شوقي العياش
الحوار المتمدن-العدد: 3960 - 2013 / 1 / 2 - 23:35
المحور:
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
حين يسيح الدم في الرحم ..يكون العرس !
( إلى مصطفى بوحيرد ، عريس "القصبة" )
شوقي العياش باريس
حالمة ، كانت " القصبة " .
تستحمُ في القمر ، وبرتقالة الشمس ، وآذان الفجر .
ظفائرُها القزحية ، تغسلها بعمق البحر .
البواخر ، والُسفن القادمة في بلاد غريبة وبعيدة ، تحمل حلياً .. وهدايا ...
فالقصبة ستكون عروساً هذي الليلة .
-1-
قبل أن أغادرها..
طبعت على شفتيها قبلةً ، أحرقتني ثلاثين عاماً .
وأنا في الباخرة ..
شاهدتها .
كان الكحل قد زال من عينيها ، ملطخة وجنتيها بالسحام ، وتلبس السوداء .
- 2 -
ما صدًقتًُ عيني ..
ف " القصبة " عروساً كانت .
وعلى جدائها تستحم النوارس .
- 3 -
دخلت بيوتاتها .. متاحفها . . جوامعها ..مقاهيها .. أسواقها ..
أبحث عن شيءٍ افتقدته منذ ثلاثين عاما . فما وجدته .
- 4 -
وآنا أبحث في القمامة ..
شاهدت امرأة ، في عينيها جرأة ، وبريق كحد السيف!
نفضتُ يدي ، لكن لزوجة ً لصقت في أناملي .
حاولت التخلص منها دون جدوى .
كانت المرأة. تنظر بي شزراً ، كلسعةِ سوطِ . تذكرت من قال " أأجلدُ مرتين ؟ !" .
- 5 -
اقتربت منها صدًتني رائحتها . كانت أقوى من رائحة علبة سردين ، أكلت نصفها .
وترك ، النصف الاخر يتعفن .. يتعفن !.
جازفت بالاقتراب . أمرتني عيناها أن أقف .
سمًرتني كالمسحور .
وقفت مبهورا ً ..
مشدوهاً ..
مذهولاً ..
لا أعي شيئا ً.
بالقمامة أمامي . والمرأة غابت . ولا لزوجة فى أناملي .
- 6 -
يأستُ . ذهبتُ الى غرفتي مجهداً.
ومثل البرق ، وجدتها أمامي ، بل بإنتظاري .
أشارت أن لا اقترب منها . ثم قالت لي عيناها أن أغادرهما .
فأياديهم التي تبحث في القمامة عن شيء فقدوه منذ زمن طويل ، بل يطول .
مازالت نظيفة ! .
وحين تلاشى بريق عينيها ، غادرتني كالظل ، حين تصبح الشمس عمودية .
- 7 -
غامرت بالبحث عنها .
علني أجدها . علها اشتَبهتْ بي . فمنذ ثلاثين عاماً
هي الاولى ليلتي هنا .
أقتربت من القمامة ، رأيت طفلا يبحث فيها .
مليا ً، وبإمعان نظرت إليه . كأني أعرفه قبل أن يولد . حاذيته وسألت .
- ماذا تبحث يا بني ؟!
تفحًصني جيدا ، كأنه عرفني . ثم قال بتحد :
- لست إبنك .غِبتَ ًعنًا طويلاً . ما عدتَ تشبِهُنا .
فماذا تريد مني ؟.
- ما إسمكَ ؟!
- جدٍي قتله الغرباء ،أمام هذا الجدار .
أشار بعينيه شمالاً إلى دار خربة لم يبقى منها إلاً جداراً.
- ولكن ما إسمكَ ؟!
- أبي قتله إخوته داخل هذه السوق .
أشار جنوبا ً إلى سوق محتشدة .
- 8 -
- وأين تسكن ؟
- أخي يسكن السجن . منذ زمن ما عرفته .
وما سمعت عنه شيئا . غيبوه عنًا .
- ولكن أنت ،أين تسكن ؟
أجاب بإندهاش شيخ مسن :
- هنا .
نفض يديه من القمامة .
نشرهما كجناحي طير ، ودار على نفسه مثل مصراع " ذكرني بطفولتي مع المصراع والدعبل والجعاب " .
- 9 -
نظرت الى يديه .
كانتا نظيفتين ولا أثر للقمامة فيهما .
فتذكرت المرأة .
- وأمك ؟ أليس لديك أم ؟!
أجاب بحسرة وسخرية ، لا أدري من أين تعلمها .
- هذا ما بقي لي .
- وأين هي ؟!
- حان موعدي معها ، وولى هارباً .
ركضت خلفه .
غاب بين الحشد .
ولم يُبقِ له أثراً .
- 10 -
انزويت فى المقهى المقابل للسوق تماماً.
طلبت من النادل شايا ً ، رماه أمامي بضجر .
كنت أرقب المكان جيٍداً . علني أراه . أو أراها .
فما وجدتهما !
- 11 -
قفلتُ راجعاً الى غرفتي .
حملتُ حقيبتي وغادرت الغرفة .
حين غادرتها ، حملتُ قلبي و خبأته في القمامةِ .
علًهما يجداه ، فيغفرانِ لي .
- 12 -
صعدتُ سطح الباخرة .
كان المطر يتساقطُ برتابةِ دقات الساعة .
والفجر يضحك للبحر .
وهما ..
واقفان بأعلى شرفة ، ويلوحان لي بأياديهما النظيفة .
الجزائر : أوائل 1992
* القصبة هي المقر الرئيسي لقائد القصبة أيام الثورة الجزائرية لياسف سعدي الذي أصبح يسيطر بصفة مطلقة منذ جوان 1956 على 70.000 شخص الذين يمثلون سكانها لأنه أصبح المسؤول الأول عن خلايا جبهة التحرير الوطني بالجزائر العاصمة والتي كانت تقدر بـ 1400 فدائي، ويشمل هذا العدد مجموعة من الفدائيات أشهرهم كانت جميلة بوحيرد حسيبة بن بوعلي، زهرة ظريف وسامية الأخضاري، جميلة بوعزة . هذه الأخيرة تم اختيارها من قبل جميلة بوحيرد بسبب مواصفاتها التي تشبه الأوروبيات.
** مصطفى بوحيرد عم المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد وكان الفدائيون يصنعون في منزله القنابل بوجود زوجته الفدائية فتيحة بوحيرد.
جميلة بوحيرد قالت ذات مرة إن منزل عمها الشهيد "كان المكان الذي خرجت منه جل القنابل التي صنعت في القصبة واستعملت ضد المستعمر الفرنسي".
ويقام كل عام بالجزائر حفل تكريمي على شرف مجموعة من شهداء ومجاهدي ومجاهدات "القصبة " تنظمه بلدية الجزائر الوسطى بحضور عدد من قدامى المجاهدين.
وكرم في هذا الحفل الذي يأتي في إطار الإحتفال باليوم الوطني للقصبة ويوم الشهيد الذي يصادف 18 فيفري (18 فبراير) من كل عام مجموعة من شهداء الحي العتيق من بينهم مصطفى بوحيرد عم المجاهدة جميلة بوحيرد والشهيدتين حسيبة بن بوعلي ووريدة مداد والشهيدين عبد الرحمان عرباجي وعبد القادر جباري.
#شوقي_العياش (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