أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جواد بولس - حين كانت فلسطين محتلة!















المزيد.....

حين كانت فلسطين محتلة!


جواد بولس

الحوار المتمدن-العدد: 5987 - 2018 / 9 / 7 - 04:35
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


أحاول منذ مدة طويلة ألّا أمثل أمام المحكمتين العسكريتين الموكلتين بمحاكمة الفلسطينيين ومعاقبتهم بعد إدانتهم " كمجرمين" يستحقون حياة السجون فقط.
لقد بدأتُ مزاولة مهنة الدفاع عن المقاومين الفلسطينيين ضد الاحتلال الإسرائيلي قبل زهاء أربعين عامًا.
كانت عقود اربعة من الشقاء والتحدي؛ انتظرت فيها أصابع الرب عساها تطلّ وتمطر الشر بحجارة عدلها.
أربعون خلت من عمر شعب لم يزل يعشق الغزالة وينام في عين القدر، لكنه لم يرَ من السماء إلا الغضب والظلم والنسيان .
لبستُ قميصًا أبيض وربطة سوداء. لم أعتن بتصفيف شعري فتركته يلائم أحساسي في ذلك الصباح الثقيل.
صرت أكره تبديد وقتي في ساحة محكمة عوفر العسكرية، فاتصلت مع زميلي لأتأكد من ساعة بدء جلسة الشبل شريف، فصادق على ما كان.
وصلت في العاشرة كما كان طلب رئيس المحكمة، الذي وعد بأن ننهي جلستنا بسرعة بلا انتظار.
مشيت بتثاقل. كانت درجات الحرارة مرتفعة وكنت أتنفس بصعوبة رغم أنني تناولت أدويتي اليومية بالكامل. دخلت أول بوابة كهربائية من دون انتظار ودخلت الثانية بنفس السهولة.
سلّمت بطاقة المحامي ودخلت بوابة ثالثة، كان حارس ينتظرني وراءها وقد لاحظ أن شعري أشعث وأنني لا أمشي منتصبًا كدأبي. لم أُطل المحادثة معه رغم شعوري بأنه كان قلقًا فعلاً على صحتي!
كل شيء في هذا الاحتلال قد تغيّر، إلا شهيّته على القمع والبطش واذلال الفلسطينيين. كنا نقابله كل يوم وجهًا لوجه، فقد كانت مركباته العسكرية تجوب شوارع المدن والقرى الفلسطينية وتنتشر روائحه وحواجزه في كل المفارق. جيشه يحكم ببساطير وخوذات، وجنوده يواجهون ببنادقهم شعبًا يزرع وينشد ولا ييأس؛ يعمل ويجوع ولا يهادن؛ يسجن ويموت ويقاوم.
حتى بداية تسعينات القرن الماضي لم يعرف الفلسطيني كيف يكون الاحتلال مجازًا أو استعارة أو تجليًا للالتباس؛ فللاحتلال كان لون واحد؛ ورغم حلكته واجهه المواطنون بإرادة وكرامة وعزة.
كانوا رغم القمع يسيرون نحو الهدف، ويتنقلون رغم القهر بحرية نسبية، ويكتبون على الجدران بألم وأمل، وحتى دخولهم إلى إسرائيل كان مُجازًا إلا للممنوعين من ذلك.
لم ينجح قادة اسرائيل، رغم جميع محاولاتهم، بالقضاء على اصرار الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال ونضالاتهم من أجل كنسه ؛ وقد فشلوا كذلك، رغم كل استثماراتهم الخبيثة في خلق قيادات محلية " ڤيشية" متعاونة، تساعدهم على تحقيق مآربهم؛ ذلك لأن القيادات الوطنية تمسكت بمواقفها الصارمة وبتأييدها لمنظمة التحرير الفلسطينية وما مثلته وعنته في ذلك الحين.
طمأنت الحارس على صحّتي ودلفت الى "طريق الماعز"، وهي عبارة عن مسارب ضيقة تحيطها الأسلاك وتتعرج حتى تفضي في نهايتها إلى ساحة معدّة لأهالي الأسرى، فيها ينتظرون بداية جلسات أبنائهم.
سلّمت على والديّ شريف، فقابلاني بترحاب وأبديا رضاً من وصولي. كانا في منتهى الدماثة، مبتسمين مع أنهما يعرفان ما ينتظر أبنهما؛ فهو متهم بتنفيذ عملية طعن وقتل يهودي في أحد المتاجر.
أصغيا باحترام؛ ورغم تظاهرهما بالهدوء، شعرت كيف كان قلب أمه يبكي وكيف كانت عينا والده تبحثان في عتمة الغابة عن مخرج قد ينقذ صغيرهما من النهاية الصعبة. عندما قرر شريف تنفيذ العملية مع رفاقه كان عمره آنذاك أربعة عشر ربيعاً.
