من ينفي الشيوعية وكيف !؟


فؤاد النمري
الحوار المتمدن - العدد: 5889 - 2018 / 5 / 31 - 23:18
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

من ينفي الشيوعية وكيف !؟

يجب ألا نندهش من أن جماعات بشرية واسعة تنفي الشيوعية وتجهد ضدها فالإنسان قبل أربعين قرناً أو نحواً من ذلك كان فصيلاً أو الأحرى عدة فصائل من مملكة الحيوان وليس لنا أن نفترض اليوم أنه قد تطهّر تماما من غرائزه الحيوانية وهو ينفي الشيوعية حيث عاش منذ بدء التاريخ وحتى اليوم في مجتمعات طبقية لا تتوفر فيها الحياة للإنسان إلا عبر صراع مرير ضد أخيه الإنسان .
لم يبشر ماركس بالشيوعية إلا بعد أن رأى بأم عينية الإنتاج بالجملة (Mass Prodction) يتحقق في النظام الرأسمالي ورأى أنه باطراد تطور قوى الإنتاج المرافق لتقدم حياة الإنسان على الأرض سيثرى المجتمع إلى الحدود التي تمكن الإنسان عندئذٍ من أن يحصل على كل احتياجاته دون مقابل وسيعاف ملكية الأشياء حيث ستكون عبئاً عليه لا فائدة منها . تلك هي الشيوعية .
وهكذا فالقوى الرجعية التي دأبت على استغلال قوى الإنتاج كما هي، وهو ما حال دون تطهرها من خصيصة التوحش الموروثة، لم تجد من وسيلة لنفي الشيوعية سوى محاصرة قوى الإنتاج وتضييق الخناق عليها وهو ما يؤدي إلى إفقار المجتمع فلا تتحقق بشارة ماركس بالشيوعية . ذلك ما كان في طرفي العالم الأكثر تقدما في الاتحاد السوفياتي مركز الإشتراكية وفي الولايات المتحدة مركز الرأسمالية بعد الحرب .

كان من الطبيعي أن تبدأ حملة نفي الشيوعية في موئل الشيوعية وهو الإتحاد السوفياتي . بعد إنتهاء الحرب الأهلية وحروب التدخل في العا 1922 حذر لينين في كتابه "الضريبة العينية" من أخطار العدو الأول لليروليتاريا السوفياتية وهو البورجوازية الوضيعة السوفياتية (Petty Bourgeoisie) ولاحظ لينين بنفس الوقت أن كثيرين من الشيوعيين لا يدركون مثل تلك الخطورة . تلميذ لينين النجيب، كما أحب ستالين أن يكون، عُني بقوة بتعليمات لينين ووجه ضربات بليغة الأثر متلاحقة للبورجوازية الوضيعة السوفياتية . بدأ ذلك بتفكيك سياسات النيب (NEP) مبكراً في العام 1926 وهو ما أوصى به لينين خلافاً لمزاعم "شيوعيي" البورجوازية الوضيعة . وفي الأعوام 1929-31 وجه ضرية ساحقة للفلاحين المالكين للأراضي الزراعية الكبيرة (الكولاك) واستبدل الزراعات الفردية بالزراعة التعاونية (الكولخوز) وهو ما كان مطمح لينين الأكبر في روسيا الزراعية . وفي العام 1937 سحق قيادة الجيش التي مثلت طلائع البورجوازية الوضيعة وخططت لأمور معارضة للإشتراكية . وفي الأعوام 1936-38 كانت حملة التطهير الكبرى للحزب إذ كان لينين يؤكد على تطهير الحزب كل سنة من عناصر البورجوازية الوضيعة التي تكون قد نجحت في التسلل إلى صفوف الحزب . بعد الحرب أكد ستالين أن تلك التطهيرات كفلت للإتحاد السوفياتي الانتصار في الحرب على النازية .
ما أفشل سياسة ستالين الصامدة ضد البورجوازية الوضيعة السوفياتية هو الحرب . ألمانيا النازية المدججة بكل صنوف الأسلحة تقود الفاشية في أوروبا في حرب همجية مفاجئة على الاتحاد السوفياتي بقوة (180) فرقة أي حوالي 3 ملايين جندياً . الخطأ الفادح كان أن الاتحاد السوفياتي لم يكن متحضراً لمثل ذلك الهجوم الغادر الكاسح الأمر الذي اقتضى تكبد خسائر تعدت كل حسابات الحروب . أسوأ ما في ذلك العدوان الجسيم الغادر هو أن البروليتاريا السوفياتية وطليعتها الحزب الشيوعي تحملت معظم الخسائر التي تكبدها الاتحاد السوفياتي في صد الهجوم عند بوابات موسكو .
كانت النتيجة الطبيعية لتلك الحرب الوحشية هي أنها عكست ميزان القوى في المجتمع السوفياتي فيعد أن كان صولجان السلطة بيد البروليتاريا أنتهت الحرب وقد انتقل الصولجان إلى أيدي البورجوازية الوضيعة وطليعتها الجيش . حاول ستالين بخطة ذكية أن يعدل الميزان، وهي الخطة الخمسية الخامسة التي تكرست للصناعات الخفيفة، إلا أن البورجوازية الوضيعة نجحت في اغتيال ستالين وإلغاء خطته في العام 1953 وتحويل كل الاقتصاد إلى الصناعات الحربية .
في الاتحاد السوفياتي لا ينفي الشيوعية غير الصناعات الحربية التي تعمل على إفقار المجتمع وقتل حيوية قوى الإنتاج طالما لا يعود إنتاجها عليها بغير التدمير والقتل . منذ العام 1953 والاقتصاد السوفياتي مكرس لإنتاج الأسحلة وحتى اليوم فقد أعلنت روسيا مؤخراً أنها جربت في سوريا 200 سلاحاً جديداً !! اليوم كل قبائل الأرض تتحارب بأسلحة سوفياتية وروسية . كان الاتحاد السوفياتي قبل الحرب مصنعاً للشيوعية فغدا بعد الحرب مصنعاً للأسلحة . في العام 1961 تبجح خروشتشوف في أن الاتحاد السوفياتي ينتج أكثر مما تنتجه أوروبا الغربية كلها أما اليوم فروسيا مثلها مثل دول العالم الثالث تعيش على تصدير المواد الخام كالنفط والغاز ومجمل إنتاجها السنوي أقل من إنتاج البرتغال مع أن سكانها عشرة أضعاف سكان البرتغال .
الروس ينفون الشيوعية بل وكل أشكال التقدم من خلال إنتاج الأسلحة . أما إلى أي درجة من الانحطاط تنحط البورجوازية الوضيعة الروسية بالمجتمع الروسي فذلك تقرره الظروف الدولية والوعي لدى الشيوعيين الروس .

