أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - برهان غليون - في ما بعد الجماعة الدينية والأمة السياسية















المزيد.....

في ما بعد الجماعة الدينية والأمة السياسية


برهان غليون

الحوار المتمدن-العدد: 2508 - 2008 / 12 / 27 - 09:55
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


حررت السياسة، بما أبدعته من ادوات، في مقدمها الدولة الحديثة القانونية والديمقراطية، الفرد من الوصاية الدينية والقبلية والعائلية، وأنتجت نظما اجتماعية استثنائية في ما طورته من قيم التسامح والتضامن والشفافية والعدالة والحرية والمساواة، وما قدمته من فرص الازدهار المادي والاجتماعي، لم تعرفها البشرية من قبل. وهكذا حصلت |إعادة بناء العالم بسرعة مذهلة في القرن الماضي على أساس نموذج الدولة الأمة التي تحول جميع الأفراد إلى مواطنين، أي شركاء سياسيين.
بيد أن نظام الدولة والسياسة هذا الذي راهنت جميع الشعوب عليه لتخليصها من ذل القرون الوسطى وجوعها وخوفها وإحباطها المادي والروحي، لم يلبث، في موازاة التوسع في تطبيقه، أن ولد نظاما عالميا، جامعا لدول لا تتمتع جميعا بالفرص نفسها ولا بالموارد والخبرات ذاتها. فأصبح هذا النظام هو نفسه المولد لنظام دولي تراتبي، يقسم العالم بين دول مسيطرة ومسيطر عليها، دول حرة تملك أدوات التحكم بالسياسة ونظامها الدولي، وتوجهه لخدمة مصالحها الوطنية، فتصح دول شعوبها، ودول تابعة، مسلتبة الإرادة لا قدرة لها على التعبير عن نفسها، ولا تملك فرص توليد جماعة سياسية حقيقية، أي في الواقع بين دول سيدة مؤسسة لأمة واخرى مفتقرة لأي سيادة، وغير قادرة على تأسيس أي جماعة وطنية.
ولأن إخضاع الدول الضعيفة لصالح الدول القوية يشكل في هذا النظام شرطا أساسا لتحقيق السيادة وضمان الوحدة الداخلية وتوسيع دائرة التنمية الاقتصادية في المركز، قادت إعادة تنظيم العالم على حسب نموذج نظام الدولة الأمة منذ ولادته في اتفاقية وستفاليا في القرن السادس عشر، إلى تعميم نوع جديد من الحروب والنزاعات، تختلف عن حروب الفتح والغزو التقليدية، وهي ما نسميه بحروب الاستعمار والامبريالية. وأصبح التنافس بين الدول الحديثة على عناصر السيادة والاستقلال والتنمية البشرية أكبر مصدر للاقتتال والتدمير المتبادل لبني الانسان. وبعد أن كان نظام السياسة نظام انعتاق للأفراد من أسر الولاءات الدينية، واتحادهم في بوتقة القيم والقوانين والمؤسسات القانونية الجامعة والزمنية، أصبح النظام الدولي الذي نشأ عن تعميم نموذج الدولة الوطنية الحديثة نفسه يقوم على استعباد القسم الأكبر من المجتمعات الانسانية، وإقصائها وتكريس تخلفها وانحطاطها.
وهكذا ما كان من الممكن لنظام الدولة الوطنية المعمم إلا أن يولد، بموازاة عملية انتشاره، في مواقع وعبر سياقات مختلفة ومتباينة، وكنقيض له، كيانات شبيهة بالدولة ولكنها ليست في الواقع إلا مقلوبها، أي "نيغاتيف" الدولة. وصارت هذه الدولة المضادة أو مسخ الدولة أقوى أداة لاستعباد الشعوب وتكبيلها ونزع هويتها الجمعية نفسها على مستوى العالم. فبدل أن تكون مؤسسة لأمة وجماعة وطنية تتحول هذه الدولة المسخ هي نفسها إلى مولدة لعصبية خاصة موازية للعصبية الجمعية ومسيطرة عليها. وعلى المجتمع الخضوع لمنطق دولة العصبية واحتياجاتها الاستراتيجية والأمنية والاقتصادية وليس العكس.