حاولت ألّا أكون مبدّدًا للآمال، لكنني أفهمت العائلة أننا امام مؤسسة لا تجيد إلا ما يجيده المستبدّون؛ ففي ظروف عادية كان على القضاة أن يأخذوا بعين الاعتبار حداثة عمر الجاني ويحتسبونه سببًا لتخفيف الحكم، ولكننا هنا أمام واقع مغاير واشخاص جبلوا من طينة أخرى.
قاطعتني والدة شريف بصوت يشبه التنهيدة قائلة : " ولكن يا استاذ لقد حكموا على قاصرين يهود قتلوا عربًا بأحكام خفيفة، فربما يفعلون هذا مع شريف ايضًا". كانت تقف أمامي ومنديل يلم شعرها، عيناها حزينتان وغائرتان في وجه فقد كثيرًا من نضرته . جلبابها يغطي تعبًا وبقايا سهر قضته وهي تحاول أن تتذكر ملابس ابنها وهو ذاهب الى مدرسته وما كانت زوّادته، وتستحضر بسمته في ذلك الصباح الذي خرج فيه شريف ولم يعد ، منذ اكثر من عام ونصف .
"ربما" قلت، ووعدتها اًن أقاتل، جهدي، ومضيت كي أقابل شريف قبل نقله إلى قاعة المحكمة.
تعبت يداي من ملاطمة مخارزهم؛ رغم أنني لم ألج هذا العالم ، عالم اللامنطق والقوة الخرقاء والعبث، إلا مصرّاً أن أحوّل عجز الضحايا إلى ذخائر. فلا عدل تحت قبة الاحتلال ولا خلاص في جحيمه ؛ وأمام عنجهية الدبابة، لندع الضمير يسجّل انتصاراته الصغيرة، عساها تستقدم الانفجار الكبير، وأمام "خوف الغزاة من الذكريات" لتتحول الخسارات إلى ربح في حساب التاريخ.
لم اشرح كل ذلك لوالديّ شريف، لكنني طلبت منهما التحلّي بالصبر وبحكمته الخالدة، وتزويقه ببعض من براعة التأويل وسحر البيان، فنجاة ابنهم بعد العملية تعتبر "انتصارًا"، خاصةً اذا ما راجَعنا جداول الدم في حالات مشابهة.
كان يجلس محاطًا بسجانين وبكثير من الكراهية. لون وجهه كلون الكستناء؛ يلبس البني مثل كل الأسرى؛ وعيناه تائهتان. بدا كأنه لا يستوعب ماذا يدور حوله.
ألقيت عليه التحية وأفهمته ما نحن بصدده وما سيجري؛ ولوهلة شعرت أنه شخصية من روايات الخيال وأفلام الكارتون؛ كان يتحدث معي بنوع من النضوج غير المكتمل. عبّر عن ثقته بموقفي وتبسّم حين طلبت منه أن يفعل ليزيل أثار خوف حاول سجانوه ان يكتشفوه على وجهه.
تركته وتوجهت إلى قاعة المحكمة فجاءني القاضي معتذرًا على التأخير لكنه وعد بأن تبدأ جلستنا على الفور.
أفهمني أنهم يقومون بتنظيف قاعات المحكمة وفقًا لتعاليم دينهم التي تلزمهم بذلك. يقوم الجنود بتنظيف وتعقيم القاعات، ثم يتبعهم طاقم يرأسه قاض ويجري فحصًا دقيقًا لضمان سلامة النظافة.
ينتظر الجميع نتيجة فحص القاضي، فاذا ما أمر باعادة التنظيف، فسينتظر الجميع مجدّدًا تكرار هذه العملية.
عدت إلى شريف فوجدته أكبر من ذي قبل. سألته اذا كان سيفعل ما فعله مرة اخرى لو أتيح له ذلك؛ فانتفض كالمقروص ومدّ يديه إلى اعلى بحركة مستنكرة وقال لااا ، بألف ما زالت ترنّ في أذني، ثم صمت. قلت له: إذا لماذا فعلت ما فعلت ؟ فأطرق ولم أسمع إجابته، لأن القاضي بعث اليّ بجندي يستدعيني اليه.
اخبرني القاضي، بنوع من الاسف ، بأنّ القاعة غير جاهزة، اذ يجب تنظيفها مرة اخرى. لم اتبسم مع انني كنت على حافة الضحك، لكنني اجبته بعفوية مقهورة وعلى مسمع من بعض الزملاء: إن كان لا بدّ من تنظيف هذه القاعات، فيجب تنظيفها من أمور اخرى؛ فدعونا، نحن المحامين، نفعل ذلك !
نظر اليّ بدهشة تشي بطرف احتجاج وقلب كفيه بحركة تشبه الدعاء من السماء ، فتركته غير مبال.
دخلنا بعد ساعة كاملة الى القاعة. وقف شريف أمام القضاة وأجابهم مشيرا اليّ: يمثلني جواد في هذه الإجراءات، وجلس؛ فبدأت الجلسة التي سيكون لها تتمة بعد شهر.
غادرت المعكسر وبي حزنان، الاول على تيه جيل في شعاب من سراب، والثاني لأني في هذا اليوم بالذات، طويت عامًا آخر من عمر شقي؛ في دنيا صارت تفيض مرارة وتعبا وخراب.



