أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - يسام العيسمي - الديمقراطية خياراً – الجزء (14















المزيد.....


الديمقراطية خياراً – الجزء (14


يسام العيسمي

الحوار المتمدن-العدد: 1939 - 2007 / 6 / 7 - 09:54
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


الفكر القومي ومأزقه التاريخي
لقد واجه هذا الفكر تحديات متعددة وإشكاليات كثيرة لم يحسن التعامل معها، ولم يتبلور هذا الفكر دفعة واحدة بل على مراحل تخللها كبوات وإرهاصات جمة وأول بواكيره تمثل في الدعوة إلى شكل من أشكال الاتحاد العربي في إطار الدولة العثمانية من خلال التركيز على اللغة الجامعة والتاريخ المشترك ووحدة المصير كرد فعل على النـزعة القومية التركية باتباعها سياسة التتريك القسري على امتداد الإمبراطورية العثمانية مما ساهم ذلك بتعزيز الشعور القومي لدى عدد من المفكرين العرب كردة فعل إزاء سياسة التتريك إلى محاولة تأكيد وترسيخ الهوية العربية على ركائز اللغة والتاريخ والثقافة الكفيلة بحسب رأيهم لتشكيل الأمة.
ومن أبرز التحديات التي واجهت دعاة الفكر القومي في سياق سعيهم لتأكيد وجود الأمة العربية هي الكيانات القطرية المتعددة التي مزقها الاستعمار الغربي والإسلام السياسي الذي برز جلياً في الثلاثينيات من القرن الماضي بعد انحسار تيار الإصلاح الديني وطرح الوحدة الإسلامية بديلاً عن الوحدة القومية.
إضافة إلى التحدي الذي فرضته الشيوعية وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية وانتصار الاتحاد السوفيتي حيث رفعت شعار الاشتراكية والأممية كمفهوم فوق القومية يرى أن الصراع الطبقي الذي يحدد مسار التطور وليس ركائز الفكر القومي كما يرى دعاته.
إلاّ أن الفكر القومي إزاء هذه التحديات لم يستطع أن يبني أو يحدد مشروعية تاريخية لمشروعه النهضوي وإنّما انطلق من اعتبار أن القومية العربية حقيقة قائمة وملموسة تشكلت منذ القديم؛ أي نظر إليها على أنها إنجازاً من الماضي وبالتالي لم ينظر إليها كمشروع مستقبلي.
وهي في نظر ميشيل عفلق واقع بديهي لا يحتاج لنقاش وإنها قائمة منذ القدم مع العلم أن القومية كظاهرة مجتمعية لم تظهر إلاّ في العصر الحديث.
وحينما انبرى دعاة هذا التيار لتجذير الوعي القومي بين حقوق الشعب ومحاولة بناء الدولة القومية لتجاوز واقع التخلف العربي في ميدان الوعي القومي حيث أخطأ في توصيفه ورؤيته لسبب تخلفنا حيث استخلص أن تخلفنا ناجم عن افتقادنا للاستقلال والأوضاع المزرية التي سببتها المطامع الاستعمارية والاحتلالات المتعاقبة وما فرضته كرهاً من تجزئة وتخلف مما يدل على أن دعاة هذا الفكر لم ينظروا إلى تخلفنا وانخفاض الوعي القومي لأسباب موضوعية داخلية بل أحالوها لأسباب وعوامل خارجية حيث بقي هذا الفكر منساقاً وراء السبب الخارجي والاستعمار وعقدة التآمر على الأمة دون أن يدرك أن الخارجي لا يفعل فعله إلاّ بقدر ضعفنا وتأخرنا التاريخي المبني على عوامل الوهن التي تعتري مجتمعنا.
فالخارج يعمل على استغلالها لصالحه والخارج ليس سبباً وإمّا نتيجة لما هو قائم في داخلنا فأسهب سنداً لهذا الفهم في تحميل الاستعمار والتجزئة كل عيوبنا ونواقصنا وأسباب تأخرنا ولم يرَ طريقاً للنهضة إلاّ التحرر من الاستعمار وإقامة الوحدة.