في هذه الحالة المجتمع هو الذي يضع نفسه في خدمة الدولة، أي في خدمة العصبة التي تسيطر عليها وتنتظم من خلالها في عصبية خاصة، وليست الدولة هي التي تضع نفسها، عبر السياسة، في خدمة المجتمع الذي تسيره وتستمد منه القوة والشرعية. بالمقابل لا يمكن للدولة المضادة أن تقوم إلا بقدر ما تنجح في السيطرة على مجتمعها من الخارج وضد إرادته المستقلة وعلى أنقاض استقلالية عناصره. ويستدعي قيامها بالضرورة حيازة مصادر للقوة من خارج مجتمعاتها، سواء عنينا بالتخارج الالتحاق بعصبية "طبيعية" لا سياسية، أو التعلق بمصادر قوة أجنبية ناجمة عن الالتحاق باستراتيجيات الدول الكبرى المهيمنة. وتكمن في هذه الخارجية أهم موارد الدولة المضادة ورصيدها وشرعيتها. وغالبا ما يتحد العاملان، العصبية الطبيعية والتبعية الخارجية، فتتحول الدولة المذكورة إلى وكالة خاصة تستخدمها الدول السيدة الحقيقية في سبيل ضبط المجتمعات وجماعات اللادولة، أو التي أخفقت في بناء دولة أمة بالمعني الفعلي للكلمة، أو التي لا تسمح لها مواردها وشروط وجودها بالوصول إلى مستوى الجماعة الدولة. فهي كيانات تتأسس على التقاء قانون الغزو القديم (في الداخل) وقانون الخضوع للقوة على صعيد النظام الدولي الذي يحدد وظيفتها ودورها ورسالتها.
من هنا أصبحت الدولة الحديثة، في الجزء الأكبر من المعمورة، أكبر مصدر للقهر والاستلاب وانعدام الأمل والأفق معا. وهي السجن الأكبر لغالبية سكان الأرض، ومصدر. الآلام والمعاناة والقهر الدائم لمليارات البشر. وبعد أن كانت حلما عند كل الشعوب، باعتبارها منبع الحرية والسيادة والتنمية والتقدم، كما عبرت عن ذلك حركات التحرر الوطني التي غطت أكثر من قرن من التاريخ، أصبحت كابوسا لمعظم الشعوب. فهي مصدر العنف الرئيسي الذي تستخدمه الدول الكبرى في محيطها لفرض وجودها ومواجهة الدول الأخرى، كما تستخدمه الدولة المسخ في مواجهة شعوبها التي خاب أملها فيها، ولم تعد تنتظر منها توفير أي حقوق وحريات أو تحقيق مكتسبات لا مقدرة لها عليها في ظروفها القائمة.
من هنا تولد الحاجة إلى ثورة ما بعد سياسية، تتجاوز السياسة القومية ومنطقها التنافسي، لتؤسس لسياسة عالمية تتفق وتنامي ترابط المصالح بين الشعوب وتعاظم التداخل في المصائر البشرية. ولا يعني تجاوز السياسة ونظامها الدولوي تدميرها، تماما كما لم يعن تجاوز نظام الجماعة الدينية نحو الدولة القانونية القضاء على الدين، وإنما عنى فتح سجل جديد للتواصل والتعارف والتعاون والتضامن بين البشر، بموازاتها وعبر حدودها، مع الإبقاء عليها كآطر إسناد وتدعيم لسياسة شمولية تقوم على تطبيق برامج ذات مضامين ودائرة تنفيذ ومعايير عقلانية أكثر شمولا وأوسع أفقا، تضع في مجال العمل المشترك والتعاون شعوبا أو أجزاءا وأطرافا من شعوب متعددة، وتدفع إلى بناء مصالح مشتركة عابرة للحدود لا يمكن نشوؤها بالبقاء في حدود منطق الدولة (التي لم يعد لها علاقة فعلية بالأمة) ومعاييرها وتحديداتها القانونية والدستورية.
فليس هدف السياسة العالمية إلغاء الحريات والحقوق الإنسانية التي ولدتها الثورة السياسية، وإنما بالعكس، التحقيق الواسع لقيم السياسة، من حريات وحقوق وعدالة ومساواة وتعاون وسلام، أي زيادة فرص الاختيار عند الناس جميعا، لم يكن من الممكن تعميمها في إطار نظام الدولة القومية. فلا يشكل بناء النظام الجديد بالضرورة قطيعة مع الدولة القانونية الديمقراطية، ولا يتناقض معها. بالعكس إنه يستخدمها ويحتاج إلى تعزيزها بشكل أكبر، باعتبارها أداته الرئيسية في بناء مصالح ومؤسسات ومسؤوليات عالمية مشتركة تجمع بين أفراد ينتمون إلى شعوب متعددة وتوحدهم عبر العالم.

هذا ما يستدعي اكتشاف صيغ لتنظيم الجهد الانساني من وراء حدود الدول، ويناء شبكة علاقات عابرة للدول ومولدة لوعي إنساني وآليات تعاون وتضامن مختلفة عن الآليات القومية المعروفة. ومن الواضح أن الاتجاه العفوي الذي اتخذه الرد على أزمة الرأسمالية العالمية الجديدة كان تطوير التفكير على مستوى عالمي، والنزوع إلى إشراك جميع الدول في ايجاد الحلول. وربما بشر مثل هذا الرد بولادة مجتمع عالمي بدأت ملامحه بالتبلور منذ بضعة عقود، عبر نشاط الجماعات المدنية التي تلتقي عبر الحدود وتدافع عن قضايا وقيم ومباديء وغايات واحدة، بصرف النظر عن أصول أعضائها القومية وولاءاتهم السياسية والدينية. لكن المطلوب اليوم هو استكمال النشاط المدني العالمي الذي نما في الماضي عبر الحدود بنشاط سياسي عالمي، منظم ومنسق، لا يستبعد أن يقود في المستقبل إلى إقامة نوع من الحكومة العالمية التي تطبق سياسات متجاوزة للوطنية، أي لا تقتصر في اعتباراتها وحساباتها على خدمة مصالح الجماعات التابعة للدول، كما في الدول الصناعية الكبيرة، ولا من باب أولى على خدمة مصالح النخب المسيطرة عليها، كما هو حال أشباه الدول، ولكن توجهها اعتبارات وحسابات إنسانية كوكبية. وربما لم تكن النزعة الامبرطورية الامريكي التي قادت، بمساعدة سياسات الرئيس بوش الابن، إلى الأزمة العالمية الأخطر التي عرفها الاقتصاد الدولي منذ نشوئه، والتي فجرتها عوامل التنافس والنزاع لتأكيد أسبقية الولايات المتحدة وقيادتها العالمية وتفوقها في جميع الحقول على منافسيها وخصومها، إلا برهانا على وجود هذه الحاجة إلى سياسة عالمية بديلة ومصادرة لها في الوقت نفسه.




#برهان_غليون (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في موت السياسة وغياب القانون
- معادلة القوة وحوار الأديان
- آن الأوان لطي صفحة العنف السياسي
- برهان غليون..... العرب يدفعون ثمن انبهارهم بالثروة النفطية
- عودة الديمقراطية الاشتراكية
- الأزمة المالية العالمية ونهاية الليبرالية
- في مديح التعددية الإتنية والدينية
- -الربيع العربي- على خطى نيكولا سركوزي في دمشق
- عطالة التاريخ
- زمن الفتنة
- إعادة اكتشاف المعرفة
- مصير الحلم الجمهوري
- السكون الذي يسبق العاصفة
- مبادرة قطرية خلاقة في لبنان
- الاتحاد المتوسطي، ورقة نعوة الوحدة العربية؟
- أزمة لبنان: خطايا الآخرين وأخطاؤنا
- في معنى المعارضة السياسية ووظيفتها
- العالم العربي في مهب الريح
- في أسباب تهافت ثقافتنا السياسية
- مشكلتا العرب: الديمقراطية والاتحاد


المزيد.....




- موقف -مختلف- لفرنسا بشأن ملاحقة -الجنائية الدولية- لقادة إسر ...
- ماذا قالت تركيا عن سبب تحطم مروحية الرئيس الإيراني؟
- لماذا -تتناقض- مواقف إدارة بايدن تجاه أوكرانيا وغزة؟.. مسؤول ...
- فرنسا تعرب عن دعمها لـ-استقلالية- للمحكمة الجنائية الدولية
- محاكمة ترمب في القضية الجنائية غير المسبوقة تدخل مرحلتها الن ...
- مجلس الأمن يعقد جلسة مفتوحة لمناقشة الوضع في رفح
- كواليس قرار الجنائية الدولية بشأن كبار القادة في إسرائيل و-ح ...
- الجيش الأميركي: أكثر من 569 طن مساعدات سُلمت لغزة عبر الرصيف ...
- مسؤول أممي: لا مساعدات من الرصيف العائم في غزة منذ يومين
- بايدن: هجوم إسرائيل في غزة -ليس إبادة جماعية-


المزيد.....

- ورقات من دفاتر ناظم العربي - الكتاب الأول / بشير الحامدي
- ورقات من دفترناظم العربي - الكتاب الأول / بشير الحامدي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - برهان غليون - في ما بعد الجماعة الدينية والأمة السياسية