أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد عبيدو - يوسف شاهين تجاوز الثمانين ومازال في شباب نشاطه















المزيد.....


يوسف شاهين تجاوز الثمانين ومازال في شباب نشاطه


محمد عبيدو

الحوار المتمدن-العدد: 1551 - 2006 / 5 / 15 - 12:17
المحور: الادب والفن
    


يمكننا ان نلاحظ ان مخرجنا العربي يوسف شاهين هو اليوم الأكبر سناً بين مبدعي الفن السينمائي الكبار في عالم اليوم. الذين يواصلون ابداعهم في هذا الفن الذي شكل، ولا يزال يشكل، حياتهم كلها، وربما مبرر وجودهم أيضاً.
يوسف شاهين، مثله في هذا مثل قلة من المخرجين في شتى أنحاء العالم، تجاوز منذ زمن بعيد السن التي يخلد فيها المرء الى الهدوء والتقاعد ليعيش في ذكريات زهو أيامه الماضية. وها هو اليوم، بالذكرى الثمانين لمولده، ويتجاوز عمره في الاخراج السينمائي 57 عاما، يبدو غضاً ومتحمساً كما كان عند تحقيقه فيلمه الأول "بابا أمين" في العام 1949 . وها هو قد اختار لفيلمه الجديد عنوان “هي فوضى”، وهو عنوان يحمل الكثير من الدلالات والإيحاءات، وفي الوقت نفسه يحمل علامات استفهام عديدة يطرحها شاهين من خلال الفيلم.
شاهين بفيلمه الجديد “هي فوضى” يحاول.أن يستعرض أحوال المجتمع بمختلف طبقاته من خلال شخصية أمين شرطة، هو محور الأحداث، يعمل في قسم شبرا، ذلك الحي الشعبي المكتظ بالسكان، مسلمين ومسيحيين، فضلا عن الدلالة الاجتماعية التي يحملها هذا الحي الشعبي العريق، وما يحمله من وجود تفاوت طبقي كبير، حيث الفقراء وأصحاب النفوذ والنقود في مكان واحد لا فصل بينهما سوى بحائط، كما يطلق الفيلم صرخة مدوية محذرا من القوة عندما تصبح في يد جاهل... وحول مضمون فيلمه الجديد ، أكد يوسف أنه لا يقدم أعمالا من الخيال وإنما من الواقع المعيش، مضيفا لها استشعاره كفنان بما سيحدث في المستقبل، هو دور مهم جدا للفن والفنان، وأن اختياره لعنوان الفيلم “هي فوضى” يأتي ردا على الأحداث السياسية المتلاحقة في المنطقة، التي هي في الغالب هي مُصدّرة إلينا، دون أن يكون هناك رد فعل واضح ومحدد، ما يبدو أننا لا نعرف ماذا نريد من القوى الدولية، بمعنى أنه لابد أن تكون لنا مطالب واضحة ومحددة تجاه ما يحدث أو حتى ما نشارك فيه بالرأي، مشيرا أنه إذا لم يكن لك رأي في كل ما يحدث حولك، فهذا يعني انك لا تتمسك بحاضر ومستقبل بلدك
أن يكون يوسف شاهين هو المخرج العربي الوحيد الذي ينشر عنه (تاريخ أسكفورد للسينما العالمية) فإنه أهم تقدير للسينما العربية من خلال أحد أهم رموزها.
وقد شهد شاهين الاهتمام العالمي حينما منحه مهرجان كان 1997 جائزة اليوبيل الذهبي عن مجمل إنجازاته. و حياه النقاد والصحفيون في العرض الصحفي الخاص ثم الجمهور في العرض العام وحفل الختام. وأصدرت مجلة (كراسات السينما) عددا خاصا فيما شارك في كتابته نقاد مرموقون
ومن الصعب أن يمر فيلم للمخرج الكبير يوسف شاهين دون أن يكون قادرا دوما علي إثارة الجدل وطرح التساؤلات.. هكذا عودنا... ولايزال بإمكانه رغم تجاوزه الثمانين ليثبت أن الشباب الحقيقي هو شباب الروح....
