لماذا بناء الحزب المستقل للطبقة العاملة؟


عبد الله الحريف
الحوار المتمدن - العدد: 6242 - 2019 / 5 / 27 - 01:23
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     



1.من الناحية النظرية:
منذ ظهور المجتمعات الطبقية، والصراع الأساسي داخلها هو صراع طبقي، قد يتخذ لبوسا مختلفة، من أجل فائض الإنتاج، تخوضه، بالأساس، الطبقتان المتصارعتان في نمط الإنتاج السائد: العبد والسيد في نمط الإنتاج العبودي، القن والفيودالي في نمط الإنتاج الفيودالي والعامل والبرجوازي في نمط الإنتاج الرأسمالي. أما الطبقات الأخرى، فتتحالف مع هذا الطرف أو ذاك خدمة لمصالحها.
ونظرا لكون الإيديولوجية السائدة، التي هي إيديولوجية الطبقة السائدة، ترسخ في أذهان الطبقات المسودة أن الواقع القائم هو الوضع الطبيعي للمجتمع والذي لا يمكن تجاوزه، فإن صراع الطبقات المسودة، عادة ما يلجأ، خاصة في بداياته، إلى المطالبة بتحسينات في ظل الوضع القائم. ومع فشل هذا النهج في حل التناقض بين طرفي الصراع، تتبلور حركات جذرية( من داخل الطبقة المسودة ومن المثقفين المنتمين لطبقات أخرى انتحروا طبقيا) تناضل من أجل القضاء على نمط الإنتاج السائد وإحلال نمط إنتاج أرقى محله. ومع التحول التدريجي لنمط الإنتاج السائد من رافعة لتطوير قوى الإنتاج إلى عرقلة خطيرة أمام استمرار تطورها بسبب علاقات الإنتاج وظهور لبنات نمط إنتاج بديل، يبدأ نمط الإنتاج السائد في التفسخ والتفكك. وهكذا يتوفر الشرطين الموضوعي( تفكك نمط الإنتاج السائد وبروز إرهاصات بديل له) والذاتي( تواجد قوى حاملة لمشروع التغيير الجذري) لنجاح الثورة.
في أوروبا، كان نمط الإنتاج السائد، منذ العصور الوسطى، هو نمط الإنتاج الفيودالي المشكل من الأقنان والنبلاء. الأقنان يشتغلون كفلاحين في الأراضي المملوكة للنبلاء الذين يستحوذون على الإنتاج ولا يتركون للأقنان إلا ما يسد رمق العيش. وفي حالة ازدياد عدد الأقنان بسبب النمو الديمغرافي أو في حالة ضعف الإنتاج لسبب أو آخر( مجاعة، أوضاع مناخية غير مناسبة، حروب…) بحيث لا يستطيع الإنتاج سد حاجيات النبلاء و الأقنان، يتم الاستغناء عن جزء من الأقنان الذين يتحولون إلى قوة عمل حرة في السوق. وفي بداية عصر النهضة، تراكمت ثروات هائلة، في أوروبا، وخاصة في الموانئ، بفضل التجارة الخارجية التي تحولت من تجارة القوافل إلى التجارة عبر البحر بفضل الاكتشافات. هذان العاملان( تواجد قوة عمل حرة وثروات مالية هائلة) سيكونان الأساس لظهور نمط الإنتاج الرأسمالي وتطوره شيئا فشيئا، خاصة بفضل الاكتشافات العلمية و التقنية. هكذا ستنمو، شيئا فشيئا، في أوروبا الفيودالية، طبقتان: البرولتاريا و البرجوازية. وأصبح نمط الإنتاج الفيودالي المرتكز إلى علاقة شخصية بين الفيودالي والأقنان القاطنين فوق أراضيه وإلى الريع العقاري والمعرقل لبناء سوق واسعة بسبب تقسيم البلاد إلى إقطاعات يشكل عائقا أمام تطور نمط الإنتاج الرأسمالي الذي يرتكز، أساسا إلى السوق الحرة: سوق الشغل وسوق البضائع والخدمات وسوق الراسميل.
