية كما كان الوضع في حكم ستالين في الاتحاد السوفيتي السابق، وحكم هتلر في ألمانيا النازية، وحكم موسيليني في إيطاليا وغيرهم كثيرين. فالمعنى الأشمل للعلمانية يتمثل بفصل الدين عن الحياة الدنيوية والاهتمام بهذه الحياة على حساب الحياة الغيبية، وضمان تحقيق الحريات والحقوق لفئات المجتمع دون استثناء. إنها إحدى الخيارات السليمة والحتمية التي تتيحها الليبرالية للمجتمعات البشرية، كما تتيح لها أيضا العكس تمامًا وهو الاهتمام بالدين على حساب الحياة لمن يشاء؛ بشرط عدم إرغام الأفراد على أي رأي معيّن بشأن الدين أو غيره.

العلمانية في الدول المتأسلمة
أدرك المفكرون في المنطقة العروبية أن العلمانية هي حركة في اتجاه التحديث، وأن الدولة عندما تلتزم بنهج العلمانية فإنها بذلك تساعد إلى حد كبير في حماية الدين من التدخل الحكومي والشطط الخيالي لرجال الدين، وتحمي سياسة الحكومة من تدخل الدين، بما يحدث بالضرورة بلبلة واضطراب في الفكر والعمل السياسي، ويصيب أفراد المجتمع بالأمراض النفسية والسلوكية.
ومع أن مصطلح العلمانية إنبثق من رحم التجارب الغربية، إلا أنه انتقل إلى القاموس العروبي الإسلاموي، مثيراً جدلاً حول دلالاته وأبعاده. هذا الجدل يعد إفرازاً طبيعياً للاختلافات العميقة في الثقافة والفكر والممارسات العروبية الإسلاموية فيما بينها وفيما هو سائد في البيئة التي أنتجت مفهوم العلمانية، إلَّا أن ذلك لم يمنع المفكرين المستعربين من تقديم إسهاماتهم بشأن تعريفها. فعلى سبيل المثال:
المفكر المغربي د. محمد عابد الجابري يرفض تعريف مصطلح العلمانية باعتباره فقط فصل الكنيسة عن الدولة، ولعدم ملاءمته للواقع العروبي الإسلاموي، ويرى استبداله بفكرة الديموقراطية “حفظ حقوق الأفراد والجماعات”، والعقلانية “الممارسة السياسية الرشيدة”.
في حين يرى الباحث المصري د. وحيد عبد المجيد أن العلمانية (في الغرب) ليست (أيديولوجية) أو (منهج عمل)، وإنما مجرد موقف جزئي يتعلق بالمجالات غير المرتبطة بالشؤون الدينية. ويميز بين “العلمانية اللادينية” - التي تنفي الدين لصالح سلطان العقل - وبين “العلمانية الوسطية” التي تفصل بين المؤسسات الدينية ومؤسسات الدولة مع الحفاظ على حرية المؤسسات الدينية في ممارسة أنشطتها.
وفي المنتصف يجيء د. فؤاد زكريا - أستاذ الفلسفة - الذي يصف العلمانية بأنها الدعوة إلى الفصل بين الدين والسياسة، وفي ذات الوقت يرفض سيطرة الفكر المادي النفعي، ويضع مقابل المادية “القيم الإنسانية والمعنوية”، حيث يعتبر أن هناك محركات أخرى للإنسان غير الرؤية المادية.
ويقف أستاذ الفلسفة المصري د. مراد وهبة، وكذلك الكاتب السوري هاشم صالح إلى جانب “العلمانية الشاملة” التي يتحرر فيها الفرد من قيود المطلق والغيبيّ وتبقى الصورة العقلانية المطلقة لسلوك الفرد مرتكزة على العلم والتجربة المادية وحدهما.
بينما د. حسن حنفي - المفكّر المصري البارز صاحب نظرية اليسار الإسلامي - يتأرجح بين العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة ويرى أن العلمانية هي “فصل الكنيسة عن الدولة” كنتاج للتجربة التاريخية الغربية. ويعتبر أن العلمانية عبارة عن رؤية كاملة للكون تغطي كل مجالات الحياة وتزود الإنسان بمنظومة قيمية ومرجعية شاملة، مما يعطيها قابلية للتطبيق على مستوي العالم، ولكنه من ناحية آخرى، يتحدث عن شي أسماه "الجوهر العلماني للإسلام"، دون تحديد لمعالمه.
أمَّا المفكر اليساري السوداني الخاتم عدلان الذي اعتبر من أبرز المنادين بالعلمانية في المنطقة العربية، يقول: “إن العلمانية تعني إدارة شؤون الحياة بعيداً عن أي كهنوت، كما ظهرت اتجاهات جديدة في تعريف العلمانية مثل التي تنص على أن العلمانية هي استعداد الفرد والمجتمع للاستفادة من خلاصة المنتوج البشري في سبيل تحقيق رفاهيته”.
