العلمانیة منھج حتمي لتطور المجتمعات بالعالم العربي


عبد الله الحريف
الحوار المتمدن - العدد: 4909 - 2015 / 8 / 27 - 00:44
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     



ما ھي العلمانیة؟

تعتبر التیارات الأصولیة أن العلمانیة مناھضة للدین، وتنطلق للدفاع عن موقفھا من تجارب عینیة وخاصة كتجربة الثورة الفرنسیة وتجارب لبعض التیارات الاشتراكیة. ففي فرنسا، لعبت الكنیسة كجزء من البنیة الإقطاعیة، دورا معیقا للتطور الرأسمالي بامتلاكھا الأراضي ودفاعھا المستمیت عن النظام الإقطاعي، وھو ما جعل العلمانیة أكثر تشددا وتصلبا والصراع ضد الكنیسة أكثر عنفا ودمویة. وقد تم في بعض الأحیان المماثلة بین الدین والكنیسة مما أدى إلى تطرف تمثل خلال فترات وجیزة في تبني الدولة لنموذج مناھض للدین. كما تعاملت بعض التیارات الاشتراكیة بسطحیة ونزق مع الدین حیت ناھضت الدین باعتباره "أفیون الشعب" دون أن تنتبه إلى أن تحلیل ماركس للظاھرة الدینیة تحلیل جدلي یمیز بین استغلال الدین من طرف القوى السائدة ك"أفیون" لإدامة ھیمنتھا وبین حاجة المضطھدین إلیه كتعبیر عن معاناتھم وطموحھم إلى حیاة أفضل.
إن العلمانیة التي تعني فصل الدین عن الدولة وعن السیاسة لیست ضد الدین، بل ھي الضامنة للحفاظ على الدین، وعلى استمرار الإنسان في اعتناقه طقوسه الدینیة بكل حریة خارج أیة قدسیة مصطنعة. إن العلمانیة ھي الضامنة لعدم استغلال الدین من طرف أیة قوة لتبریر استبدادھا وسیطرتھا، لذلك فإن النضال من أجل العلمانیة ھو أیضا نضال من أجل تحرر الإنسان من أغلاله، من أجل الحریة والدیمقراطیة والكرامة.

ضرورة العلمانیة في العالم العربي:

على عكس ما یظن الكثیرون، فإن العلمانیة منھج حتمي لتطور المجتمعات في العالم العربي، وحتمیتھا تأتي من طبیعة تكوینات المجتمعات في العالم العربي حیث تتعایش داخلھا مجموعات بشریة بمعتقدات مختلفة، ولتحقیق ھذا التعایش، لا بد أن تكون الدولة والسیاسة بعیدتین عن المقدس كي لا یتم اضطھاد الأقلیات الدینیة أو المجموعات غیر الدینیة.

وفي سیاق تنامي الظاھرة الأصولیة ومحاولة الفكر الأصولي فرض الشریعة في بلدان ذات دیانات مختلفة وجماعات لا دینیة وتكوینات مذھبیة متنوعة داخل الدین الواحد، فإن مجتمعات العالم العربي مھددة بالتفتت إلى دویلات وكیانات ضعیفة وسھلة الاختراق، وھذا في نظري ما یفسر راھنیة العلمانیة كضرورة لبناء عالم عربي دیمقراطي موحد.

ولدت العلمانیة في المجتمعات الرأسمالیة المتطورة لأن الرأسمالیة الصاعدة لم تعد في حاجة إلى الدین – عكس الإنتاج الفیودالى - لتبریر الاستغلال، فھذا (أي الاستغلال) أضحى یتحقق عبر السوق والمنافسة باعتبارھما لیسا إكراھیین خارج الاقتصادي extra-économique