إن المرور من نمط إنتاج إلى نمط إنتاج أرقى لا يسير في خط مستقيم وكنتيجة حتمية لمخطط قد تضعه الطبقة المسودة للقضاء على نمط الإنتاج السابق، بل يعرف مدا وجزرا، يعرف صراعا سياسيا وفكريا وعنفا ومقاومة. ولذلك قد تطول مرحلة الانتقال وتعرف ثورات وحركات مضادة للثورة. لكن ينتصر، في النهاية، نمط الإنتاج الأرقى. وهكذا سبقت مرحلة الانتقال من الفيودالية إلى الرأسمالية ورافقتها صراعات سياسية وفكرية، وخاصة حركة الإصلاح الديني وحركة النهضة وعصر الأنوار، ونضالات سلمية وعنيفة وثورات، منها حركات الفلاحين والصناع، وضعت الأسس الفكرية والسياسية للثورات البرجوازية.
هذه السيرورة( أي الانتقال نحو الرأسمالية) لم تكن ممكنة في البلدان التي كانت بنيتها الاجتماعية الأساسية ترتكز على القبيلة، ومنها المغرب. وذلك لأن كل فرد في القبيلة له حق التصرف، طيلة حياته، في قطعة أرض من أراضي القبيلة. هكذا يستحيل أن تبرز، في هذه المجتمعات، قوة عمل حرة.
ولهذا السبب، فإن نمط الإنتاج الرأسمالي في المغرب ظهر عندما بدأت البنيات القبلية تتفكك، خاصة فيما يسمى “بلاد المخزن”، مع تطور العلاقات التجارية مع أوروبا الرأسمالية ثم عرف تطورا نوعيا خلال حقبة الاستعمار الذي سرع سيرورة تفكيك القبائل في جميع أنحاء البلاد، بما في ذلك بالعنف بالنسبة للقبائل التي قاومته( الريف، الأطلس، الجنوب…).
أن نشوء نمط الإنتاج الرأسمالي وظهور الطبقة العاملة في المغرب ارتبطا إذن بالتغلغل الرأسمالي التجاري ثم الاستعماري وكان هدف نمط الإنتاج الرأسمالي الأساسي تلبية حاجيات المتروبول عوض تلبية حاجيات الشعب المغربي وإيجاد سوق محمي لمنتجاتها وبالتالي بناء اقتصاد تابع لها. هكذا يمكن تصنيف نمط الإنتاج السائد في بلدنا كنمط إنتاج رأسمالي تبعي واعتبار أن الطبقتين الأساسيتين هما الطبقة العاملة والبرجوازية. وبما أن هذه الأخيرة تابعة لرأسمالية المركز، وخاصة الإمبريالية الفرنسية، فإن الطبقة العاملة تواجه، في نفس الآن، البرجوازية المحلية وسيدتها البرجوازية الإمبريالية. ونظرا للطبيعة التبعية للبرجوازيات المحلية ولكون الرأسمالية بعد تحولها إلى إمبريالية تنكرت للمهام الديمقراطية( التصنيع، تحرير الاقتصاد والإنسان من العلاقات الفيودالية، الاصلاح الزراعي، الإقرار التدريجي للحريات السياسية والمدنية…) التي حققتها، في مرحلة صعودها ولربح الطبقات الأخرى في صراعها ضد الفيودالية ، فإن برجوازيات المحيط عاجزة على إنجاز هذه المهام الديمقراطية. أما البرجوازية الصغرى والمتوسطة، فهي الأخرى غير قادرة على إنجاز هذه المهام نظرا لموقعها الثانوي في علاقات الإنتاج وطبيعتها المتدبدبة بين أوهام التسلق الاجتماعي وخطر بلترتها. وتجارب كثيرة في العالم العربي( العراق، سوريا، مصر، الجزائر) وفي أمريكا اللاتينية( المكسيك، الأرجنتين، التشلي…) تؤكد هذا الطرح.
هكذا أصبح نمط الإنتاج الرأسمالي سائدا في دول المحيط والمركز وأصبحت الطبقتان الأساسيتان في جل مناطق العالم هما الطبقة العاملة والبرجوازية.