يوسف شاهين من المخرجين الذين يثيرون ضجة لا تهدأ منذ أن يفكر في فيلم جديد وحتي عرضه‏.‏والكلام عن فيلم لـ« يوسف شاهين» كلام يمتد إلي ما لا نهاية.. فأفلامه تحمل دائما عناقيد مثمرة ولآلئ خفية وبقع ضياء.. يحار المرء فيها..
أسفرت تجربة شاهين الفنية على مدار 57 عاما اختزلها شاهين في‏80‏ ساعة هي مدة ـ زمنا وطولا ـ الشرائط الساحرة التي حملت توقيعه وبصمته وعمره‏(35‏ فيلما روائيا طويلا‏,‏ و‏6‏ أفلام روائية وتسجيلية قصيرة‏)..‏ وعكست موقفه من الحياة والوطن والبشر، واستطاع خلالها أن يحافظ على قدرته على التنفس الفني ليسبح خارج السياق حينا وبعيدا عن السياق في معظم الأحيان.
ولد يوسف شاهين في 26 كانون الثاني 1926 بمدينة الإسكندرية ،ورحلته السينمائية بدأت عام 1950 حينما عاد من اميركا شابا ممتلئا بحب السينما حيث كان يدرسها في كاليفورنيا ، ليخرج في مصر أول أفلامه " بابا امين " وعمره وقتها 22 عاما ليكون أصغر مخرج سينمائي مصري ..
وبنجاح " بابا امين " أخرج" ابن النيل " 1951 الذي يروي فيه حكاية الفلاح الذي يهجر زوجته وعائلته وأرضه وقريته ويذهب إلى المدينة بحثا عن المغامرات والمجهول ثم " المهرج الكبير " و " سيدة القطار " و"نساء بلا رجال"
ورغم ان هذه الاعمال بدت مختلفة في لغتها السينمائية عن السائد حينذاك الا ان شاهين كان يراها تقليدية، وبعد اربع سنوات وتحديدا في العام 1954 حاول ان يخرج عن هذا الاطار فقدم «صراع في الوادي» قدم فيه لأول مرة في السينما عمر الشريف الى جانب فاتن حمامة و ، وظل شاهين يفتش عن احلامه ويصنع افلاما لم يقتنع بها كثيرا حتى قدم فيلما صار من رموز السينما العربية . وهو «باب الحديد» الذي قام شاهين بالتمثيل فيه ، ،وكان فيه واضحا في تعرية البؤس الذي تعاني منه الجماهير عندما تناول لأول مرة في السينما العربية مسألة الجنس كشكل من أشكال القهر الذي يعانيه الانسان فيلم (باب الحديد) يكرس البداية الحقيقية لمخرج كبير واول نجاح سينمائي عالمي ليوسف شاهين .. فقد تميز فيه بأسلوبه الدقيق الذي لفت الانظار اليه بواقعينه وشاعريته في آن واحد .. كما كان بداية للعديد من أفلامه التي تعالج قضايا الانسان العربي ومشاكله وهمومه وتطلعاته :
«جميلة بوحريد» 1985 الذي كان نموذجا لاتجاه شاهين نحو الفيلم الوطني والقضايا العربية و « الناصر صلاح الدين» 1963 وجسد فيه الصراع بين الشرق والغرب , بين حركة التحرر العربية والغزو الاستعماري كرمز يومئ لجمال عبد الناصر . ، وعقب نكسة 1967 مثله مثل الجميع اهتز كيان يوسف شاهين وقرر العودة الى مصر بعد ان كان قد اقام في لبنان، لتبدأ مرحلة جديدة في حياته الفنية بفيلم «الارض» الذي يمثل نقطة التحول في سينما شاهين. كما يقول النقاد، وقام بتدشين المرحلة الجديدة عام 1969 بفلم " الاختيار" , وفيه ابتدأ اهتمام يوسف شاهين بالشكل الفني . وفيه يحلل بجرأة الواقع السلبي للمثقفين العرب ضمن ازدواجيتهم ووصوليتهم التي كانت أحد أسباب الهزيمة ..ثم " العصفور " الذي تنبأ فيه بحسه الفني بأن الشعب سيخرج في الشوارع رافضا الهزيمة .. ثم جاء " عودة الابن الضال " الذي كان بداية البحث المعمق لدى يوسف شاهين , حيث أن ارهاصاته الفكرية الاولى قد تبلورت له جلية من واقع خبرته الشخصية ومن واقع ومشاكل الوطن, و في هذا الفيلم يغوص المخرج في نماذج انسانية معينة يكشف عن طريقها أزمة الحياة في بلده بعمق ..
