من أقدم الإشارات التاريخية لوجود الفكر اللاديني (وربما كانت أقدمها على الإطلاق؟)وجوده في فجر التاريخ الإنساني هي تلك الإشارة التي سجلت في بردية تعرف ببردية "إيبو_ور"أو إيبو العجوز وهي بردية مصرية يرجح كثير من الباحثين في التاريخ المصري القديم أن أحداثها المتخيلة على الأرجح تعود زمنيا إلى نهاية عصر الدولة القديمة الفرعونية (عصر بناة الأهرام)"2780_2280 ق.م" هذه النهاية التي تمثلت في إنهيار كامل لهذه الدولة سياسيا واقتصاديا إنفرط بمقتضاه عقدها الذي دام ما يقرب من خمسمئة عام حكم أثناءها فراعنة تلك الدولة المؤلهين مصر حكما مطلقا سيطروا فيه على مواردها عبر جهاز حكومي نادر المثال في هذا الزمن البعيد وتمثل ذلك فيما شيدوه لأنفسهم من مقابر هرمية ضخمة إشتهرت من بينها مجموعة أهرام الجيزة وسقارة ..وإن كان بيان أسباب هذا الإنهيار الذي شغل ما يسمى بعصر الفترة الأولى(2280_2052 ق.م) يخرج عن موضوعنا الآن لكن هذا الإنهيار قد خلف وراؤه هزات أخلاقية وفكرية وإجتماعية عميقة( لم تكن كلها سلبية حيث خلف هذا العصر تعاليما أدبية وأخلاقية خالدة في تاريخ العالم القديم متمثلة في أدب العصر الأهناسي زمن الأسرتين التاسعة والعاشرةنسبة لملوك أهناسيا الحالية بمحافظة بني سويف المصرية)هذا فضلا عن تفكك البلاد سياسيا إلى أقاليم يتنازع الكثير منها على مناطق النفوذ وتعرض البلاد للغزو الخارجي ونهب قبور الفراعنة المؤلهين وهجر المعابد وإهمال شق الترع والقنوات ..وتصف برديتنا ذلك كله بأسلوب مؤثر حيث تدور أحداثها في بلاط فرعون مجهول يرجح بعض الباحثين أنه أحد الفراعنة الأواخر من عصر الأسرة السادسة (آخر أسرات الدولة القديمة) ربما كان الفرعون "ببي الثاني" أو "مرنرع الثاني"؟ أي أن زمنها يعود تقريبا إلى عام 2280ق.م حيث وقف "إيبو" العجوز يشرح لفرعون ما قد آل إليه حال البلاد من فوضى وخراب وإنقلاب للهرم الإجتماعي محملا هذا الفرعون المجهول مسئولية ما يجري ويأتي ضمن ما أشار إليه "إيبو_ور" من مظاهر الفوضى والضياع إشارته إلى تجرؤ ما أسماه بالجاهل!! على الآلهة فيقول "إيبو –ور" لفرعون بأسف " ..وأصبح الجاهل يقول إذا عرفت مكان الإله قدمت له قربانا… " فلقد إهتزت إذا صورة الإله لدى هذا المصري القديم في زمنه فالإله هو الحافظ للنظام وهوالذي منح فرعون العرش لقرون طويلة ليحكم البلاد ليسودها بمقتضى هذا الحكم الإلهي النظام والعدل فيأتي الفيضان النيلي في ميعاده بالخير الوفير ويذود فرعون عن حمى البلاد ضد الطامعين في خيراتها..الخ فبدا الإله في لحظة الإنهيار تلك وقد تخلى عن ذلك كله فجاة فعمت الفوضى والظلم الإجتماعي وفقد الفراعنة هيبتهم فتجرأ بعض الناس على قبورهم المقدسة فنهبوها ومثلوا بجثث أصحابها وتحسر بعضهم على يوم ميلاده لاعنا إياه وكفروا بتلك الآلهة التي بدت وقد تخلت عنهم فجأة لتحل بذلك الفوضى ويعم الخراب!..
كان هذا الوميض الخاطف للفكر اللاديني في مصر القديمة تعبيرا عن لحظة إستثنائية في تاريخ العالم القديم لم يقدر للفكر اللاديني خلالها أن يستمر فلم يكن آنذاك في هذا الزمن البعيد إلا مجرد رد فعل لحظي يائس لظرف تاريخي إستثنائي صعب لم يدم لأكثر من قرنين وربع القرن من الزمان تقريبا إستردت البلاد بعده وحدتها وأمنها ونظامها وحكمها فرعون كمملكة موحدة كسابق عهدها فيما يعرف بعد ذلك بعصر الدولة الوسطى(1991_1778 ق.م) فعادت للآلهة بالتالي سابق هيبتها كحامية للنظام والعدل المتمثلين في حكم فرعون وفقا لمفاهيم ذلك الزمان الغابر..
وبناءا على ذلك فلم يتحول هذا الوميض اللاديني الخاطف إلى تيار فكري منتظم عبر الزمن بالإستناد لتلك اللحظة وهو ما لا يسمح لنا باعتبار اللادينية تيارا فكريا مستقلا آنذاك ولا حتى في طور التكوين ولم يصبح الأمر كذلك إلا بعد زمن طويل في القرن السادس قبل الميلاد حيث تجلت بدايات هذا التيار اللاديني أكثر وضوحا في الهند شرقا على يدي معلمين كبوذا ومهاويرا ..وفي الغرب الإغريقي ببزوغ الفكر المادي على يد الفلاسفة الأيونيين طاليس&إنكسمندر&إنكسمينيس ( و هي مراحل للفكر اللاديني أتمنى متابعتها في مقالات قريبة متتابعة كي أسهم ولو بشكل متواضع في خلق وعي تاريخي بالفكر اللاديني أكثر عمقا من الأطر الضيقة التي يحاول البعض حشره فيها كالماركسية ونظريات المؤامرة..الخ)
ووجه الإعتبار من هذا العرض الموجز لأولى بدايات الفكر اللاديني في العالم القديم أن الفكر اللاديني هو فكر إنساني عام يمثل شكلا من أشكال التفاعل البشري مع المعطيات الإجتماعية المحيطة فهو فكر ليس مختوما بختم الغرب والكنيسة والماركسية بل تزامنت بدياته في الظهور قبل ذلك بكثير شرقا وغربا على السواء كمرحلة من مراحل تطور الذهن الإنساني في إطار سعي الإنسان لقهر عجزه الإجتماعي والمعرفي وتوسيع نطاق سيطرته على العالم المحيط به .
وإلى لقاء قريب ..مع خالص إحترامي للجميع: