كميل داغر - مفكر وكاتب ماركسي - في حوار مفتوح مع القراء والقارئات حول: هل يمكن أن تخرج انتفاضة الشعب السوري من مأزقها المأسوي الراهن؟.


كميل داغر
2014 / 5 / 18 - 17:46     

من اجل تنشيط الحوارات الفكرية والثقافية والسياسية بين الكتاب والكاتبات والشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى من جهة, وبين قراء وقارئات موقع الحوار المتمدن على الانترنت من جهة أخرى, ومن أجل تعزيز التفاعل الايجابي والحوار اليساري والعلماني والديمقراطي الموضوعي والحضاري البناء, تقوم مؤسسة الحوار المتمدن بأجراء حوارات مفتوحة حول المواضيع الحساسة والمهمة المتعلقة بتطوير مجتمعاتنا وتحديثها وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والتقدم والسلام.
حوارنا -130 - سيكون مع الأستاذ كميل داغر - مفكر وكاتب ماركسي -  حول: هل يمكن أن تخرج انتفاضة الشعب السوري من مأزقها المأسوي الراهن.

 هل يمكن أن تخرج انتفاضة الشعب السوري من مأزقها المأسوي الراهن؟


في حين نجحت الانتفاضتان، التونسية والمصرية، في إطاحة رأسي النظام، في كلٍّ منهما، خلال أسابيع قليلة، ولا سيما بسبب تخلي الاجهزة القمعية هناك عنهما، بسرعة قياسية، في مسعاها لحماية النظام ككل، والمصالح الاجتماعية والاقتصادية التي يمثلها - فضلاً عن أسباب اخرى من بينها تلك التي تتعلق بوزن الطبقة العاملة، والقدر من الاستقلالية الذي تتميز به، والدور المؤثر الذي اضطلعت به خلال الاحداث الثورية في كل من البلدان المعنية – يستمر الصراع الذي أطلقته حركة الجماهير السورية، في أواخر شتاء 2011، أوائل ربيع ذلك العام، مخلفاً كوارث بشرية وعمرانية مخيفة، وذلك من دون ان تبدو في الأفق القريب، بشائر نهاية سعيدة، أو حتى مجرد نهاية، ايّاً تكن، لهذا الصراع، سواء على مستوى حسمٍ عسكريٍّ محتمل، أو عن طريق حل سلمي متفاوض عليه.
ونحن نقول ذلك، ولا سيما بعد ما لازم هذا الصراع من تعقيدات خطيرة أعقبت تعسكره الحتمي ، بنتيجة الإدارة الدموية المفرطة في الجنون والإجرام، التي مارسها النظام القائم ضد الجماهير الواسعة، المنخرطة في التظاهر بمواجهته، وفي التعبير عن سخطها عليه، وعن إرادتها، في مرحلةٍ أولى، إدخال إصلاحات أساسية إلى واقعه المأزوم، قبل أن تنتقل إلى الهتاف المعروف الذي صدح به المنتفضون في العديد من البلدان العربية، في العام 2011، وكتبه أطفال درعا السورية على جدران مدينتهم، معلنين بذلك التقاط شعبهم شرارة الثورة، والتحاقه بالسيرورة، التي بدأت في تونس، في كانون الاول/ ديسمبر 2010 .
وقد تمثلت تلك التعقيدات، بين أمورٍ شتى، بظهور ( ومن ثم طغيان) سلسلةٍ من الميليشيات المذهبية المنفصلة، بصورةٍ شبه شاملة، عن الأهداف الأساسية التي طرحتها الانتفاضة الشعبية، في الأصل، ولا سيما على صعيد الحرية، والكرامة الإنسانية، والعدل الاجتماعي. ذلك أنها رفعت، في غالبيتها الكبرى، شعاراتٍ وأهدافاً دينية بحتة، من مثل إعادة دولة الخلافة، وفرض سيادة فهم خاص بها، مفرطٍ في ظلاميته، للشريعة الإسلامية، فضلاً عن تكفير كل الاقليات الدينية والمذهبية، لا بل كل من لا يرى رأيها، في قضايا الدين والدنيا، حتى من ضمن الاكثرية الطائفية التي تنتمي إليها، وما إلى ذلك من طروحات لا تمت بصلة ، ليس فقط لروح العصر، بل بوجه اخص إلى المسعى الجماهيري الاصلي، المتعلق بإطاحة نظامٍ دكتاتوري بشع، يحكم البلد بالحديد والنار ، منذ حوالى ال44 عاماً!