والافلام الثلاثة السابقة كانت بحثا سينمائيا في تقصي اسباب الهزيمة والاحلام المجهضة.. وفي أفلامه القادمة حاول يوسف شاهين أن يقدم معادلة صعبة في الفن , وهي أن يقدم المشاكل العامة من خلال الهموم الخاصة لأبطاله وبشكل جماهيري ومحاولة بعد الاخرى كان يقترب من حل هذه المعادلة الفنية العسيرة , وكان يقترب من النجاح بشكل أو بآخر , ليوفق تماما في تحفته الفنية " اسكندرية ليه " 1978 حيث يواصل تشخيص المجتمع متوغلا أكثر في اتجاهات الشخصيات وأفكارها وقيمها ولكن من خلال تجربته الشخصية وحياته .. و " اسكندرية ليه " يمكن اعتباره رؤية شاعرية لفنان .. أو " بورتريه " وضع خطوطه فنان يتمتع بحب شديد واحساس نادر تجاه مدينته التي نشأ وتربى فيها , عاكسا من خلال خطوطه وألوانه كل انطباعاته عنها في تلك الفترة , كمدينة للطمح والاحلام والحب والنضال والحرب والجشع زالتمرد والثورة : و " اسكندرية ليه " على هذا النحو اذن , يمكن اعتباره " رؤية ذاتية " .. ولكنها رؤية ذاتية من واقع خيال موضوعي جدا , أي الرؤية الذاتية هنا ليست مستمدة من مجرد انطباعات عابرة أو مذكرات قديمة كتبت في فترة وقوع الاحداث , ولكنها رؤية تمت صياغتهامن خلال نمو الوعي لدى الفنان طوال أكثر من ثلاثين عاما .
وداخل " بورتريه " اسكندرية ليه , هناك " يحيى " الذي يعبر عن يويف شاهين نفسه – 1942 – والعمر ستة عشر عاما .. الحرب .. التضخم .. غواصات في البحر المتوسط والموت على رمال العلمين والاسكندرية مسقط الرأس .. عدد الاجانب وقوات جيوش الحلفاء أكثر من المصريين . الشاب المسلم الفقير الذي يقع في حب الفتاة الثرية اليهودية والتي تهاجر تحت ضغط والدها الى " ارض الميعاد " ليكتشفا الاكذوبة الكبرى .. ويعانيا القتل والذبح والتشريد للألاف المؤلفة من الفلسطينيين سكان الديار الحقيقيين وعندما يكتشفان الخديعة , يبقى الاب ولكن الفتاة تفر وتعود مرة اخرى الى مصر حيث لم يحدث أن اضطهدت من قبل لتجد حبيبها معتقلا بسبب نشاطه الشيوعي .. وهناك يحيى " يوسف شاهين نفسه " الشاب الطالب بكلية فكتوريا الذي يعشق التمثيل والموسيقى ويحاول أداء دور هاملت في عرض جامعي .. وتكبر فيه فكرة السفر الى أمريكا لدراسة التمثيل .. ويعيش هاجس حلم السفر .. والذي يتجسد له في النهاية في تمثال الحرية " وصوله لامريكا بالفعل " والذي ما يلبث أن بغمز لنا – كغانية ملطخة بالأصباغ – غمزة ذات مغزى .
