ما بعد الرأسمالية 2 (Post-Capitalism)


فؤاد النمري
الحوار المتمدن - العدد: 5061 - 2016 / 1 / 31 - 17:49
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

ما بعد الرأسمالية (2)
(Post-Capitalism)


بعد عامين من التعذيب الممنهج (1961 – 63) في سجن المحطة في عمان على يد خبير ألماني من بقايا النازية فرضته المخابرات الأمريكية على الحكومة الأردنية لتعذيب الشيوعيين، أعيد الذين صمدوا ولم ينل التعذيب الشديد من عزيمتهم الشيوعية، أعيدوا إلى سجن الجفر الصحراوي في ربيع 1963 . إذّاك فقط تيسر لي أن أقرأ التقرير الذي قدمه الأمين العام للحزب الشيوعي السوفياتي نيكيتا خروشتشوف في المؤتمر العام الثاني والعشرين للحزب الشيوعي 1961 . ولدى انتهائي من دراسة التقرير سألني الرفاق في المهجع – كيف وجدت التقرير ؟ فكان جوابي الذي ما زال يرن في أذني حتى اليوم هو أنني وجدت أمراً خطيراً في التقرير، وجدت أن الاتحاد السوفياتي سينهار في العام 1990 بدل أن يبزغ فجر الشيوعية كما وعد خروشتشوف في التقرير . بالطبع قابل الرفاق تصريحي الغريب بابتسامة ساخرة حيث لم تكن بعد علائم الانهيار بادية على البنيان الإشتراكي السوفياتي .
وفي احتفالنا في عيد العمال 1963 قام أحدهم يخطب خطاب الحزب بالطبع وحالما سمعته يقول .." الكلب ماوتسي تونغ" نهضت وخرجت من الاحتفال، وكتبت مذكرة لقيادة الحزب إثر ذلك أحتج فيها على السياسة التحريفية لخروشتشوف وتبني الحزب لتلك السياسة المعادية للإشتراكية . وفي نيسان 1965 بعد خروج الشيوعيين من السجن اجتمعت بنائب الأمين العام للحزب لتسوية الخلاف مع نهج خروشتشوف في الحزب لكننا لم نصل إلى تسوية حيث رفض الحزب أن أبقى عضواً عاملاً في الحزب مع الاحتفاظ بحقي في فضح التحريفية علانية، رفض الحزب ذلك رفضاً قاطعاً بالرغم من أن خروشتشوف كان قد طرد من الحزب في أكتوبر 1964 ، وهو ما يثبت أن الحزب الشيوعي الأردني كان قد قرر تبني تحريفات خروشتشوف وحتى بدون خروشتشوف نفسه .

نستعيد هذه الذكريات وقد مضى عليها أكثر من نصف قرن لندلل فقط على أن الوعي الماركسي شرط مسبق لكل عمل شيوعي . كيف لأحزاب شيوعية تمرست في أتون الصراع الطبقي وخاضت حروبا عالمية ودولية ثم تصطف بعدئذٍ وراء خروشتشوف الذي تندر بغباء صادم في تقريره المشار إليه أعلاه متسائلا .. لماذا الصراع الطبقي في الاتحاد السوفياتي !؟ هل علينا أن نُسِّر أعداءنا !؟ - ألا يعي هذا الأحمق أن التطور الاجتماعي يحركه الصراع الطبقي وأن الاشتراكية إنما هي محو الطبقات وذلك يتم فقط من خلال الصراع الطبقي الأشد عنفاً !؟ ولئن استطاع العسكر العائدين من برلين أن يفرضوا قائداً أحمق على الحزب الشيوعي السوفياتي صاحب التقاليد الثورية العريقة، حزب لينين وستالين، فلماذا تقبل أحزاب شيوعية عريقة كالحزب الشيوعي الفرنسي والحزب الشيوعي في إيطاليا بقيادة هذا الأحمق !؟ وكيف لهذه الأحزاب العريقة أن ترفض دكتاتورية البروليتاريا كما رفضها خروشتشوف في تقريره ذاك ليقيم ما سماه "دولة الشعب كله" علماً بأن ماركس كان قد أكد في "نقد برنامج غوتا" بأن لا إشتراكية بدون دكتاتورية البروليتاريا !؟