والاخطر من ذلك ان هذه الميليشيات، والجماعات الدينية المسلحة، أتمثلت بالدولة الإسلامية للعراق والشام(داعش)، أو بجبهة النصرة، المنتسبة إلى تنظيم القاعدة، أو بالجبهة الإسلامية، او ما إلى ذلك... - في حين تمارس، في معظم الاحيان، أنواعاً شتى من أعمال القمع، والقهر، والقتل، التي تتساوى في فظاعتها مع تلك التي يرتكبها النظام، إن لم تزد وحشيةً، في احيان عديدة، على أعماله – تنخرط، في آنٍ، ومنذ فترة غير قصيرة، في صراع دموي شرسٍ، فيما بينها، كما ضد كتائب الجيش السوري الحر، التي لا تزال تعلن عن كون هدفها الأساسي، والاوحد، هو إطاحة النظام القائم، وإتاحة المجال امام أن يختار الشعب السوري ممثليه في السلطة، بحريةٍ. وتتبادل الاطراف المشار إليها الإعدام الميداني لمن يقعون أسرى من الاطراف الاخرى، بين يديها، ببشاعة وهولٍ منقطعي النظير! وهو الامر الذي أفضى، إلى الآن، إلى سقوط الآلاف من القتلى، واكثر منهم من الجرحى، والمعوَّقين، وذلك سواء في صفوف الكتائب والألوية المتقاتلة، أو في صفوف المدنيين المتواجدين في مناطق اشتباكها. فضلاً عن المساهمة، عبر ذلك كله، في عملية التهجير السكاني الواسعة والمكثفة، التي كان بدأها النظام، وأدت وتؤدي إلى اضطرار أكثر من تسعة ملايين مواطن ومواطنة إلى النزوح، داخل بلدهم، سوريا، أو الهجرة إلى الخارج، في ظروف اكثر من مأسوية. وهو ما يأتي ليشكل إسهاماً إضافياً ، بالتلازم مع ما يحصل عليه النظام من الدعم الكثيف من جانب حلفائه الإقليميين (الميليشيات المذهبية الشيعية، العراقية، واللبنانية، بوجه أخص)، والدوليين(إيران وروسيا، في الدرجة الاولى)، يصب في خدمة استعادة النظام المذكور أنفاسه، بعد أن اقترب مراراً من الهزيمة، وبالتالي قدرته على الهجوم، واسترجاع مناطق عديدة سبق ان فقد السيطرة على أجزاء أساسية منها، ولا سيما منطقة حمص، ذات الاهمية الاستراتيجية بالنسبة لمشاريعه المستقبلية. الامر الذي ربما يساعد في الإجابة عن سؤال جوهري يتعلق بالمخططات الأساسية التي وضعها النظام في صلب رؤيته لإدارة معركته، في مسعاه لإحباط انتفاضة الشعب السوري، وذلك منذ الأسابيع الاولى لتلك المعركة، في آذار/مارس 2011، حين لم يكن احد من المنتفضين يفكر، بعد، في التحول من النضال السلمي البحت إلى "الكفاح المسلح".