يقول يوسف شاهين في حوار معه : " في حياة كل منالحظات ادراك .. هكذا أطلق عليها أو هكذا أسميها لأنني لاأعرف تسمية اخلاى .. بالنسبة لي كانت لحظة الادراك الكبرى في حياتي وما تزال هي هزيمة حرب يونيو 1967 لا استطيع أبدا أن أنسى هذه اللحظة .. وهي وهي لم تكن لحظة بكاء بل لحظة تنوير .. ادراك .. كان الحلم الامريكي قد انتهى عام 1956 وكان 5 يونيو نهاية الحلم الاجتماعي اذا جاز التعبير أو الحلم بمجتمع جديد بالطريقة التي كان يصنع يصنع بها , وأخيرا انتهى حلم الحياة ذاتها بعد العملية التي أجريتها في قلبي عام 1977 . أردت ان أتحدث عن الاحلام المحطمة فكان " اسكندرية ليه " .
وفي فيلم " حدوته مصرية " 1982 نحن أمام كم غزير من الاحاسيس والمشاعر التي ربما يكون انتقاها يوسف شاهين من حياته الخاصة , ولكن من المؤكد أن كل منا عاشها .. تلك اللحظات الصغيرة المتعلقة بالذات والوطن .. الحياة والموت .. الحرية .. النجاح والاحباط , كل تلك اللحظات التي نعيشها يوميا , تمكن يوسف شاهين من أن يضعها أمامنا بحس فني وانساني رفيع وبسيط في نفس الوقت . من جانب آخر استعراض لتلك الشيكة المعقدة المعقدة من العلاقات مع الذات والعائلة والمجتمع والفن وكيفية تفاعلها كل مع الاخر وتوازنها مع بعضها البعض . كل ذلك عبر فترة تاريخية هامة جدا زحساسة من تاريخ مصر .. مصر والملك والاستعمار ثم مصر وثورة يوليو .
" وداعا بونابرت " اثيرت حوله ضجة كبيرة . وقوبل بالهجوم من قبل البعض وبالمديح من قبل البعض الاخر .. وفي الفيلم يجسد شاهين جدلية اللحظة التاريخية في جوانبها المضيئة والمظلمة معا , لحظة الايقاظ والاستعباد , الجنرال كافياريللي الذي حاول أن يعرف العرب بالحضارة الفرنسية وفرنسا بالحضارة العربية , نابليون الباحث عن مجده عبر الانتصارات العسكرية , جمود المماليك , مقاومة المصريين ووحشية الاستعمار .. الخ .
ثم فيلمه " اليوم السادس " الذي عاد فيه الى لحظات درامية ببداية القرن والجوع وانتشار مرض الكوليرا الفتاك بمصر ..
بعد " اسكندرية ليه " و " حدوته مصرية " قدم يوسف شاهين جزءا ثالثا من سيرته الذاتية في " اسكندرية كمان وكمان " 1990 . الفيلم الاول قدم المخرج فتيا يعايش أحداث القاهرة السياسية في الثلاثينات والاربعينات ويقرر أن يدرس السينما في أمريكا , في الفيلم الثاني سيكمل الحكاية مستعرضا بعض أهم مراحلها في الستينات والسبعينات . أما في " اسكندرية كمان وكمان " فانه يصل بها الى الحاضر تماما , الملقي لنظرة متفحصة شاملة لهذه الافلام يدرك لأن أن مسألة الفنان في الذات القلقة هي واحدة . وأن ما يؤرق المخرج هو البحث عن تطابق معين ما بين المتناقضات القائمة في تلك الذات وبين الرسالة الفنية التي ينشدها . لكن من خلال النظرة ذاتها , يتبدى أن المخرج شاهين انسان مرهف , موهبة مصقولة , عقل مثقف وشخصية أنانية تتعامل على أنها المحور الوحيد للعالم من حولها . " اسكندرية كمان وكمان " يكشف ذلك كما لم يفعل أي فيلم آخر , وهو يضعنا أمام الفنان ونظرته تجاه ناسه ومجتمعه , ويدعونا الى نوع من المصارحة مع الذات والآخرين ..