وتناسى هذا الفكر ودعاته أن تعدد الكيانات العربية سابقاً تاريخياً لوقوع المنطقة تحت براثن الاستعمار الغربي وإن كان هذا الأخير قد عزز من ذلك وأضاف كيانات لم تكن موجودة.
وتساوقاً مع ذلك الفهم فإن هذا التيار رفض الاعتراف بشرعية الدولة القطرية بعد نيل الاستقلال كون هذه الدويلات من نتاج الاستعمار. ونظر إلى الوحدة العربية وسبيل تحقيقها نظرة خارجة عن سياقها الواقعي واعتبر تحقيقها كما ورد على لسان ميشيل عفلق وساطع الحصري أنه يرتكز على الإيمان الذي يسبقه المعرفة الجلية والواضحة بها بحيث يصبح العمل القومي من وجهة نظرهم رسالة؛ أي انتقلوا بها من الواقعية إلى المثالية وفيصلها الإيمان المسبق بوحدة الأمة وبعثها من جديد، وإن هذا الإيمان لا يمكن أن يصل إليه إلاّ قلة من أبناء الأمة ؛ فهذه القلة من حقها ومن موقع المسؤولية المناطة على عاتقها لابدّ وأن تعمل على قيادة مجموع الأمة إلى مدارج النهضة، وهذه القلة أو هذه النظرة هي التي عززت الرؤية الانقلابية ومبدأ المشروعية التورية، وإن الأقلية يجب عليها أن تتحرك وتتسلم مقاليد القرار والسلطة لتفرض رؤيتها دون حاجة لأن تكون مفوضة من الشعب.
بهذا الإطار وضمن هذه الرؤية تأسست التنظيمات الانقلابية أي الأحزاب التي تضع نفسها فوق المجتمع وتقسر الناس بما يروه صواباً بالقوة والعنف إذا اقتضى الأمر من خلال عسكرة المجتمع والسيطرة المُحكمة على الحالة أو الحركة المجتمعية بكل وجوهها وضبط إيقاعها لما يخدم رؤاهم وقناعاتهم انطلاقاً من أنهم يمثلون الحقيقة المطلقة التي لا يعتريها الشك أو شائبة، وهم رسل وجنود محاربين حملوا على عاتقهم مسؤولية صنع تاريخ الأمة.
فجاءت المبادئ والمنطلقات والركائز المشروعية التي قامت عليها الأحزاب القومية في فضاءات هذه الرؤية التفردية والانقلابية والإقصائية وعدم قبول الآخر والتوهم بامتلاك كامل الحقيقة واعتماد مبدأ الثورة الدائمة والتغيير العنفي والقسري لواقع المجتمع والابتعاد عن المشروعية الدستورية مما تلاقى هذا الفهم المثالي مع فهم الإسلام السياسي أو الفئة المؤمنة التي تأخذ على عاتقها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولو اقتضى الأمر بقوة السيف مما رسّخ دعاة هذا المشروع فكراً طوباوياً وصنميات فكرية لا تمت إلى الواقع وإنّما تأتي على مساحة الرغبة والتخيل والأفكار المسبقة التي تعطي النتائج من وجهة نظر معتنقيه التي يطمحون إليها خارج سياق الزمان والمكان وهذا ميشيل عفلق مؤسس البعث يقول:
«إن البعث لم يكن استمراراً لما قبله وإنما انقطاعاً وارتفاعاً إلى مستوى جديد من التفكير لا يملكه إلاّ فئة قليلة من مجموع الأمة» وهي الفئة القليلة والتي يجب أن تكون بالضرورة فوق مستوى الشعب ولم تصل إلى ما تصبو إليه إلاّ عن طريق الثورة والانقلاب والعنف لا عن طريق المشروعية الدستورية وصناديق الاقتراع لأن مجموع الشعب لم يصل إلى هذا الفهم وهذه القناعة لذلك فلا مناص من اعتماد مبدأ الثورة والمشروعية الثورية الانقلابية للوصول إلى الأهداف التي يصبون إليها.