 


من "المجموعات المسلحة" الوهمية إلى داعش، وأخواتها


كلنا يذكر أن الجماهير السورية المنتفضة بقيت أشهراً طوالاً تنزل إلى الشوارع، للتظاهر، والتعبير عن مطالبها في الحرية، والكرامة، والعدالة الاجتماعية، وهي عزلاء بالكامل، فيما يدرك كلٌّ من أفرادها أنه قد لايعود إلى عائلته سالماً، بعد مخاطرته تلك. ذلك أن العشرات كانوا يسقطون كل يوم، قتلى، أو جرحى مصيرهم الموت، في كل حال، معظم الاحيان، فيما لو هم حاولوا الحصول على الاستشفاء ، ليس فقط في المشافي العامة، بل حتى ايضاً في المشافي الخاصة، الملأى بالمخبرين. أما رأس النظام، والمسؤولون الكبار في الدولة فكانوا ينكرون أن يكون الضحايا سقطوا برصاص أجهزة"الامن"، ويزعمون كذباً أنهم سقطوا برصاص من باتوا يُعرَّفون بأنهم "مجموعات مسلحة" لا علاقة للسلطة بهم!! ومنذ ذلك التاريخ، دأب هؤلاء، والرأس الاعلى للسلطة، رئيس الجمهورية، على استخدام مصطلح "الإرهابيين"، في وصف القناصة وأشباههم من عملاء الامن، الذين كانوا المسؤولين الأساسيين عن تلك الجرائم. هذا فضلاً عن جرائم أخرى دفع النظام بحد ذاته إلى اقترافها، بحق عائلات وافراد عُزَّلٍ من السلاح، من المذهب الأكبر عدداً، وذلك على يد شبيحته من شتى المذاهب، وإن يكن بوجه أخص من المذهب العلوي، لاهداف واضحة هي استثارة الفتنة بين عناصر الشعب الواحد، وتعميق الاحقاد ذات الابعاد الطائفية والمذهبية، وشد اللحمة داخل الاقليات الدينية ، على قاعدة وطيدة من مشاعر الخوف والحذر، بحيث يتمكن من استخدام هؤلاء في معركة طويلة الامد يأمل ان تنقذه من احتمال فقدان السلطة، ومعها كل الامتيازات التي يستحوذ عليها، منذ عقود. وهوما نجح فيه، إلى هذا الحد أو ذاك، بسبب ما استفزَّه من ردود فعل مشابهة، من جانب القوى المسعورة مذهبياً داخل أبناء الأغلبية المشار إليها .
لقد كان ما فعلته وتفعله سلطة آل الاسد، على صعيد تزييف الحقائق فيما يتعلق بالصدامات الدموية، في شوارع المدن وأزقتها، إنما هو أحد المساعي الرئيسية، من جانبهم، لأجل الحصول على تضامن الدول والحكومات، وحتى جماهير البلدان الغربية، بوجه اخص، مع دمشق، بحجة أن النظام يخوض معركة جدية مع قوىً يغلب عليها الطابع الإرهابي، هي التي تطلق النار، بحسب مزاعمه، على المظاهرات ! ولكن النظام المشار إليه سرعان ما سيجد وسيلة أكثر قدرة على الإقناع بأسطورة الإرهابيين هذه: كان ذلك عندما أطلق من السجون السورية عدداً لا يستهان به من أزلام تنظيم القاعدة، وأنصاره، سوريين وغير سوريين، وذلك في العامين 2011 و 2012، بذريعة أنهم أنهوا مدة محكوميتهم، أو أي سبب آخر! وقد سارع جزء أساسي من هؤلاء إلى بناء منظماتهم الإرهابية، هذه المرة، بالفعل، والبدء بعملياتهم، علماً ان الاهم، بين هذه المنظمات، من حيث قدراتها التدريبية والقتالية، وفعالية مصادر تمويلها وقدراتها الواسعة، وعدد عناصرها، ومعظمهم من الاجانب، ألا وهي "داعش" ، لم يُعرف عنها انها خاضت أيّأ من المعارك ضد السلطة القائمة، لا بل جرى الحديث باستمرار عن علاقة لها بالنظام، وانها كانت ولا تزال تبيعه، بأسعار رمزية(خمسة دولارات للبرميل) جزءاً هاماً من النفط الذي تستخرجه بطرق بدائية من الآبار الشمالية، التي كانت وضعت يدها عليها، في تاريخ سابق، من دون أدنى مقاومة من حراسات تلك الآبار الأمنية، او اي صدام معها. أكثر من ذلك، ثمة تأكيدات على ان قوات النظام تخلت عن العديد من مواقعها في شمال سوريا، ولا سيما منطقة ريف حلب، لصالح التنظيم المشار إليه، لا بل شاركت في القصف بطيرانها لمواقع أخصام التنظيم المذكور، في الفترة الاخيرة، خلال المعارك بينهم وبين هذا الاخير، هؤلاء الأخصام الذين يقاتلون قوات النظام، بالمناسبة!!
