الحياة 2003/09/14
كان العامان الماضيان، وتحديداً منذ إعتداء 11/9، بمثابة إمتحان لليسار الغربي والعالمي حول ما إذا كان في وسعه تجاوز حالة التقاعد شبه الطوعي التي انتهى إليها غداة انهيار الإتحاد السوفياتي والنُظم الإشتراكية. وقد سارع بعض اليساريين، عشية الإعتداء المذكور، الى تبرير ما حصل، لا تأييداً للمعتدين وإنما أملاً في إحياء شعاراتهم المتقادمة في صيغة جديدة، زاعمين أن الإرهاب مقاومة للعولمة، او لقوى الهيمنة الرأسمالية المعولمة. ولئن وعى بعضهم الآخر خطورة السياسة التي يمثلها المعتدون، فقد آثروا بدورهم الجلوس على السور، معتبرين أن كلا من الإرهاب والحرب على الإرهاب هو بمثابة صراع ما بين عدوين لليسار، او "أصوليتين"، على حد تعبير الكاتب البريطاني، الباكستاني الأصل، طارق علي، واحد ديني والآخر إقتصادي يحاول فرض سياسة السوق الحرة على العالم أجمع.
على أن أياً من موقفي الإنحياز "التكتيكي"، أو الحياد السلبي، لم يسفر عن نجاح في امتحان إحكام الصلة بما يجري في السياسة الدولية والوطنية. وهذا بالتحديد ما يبرهن عليه تحليل نقدي، ويساري ايضاً، يحاول وبقسط من النجاح غير مضمون، أن يتجاوز حالتي انعدام الصلة وعدمية وانتهازية موقف تأييد الارهاب أو تبريره. وبحسب سوزان بك-مورس، الكاتبة اليسارية والباحثة الأميركية المعنية بشؤون النظرية النقدية، فإن العنف الإرهابي، خاصة ما ظهر منه في 11/9، ليس مقاومة للعولمة، او لقوى الهيمنة المعولمة، وإنما تكريس لحقيقة حلول العولمة، ومن ثم حصر الصراع مع قواها على صورة إرهاب وحرب على الإرهاب، وهو ما انفك يجري منذ الإعتداء المذكور.
وعلى ما تجادل الكاتبة فإن العولمة حالة ملازمة، بل حلولية على وجه لا يبقى معها، او بعدها، وجود خارجي أو منطقة متحررة من مدار نفوذها. والإرهاب الذي وقع في 11/9، سواء في ما خص مكان وكيفية حصوله أم الردود التي أثارها، على مستوى الإعلام والاقتصاد والسياسة والأمن والقانون، دلّ على حقيقة ملازمة، او حلولية العولمة، وايضاً، وإن على وجه إيجابي، دل الى أن الصراع على الهيمنة والتسلط في العالم المعولم لم يُحسم بعد رغم التسليم السابق لأوانه، على ما بتنا نعي الآن، بانتصار قوى السوق الحرة والليبرالية.
وتبعاً لفرضية المؤلفة، فإن ملازمة العولمة يدل على وجود، بالإمكان وإن ليس بالفعل، لفضاء عولميّ يُملي بدوره حضور جمهور معولم يختلف تماماً عن تلك الجماعات والقوى التي تقول بالإرهاب او الحرب على الإرهاب. فهذا الجمهور ينبثق من الكافة المتعددة لعصر العولمة، اي تلك الكافة التي دانت الإعتداء على نيويورك، لكنها رفضت تبرير الحرب على أفغانستان والعراق. وهذا الجمهور لهو الأدنى الى تبني سياسة معولمة في سبيل العدل الإقتصادي والسلام العالمي والمساواة القانونية والمشاركة الديموقراطية والحرية الفردية والإحترام المتبادل. ومشروع اليسار، النقدي والعولمي، ينبغي ان يتجسد في حضور هذا الجمهور والدور المناط به في الفضاء العام المعولم.
لكن لا ينبغي لهذا المشروع، اليساري النقدي، أن يستبعد كافة القوى الأخرى المعنية بتشكل فضاء عام معولم من سبيل خطاب نقديّ، أياً كان مصدره او مرجعيته. فلئن دانت الكاتبة التعويل على العنف الإرهابي الذي اقترفته منظمة القاعدة، فليس لأن المنظمة المذكورة دينية وإسلامية، أي غير علمانية وغربية، وإنما لأن ضحاياها المباشرين، وغير المباشرين، ينتمون الى الكافة المتعددة، ومثل هذا الإرهاب سوّغ عنفاً إضافياً ضد هذه الكافة، يصدر هذه المرة عن دولة "الأمن القومية" الأميركية، بحسب نعت المؤلفة للإدارة الأميركية. والأهم من ذلك، أن الكاتبة في مراهنتها على نشوء فضاء وجمهور معولمين، لا تستثني أو تستبعد الإسلام. فهي تنطلق في هذا الكتاب من الحض على اعتبار الإسلام، او "الإسلامية"، على غرار الليبرالية والقومية والماركسية، خطاباً سياسياً حديثاً وليس دينياً، وحتماً ليس متقادماً ورجعياً. ومن خلال تناولها لأعمال عدد من المثقفين والأكاديميين الإسلاميين تجادل بأن "الإسلامية" بما هي خطاب نقديّ، لا تتصدى فقط لقوى الهيمنة الغربية ولمشروع الحداثة التنويرية، القاصر عن إستيفاء شروط الكونية التي يزعم، وإنما ايضاً تتصدى للدولة القومية في العالم الإسلامي والخطاب الأصولي بما هو خطاب تسلّط دوغمائي.