سنداً لهذه الرؤية والتصور لم يولِ الفكر القومي العربي الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرياته أي اهتمام حيث اعتبر أو نظر إلى الحرية على أنها حرية الوطن وأن المواطن لا يملك حريته السياسية إلاّ إذا تحرر من الاستغلال مما أدّى لتكريس سلطة الحزب الواحد وفرض اللون الواحد وعزل المجتمع وإبعاد الجماهير عن دائرة الاهتمام بالشأن العام والسياسي.
ورفض هذا التيار الإصلاح المتدرج عبر المؤسسات الشرعية من خلال الانزياحات الجماهيرية خلف العقائد والميول والمصالح بإطار الشرعية الدستورية والصوت الانتخابي والممارسة السياسية في الواقع لتشكيل الوعي القادر والمستوعب لآلية التغيير المطلوب بإطار التطور التاريخي للوعي والممارسة من خلال سيرورة تطورية زمنية مجتمعية تعمل على ترسيخ العقلانية والعلمنة كشرط للانتقال من الواقع الراهن إلى المجتمع الحديث.
وإنما سعى إلى تحقيق نهضة سريعة رأى سبيلاً إليها الانقلاب أو الثورة خروجاً من تحكيم لغة العقل والواقع قطعاً وبتراً للتطور التاريخي.
وبرأيهم أن الإنجازات الكبرى في حياة المجتمع هي من صنع الأفراد المتميزون والقيادات الاستثنائية لا من صنع الشعب فإن الجماهير العريضة وعيها ناقص لا تحسن استعمال الحرية أو تصلح لأن تكون شريكة في صنع المستقبل واتخاذ القرارات المصيرية فهي جاهلة لا تستحق المصارحة مما عزز سياسات الاستئثار والانغلاق والتنافس السلبي وإلغاء التعددية الحزبية والسياسية والنظر للحزب الواحد كصيغة مُثلى لتجسيد أماني الشعب وبناء الدولة الحديثة ورص الصفوف.
بقي الفكر القومي وما جسدّه من ممارسة عملية في سدة القرار من خلال الأحزاب والتنظيمات التي استلمت مقاليد السلطة في أكثر من بلد ينهج خطاً انقلابياً استعلائياً عن الواقع ويضبط حركة المجتمع أمنياً من خلال القوانين الاستثنائية وحالة الطوارئ والتضييق على حرية الرأي والتعبير وحاول عسكرة المجتمع وتوجيه عمله ونشاطه قسراً بما يعتقده صواباً وقدم خطاباً تحريضياً لشحذ الهمم من أجل تحقيق النقلة النوعية في حياة الأمة والمدخل الوحيد لهذا هو الوقوف بوجه الخارج المتمثل بالاستعمار والإمبريالية، وإن إنجاز مهام التحرر الوطني هو الشرط الأهم الذي يجب أن يُجبّ الحاجات الأخرى للمجتمع، وتجلّى ذلك واضحاً من خلال رفع شعار لا صوت يعلو على صوت المعركة وبذلك جرى تأجيل كل الاستحقاقات الأخرى للمجتمع مثل التنمية والديمقراطية والإصلاح السياسي والاقتصادي والإداري لأنها وبنظرهم تأتي لاحقاً ويمكن التفرغ لها بعـد إنجاز التحرير إلى أن حدثت نكسة حزيران عام 1967 فكانت بمثابة الصدمة التي كشفت عمق الأزمة لهذا التيار وسياساته التي انتهجها وأساليبه المغلقة في التعاطي مع الحالة العامة.
فكانت أول تجليات هذه الأزمة بعد هزيمة حزيران هي صعود تيار الإسلام السياسي وعودته إلى مسرح الأحداث بعد الانكفاء الذي حصل له خلال فترة المد القومي وما عكسته الهزيمة أيضاً داخل التيار نفسه فقد أصابه بعض التفكك والتفسخ بانتقال قسماً من مؤيديه إلى خط أيديولوجي آخر كما حدث لقسم كبير من حركة القوميين العرب الذين اتجهوا إلى الماركسية وغادروا مواقعهم القومية.