بمعنىً آخر، إن بين المهام الأساسية المفترض الاضطلاع بها، من الآن وصاعداً، إنما قتال هذا التنظيم، والعمل على استئصاله من الارض السورية، ولكن كذلك من اذهان الشعب السوري، ومشاعره وأفكاره، كأحد الاعداء الالداء للثورة السورية، ولمستقبلٍ ديمقراطيٍّ تقدمي للبلد المنوَّه به. وما يقال عن هذا التنظيم يُفترَض أن يقال بصدد كل المنظمات العسكرية، المتغطية بالدين وأحكامه، والتي تمارس القمع والقتل، والخطف، بحق الشعب السوري، وقواه المقاتلة الفعلية للنظام القائم، في كل مرة يحصل ذلك، وبوجه أخص ضد الافكار والممارسات الظلامية التي تلجأ إليها. وهو ما يجب أن يندرج في جهد تعبوي يومي، وسط أوسع الجماهير، ولا سيما في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، بالتلازم مع عمل تنظيمي مكثّف للحراك الشعبي في مواجهة هذه المجموعات، وممارساتها المستوجبة للإدانة، والتشهير، والتصدي الفعال، بلا انقطاع! ومن ذلك الضغط بكل الوسائل، بما فيها التعبئة الشعبية، لتفكيكها سِلْماً، إذا أمكن، وإلا عبر الضغوط العسكرية. فالمعركة ضد النظام القائم وممارساته البشعة، على الطريق إلى اجتثاثه الكامل، يجب الا تنفصل عن المعركة ضد القوى المشار إليها، بما هي المولود غير الشرعي لإرهاب الدولة، المتلازم، في الوقت ذاته، مع إرهاب المجموعات غير الرسمية، وشبه الفاشية، التي ينتجها، بصورة أو بأخرى، النظام المذكور، وضد ممارسات هؤلاء جميعاً، ومن ضمنها تلك التي تتخذ الطابع المذهبي، سواء استهدفت أناساً من هذه الأقلية أو تلك، أو على العكس من الأغلبية. علماً بأن قضية الاقليات(سواء منها الدينية أو الطائفية) تتطلب، إجمالاً، وقفة محددة، بسبب الحساسيات التي قد تتولد في معرض التعامل مع حالتها ، الخاصة جداً.



بخصوص الأقليات الدينية في سوريا


كان المنتمون إلى الاقليات الدينية، المسيحية كما اليهودية، يخضعون، في ظل الإسلام، إلى نظام خاص، هو ذلك المتعلق بما كان معروفاً بأهل الذمة. وكان هؤلاء يدفعون ، تمييزاً لهم من اولئك المنتمين إلى الدين الإسلامي، عموماً، ضريبة محددة هي تلك المعروفة بالجزية. وهم لم يكونوا مستبعدين من وظائف عديدة في الدولة، بينها مسألة الترجمة، أو الطب، في بلاطات الخلفاء العباسيين، على سبيل المثال. اما في ظل الدولة العثمانية فمنذ اواسط القرن التاسع عشر، وبنتيجة تدخل الدول الغربية لدى ما كان يعرف ب"الرجل المريض"، أعطي هؤلاء أيضاً نظاماً خاصاً، وكانت لهم محاكمهم على صعيد أحوالهم الشخصية، وقوانينهم الكنسية الخاصة . وهو الامر المعتمد إلى الآن، في بلدان عربية عدة بينها سوريا، على وجه التحديد. هذا فيما لم تكن الاقليات المذهبية الإسلامية تعامل على أساس وضعها الخاص كأقليات ،على امتداد حقبة الخلافة، بل ينطبق عليها ما ينطبق عموماً على جميع المسلمين. فيما تغير هذا الوضع في سوريا( تماماً كما في لبنان)، منذ الانتداب الفرنسي عليها، بعد الحرب العالمية الاولى، في ما يخص الأحوال الشخصية، علماً بأنه إذا لم يكن الدستور السوري، المعتمد، منذ ما بعد انقلاب حافظ الاسد في تشرين الثاني 1970، يكرر ما هو وارد في معظم