وهكذا اصطفت أحزاب شيوعية عريقة وراء رجل انتهازي أحمق ما كان ليصل إلى قيادة الحزب الشيوعي، حزب لينين وسالين، لو لم يفرضه العسكر العائدين من برلين على الحزب توطئة للرجوع عن الاشتراكية التي يكرهها العسكر يقودهم عشرات المارشالات ومئات الجنرالات العائدين من برلين . فلماذا والحالة هذه أن يستهجن البعض القول بأن أحزاباً شيوعية، وهي ليست عريقة، قد تبنت سياسات حمقاء لا علاقة لها بالماركسية اللينينية بل هي معادية لها ؛ وتصل الحماقة ببعضهم بالمطالبة بمحاكمة لينين كما كان كاوتسكي وبليخانوف قد طالبوا ويطالب اليوم بوتين وكريم مروّة !!
الأحزاب "الشيوعية" في الشرق الأوسط، في مصر واليونان وتركيا والعراق وسوريا والأردن ولبنان تعلن دون مواربة على أن سياستها العامة تقوم على مقاومة الامبريالية الأميركية !! يقاوم هؤلاء الحمقى السياسات الأميركية والرئيس الأميركي بل كلنتون كان قد خطب لدى دخوله البيت الأبيض واعداً لأن يكون أول اهتماماته ـ العناية بحقوق العمال وقد تم تجاهلها طويلاً رغم أنهم يعطون أميركا كل ثرواتها ـ وهو أول رئيس أميركي ينتخبه الشيوعيون الأمريكان في الدورتين، ويخطب خطاباً شيوعياً في الجوهر . الرئيس الأميركي التالي كان جورج بوش الإبن الذي لم ينتخبه الشيوعيون ويعلن ملء الفم بعد أسابيع من تحرير العراق من المجرم صدام حسين يعلن في قاعدة (ويست بوينت) العسكرية استنكاره الشديد للإرث الإمبريالي لأميركا التي ساعدت دكتاتوريين في الشرق الأوسط مما أنتج إرهابيين اقترفوا جريمة البرجين الفظيعة، ويذكر في هذا السياق أن بوش الإبن كان قد وعد في خطاب دخوله البيت الأبيض أن ينتهج سياسة العزلة والآ يتدخل في شؤون الشرق الأوسط تحديداً الأمر الذي استنكره الشيوعيون والقوميون بحجة أن أميركا لا يحق لها أن تنعزل قبل أن تحل القضية الفلسطينية، وهو ما يعني إعترافهم الصريح بأنهم ليسوا قادرين على مواجهة العدوان الصهيوني وحل القضية دون مساعدة أميركية رغم أنهم ملأوا الدنيا صراخا لاعتبارهم القضية الفلسطيمية هدفهم الأول والأخير . جريمة البرجين وقام بها ارهابيون من الشرق الأوسط هي فقط ما جعل بوش يتخلى مرغماً عن سياسة العزلة ليتدخل بشؤون الشرق الأوسط فيحرر العراق بكلفة عالية جداً ويقول بحل الدولتين في فلسطين وهو أول رئيس أميركي يعترف بحقوق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة . الرئيس الأميركي الأخير هو باراك حسين أوباما الذي انتخبه الشيوعيون في الدورتين باعتياره من أنصار العمال وصديقاً للإتحاد السوفياتي حين كان طالباً في الجامعة، وهو يبالغ كثيراً في سياسته السلمية . وكتب رئيس حزب الشاي (غنغريتش) عنه كتاياً يقول فيه أن أوباما ليس شيوعياً فقط بل وبلشفياً أيضاً يحرض الشباب الأميركي المؤمن على الإلحاد .