لكن والذي لا شك فيه أن الأزمة وتجلياتها التي كشفتها نكسة حزيران دفعت قسماً كبيراً من قيادات هذا التيار إلى قبول المراجعة النقدية لبعض سياساته وتوصيف بعض الانحرافات والسياسات السابقة والبحث عن أسباب الهزيمة إلاّ أن هذه المراجعة لم تصل إلى درجة قبول الآخر والانفتاح على الشعب وقبول التعددية السياسية والحزبية حيث بقيت صيغة الحزب الواحد والقائد للدولة والمجتمع بإطار تحكمي وشمولي ووصائي هي السائدة في نهجه.
ولم تتطور هذه المراجعة لأن تطال الركائز الأيديولوجية التي تحكم أشكال ممارسة هذا التيار في التعامل مع الحالة العامة والعلاقة مع المجتمع والنظرة إلى الدولة كمؤسسة سيادية محايدة بل بقي ينظر إلى القومية أمراً واقعاً وناجزاً بعيد عن شروط الزمان والمكان وحركة التاريخ بل هي مبنية على ركائز اللغة والثقافة والتاريخ والمصير المشترك وأغفلوا العناصر الأخرى في عملية البناء القومي مثل الديمقراطية المؤسسة على حقوق الإنسان وضمان احترام الحريات العامة والفردية بما فيها حرية التعبير والتفكير وحرية الإعلام وإصدار الصحف وقبول التعددية الحزبية وإعادة الاعتبار للمجتمع وإدماجه بالشأن العام وزجه في ميدان التعاطي الإيجابي مع الحالة السياسية.
فالديمقراطية والعلمنة وترسيخ المؤسسات وبناء دولة الحق والقانون، الدولة المدنية وتعزيز المواطنة التي تساوي في الحقوق والواجبات؛ هذه الركائز والأسس هي التي مكنت الغرب من امتلاك ناحية الحضارة ومكنته من تحقيق نهضة شاملة.
إن تجاوز أسباب ضعفنا وعجزنا لن تكون بالحنين إلى الماضي، ولا بالقفز فوق الواقع، ولا بالنظر إلى الأفراد كقطيع دهماء؛ بل بالنظر إليهم كمواطنين كرماء وأصلاء وكيانات سيدة وعاقلة يجب إشراكهم في مواجهة مشكلات وأزمات الحاضر واحترام رأيهم وفكرهم ومصالحهم وميولهم لأن تحديات الخارج ومواجهته لا تقم برفع الشعارات الصفراء المعزولة عن الواقع ولا تتم بالعنتريات وابتداع كلمات التحدي والمواجهة والتغني بالأمجاد.
بل من خلال قدرتنا على امتلاك أسباب القوة الداخلية التي تمكننا من الوقوف أمام كل القوى الخارجية التي تريد شراً ببلدنا، فقوتنا لا تتشكل فوق المجتمع ولا تتأتى من عزله وتهميشه وتعليبه بنمطيات قهرية.
وإنما تأتي القوة عبر المجتمع من خلال تصحيح البنى المجتمعية وبناء دولة المؤسسات وتحرير الإنسان من كافة العبوديات والقمع والقهر والإذلال ومصادرة الرأي.
ومن خلال تعزيز دور الفرد والمجتمع وحماية الحريات العامة وتحقيق التنمية وتحرير الإنسان من كل أشكال الاستلاب والاستغلال كي يكون مواطناً حراً قوياً ليبني وطناً حراً وسيداً يستطيع الدفاع عنه وحمايته وتأمين تطوره للوصول به إلى مدارج الأمم المتقدمة.