أما في بلدان العالم العربي، فإن الاستغلال المكثف الذي یكتوي به الكادحون والنھب البشع لخیرات ھذه المنطقة یستوجب تبریره اللجوء إلى الأصولیة التي تحرف الوعي الطبقي وتحول التناقض من تناقض بین الامبریالیة وحلفائھا المحلیین من جھة والشعوب من جھة أخرى إلى تناقض ھویاتي وسط ھذه الشعوب بین من یرید تطبیق الشریعة بحذافيرھا ومن یناھض ذلك. لذلك فإن النضال من أجل العلمانیة ھو، أیضا، نضال ضد الامبریالیة وحلفائھا في المنطقة، نضال من أجل القضاء على التبعیة التي تشكل أحد أھم عوائق التطور الاقتصادي–الاجتماعي في بلداننا.
فلا غرابة والحالة ھاته أن نجد دول الخلیج النفطیة ھي الأكثر تشددا في مواجھة العلمانیة والأشد تمسكا بالأصولیة الدینیة الأكثر تطرفا. والأساس المادي لذلك یتمثل في الاقتصاد الریعي السائد في ھذه المنطقة. فمن خلال تشبث ھذه الأنظمة بالأصولیة الدینیة تسعى إلى تبریر احتكارھا ومعھا أسیادھا الامبریالیین للریع النفطي عوض أن یساھم ھذا الریع في تطور شعوب المنطقة على المستویات الاقتصادیة والاجتماعیة والثقافیة. كما أن الأصولیة من خلال دغدغة عواطف المسلمین، تسعى إلى وأد أیة إمكانیة لانتشار الفكر التنویري والتحرري والتقدمي، وسط الجماھیر الشعبیة.
لكل ما سبق، فإن النضال من أجل العلمانیة ھو جزء من النضال العام من أجل الدیمقراطیة والتحرر الوطني ولا یجب تأجیله إلى أجل غیر مسمى. إن ھذا الصراع یجب أن یركز على التصدي لكل ما یجعل من السیاسة شیئا قدسیا وألا یتم جر القوى التقدمیة إلى صراع ھویاتي بل التركیز على توضیح الأسس المادیة للأصولیة الدینیة ودورھا ووظیفتھا ودحض الأكاذیب التي تنشرھا حول العلمانیة. وفي نفس الآن لا بد من توضیح المشروع الدیمقراطي التحرري الاشتراكي كمشروع یسعى إلى تحریر الإنسان من أغلاله وتوفیر شروط ازدھار طاقاته الخلاقة في الأرض ولیس بشكل وھمي، في السماء كما تطرح الأصولیة.
قد یقال لماذا عدم الاكتفاء بالكلام عن الدیمقراطیة وترك العلمانیة جانبا نظرا لما قد تحمله من حمولات إیدیولوجیة سلبیة لدى الجماھیر؟ وردنا على ذلك ھو أن دور القوى التقدمیة ومثقفیھا لیس ھو مجاراة الواقع بل السیر ضد التیار حین یكون ھذا التیار یمثل خطورة على وحدة الشعوب وتماسكھا وتطورھا. ھذا أولا وثانیا لأن تنمیط الدیمقراطیة من طرف القوى الأصولیة إلى حد حصرھا وتقزیمھا في حكم الأغلبیة من خلال صنادیق الاقتراع واعتبارھا مجرد آلیة للحكم فقط لا تفترض التشبع بقیم الحریة واحترام الآخر والتعدد والتسامح واحترام الحریات الفردیة والجماعیة، إن ذلك یجعل من النضال من أجل العلمانیة أحد أھم الواجھات النضالیة لإحقاق الدیمقراطیة في أبعادھا الشاملة