بيد أن ما تبشر به الكاتبة ليبدو، من زاوية عمليّة، محض تعبير عن أمل بعيد في تجاوز موقفي التبرير المتهوّر للإرهاب والحياد السلبيّ اللذين ما انفك جلّ اليساريين يأخذ بهما. فما تعولّ عليه الكاتبة لتحقُّق كافة متعددة أو لنشوء فضاء عام معولم او جمهور عولمي إنما هو مراهنة على كيانات مفترضة وبعيدة، على الأرجح، عن التحقق كقوى فعليّة. وتعلم الكاتبة بأن لا موطن، جغرافيا او رمزيا، للفضاء العولمي او لجمهور هذا الفضاء طالما أن العولمة محكومة بشركات عابرة للحدود وإعلام تجاري وشعبوي التوجه وسياسات دول لا مكان عندها لاستضافة الجمهور العولمي المفترض.
الى ذلك فإنها إذ تحض اليسار على المساهمة في تكوين الفضاء والجمهور المعولمين، او على الأقل دفعهما الى مدار الوجود الفعليّ، فإنها تحضّ على أمر كهذا في ظل سياسة دولية هي رهينة عنفي الإرهاب والإرهاب المضاد، أي في ظل صراع قوى هيمنة عولمية، لن تُظهر تسامحاً كبيراً، أو حتى صبراً، تجاه المعاني المتعددة والمعقدة التي لا بد وأن تتولد عن الفضاء المعولم نظراً الى انتماء جمهوره الى ثقافات مختلفة. وهذا عائق كبير أمام تحقق الفضاء المنشود في حالة السلم، فما بالك في ظل حالة الحرب حيث يسود التمييز التبسيطي، على ما شهدنا في غضون العامين الأخيرين، الى حدّ تُختزل معه البشرية الى من هم "معنا" او "ضدنا"، او إلى "دعاة الخير" و"أتباع الشرّ".
والكاتبة في حرصها على الإلتزام بالمنهجية النقدية لأمثال أدورنو ووالتر بنيامين ومدرسة فرانكفورت عموماً، تعرّض مشروعها الموعود الى ما تعرّض له أصحاب هذه المنهجية من اتهام بالنزوع الى النخبويّة والتشاؤم، وبما يكشف الحدود العملية الضيقة لما يُسمى بمشروع اليسار المعولم. صحيح أنها تسوّق مشروع معارضة جذريّ، وأنها في تشديدها على مفهوم "النقد الملازم" او "الجدل السالب" تحول دون جنوح هذا المشروع الى معارضة شعبوية متطرفة تتخذ العنف الإرهابي وسيلة، او الى انزلاقه الى مشروع توفيقي مهادن في سبيل الحصول على بعض المطالب. غير أن هذا بالذات ما يجعله أسير المؤسسات الأكاديمية والحلقات الفكرية الضيقة، والأهم من ذلك، المعزولة عن مجرى الحياة السياسية.
وقد نسلّم بأن ما تقترحه الكاتبة لهو محض بداية لمشروع عولميّ فعليّ، لكن من الصعب أن نرى كيف يمكن تجاوز بداية كهذه طالما أن السُبل العمليّة المقترحة تمضي نحو تعزيز سُبل التعبير والإنتاج الثقافيين الهامشيين. فلغة التواصل المقترحة، في إطار فضاء متعدد المرجعيات واللغات، هي لغة الفن المتمسك بأولوية المعنى، وهو فن هامشي اليوم. أما الخطاب الإسلامي النقدي، الذي تُنيط به الكاتبة دوراً أساسياً في الفضاء المعولم، فيبدو من خلال الأعمال التي تتناولها، محصوراً بزملائها الأكاديميين الذين، وإن كانوا من أصول إسلامية، فإنهم يدرّسون في الجامعات الغربية ويكتبون، على العموم، بالإنكليزية. بل ان جلهم يقيم كمواطنين أميركيين وأوروبيين، وفي فضاء أقصى ما تبلغ عولمته تشكيل صدى بعيد لما يحدث في مجرى السياسة الدولية.
Susan Buck-Morss.
Thinking Past Terror.
(إعمال النظر بعد الإرهاب).
Verso, London.
2003.
148 pages.