وتوالت افلامه حتى وصلت الى «المهاجر والمصير والاخر» حيث حاول تقديم رسالة تسامح في ذات الوقت يفضح ويدين التعصب والتطرف
ثم فيلمه "سكوت حنصور" 2001 وقد ضم وجوها جديدة من اكتشافه أهمها هي الممثلة التونسية لطيفة والممثل الشاب أحمد وفيق، وقال شاهين أن "موضوع الفيلم هو قصة حب خطر بين فنانة واحد الوصوليين ، وقد تم تصوير الفيلم في باريس بصحبة اوركسترا سيمفونية .
يليق بالبعض أن يروي سيرته، ولا يليق بالبعض الآخر. يوسف شاهين من ذاك البعض الأول، حياته ثرّة، غزيرة المحطات والتفاصيل، ولطالما أتقن كشفها وتعريتها والإفصاح عن طابعها المركّب [تبعاً لشخصيته]، وبخاصة في ثلاثيته الذاتية المشهورة. وها هو يكمل فصول تلك السيرة في جديده "اسكندرية... نيويورك " والذي قدمه عام 2004 . وقد بلغ الثمانية والسبعين من العمر يمثل يوسف شاهين عبقرية خاصة ومتفردة في تاريخنا السينمائي‏,‏ ليس فقط بما قدم من أعمال فنية‏,‏ وإنما أيضا لأنه صاحب أول سيرة ذاتية عرفتها السينما العربية‏,‏
وإن تقاطعت سيرة يوسف شاهين مع معظم أفلامه وألمح مراراً الى تلك المرحلة الأميركية المعلّمة في شخصه وعمله السينمائي، إلا أنّ اموراً كثيرة ظلت طيّ الذات، كأنها تنتظر أوان البوح والخروج من الذاكرة الى العلن المشهدي، فأتت أفلامه تكشف ما ضمر من تلك السيرة الغنية على هدي موقف انساني وسياسيّ وحضاريّ فرضته التطورات [السياسية في شكل خاص، وشاهين سينمائيّ سياسيّ بامتياز]، إنما في ثوب عاطفي نوستالجي لا يخلو من مرارة وأسى ومقارنة بين جيلين وزمنين وقيم انسانية وفنية متبدّلة.
على ان «اسكندرية ...نيويورك» لايقوم على حقائق تفصيلية بقدر مايسترجع مرحلة من حياة المخرج بإضافة احداث متخيلة، فالفيلم هو كلمة شاهين بعد 11 ايلول، او اعلان لموقف بدأ مع فيلمه القصير«11 ايلول» من ضمن مجموعة افلام قصيرة لمخرجين عالميين وها هو يكمله هنا. في «اسكندرية نيويورك» يروي شاهين، بلغة سينمائية تبدو اكثر هدوءاً ورزانة هذه المرة حكاية علاقته بأمريكا من خلال علاقته بالسينما وهذه المرة يبدو التطابق بينه وبين بطله يحيى، اوضح من أية مرة سابقة، اذ ان اسم يحيى موجود على ملصقات افلام شاهين التي تشكل خلفية بعض المشاهد في « لينكولن سنتر» في نيويورك . إن ما يرويه شاهين، هذا في الاساس هو خيبته إزاء امريكا، ولكن ليس في المعنى التبسيطي الذي كان متوقعاً، بل في العمق، قدم يوسف شاهين الحضور الامريكي القمعي في الفيلم حيث تقترن نيويورك بسطوة النفوذ الصهيوني، وسيطرة اليمين الرجعي، واستشراء النزعات الاستعلائية المعادية لكل ما ليس امريكيا. يبدأ الفيلم بمشهد المخرج يحيى مع صديقه الشيوعي علي في مقهى باب الحديد حيث يصور فيلم باب الحديد عام 1956... مع حوار بينهما حول رفض امريكا تمويل مشروع السد العالي... فيقارن (يحيى) بين رفض امريكا