نحن نستعرض كل هذا ليس لندلل على أن شيوعيي الشرق الأوسط يناضلون ضد قوى التقدم في الولايات المتحدة بل لندلل على أن قادة الأحزاب الشيوعية في الشرق الأوسط هم بعامتهم كذبة أفاقون ولا غرابة في ذلك فهم من أيتام المرتد خروشتشوف . هم كذبة ومنافقون في إدعائهم النضال ضد الإمبريالية طالما أن الامبريالية كان قد تم دفنها قبل أربعين عاماً، لكن مثل هذا الادعاء الزائف هو الغطاء الوحيد المتوفر لإفلاسهم السياسي . لن تنجح الحركة الشيوعية في أن تضع أقدامها على أول الطريق الصحيح قبل أن تتخلص من هؤلا القوم الفسدى الأفاقين .
النضال ضد الإمبريالية كان شرطاً اشترطه لينين على الأحزاب الشيوعية في البلدان المستعمرة والتابعة لقبولها عضواً كامل العضوية في الأممية الشيوعية . كان نضال الشعوب ضد الامبريالية في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي هو الذراع الأخرى التي ستطيح بالرأسمالية الإمبريالية العالمية وتفتح الطريق سالكة لانتصار المشروع اللينيني في الثورة الاشتراكية العالمية انتصاراً نهائياً في التاريخ .
بدأت الحرب العالمية الثانية مع نهاية الثلاثينيات فكان النمر النازي الذي أشرفت على تربيته الامبريالية الأنجلو فرنسية من أجل إلتهام الاتحاد السوفياتي، كان هذا النمر قد إلتهم مقدماً الإمبراطوريتين الاستعماريتين الكبريين في التاريخ، بريطانيا وفرنسا . ولما دار لالتهام الاتحاد السوفياتي لقي من يخلع أنيايه ويطارده حتى وكره في برلين ويقضي عليه . ترتب على الانتصار السوفياتي وخروج الاتحاد السوفياتي من الحرب كأقوى قوة في الأرض نهوض حركة تحرر وطني في العالم كله . عشرات البلدان المستعمرة والتابعة نجحت في الحصول على الإستقلال وفك الروابط مع مراكز الرأسمالية الكلاسيكية . في العام 1972 أعلنت الأمم المتحدة النهاية التاريخية لحقبة الإمبريالية وهو ما كان قد توقعه ستالين في العام 1952 ليكون في وقت قريب .
مع انتهاء الإمبريالية الطور الأخير من الرأسمالية تنتهي الرأسمالية ويجتمع رؤساء الدول الرأسمالية الخمسة الأغنى في العالم في نوفمبر 1975 في رامبوييه في باريس لينعوا النظام الرأسمالي ويعلنوا أن القيمة لا تتأسس أصلاً في البضاعة بل في النقد (!!!) والبضاعة كما هو معلوم أساس الاقتصاد الرأسمالي . الإدعاء بأن القيمة تتأصل بالنقد وليس في البضاعة نكتة سمجة لا تجوز على الأطفال فالنقود ليست أكثر من معاير لقيمة البضاعة . أما النقود الذهبية القديمة فكانت هي نفسها من البضاعة .
بانتهاء الإمبريالية ينتهي الدور الذي خصصه لينين للأ حزاب الشيوعية في البلدان المحيطية مثل البلدان العربية . وبانتهاء المشروع اللينيني وتفكيك الاتحاد السوفياتي لا يعود لهذه الأحزاب أي دور تلعبه وتقوم به . المتقاعدون من العمل يؤكدون جميعهم أن التقاعد هو الموت حيّاً . الشيوعيون لا يريدون الموت أحياءً ولذلك كان سبيلهم الوحيد هو العودة إلى الخطاب القديم الذي انقضى خطاب الشعارات التي لم تعد تطن وترن كما في السالق لكن لا حول لهم ولا قوة إلا بالنفاق وبالتسويف .
خلاصة القول هي أن العمل الشيوعي الحقيقي لن يبدأ قبل فضح هؤلاء الخونة والمنافقين والتخلص منهم نهائياً ولن يتم ذلك بدون نفض سجف الغبار التي راكمها أيتام خروشتشوف عن منارة الماركسية الوضاءة .