لا تولد الطبقة العاملة وهي واعية بذاتها ومصالحها وأعدائها، خاصة وأن أعداءها يستعملون كل الوسائل ويوظفون الدولة للتعتيم على واقعها( الدين، القانون، التقاليد…) ولقمع محاولات تنظيم صفوفها والسعي إلى تقسيمها.
لهذه الأسباب، فإن اكتساب الوعي الطبقي ليس تلقائي، بل يتطلب سيرورة من الممارسة النضالية تقوم بها الطبقة واستخلاص الدروس من هذه الممارسة تضطلع به طلائعها ومثقفوها العضو يون.
مرت الطبقة العاملة في أوروبا بتجارب عديدة:
-تكسير الآلات كرد فعل على انتقال الرأسمالية من المانيفاكتورة(أي المرحلة الأولى للرأسمالية حيث كان رب المعمل يحول الحرفيين إلى أجراء ويجمعهم في مكان واحد لمراقبتهم وإخضاعهم دون أن يجردهم من مهاراتهم) إلى المعمل الذي يتم فيه الإنتاج بواسطة الآلات التي تعوض الحرفيين.
-الوعي بأهمية التضامن وضرورة تنظيم صفوفها للمطالبة بتحسين أوضاعها المادية. الشيء الذي سيؤدي، خلال سيرورة طويلة، إلى تأسيس ثم تطوير العمل النقابي الذي مثل تطورا هاما في توحيد ونضالية الطبقة العاملة وتحقيقها لمكتسبات مادية ومعنوية مهمة.
وبموازاة هذه التطورات، سيبلور المثقفون المتعاطفون مع الطبقة العاملة نظريات ويخوضون تجارب ارتكزت إلى حلول طوباوية كالاعتقاد بإمكانية بناء “جزر” يعيش فيها العمال من إنتاجهم ولا تخضع لهيمنة نمط الإنتاج الرأسمالي. لذلك سميت هذه النظريات بالاشتراكية الطوباوية ولم تعمر محاولات تطبيقها طويلا.
لقد شكلت الماركسية قفزة نوعية في المعرفة الاجتماعية ارتكزت على ما راكمته البشرية آنذاك من معارف في الميادين الفلسفية والاقتصادية والاجتماعية والتاريخية. فهي خلصت المنهج الجدلي لهيغل من المثالية والاقتصاد السياسي الإنجليزي من الحدود التي يفرضها اعتبار نمط الإنتاج الرأسمالي أزليا وطرحت الاشتراكية العلمية كبديل للاشتراكية الطوباوية. فالاشتراكية والشيوعية ليستا نتيجة بناء فكري يتم إسقاطه على الواقع، بل هما نتاج الحركة التي تحل التناقض الكامن في نمط الإنتاج الرأسمالي بين علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج وتبني، خلال سيرورة طويلة، نمط إنتاج جديد ينتفي فيه استغلال الإنسان للإنسان. ودور الطبقة العاملة القيادي والحاسم لهذه الحركة يرتكز إلى كونها الطبقة النقيض للبرجوازية.
ولربح هذه المعركة وتحرير المجتمع ككل، يجب أن تبلور الطبقة العاملة أداة تحررها من الاستغلال وعدم الاقتصار على أدوات نضالها من أجل تحسين أوضاعها. وهذه الأداة هي حزبها المستقل تنظيميا وسياسيا وفكريا عن البرجوازية والذي سينبني من خلال انصهار الطلائع العمالية بالمثقفين الثوريين الماركسيين. كما يجب أن تسعى إلى عزل الطبقات والفئات والشرائح الأخرى عن البرجوازية إما بتحييدها أو التحالف معها.
2.من الناحية التاريخية:
لقد لعبت الطبقة العاملة و/أو الكادحون أدوارا حاسمة في الثورات البرجوازية في أوروبا: لا يجب أن ننسى الدور الذي قام به كادحو باريس والاتجاهات التي تمثلهم ( روبسبيير وسان جوست وغيرهما) في نجاح الثورة الفرنسية وتجذيرها والقضاء على الملكية، بينما كانت البرجوازية تبحث عن تسويات معها. كما كتب عمال وكادحو باريس ملحمة عظيمة تمثلت في كومونة باريس ألهمت ماركس ولينين.