من الواضح حتى الآن على الأقل أن الحجج التي يقدمها أولئك المفكرون وغيرهم باستحياء لدعم العلمانية تختلف اختلافاً كبيراً، مما يتيح للفكر الديني من ضحدها والتأثير على الأغلبية العظمى من المواطنين الجهلة والسذج ومغيبي الوعي، فعلى أرض الواقع يعلن كثير من العلمانيين المستعربين أنهم يؤمنون بالدين (خاصة الإسلاموي)، ولكن بشكل تحديثي عصري ومتطور متحرك، حيث يتحول الخلاف الرئيس بينهم وبين المعارضين للعلمانية - وجميعه متأسلمين) إلى اختلاف حول طبيعة الإنسان ما بين الثبات والتغير؛ وموقف الشريعة من ذلك ما بين الجمود والمرونة. فيرى العلمانيون أن الإنسان كائن متغير ومن ثم ينبغي أن تكون الأحكام التي تنظم حياته متغيرة، فلا تصلح له شريعة جوهرها الثبات. وأن هذا يعني الحجر على الإنسان والحكم عليه بالجمود الأبدي. بينما يرى المعارضون المتأسلمون أن الإنسان ليس جوهره التغير، وبالرغم من هذا التغير المادي الهائل، الذي حدث في دنياه، لم تتغير ماهيته؛ ولم يختلف جوهره في العصر الذري عن جوهره في العصر الحجري. ويزعمون بأن جوهر الإنسان، ليس ما يأكله أو ما يلبسه أو ما يسكنه أو ما يركبه الإنسان أو ما يستخدمه في حياته اليومية، أو ما يعرفه عن الكون من حوله، أو عما يقدر عليه من تسخير طاقاته للمنفعة الشخصية، ولكن الواقع أن الإنسان في جوهره وحقيقته بقي هو الإنسان، منذ جده الأول (آدم وحواء)، لم تتبدل فطرته، ولم تتغير دوافعه الأصلية، ولم تبطل حاجاته الأساسية، التي كانت مكفولة له في الجنة، وأصبح عليه بعد هبوطه منها أن يسعى لإشباعها. ولذلك فان الإنسان في كل زمان ومكان، لا يستغنى عن هداية الله المتمثلة في وصاياه وتعليماته وأحكامه، لتضبط سيره، وتحفظ عليه خصائصه، وتحميه من نفسه وأهوائها، وهذا يعطي للشريعة الدينية، مهما كانت، خصوصية ثقافية ذات طبيعة كونية، مما يجعل شريعتهم صالحة لكل زمان ومكان، متجاهلين تمامًا أن إنسان الْيَوْمَ لا يمكن أن يكون بأي حال من الأحوال هو إنسان إي عصر من العصور البائدة في فكره وسلوكه ونمط حياته.
وهكذا أحاطوا شريعتهم المفصلة تبعًا لأهوائهم بجمود جوهره الثبات. فصلوا ديانتهم بنصوص هلامية قابلة لأكثر من تفسير، ومحتملة لأكثر من رأي، وليست قطعية الدلالة، بل ظنية الثبوت، وهذا يعطي رجال الدين ـ فرادى أو جماعات ـ فرصة الاختيار والانتقاء، وتقديم الحجة ونقيضها.
جاءت هذه الخصوصية الثقافية الثابتة للشريعة الإسلاموية لتستعمل كأداة حادة ونافذة في يد الحكام ورجال الدين ومؤسساتهم لتبرير استلاب الحريات وشرعنة القمع والاستبداد، فتذهب أن أبواقهم الإعلامية إلى ترويج خطاب يومي تقليدي لهذه الخصوصية، وتتحدث باستمرار عن شعوب غير مؤهلة لممارسة الديموقراطية وأن حقوق الإنسان، خاصة حق الحرية، لا تناسب تراثنا وتقاليدنا، لكونها تقاليد غربية وغريبة عن مجتمعاتنا. هذا رغم أنه لا مشكلة لديهم في العودة إلى الشرعية الدولية عندما تكون في مصلحتهم الخاصة.
وتبقى حقيقة أن الخبرة التاريخية تثبت كل يوم أن الديموقراطية هي الطريق الوحيد والمضمون لنهضة أية دولة تريد أن تنهض من كبوتها في يوم ما.
المقال القادم سيتناول كيفية التلاحم بين السياسة والدين في مصر، والصراع الخفي والمعلن بين رجال السياسة ورجال الدين بهدف السيطرة على مصير البلاد وإذلال العباد.