تمويل السد وبين رفضها تمويل فيلمه (الناس والنيل) الذي يمجد جمال عبد الناصر.. يقول يحيى لصديقه ان امريكا هي التي اوقفت العدوان الثلاثي على مصر... لكن صديقه يصحح له هذا الخطأ بأن الانذار الروسي هو الذي اوقف الحرب ونرى ان بطل فيلم« اسكندرية نيويورك» هو يحيى شكري مراد الاسم نفسه الذي تكرر في الفيلمين السابقين لشاهين عن الاسكندرية، وتكراره يدل على تأكيد الرسالة الضمنية التي يراد توصيلها الى المشاهد،كي تلفت انتباهه الى ان هذه الافلام عن يوسف شاهين بوصفها مرايا لحياته...ولذلك يضم فيلم «اسكندرية... نيويورك» وقائع اساسية دالة من حياة يوسف شاهين : ابن المحامي الذي ذهب الى معهد التمثيل في باسادينا -لوس انجليس- كاليفورنيا ليدرس التمثيل والمغرم بتمثيل شخصية هاملت التي تشبهه من حيث ما ينطوي عليه من سؤال الحضور في الوجود، تتوالى احداث الفيلم في فلاش باك ماراً بأزمنة مختلفة بالوقت نفسه الذي قررت فيه امريكا تكريمه بإقامة مهرجان لأفلامه في نيويورك... كان يتابع احداث انتفاضة الاقصى في نيويورك إثر حادث 11 ايلول فيغضب ويقرر عدم السفر لكنه يعود ويسافر ليبين حالة التردد والتمزق التي يعانيها ويسافر تصحبه زوجته (جان) ليروي الفيلم في فلاش باك قصة حب عاشها شاهين ايام الصبا اثناء الدراسة في معهد باسادينا حينما التقى بالشابة الحسناء (جنجر) واثمرت علاقتهما عن ابن اصبح راقص باليه مشهور في نيويورك وكان (يحيى) قد قرر فجأة العودة الى مصر لأن عائلته كانت محتاجة اليه بعد وفاة الأب. ففضلت الأم (جنجر) ان تربي ابنها بعيداً عن ابيه الذي انقطعت اخباره... واستقر في مصر وتزوج من (جان). يلتقي (يحيى) بعد هذه السنين كلها بجنجر التي احبها وهو شاب والتي ظهرت تجاعيد السنين على وجهها في مشهد حميمي مؤثر وفي فلاش باك يتذكر شاهين علاقته القديمة بأمريكا منذ كان ينوي إقامة فيها والعمل في هوليوود، ويتذكر الماضي الجميل حينما كانوا يعجبون برقصات فريد استير واليوم بغلاظة ستالوني، وكان متردداً في قبول الدعوة بسبب موقف امريكا في ترك اسرائيل تنكل بالفلسطينيين... ان امريكا الحلم تغيرت.... ويعرف( يحيى) ان له ابناً عمره 20 عاماً...ويجد نفسه في وضع لا يحسد عليه بين زوجته التي لم تستطع ان تنجب له ابناً وبين حبيبته القديمة ام ابنه التي احبها وهو شاب يدرس في امريكا... لكن سرعان ما تنشأ صداقة بينهما لأنها على حد قول الزوجة لا تستطيع مناقشتها وهي ام لأبنه يحيى لكن الحلم يتحول الى كابوس حينما يحتقره لأنه عربي متخلف في نظره. كما أنه ليس ممهدا لتغيير حياته. ويجد (يحيى) نفسه امام معركة لم يكن يتوقعها... لقد تبدد حلم يوسف امام وحشية امريكا التي ترفضه اليوم بمنتهى الوحشية متمثلة في ابنه...وبالتالي يعلن يحيى رفضه لهذا الابن المغرور حتى ولو كان حلم حياته...