الدساتير العربية من ان دين الدولة الإسلام، إلا انه ينص على ان رئيس الجمهورية يجب ان يكون مسلماً، فيما لا يرد اي نص تمييزي مشابه، بخصوص اي من الوظائف والمناصب الاخرى، في الدولة السورية. هذا على صعيد ما هو مكتوب، اما بخصوص ما هو معتمد على ارض الواقع فمختلف بوضوح، ولا سيما بخصوص واقع المؤسسة العسكرية التي كان ثمة حرص، منذ عهد الاسد الاب، على جعل السيطرة ضمنها شبه مطلقة لضباط من المذهب العلوي، في مسعىً واضح لتأبيد السيطرة على الدولة للعائلة الممسكة بزمام السلطة منذ 44 عاماً! وهو الامر الذي يلقى ردود فعل مذهبية عنيفة على صعيد المعارضة، ولا سيما في شقها العسكري، ضد الاقليات المذهبية، عموماً - التي تعطي انطباعاً بالميل اكثر لصالح النظام القائم، من ضمن خوفها من العصبية الدينية الغالبة، في المعسكر المقابل - وضد ابناء المذهب العلوي، بوجه اخص.
وبالطبع، فإن هذا هو إحدى نقاط الضعف الاكثر خطورة في واقع الحراك القائم حالياً، في البلد المعني، ولا يمكن ان يتم تجاوز ذلك من دون إحداث تغيير جذري في كامل البنيتين القياديتين، السياسية(المتمثلة بوجه خاص بالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية)، والعسكرية (المتمثلة بمختلف الالوية والكتائب المقاتلة المناوئة للنظام القائم)، في اتجاه علماني واضح يتعامل مع السوريين والسوريات، بلا استثناء، على اساس المواطنية الكاملة، وبعيداً عن أي رؤية لهم على اساس مفهومي الاغلبية والأقليات، فيما يخص قضية المعتقدات الدينية المتعلقة بأيٍّ من هؤلاء، التي ينبغي اعتبارها شأناً خاصاً بكل فرد، من ضمن الفصل التام للدين عن الدولة. وإن تكن الحالة الوحيدة التي يجب النظر فيها إلى مسألة الجماعات، إنما هي حالة الاقليات القومية غير العربية، على اساس الاعتراف لهؤلاء بحقوقهم الثقافية والسياسية، وتمكينهم من ممارسة تلك الحقوق، على اساس المساواة التامة مع باقي مكونات المجتمع السوري، ولا سيما في حالة أكراد سوريا.
 


حول القيادة والبرنامج


لقد جاء ت الانتفاضة السورية، مثلها مثل باقي الانتفاضات في المنطقة العربية، تعبيراً عن الرفض الجماهيري العفوي، في كل من البلدان التي شهدت هذه الظاهرة، لاستمرار الوضع القائم، تحت سيطرة انظمة استبدادية فاسدة تحرم المواطنين والمواطنات من ابسط حقوقهم في الحريات الديمقراطية، والكرامة الإنسانية، والعدل الاجتماعي. ولكن في حين كان الشعبان، التونسي والمصري، يمتلكان حداً ادنى، على الاقل، من الحياة السياسية والنقابية، ولا سيما في حالة تونس(اتحاد الشغيلة التونسي، بوجه اخص، واكثر من حزب سياسي يساري، في صفوف المعارضة لنظام بن علي)، كانت سوريا تعيش حالة قحط طويلة وعميقة، على هذا الصعيد، تحت جزمة الدكتاتورية البعثية –الاسدية، الخانقة لأي حياة سياسية ونقابية مستقلة، منذ عشرات السنين، ولا سيما ان الاحزاب الوحيدة المسموح لها بالعمل هناك، ومن ضمنها الحزب الشيوعي الستاليني، بجناحيه، تنضوي في إطار جبهوي يجعلها خاضعة بالكامل لإملاءات النظام المسيطر وسياساته وبرامجه، ومعادية عملياً لأي حراك ثوري، ومسعىً جديٍّ للتغيير!