لاشك أن الواقع العربي الملموس والمعاش برهن على عجز الدولة العربية المعاصرة في إنجاز ما طرحته من شعارات وهي تواجه تحديات كبيرة عملت وتعمل على تآكل شرعيتها وخاصة بعد اتساع مساحة الخطاب الديمقراطي في العالم وظاهرة العولمة الكاسة والتي حولت الكرة الأرضية إلى قرية كونية صغيرة رغم هذا مازالت الدولة العربية القومية دولة تسلطية متكلسة تقوم فوق المجتمع وتشل حركته فهي لازالت دولة النخبة ولم تستطع أن تحقق تنمية حقيقية ولا أن تتجاوز التبعية للخارج في الاقتصاد والسياسة، وتخلت وتحللت من وعودها للجماهير رغم بقاء خطابها فصامياً يكُثر من الكلام الطنان والشعارات البراقة خطاباً مبهماً غير واضح معزولاً عن شروط وإمكانات الواقع ليس له أي علاقة بالممارسة الفعلية فالكلام والخطاب شيء والممارسة شيء آخر.
ولازالت هذه الدولة تجسد المركزية الشديدة والسلطة المطلقة في ظل غياب الضمانات الدستورية للأفراد وغياب الرقابة الشعبية وسعيها لاحتكار مصادر القوة والسلطة والثروة والإعلام في المجتمع حتى أضحت كل المؤسسات المدنية والتمثيلية والسيادية في الدولة هي توضعات في جسد السلطة التنفيذية مما ضرب الركائز والأسس المادية والقانونية والفكرية لمؤسسات المجتمع المدني ودولة المؤسسات.
فلم تستطع هذه السلطات أن تبني مصدراً لشرعيتها إلاّ بخطابها التقليدي المناهض للاستعمار الذي تستخدمه لإضفاء الشرعية عليها ولإجبار المجتمع في أن ينحاز إلى منطقها.
لكن الهزائم المتوالية التي منيت بها الدولة العربية وعدم قدرتها من إنجاز مهام التحرر الوطني والوحدة أصبحت حلماً بعيد المنال أما وعد الاشتراكية وإقامة العدالة الاجتماعية انعكس بتوسيع مساحات الفقر في المجتمع وتفاقمت أزمة البطالة وتغلغل الفساد كسرطان تقشي في عرض البلاد وطولها وانتشرت السرقة واللصوصية والمحسوبيات في ظل غياب الشفافية والمحاسبة مما أدى ذلك إلى أزمة حقيقية واجهت تلك السلطات على المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية مما برز على السطح مجدداً أزمة تآكل شرعنتها رافق هذا تصاعد الاحتجاج على النمط الاحتكاري والتحكمي والاستئثاري لهذه السلطات للحيز السياسي والاجتماعي في المجتمع.
فتآكل شرعية الدولة القومية وفشلها في تحقيق أي من أهدافها التي رفعتها والتي أطرّت المجتمع حولها وفشلها أيضاً في تحقيق التنمية أو توفير الحياة الكريمة للناس.
وفي ظل الاختراق الثقافي والإعلامي الذي فرضته العولمة، وفي ظل سياق نزوع المجتمع البشري والكوني إلى تأصيل مفاهيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان المدنية والسياسية والاقتصادية واحترام رأيه وفكره وذاته وعقيدته ومصالحه وحمايته من العسف والاستبداد الذي يطال سخصه مما شكّل ذلك النـزوع إلى هذه الثقافة المجتمعية الجديدة نقيضاً وبديلاً فكرياً وسياسياً للأنظمة الشمولية والديكتاتورية حيث ساهمت هذه الثقافة الإنسانية بنسف المرتكز الفكري والسياسي لشرعية تلك الأنظمة التي فقدت شرعيتها أصلاً من خلال الممارسة الفعلية لها في موقع القرار وإخفاقاتها المتكررة إزاء هذا الوضع وفي ظل تنامي التيارات المدنية والحقوقية أحزاباً ومنظمات مجتمع مدني وحقوق إنسان التي تشكّلت على مساحة الخطاب الديمقراطي الذي يشكّل نقيضاً وبديلاً لها في الفكر والرؤية والممارسة.