وفي المشهد الأخير نرى يحيى يسير وسط زحام نيويورك وقد بدت على وجهه علامات الغضب ويتوه وسط الزحام حيث نستمع لأغنية علي الحجار بصوته المليء بالشجن (نيويورك بتقتل كل حنين)، وعرض يوسف شاهين في ثنايا الفيلم ابرز افلامه فكان يكرر مراراً عرض مقاطع من بعض افلامه السابقة، كما انه يعيد اخراج مشاهد سبق له ان اخرج مثلها.... وحول الفيلم قال يوسف شاهين: ان الحلم الامريكي الذي كان يراوده في صباه تحول الى كابوس... وإنه اراد في الفيلم ان يعبر عن تمزقه الداخلي فهو عاش واعجب بأمريكا ...في حين أنه الآن يشاهد التلفزيون ويرى المذابح في فلسطين والعراق، تاريخ شاهين السينمائي لا ينكره احد، وتجربته الاخراجية لا يختلف عليها اثنان، اما فكره ومنهجيته، فهما ملك له حتى وإن اختلف معه البعض، لكن المؤكد ان الفنان الحقيقي هو الذي يترجم فكره الى اعمال ويقدم قناعاته الشخصية من زاوية تخدم توجيهاته، والفنان الصادق ايضاً هو الذي يجاهر بإخفاقاته ويواجهها، ويصحح من انطباعاته وفكره اذا ما رأى الصواب وباغته الواقع بعكس اعتقاداته... ...يقودنا هذا المخرج الى تلاوين روحه ويغادر معنا وبنا على حافة الهاوية ، إنه فن المغامرة الدائمة، و أفلامه مليئة بالحميمية ومشحونة بالانفعالات والعواطف المتأججة. وأيضاً بالذاكرة والاحلام... وإذا كانت معظم أفلامه تقف عند حافة التمرد فإنه يكفيه أن عاش هذه الحياة الفنية المديدة، محافظاً على تلك البذرة من المقاومة ورافضا الرضوخ للأمر الواقع، وهذا ما يجعله بالفعل شابا في الثمانين.



#محمد_عبيدو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ستانلي كوبريك : سيرة حياته وأعماله
- مشاكسات الورود
- أحلام السينما وتمرد السوريالي لويس بونويل
- تمارين العزلة
- السينما الجزائرية بعد الحرب..
- اضاءة على السينما الصينية
- افلام السيرة الذاتية
- الصهاينة و- الهولوكوست - سينمائيا
- السينما والتاريخ العربي


المزيد.....




- -أنتم أحصنة طروادة للفساد الاجتماعي-.. أردوغان يهاجم مسابقة ...
- آخر مرافعة لترامب في قضية الممثلة الإباحية ستورمي دانيلز الأ ...
- طريقة تنزيل تردد قناة توم وجيري الجديد 2024 نايل سات لمتابعة ...
- نتنياهو عن إصدار مذكرة اعتقال ضده من الجنائية الدولية: مسرحي ...
- كرنفال الثقافات في برلين ينبض بالحياة والألوان والموسيقى وال ...
- ما الأدب؟ حديث في الماهية والغاية
- رشيد مشهراوي: مشروع أفلام -من المسافة صفر- ينقل حقيقة ما يعي ...
- شاهد الآن ح 34… مسلسل المتوحش الحلقة 34 مترجمة.. تردد جميع ا ...
- مصر.. تأييد الحكم بالسجن 3 سنوات للمتسبب في مصرع الفنان أشرف ...
- بعد مسرحية عن -روسيات ودواعش-.. مخرجة وكاتبة تواجهان السجن ف ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد عبيدو - يوسف شاهين تجاوز الثمانين ومازال في شباب نشاطه