لاجل ذلك فإن الحالة السياسية التي تصدرت المشهد، بعد اشهر قليلة على بدء الانتفاضة، كانت حالة هجينة تضم إلى الجماعة الوحيدة التي تملك حداً ولو بسيطاً من التنظيم، بعد القمع الشرس الذي تعرضت له على يد النظام، والممثلة بحركة الإخوان المسلمين، حزبَ الشعب الديمقراطي السوري، بقيادة رياض الترك، واحزاباً كردية صغيرة، وبعض المستقلين. ولكن هذه الحالة لم تتمكن من إنتاج برنامج صالح حقاً للتعامل مع الحالة الجديدة التي كانت تعبرعنها الجماهير السورية المنتفضة، نحو تنظيمها، ودمج القوى السياسية الاخرى التي تملك حداً ولو بسيطاً من الحضور والفعالية السياسيين، في الساحة السورية، ممثلةً بهيئة التنسيق الوطنية(التي عانت هي الاخرى مشاكلها الخاصة، ولا سيما رهانها على إمكانية إصلاح النظام ، وفي افضل الاحوال تجاوزه عن طريق الدخول في حوار معه، تحت إشراف حلفائه الخارجيين الاساسيين، روسيا وإيران والصين!). والاسوأ من ذلك ان المجلس الوطني وضع رهانه الكامل، ليس على طاقات الشعب المنتفض، بل على احتمال التدخل العسكري الخارجي، الاميركي، بخاصة، على الطريقة الليبية. وقد فشل كل من الطرفين المذكورين في إدراك مدى خطورة الصعود المتنامي للمجموعات العسكرية السلفية، والتحذيرمن ذلك، والعمل على الحؤول دون تحوله إلى امر واقع مسيطر، قبل فوات الأوان، لا بل شارك المجلس الوطني، على الاقل في جناحه الوازن، المتمثل في حركة الإخوان المسلمين، في تسهيل هذا التحول. وهو واقع لم يتغير بصورة مؤثرة مع احتلال "الائتلاف الوطني" محل المجلس المشار إليه في تمثيل معارضة الخارج، البرجوازية، الحاظية بالاعتراف العربي والدولي ، كممثلة للمعارضة السورية، وإن كان هذا الاخير كفّ عن الهرولة خلف سراب التدخل العسكري الخارجي، ولكن من دون ان يفقد أحلامه بإمكانية الحصول من "أصدقاء سوريا"، المزعومين، بقيادة الإدارة الاميركية، على السلاح النوعي المفترض ان يعدل جذرياً ميزان القوى العسكري مع النظام، ويكسر الاستعصاء الراهن الذي تعانيه المعارضة السورية، العاجزة عن هزيمة هذا الأخير، عسكرياً، والتي فشلت في الحصول منه على ادنى تنازل، في مهزلة الحوار السياسي معه، في جنيف2!
لقد بات معبراً ان نرى المشهد الكئيب للغاية، المتمثل في ظواهر أربع محبطة جداً:
1- تقدُّم النظام السوري عسكرياً، في المرحلة الاخيرة، على الارض، وتحوله من الدفاع إلى الهجوم ، ولا سيما بعد التدخل المكثف إلى جانبه، من قبل حزب الله، اللبناني، المؤتمر كلياً بتوجيهات الولي الفقيه الإيراني، فضلاً عن تدخل الميليشيات العراقية الشيعية، وحراس الثورة الإيرانيين، والسلاح الروسي المتقدم، زائد استخدام شتى أنواع الاسلحة المدمِّرة، بما فيها تلك المحرمة دولياً، كالغازات السامة، وتحديداً غاز الكلور، من دون اي رادع دولي هذه المرة، بعد ان نجحت الإدارة الاميركية سابقاً في تجريد دمشق من الغالبية الكبرى من سلاحها الكيماوي، محررة إسرائيل، هكذا، من تهديد جدي كامن لها كان يمثله السلاح المشار إليه.
