كتبت قبل أكثر من شهرين مقالا حول حتمية ازالة النظام العراقي خلال سنة، وقد حاورني كثير ممن التقيتهم حول تلك النبوءة وعناصر دعمها، لاسيما من يعرف منهم اهتمامي بتاريخ العراق الحديث او من تابع سلسلة (تاريخ العراق الحديث) التي بدأتها في جريدة «الوطن» منذ سنتين تقريبا.
ان تاريخ حركة الثامن من شباط (فبراير) عام 1963م والتي أتت بحزب البعث الى سدة الحكم، هذا التاريخ وتلك الحركة لم يعطيا حقهما من الدراسة والتوضيح، حتى الذين قاموا عليها لم يعرفوا حقيقتها فقد تم استدراجهم الى التخلص من رجالات 14 تموز والانقلاب على الزعيم عبدالكريم قاسم دون ان يفكروا كيف تم لهم كل هذا النجاح.
لقد كتب عبدالكريم قاسم شهادة وفاته قبل فترة من اعدامه في مبنى التلفزيون، كان ذلك اليوم هو يوم اصدر قاسم القانون رقم 80 والذي اعاد 90% من مناطق الاستثمار النفطي الى الحكومة العراقية، وربما يكون من باب المصادفة تلك الكلمة التي قالها (عبد الكريم قاسم) في بداية جلسة مجلس الوزراء المتخصصة لمناقشة واصدار قانون النفط السابق ذكره حيث قال (قاسم) مخاطبا الوزراء: تعالوا نوقع على حكم باعدامنا». لقد ذكر (ملبورن) القائم باعمال الولايات المتحدة للسفير البريطاني ان وزارة الخارجية تفكر أنه حان الوقت للرد على تهجم قاسم ا لمستمر، وان الوقت حان للبدء في بناء رصيد من معارضي قاسم من أجل اليوم الذي سيحدث فيه تغير، ذكر هذا الحديث السفير البريطاني لوزارة خارجيته لاحقا في يناير عام 63م.
.
وقد نقل عن الملك حسين قوله: (انني اعلم بكل تأكيد بان ما حدث في العراق يوم 8 من شباط عام 1963م كان بدعم من المخابرات الامريكية، لقد عقدت لقاءات بين حزب البعث والمخابرات الامريكية. يقول حسن السعيد في كتابه نواطير الغرب: (لا يحتاج المرء الى كثير من العناء حتى يتوصل الى ان انقلاب 8 من شباط ما كان له ان يقع لولا دعم خارجي هائل بتنسيق مع قوى داخلية) كما نقل الدكتور حامد البياتي من الوثائق السرية البريطانية اتصال القائم بالاعمال الامريكي بالمتمردين ووعده لهم بالاعتراف.
لقد كان انقلاب شباط هو الفترة الاولى لاكثر المراحل دموية في تاريخ العراق وقد شارك صدام بحفلات التصفيات التي اوقعها البعث لا سيما بحق الشيوعيين، اما الفترة الثانية فكانت بعد وصول (البكر ـ صدام) الى السلطة عام 1968م والتي بدأت معها المرحلة الثانية لتصفية الوطنيين والانفراد بالسلطة، لهذا لم يكن مستغربا ان يستسلم الدكتاتور العراقي لكل ما يرضي الامريكان لاسيما في ما يتعلق بالنفط الذي كان سبب زوال الزعيم (قاسم)، فلم يشارك (صدام) في استخدام سلاح النفط الذي قامت به دول الخليج للضغط على الغرب في حرب اكتوبر عام 1973م.
وهكذا نجح صدام حسين باسلوبه الدموي الذي لم يكن يعني الامريكان في شيء، نجح في تثبيت حكمه وفي توصيل رسالته للقوى العالمية الاولى بقدرته على المحافظة على مصالحهم في الخليج، ولعل الاحداث التي أتت بعد ذلك ومنها اشعال الحرب مع ايران تؤكد سير (صدام) في طريق كسب الرضى الامريكي، ولم يكن مستغربا عند ذاك تصريحات العماد مصطفى طلاس وزير الدفاع السوري لصحيفة تشرين السورية (7/3/1988م) بان صدام حسين ارتبط بالمخابرات الامريكية بين عامي 1960 و1963م.
اذا أدركنا أن هذا المغامر من تكريت نجح بكل الاساليب في توظيف المعادلات المحلية والدولية لصالحه دون الاعتبار لمعاني الشرف والوفاء بعد ان نجح في اماتة ضميره ونزع قلبه من بين ضلوعه، ندرك ان مثل صدام لن يكون قادرا على احداث تغييرات في المنهج الذي تم تدريبه عليه، لهذا فان اي تغير في شروط اللعبة الدولية سوف يكون على حساب بقائه في السلطة، وهذا ما يحدث الآن..
لقد انتهت بالنسبة للولايات المتحدة الامريكية لعبة الدكتاتوريات، ولقد احتاجت القوى الاعظم الى سنوات عديدة لتخلق نظاما جديدا لا تحتاج فيه الى صدام حسين وامثاله ؟، لذلك اصبح مقبولا تولي رؤساء منتخبين بدل الديكتاتوريات العسكرية، هذا ما حدث في البرازيل وفي الارجنتين وهو ما سيحدث في العراق.
لقد استنفد صدام حسين كل مهامه، ونجح في توريط العراق بديون سوف تجعل العراق رهينة ربما لقرن كامل تحت رحمة الديون، وكل ما هو مطلوب من الحكومات القادمة في العراق ان يطوروا بلدهم حتى يسددوا ما عليهم اتجاه الدائنين، وهذا ما لا يستطيع (صدام) القيام به، فالعراق مقسم من الداخل والقوى المثقفة اما مهاجرة واما سلبية والحصار مرتبط بهيبة الدولة الاعظم، ولا يمكن رفعه الا مع قادم جديد، اما العراق وشعب العراق في المرحلة القادمة فلا خوف منه في الصراع ضد اسرائيل، فسوف يبقى تحت وصاية صندوق النقد الدولي ووصاية الشركات الاجنبية القادمة، وهذا يحتاج الى عقود طويلة من الانكفاء داخل الذات للبحث عن العيش الكريم.
لقد انتهى دور الرئيس المناضل واسلوب الرشاوى الذي عاد يستخدمه الان لن يجدي في انقاذ حكمه، الا مزيدا من القيود المستقبلية على العراق، فالدائنون يريدون حكومات لا حصار عليها تنجح في التنمية لتسديد الفاتورة التي تضخمت، والشركات الكبرى تنتطر الوقت القريب لاعادة اعمار العراق وتسديد فواتيرها القديمة، اذ لم يتبق سوى الانتظار الذي لن يطول، والله اعلم.
الاربعاء 4/9/ 2002 الوطن الكويتية.