#جواد_بولس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في فيينا او في كريات حاييم، الفاشية واحدة لا تلين
- من سيُسجن في سبيل العلَم؟
- البركة في مظاهرة تل أبيب
- إسرائيل والمسألة الدرزية
- قانون القومية اليهودية وصراعات القبائل العربية
- قانون القومية:-إسرائيل فوق الجميع-
- فلسطين دمعة التاريخ الحارة
- بين يسارهم ويسارنا
- فيليتسيا الفلسطينية
- القائمة المشتركة و- المثلية الجنسية- في الكنيست
- أسرى فلسطين الاداريون، إلى أين؟
- هل زهافا جلئون حليفة أم عدوة ؟
- قرار-عاجز-حكيم
- بين حيفا وغزة يمّ ومثقفون وحلم
- ماذا اذا كان قاضيك غريمك؟
- حيفا عيّافة الزبد وولّادة المنى
- ملاحظات أوّلية حول مسيرة عودة لم تبدأ
- مسيرة العودة، بين مد وهدّ
- نتنياهو ضيف على بوتين، ألقاء بين صديقين؟
- رغم الهواجس، نعم للمجلس الوطني الفلسطيني


المزيد.....




- الزيارة السابعة.. وزيرة الخارجية الألمانية تصل إلى كييف وتحم ...
- واشنطن بوست: إسرائيل تتجه نحو تنفيذ عملية عسكرية محدودة في ر ...
- شاهد: نيوزيلندا وأستراليا تجليان رعاياهما من كاليدونيا الجدي ...
- -تحالف الراغبين-.. المبادرة الإسبانية للاعتراف بدولة فلسطيني ...
- الدفاع الروسية تعلن إسقاط 3 مسيرات وصاروخ فوق مقاطعتي بيلغور ...
- عشرات الهزات الأرضية غير المسبوقة تثير الذعر في جنوب إيطاليا ...
- تقرير: إسرائيل تنتقل إلى خطة هجومية -أكثر محدودية- على رفح و ...
- في ألمانيا، يحيّدون السياسيين غير المرغوب فيهم
- يطالبون نتنياهو بعدم احتلال غزة
- وزيرة الدفاع الإسبانية تعلن إعداد حزمة مساعدات عسكرية جديدة ...


المزيد.....

- ورقات من دفاتر ناظم العربي - الكتاب الأول / بشير الحامدي
- ورقات من دفترناظم العربي - الكتاب الأول / بشير الحامدي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جواد بولس - حين كانت فلسطين محتلة!