2- انشغال القوات العسكرية المناوئة للنظام في التقاتل فيما بينها، مع سقوط اعداد كبيرة من الخسائر البشرية، في صفوفها، بنتيجة ذلك، بما يسهل مهمة السلطة الاسدية في تعزيز وضعها العسكري، واستعادة زمام المبادرة في صراعها لإبعاد شبح الانهيار عنها، وإنزال افدح الخسائر في خصومها.
3- بناء الرئيس السوري، المنتهية ولايته، على أساس ذلك، تطلعاتٍ تمتلك، في نظره، ولو الحد الادنى من المقبولية لتجديد هذه الولاية، بترشيح نفسه مجدداً إلى منصب الرئاسة الاولى، على قبور مئات الألوف من ضحاياه في صفوف الشعب السوري!
4- تقديم المبعوث العربي والدولي، الاخضر الإبراهيمي ، استقالته من منصبه كمنتدب من الاسرة الدولية لحل الأزمة السورية بالطرق السياسية، في ما يشكل إعلاناً صريحاً بالفشل الذريع والنهائي لمهمته تلك.
5- غياب البرنامج الثوري الحقيقي الذي يفترض ان تتمكن اي قيادة لها الحد الادنى ،على الاقل، من المصداقية، من تعبئة شعبها على أساسه، وشحذ همم كل من يتملكهم اليأس بينهم من المضي في مسعى التغيير، وذلك على أساس المطالب الأساسية التي نزلت الجماهير السورية على قاعدتها إلى شوارع المدن السورية ، داعية السفاح السوري إلى الرحيل، الا وهي إطاحة الدكتاتورية والظفر بالحريات الديمقراطية، واستعادة الكرامة الإنسانية، وتحقيق العدالة الاجتماعية.
 


على سبيل الخاتمة:هل من إمكانيةٍ لتلمُّس مخرج من المأزق الراهن؟!


كانت القيادة الوحيدة التي تتماثل مع تطلعات الشعب السوري إلى الحرية هي تلك التي تشكلت منها التنسيقيات، في الاشهر الاولى للانتفاضة السورية، وليس بالطبع أيٌّ من المنتفعين الفاسدين من آلام شعبهم، في فنادق أوروبا وتركيا، وباقي مراكز استراحة هؤلاء عبر العالم، في حين يعيش ملايين النازحين والمهجرين السوريين، نساءً ورجالاً، حياة تفتقد ادنى مقومات الكرامة والدفء الإنساني، بعيداً عن بيوتهم المدمرة بقذائف الموت الباليستية، والبراميل المتفجرة، وباقي ادوات الخراب والكارثة. والقيادة المفتقدة تلك قضى عليها النظام باشكال شتى مذاك. ولا يزال الشعب المنوَّه به ينتظر صعود قيادة جديدة من الجوهر نفسه تأخذ على نفسها تحقيق المهام التالية:
• استخدام المنابر الدولية المتوفرة بالفعل، والتي لم تحاول قيادات اسطمبول والقاهرة وباريس طّرْقَ ابوابها في يوم من الايام، وذلك لكسر الاستعصاء المتمثل في حق النقض الذي يمارسه حليفا النظام السوري المعلنان، في مجلس الأمن، روسيا والصين. وذلك عن طريق اللجوء إلى الجمعية العامة ، عبر مَعْبَر "الاتحاد من أجل السلام"، الذي تم استخدامه في كل مرة انوصدت فيه بالكامل ابواب المنظمة العالمية أمام الشعوب المقهورة والمتعرضة للظلم والعدوان. ومن ذلك في اوائل خمسينيات القرن الماضي، خلال الحرب الكورية، هرباً من الفيتو السوفييتي، ثم في خريف 1956، إبان العدوان الثلاثي على مصر، وتحاشياً لفيتو الدولتين المشاركتين لإسرائيل في ذلك العدوان، اي بريطانيا وفرنسا. وقد اضطرت الدول المعتدية إلى وقف عدوانها والانسحاب من مصر، خلال اسابيع قليلة بعد اتخاذ القرار بذلك، بواسطة الجمعية العامة. وكانت إحدى آخر الحالات التي تم استخدام تلك الآلية فيها ، قبل سنوات قلائل(في العام 2004)، حين اتخذت