أما ثورة أكتوبر العظيمة والتي لعب فيها العمال دورا أساسيا وحاسما وقادها الحزب الشيوعي البلشفي ، فإنها، رغم الحصار والحروب التي فرضت عليها( الجيوش البيضاء، الحرب العالمية الثانية)، أنجزت المهام الديمقراطية وأخرجت شعوب الإتحاد السوفيتي، في مدة قياسية، من الجهل والفقر والأمراض وجعلت من الاتحاد السوفيتي قوة عظمى.
أما في المحيط الرأسمالي، فإن الثورات التي هزمت أعتى الإمبرياليات وقضت على الإقطاع وأنجزت، في مدة قصيرة، مهام التحرر الوطني( الثورة الزراعية، التصنيع، القضاء على الجهل والفقر والأمراض)، هي ثورات أنجزتها الطبقة العاملة والفلاحون الصغار والفقراء والمعدمون تحت قيادة الأحزاب الشيوعية( الصين وفيتنام) أو تطورت فيها حركة ثورية في حالة كوبا حيث كان لزاما على قيادة حرب العصابات والتي كان زعماؤها، وخاصة فيديل كاسترو وتشي غيفارا، ينهلون من الشيوعية الثورية لمارياطيكي، عكس الحزب الشيوعي الذي كان متورطا مع باتستا، أن ينتقلوا، تدريجيا، من ثورة وطنية ديمقراطية إلى ثورة اشتراكية، تجنبا للصراع الصدامي مع الامبريالية الأمريكية وحلفائها، والتي خلالها تم بناء الحزب الشيوعي الجديد. ففي الثورتين الصينية والفيتنامية ربط الحزبين الشيوعيين الصيني والفيتنامي بين النضال ضد الاستعمار والنضال ضد الإقطاع ورفضا ترك قيادة النضال من أجل التحرر الوطني للبرجوازية. أما في الثورة الكوبية، فإن بناء الحزب الشيوعي كحزب للعمال والفلاحين الكادحين كان نتيجة سيرورة لعبت فيها توفر نواة شيوعية في قيادة حرب العصابات ودور الفلاحين والطبقة العاملة( العمال الزراعيين والبرلتاريا الحضرية) قي الثورة دورا حاسما.
ورغم فشل هذه الثورات في بناء الاشتراكية، فإنها أنجزت مهاما تاريخية لم يعد ممكنا، في عصر الإمبريالية، أن تنجزها البرجوازية وفتحت عصر بناء الاشتراكية من خلال تجارب لبنائها تقدم دروسا غنية للطبقة العاملة وأحزابها تساعد على تطوير وتجديد المشروع الاشتراكي.
ولعبت الطبقة العاملة دورا حاسما في فرض رحيل رموز النظام في تونس ومصر.غير أن غياب حزبها مكن قوى تمثل الطبقات البرجوازية من قطف ثمار التغيير لصالحها.
إن ما سبق يبين الدور الحاسم للطبقة العاملة وحلفائها في إنجاز المهام التاريخية المطروحة حاليا وأن ذلك لا يمكن أن يتم بشكل عفوي كتجسيد لحتمية تاريخية بل يتطلب التدخل الواعي والمنظم لأداتها السياسية المستقلة: الحزب الشيوعي المسلح بالماركسية كنظرية للتغيير الثوري ومنهج للتحليل يرتكز إلى المادية الجدلية والمادية التاريخية التي يشكل الصراع الطبقي نواتها الصلبة.
وجبت الملاحظة أن حجم الطبقة العاملة، في روسيا القيصرية والصين وفيتنام وكوبا، كان متواضعا. ومع ذلك استطاعت الطبقة العاملة، بتحالف مع الفلاحين الكادحين، وبفضل قيادة حزبها انجاز مهام التحرر الوطني من الامبريالية ومن سيطرة الإقطاع. إن دورها الحاسم في التغيير ليس إذن مرتبطا بحجمها بقدر ما هو ناتج عن موقعها، كقوة منتجة، في علاقات الإنتاج في نمط الإنتاج السائد: الرأسمالية.