ما العمل لتحقیق العلمانیة في واقع مجتمعاتنا؟

أولا لا بد من التأكید على أن العلمانیة لیست وصفة جاھزة قد نستوردھا من الغرب كما أنھا لن تتحقق دفعة واحدة. فالعلمانیة ستحقق عبر عملیة طویلة ومعقدة من المد والجزر والفعل ورد الفعل وتضحیات وتفاھمات وتنازلات وتعاقدات ظرفیة متبادلة.
ھكذا فإن التطور نحو العلمانیة في الدول الغربیة نفسھا لم یتم وفق إیقاعات موحدة.
ففي بریطانیا التي قطعت مع البابویة والكاثولیكیة قدیما وطورت نوعا من الدین الخاص بھا تحققت العلمانیة بنوع من المرونة والھدوء. أما في فرنسا التي ظلت مرتبطة بالبابویة، فقد كانت الثورة ضد الإقطاع وضد الكنیسة كجزء منه واتخذت العلمانیة، في فترات محددة، شكل صراع مفتوح وعنیف ضد الدین.
لذلك فإن العلمانیة في العالم العربي الیوم لا بد أن تأخذ شكلھا من الواقع الموضوعي الذي أفرزته البنیات السیاسیة والاقتصادیة والاجتماعیة والثقافیة أي أنھا ستكون علمانیة ذات خصوصیات. ومع ذلك فإن جوھرھا وھو فصل الدین عن الدولة والسیاسة لا یتغیر. إن الصراع من أجل العلمانیة لا یجب عزله عن الصراع ضد الاستبداد والاستغلال والاضطھاد أي لا یجب عزله عن الصراع الطبقي. یجب التوضیح أن كل من یناھض العلمانیة یدافع، بوعي أو بدون وعي، عن مشروع استبدادي یعیق التطور السیاسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي لشعوب منطقتنا. لكن ذلك لن یستقیم إلا إذا تعاطى المدافعون عن العلمانیة بشكل إیجابي سلیم مع الدین، إذ یخطئ من یعتقد أن العلمانیة ستزیل كل المظاھر الدینیة في المجتمع، أو أن ھذه أصلا من مھماتھا النضالیة. العلمانیة في العالم العربي یجب أن تكون بوصلتھا موجھة ضد الاستبداد والطغیان، ونحو تحطیم أصنام التزمت والرجعیة والمغالاة لا نحو محاربة الدین.
ونعتقد، في ھذا الإطار، أنه من الواجب الاھتمام بإسلام متنور. فالبلدان التي بلغت العلمانیة مرت بإصلاحات دینیة، ففي إطار المسیحیة، كانت ھناك عدد من الإصلاحات: البروتستانیة، الكلفینیة... وھذا الاصلاح الدیني لا یمكن أن یتطور إلا ضمن مسار تطور الفكر الدیمقراطي، وضمن تشبع الناس بقیم الدیمقراطیة والحریة واحترام الآخر والتعدد والتسامح، سواء الوافدة من الغرب أو المستنبطة من داخل فضاء التنویر في التراث العربي–الإسلامي بما في ذلك تراث مختلف الشعوب المكونة للمنطقة العربیة.
وفي المغرب، نحن مطالبون الیوم ببدء معركة النقد المنصب على فكر "الحركة الوطنیة" كمدخل لإعادة النظر في البعد الدیني وتمثلاته داخل المجتمع المغربي، والحال أن "الحركة الوطنیة" رسخت فكرة أن الملكیة ھي التي أسست تاریخ المغرب وصنعته فیما ھمشت وتناست تاریخ القبائل المغربیة التي كانت دائما في صراع مع السلطان والمخزن وحاولت فرض نمط حیاتھا وتدینھا المخالفین للأطروحة الدینیة التي تسعى الملكیة إلى تكریسھا في ھذا الإطار، فإن الصراع من أجل العلمانیة ھو صراع، في نفس الآن، ضد الحركات الأصولیة وأیضا ضد أصولیة النظام الملكي الذي یستند في شرعیته إلى مؤسسة "إمارة المؤمنین". فما ھي یا ترى القوى الحاملة للعلمانیة في المغرب؟
نعتبر أن تحقق العلمانیة في بلادنا لن یتم إلا في إطار صراع شامل من أجل التغییر الدیمقراطي التحرري وبناء سلطة جدیدة. لذلك فإن القوى الحاملة لفكرة علمنة المجتمع والواقع المغربي ھي القوى التي تستطیع أن تطرح مشروعا لصالح الطبقات الشعبیة وتجنیدھا حوله بمختلف الأشكال، وعلى رأسھا بناء التحالفات. ونظرا لحالة الأحزاب، بما في ذلك الیسار المستقل عن السلطة، المتردیة وشدة ترھلھا وابتعادھا عن نبض المجتمع والذي ظھر جلیا في عجزھا، أثناء الحراك الشعبي في السنتین الماضیتین، على الدفع بدینامیة التغییر، فإن القوى الحاملة لمشروع التحرر الوطني والبناء الدیمقراطي لا زالت قید التشكل من خلال عملیة معقدة من الفرز وإعادة الھیكلة والتوحد، ونعتقد أن جبھة واسعة تضم الیسار غیر "الممخزن" وكل القوى السیاسیة والنقابیة والجمعویة الدیمقراطیة المتواجدة وسط نضالات الشعب المغربي ھي التي من شأنھا انجاز مھام التحرر الوطني والدیمقراطیة، ومن ضمنھا العلمانیة.