مما حدا بتلك الأنظمة للتعويض عن تآكل شرعيتها بمهادنة التيار الديني علّها تستمد شرعية ما أملاً في تعزيز قدرتها في مواجهة الخطاب الديمقراطي التي ترى فيه خطراً كبيراً يعمل على تقويض سلطاتها ويكشف أخطائها وزلاتها وبنسف مرتكزاتها مما جعلها تميل إلى الإكثار من المفاهيم الدينية وتقحمها في مفردات خطابها والتظاهر بالإيمان وغض النظر عن نشاط الجماعات الإسلامية فهي يمكن أن تتحرك بمواجهتها أمنياً؛ لكن كممارسة عملية فهي توفر شروط نمائها واتساعها بمعنى آخر هي تحاربها أمنياً وترعاها في الإعلام والتربية وبذلك تكون هذه السلطات قد عملت وبيديها على توفير بعض المناخات الثقافية والأيديولوجية المناهضة لموقعها المعلن الذي تبنته أيديولوجياً وفكرياً مما وضعها في أتون أزمة جديدة فاقمت أزمتها وأعطت نتيجة عكسية لما أرادته من ذلك.
فالدولة التي تدعي المدنية والعلمانية إذا اتكأت على الخطاب الديني أو الأساس الديني لتستمد شرعية حكمها منه فذلك يعزز أزمتها وينقص شرعيتها لأنها ستكون بنظر المجتمع أقل كفاءة وشرعية من التيار الأصولي في تمثل الدين وتعاليمه.
إن تآكل شرعية الخطاب القومي وعدم قيامه بالمراجعة النقدية الكاملة لبرامجه ومسيرته وعدم قدرته على تحديث عمارة المجتمع وتغييبه لدولة المؤسسات وتهميشه للمجتمع وإخفاقاته التي تبدت أزمات على كل الصعد والمستويات لم يعد مبعث أمل للشعوب وثقة لها بمستقبل كريم وآمن.
كما أن الخطاب الديني أو الماركسي لم يكونا أوفر حظاً من الخطاب القومي جميعهم لا يتسع خطابهم للاختلاف وقبول الآخر بل لازال خطابهم إلغائي فوق المجتمع يجبر الأفراد قسرياً وعبر آليات الخضوع على تبني المعتقدات الإكراهية واللون الواحد لضبط حركة المجتمع وأدلجتها لصالح السلطة.
فالأصولية الدينية وإن تحولت اليوم لحركات سياسية وبدّلت من خطابها وأقحمته ببعض العبارات المدنية والديمقراطية لكنها لم تقدم حتى الآن حلول ناجحة ومقنعة للأزمة التي تواجه مجتمعاتنا لأن في جميعها لا تنتج إلاّ خطاباً قمعياً يقوم على أيديولوجيا غيبية لا تتسع لأي نوع من الحوار أو النقاش الديمقراطي ولا للاختلاف.
فحركات الإسلام السياسي بتصوري حتى الآن لم تقدم بديلاً إيجابياً لمأزق خطاب السلطة أو للمشكلات والأزمات المتفاقمة التي ألمت بمجتمعنا وإنما استفادت من حالة التدهور والتراجع والهزائم المتلاحقة واعتمدت في خطابها على ركيزتين أساسيتين أولهما محاولة استحضار الماضي والأمجاد القديمة والعودة للتمسك بالأصول مستغلة المزاج الشعبي في رفض الواقع في ظل الانكفاء وضياع البوصلة لتصور إن الرجوع إلى الماضي هو خشبة الخلاص لمغادرة الواقع المسكون بالضعف.