الجمعية العامة توصيتها، على اساس سابقة "الاتحاد من اجل السلام"، بعرض قضية جدار الفصل العنصري الذي تبنيه إسرائيل بين الضفة الغربية والخط الاخضر، على المحكمة الدولية العليا، لاتخاذ قرار بشان انعدام شرعيته، وضرورة هدمه. وهو القرار الذي اتخذته بالفعل المحكمة المشار إليها. أما الهدف من وراء ذلك فينبغي ان يكون اتخاذ الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارات عدة ضد النظام القاتل في دمشق، من بينها قرار بتحويل الرئيس السوري، بشار الأسد، وباقي المسؤولين الاساسيين في نظامه، وبينهم شقيقه ماهر، وباقي الجنرالات الأساسيين، الذين يتحملون تبعات ما تتم ممارسته من جرائم كبرى ضد الشعب السوري، امام محكمة الجنايات الدولية، لمحاكمتهم وإنزال العقاب بهم، بالضبط، بسبب جرائم ضد الإنسانية يقترفونها بحق الشعب المذكور. فضلاً عن قرارات أخرى بإطلاق كل المعتقلين والمعتقلات السياسيين من سجون النظام المعني، ووقف كل عمليات القصف بالطائرات، وبواسطة البراميل المتفجرة، وشتى وسائل الحرب الاخرى، ضد المدن والاحياء الشعبية السورية. بحيث يفتح ذلك الطريق امام انتخاب الشعب السوري بملء حريته سلطة ديمقراطية تمثل مصالحه الفعلية، وتعيد بناء المدن والقرى المدمرة، وتحل مشكلة ملايين النازحين والمشردين السوريين، عبرالعالم.
• العمل في آن معاً على أن تتخذ الجمعية العامة نفسها قراراً، أيضاً، بإحالة كل من ارتكب جرائم حرب بحق الشعب السوري من ضمن المجموعات المشاركة في القتال، ولا سيما في تنظيمات داعش والنصرة وغيرها ، إلى محكمة الجنايات الدولية نفسها، لمحاكمتهم وإنزال العقاب بهم، وحل منظماتهم، وترحيل كل اعضائها القادمين من شتى بقاع الأرض، لممارسة القتل فوق الارض السورية.
• الضغط لكي تتخذ الجمعية العامة، بموجب الآلية عينها، المسماة الاتحاد من اجل السلام، قراراً بتجريم كل دولة تتولى دعم النظام السوري، كشريك له في جرائم الحرب التي يمارسها ضد شعبه، وحظر كل اشكال التعامل معها.
• توفير الشروط المناسبة لقيام حكومة انتقالية يتم اختيارها بإشراف دولي، وعلى أساس اقصى الشفافية، تتولى البدء بإعادة بناء الدولة السورية، وإعمار المدن والقرى والمناطق المهدمة، واستيفاء شروط عودة كريمة لكل النازحين والمهجرين إلى اماكن سكن مؤقتة تتوفر فيها المواصفات الضرورية لتأمين ظروف العيش الكريم، بانتظار إعادة إعمار بيوتهم وأماكن سكنهم الاصلية، على قاعدة حملة عالمية لدعم عملية إعادة الإعمار هذه، وفي سياق العمل الحثيث لأجل حصول الانتخابات الديمقراطية المنوَّه بها أعلاه ، تحت إشراف الجمعية العامة بالذات، وضمن شروط النزاهة، والشفافية، والمساواة.
• اتخاذ الجمعية العامة القرار، في الوقت عينه، بتعيين لجنة دولية تتولى متابعة تنفيذ القرارات التي تصدرها بشأن سوريا، وذلك تحت إشرافها الوثيق، وبما يضمن وقف الكارثة المأسوية التي يعيشها الشعب السوري، والتي تخل جدياً، ليس فقط بأبسط الواجبات الإنسانية حيال هذا الاخير، بل كذلك بالسلم العالمي، وكل ما تمكنت الحضارة الإنسانية من إنتاجه من مبادىء ومقومات لظهور مجتمع عالمي يرتكز بصورة أساسية على إرادة التضامن والاحترام المتبادلين بين البشر، وعلى رؤية متقدمة لحقوق الإنسان.