وكيف تُنفى الشيوعية في الطرف الرأسمالي الغربي، الولايات المتحدة !؟
النظام الرأسمالي كان قد حطم البورجوازية الصغيرة منذ البدء قبل ثلاثة قرون ولم يسمح للبورجوازية الوضيعة أن تأخذ دورا ملحوظاً خلال ترعرعه وازدهاره وحافظ على أدنى حصة من فائض القيمة لإنتاج الخدمات فلم تنفق الإدارة الأمبركية مثلاً في الخمسينيات شيئاً يذكر على التعليم والصحة، وكان التعليم في إنجلترا يعتمد على الأعمال الخيرية في القرن الثامن عشر . ولذلك ظلت البورجوازية الوضيعة في الولايات المتحدة طبقة هامشية رقيقة لا وزن لها . انهيار النظام الرأسمالي في الولايات المتحدة تحديداً لم يتم فقط بسبب حركة الاستقلال العالمية خلال الربع الثالث من القرن العشرين وانسداد مصارف فائض الإنتاج تبعا لذلك في المراكز الكلاسيكية للنظام الرأسمالي، بل كان بصورة رئيسية بسبب حماقة الإدارات الأميركية المتعاقبة بعد الرئيس الأميركي المتميز روزفلت، الحماقة النابعة من الحقد الأعمى على الشيوعية التي تسيدت العالم نتيجة الحرب . ففي أعقاب الحرب مالت شعوب أوروبا للشيوعية كما نقل تشيرتشل إلى ستالين في مؤتمر يالطا وأثنى روزفلت على ذلك لمسرة ستالين . لمقاومة ذلك بدأت إدارة ترومان بخطة مارشال ومساعدة دول أوروبا الغربية بما وصل إلى 12.5 مليار دولار وهي تساوي اليوم أكثر من 500 مليار دولار . وفي طرف العالم الشرقي كانت كل دول شرق آسيا كوريدورات مفتوحة للثورة الشيوعية ولم تجد الإدارات الأميركية الحاقدة الحمقاء من علاج لذلك سوى رسملة تلك البلدان بدءاً باليابان 1951 ثم كوريا الجنوبية والنمور الستة وأخيراً الصين . وهكذا نزح النظام الرأسمالي من الولايات المتحدة إلى شرق آسيا وبات الشعب الأميركي بستهلك قوى العمل الأسيوية . نتيجة تلك السياسات "اللارأسمالية" الحمقاء انهار النظام الرأسمالي في أميركا وليس أدل على ذلك من انهيار الدولار في بداية السبعينيات مما اضطر مؤتمر القمة في رامبوييه 1975 إلى ضمان معدلات صرف عملاتهم وليس قيمة العملة التي هي الدالة الحقيقية على العملية الرأسمالية . انهارت الرأسمالية وآلت السلطة إلى طبقة البورجوازية الوضيعة المتخصصة بإنتاج الخدمات .
طالما نقلت الإدارات الأميركية الحمقاء الصناعة الرأسمالية إلى شرق آسيا بات على العمال في أميركا أن يعملوا في إنتاج الخدمات من أجل أن يتمكنوا من استهلاك المصنوعات الشرق أسيوية مثلما استوجبت خطط نفي الشيوعية . الخلل الهدام في هذه العملية هو أن القيمة الحقيقية التي يدل عليها أجر عامل الخدمات ليست هي قيمة إنتاجه بل قيمة إنتاج عامل آخر ؛ هو لم يضف للأجر الذي قبضه سنتيماً واحداً عكس عامل الصناعة الذي قيمة إنتاجه هي أكثر من قيمة أجره ولذلك يستعيد صاحب الصناعة كامل الأجر مضافاً إليه قيمة زائدة بينما صاحب الخدمة لا يستعيد سنتيماً واحداً ن الأجر الذي دفعه . الخدمات ليست من الثروة ولا قيمة تبادلية لها . لو أن 60% فقط من الإنتاج الأميركي هو من الخدمات وليس 80% لما كانت أميركا مدينة اليوم بعشرين ترليون دولار فائدتها السنوية أكثر ن 500 مليار دولار وأن الفرد الأميركي مدين منذ ولادته بما يزيد عن 60 ألف دولار .

البورجوازية الوضيعة الروسية تنفي الشيوعية عن طريق تعميم إنتاج الأسلحة ؛ والبورجوازية الوضيعة الأميركية تنفي الشيوعية عن طريق تعميم إنتاج الخدمات . كلتا الطريقين يؤديان دون شك إلى إفقار المجتمع . فهل ستسمح الإنسانية لهذا العبث الخالي من كل حس إنساني أن يستمر حتى الموات !!؟