وهذا ما عبر عنه شعار (الإسلام هو الحل) وثانيهما إقحام مفردات الديمقراطية وحقوق الإنسان والدولة المدنية على خطابها وقبولها بصندوق الاقتراع، لكن هذا الخطاب يظل مبهماً وغامضاً لا يقدّم ماذا وراء صندوق الاقتراع وماذا عن حقوق الأقلية وماذا عن الدولة المدنية مما تزداد الخشية من أن هذه الحركات تود استخدام صندوق الاقتراع وسيلة نفعية لاستلام السلطة ومن بعدها يعملوا على استبدال المشروعية الدستورية بالمشروعية الغيبية وإحلال الخطاب الشمولي بدل خطاب الاختلاف خطاباً لا يقبل المراجعة أو التخطئ ومن يدري قد يرجعوا بنا إلى عصر الخلافة كنظام للحكم.
أما الخطاب الماركسي المتمثل بالأحزاب الشيوعية على امتداد منطقتنا والذي يقدم خطاباً محكوماً بمسلمات يفترضون صحتها ويصلون بها إلى درجة الإيمان كأصولية فكرية لا تقبل النقاش فقد طالته الأزمة ووصلت به إلى درجة الانهيار مع سقوط الاتحاد السوفيتي السابق فسقوطه لم يكن محصوراً في المبادئ التي يستند إليها كنظام اقتصادي واجتماعي وإنمّا كان الانهيار أيضاً للأسس السياسية والأيديولوجية والثقافية والقانونية التي يُبنى عليها نظام الحكم ونموذج الدولة سقوطاً أيديولوجياً للشمولية وتعليب المجتمع وإقصائه وتهميشه والتحكم بمجمل نشاطاته وما يرافق ذلك من الاندماج ما بين خطاب السلطة وممارستها الذي لا يُنتج إلى مجتمع الرعية ولا يؤسس لحالة مجتمعية صحيحة وصحية ويضفي طابقاً غير إنساني على نظام الحكم لتغييبه المعتقدات والمصالح والميول والقناعات لأفراد المجتمع.
فمعظم الأحزاب الشيوعية والماركسية في عالمنا العربي وإذ أجرت بعضها المراجعات النقدية لبعض المفاهيم والسياسات إلاّ أنها لازالت محكومة بتوجهاتها الأيديولوجية بالخطاب الشمولي تطالب بالتعددية الحزبية وحرية الرأي في مجتمعاتها وتتبعد عنه ولا تقبله إذا ما أصبحت في سدة القرار ولازالت أدبياتها وبرامجها تفتقد إلى التعديلات والتبديلات التي تُعبر عن قبولها للديمقراطية المؤسسة على حقوق الإنسان وتداول السلطة وحق الاختلاف.
كما أن دخول بعض الأحزاب الشيوعية لعبة السلطة عبر تحالفات جائرة ارتهنو لها وارتضوها على أنفسهم أفقدتهم أيضاً جزءاً من المصداقية الشعبية إزاء المجتمع بشكل عام وإزاء الطبقة العاملة والطبقة الشعبية الفقيرة بشكل خاص والتي يدعّون الدفاع عن مصالحها مما انتهى بهم المطاف شاؤوا أو أبوا من حيث الواقع لأن يكونوا جزءاً من نظام الحكم الذي تحالفوا معه وأحد أجنحته.



#يسام_العيسمي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- ماذا قال الحوثيون عن الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين في الجام ...
- شاهد: شبلان من نمور سومطرة في حديقة حيوان برلين يخضعان لأول ...
- الجيش الأميركي بدأ المهمة.. حقائق عن الرصيف البحري بنظام -جل ...
- فترة غريبة في السياسة الأميركية
- مسؤول أميركي: واشنطن ستعلن عن شراء أسلحة بقيمة 6 مليارات دول ...
- حرب غزة.. احتجاجات في عدد من الجامعات الأميركية
- واشنطن تنتقد تراجع الحريات في العراق
- ماكرون يهدد بعقوبات ضد المستوطنين -المذنبين بارتكاب عنف- في ...
- جامعة جنوب كاليفورنيا تلغي حفل التخرج بعد احتجاجات مناهضة لح ...
- إعلام: وفد مصري إلى تل أبيب وإسرائيل تقبل هدنة مؤقتة وانسحاب ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - يسام العيسمي - الديمقراطية خياراً – الجزء (14