أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي - نورالدين ثنيو - الأحزاب السياسية في الجزائر و التجربة الديموقراطية















المزيد.....



الأحزاب السياسية في الجزائر و التجربة الديموقراطية


نورالدين ثنيو

الحوار المتمدن-العدد: 575 - 2003 / 8 / 29 - 05:38
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
    


 

     لازالت اشكالية الديموقراطية في الوطن العربي  تتمثل في البحث عنها و في أسباب غيابها . فالديموقراطية  كمفهوم و تعريف و تجربة  معروفة من الناحية النظرية ، لأننا نلاحظها و نشاهد تطبيقاتها في العالم الغربي .. و لكن في العالم العربي ، نواصل البحث عن أسباب غياب امكاناتها و تلكأ السلط و دوائر النفوذ و الهيمنة في استمرارهم في وأد التجارب و المشاريع التي تروم الاستنهاض و تجترح قيم الديموقراطية  و الحريات السياسية و حقوق الانسان و المجتمع و مؤسسات الدولة العامة . فلازال الوعي العربي  لم يصل الى لحظة التماهي مع الحقيقة الديموقراطية  كقيمة وجودية  يعيشها كلحظة محايثة للواقع الراهن .


فمن هذه الناحية ، تطرح الديموقراطية على العرب بشكل عام  كاشكالية للبحث عنها  و لم تصل بعد الى  تقييم التجربة  الديموقراطية  لعدم ترسب الحد الأدنى من الرصيد الصالح للتقييم . و عليه ، تبقى اشكالية الديموقراطية في الوطن العربي هو البحث في مضادتها و حوائلها و ما تأباه ، أي البحث في أسباب التخلف و الوقوف على ظاهرة استبعاد الجسد العربي لقيم الحرية و الديموقراطية و علة الفكر الجماعي  العربي في عدم التجاوب الايجابي مع مقتضيات الديموقراطية  كما تفهم في الفكر السياسي و الاجتماعي  المعاصر .
     و هكذا ، تبرز  حالة البحث عن غياب الديموقراطية في البلدان العربية  السؤال التالي : كيف استطعنا أن نفهم و نعي و نقبل تعريف الديموقراطية ، و نعجز عن تطبيقها ، مما يكشف عن مفارقة  عصية و صعبة و هي التعاطى الانفصامي مع مسألة الديموقراطية  من حيث النظرية و الممارسة . و لعّل قوة مفهوم الديموقراطية يدرك في قدرته على كشف و فضح التخلف  و مواطن الضعف في الوجدان العربي، و عطالة  العقل العربي الذي يستطيع أن يدرك ما يعجزعن تطبيقه.
     و حتى لا نعالج الموضوع معالجة ميكانكية ، اسقاطية ، أي محاولة تطبيق نظرية جاهزة عند الآخرين ، نحتاج في العالم العربي  و منه الجزائر الى الوقوف الملي عند الحوائل و الموانع التي حالت دون تطبيق الديموقراطية كسبيل لزرعها و استنباتها  وحصد مآثرها و التمتع بفضاءاتها ، لأن الديموقراطية  هي أفضل آلية  لتحرير المجالات و القدرات و الأمكانات  لتساعد المجتمع و الدولة على التعبير عن الحاجة و السعي الدائم  لتلبيتها .
        ان العالم العربي لايزال يتلمس طريقه نحو لحظة التفاعل مع قيم الحرية و التقدم بسبب غياب الاطار الديموقراطي الذي يدلل على الطريق السليم للتنمية و الترقية الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية . و البحث الذي يجري بشأنه هو البحث السوسيولوجي و التاريخي للتخلف و محاولة السيطرة و تحييد آلية التخلف و تليين بنية المجتمعات العربية التي تشكلت زمن تدهور الحضارة العربية الاسلامية ، ثم تكلست زمن الاستعمار الأوروبي و استمرار الحديث عن الثوابت الوطنية  في زمن تراجع الايديولوجيات و الأفكار الاطلاقية  والمرجعيات الشاملة والخطابات الرسمية الأحادية ، كلها حرمت الوجدان العربي من امتصاص قيم الحرية و الحق ، الديموقراطية ، قيمة الانسان ، مآثر التقدم السليم ، و الوعي بحقيقة التخلف ، و الاستبداد و الطغيان و الفشل و المسؤولية والواجب . و بسبب التقدم الكبير الذي أحرزته شعوب المجتمعات الغربية ، و التطور الهائل الذي شهده الفكر السياسي و الفلسفي الغربي ، أعطى  لبقية العالم و منه العربي ، صورة دونية ، و ينظر بزهد الى رصيده و بشىء من عدم الاحفال الى تجاربه الفاشلة في مجال الديموقراطية و دولة القانون ، وان الوعي العربي لم يتحصن بثقافة الديموقراطية ، و أن الجسد العربي ليست  له القدرة على المجابهة الحضارية . 
          و هذا ما يجعلنا اليوم  نبحث عن الأسس الشرعية  التي تقوّم السلطة السياسية ؟ أي مدى شرعيتها ؟ ففي الجزائر ، كانت مرحلة ما بعد الاستقلال تستند الى الشرعية الثورية ، وهي مرجعية مرنة غير واضحة تماما ، و في أحيان أخرى أدت الى تجاوزات لم توفر السلطة وسائل مقاومتها . وبعد مرحلة الشرعية الثورية  دخلت الجزائر  بشكل مباغت الى مرحلة الشرعية الدستورية ، التي لم يكتب لصاحبها الرئيس الراحل هواري بومدين  متابعة اصلاحاته المؤسساتية التي لا تزول بزوال الرجال . فقد قامت محاولة اعتماد الشرعية الدستورية على شخص الرئيس  الذي تماهى مع المؤسسات ، و بغيابه دخلت البلاد في أزمة  خطيرة استعصت الى اليوم عن الحل . وهكذا ، يبقى السؤال الشرعي  يعاند و يطرح نفسه  على النحو التالي : ماهي الشرعية التي يستند اليها النظام السياسي في الجزائر ؟ يمكن تداول مجموعة السندات ، الا سند ارادت الشعب . و عليه فالنظام لازال يبحث عن الشرعية ، و فقدانه لها يؤجل بطبيعة الحال  الحديث و تطبيق الديموقراطية .
    الديموقراطية مفهوم معياري ، لا يكف عن التقدّم (1) ، لأنه ينطوي على قدرة فائقة على اعادة التشكل و مرونة في استيعاب تعاريف جديدة ، ولأنه يعد آلية و نظرية و وسيلة انجاز. و الديموقراطية من هذه الناحية ، تقتضي أنها تتطور باستمرار و لا تعرف التراجع ، و كل اخفاق يحصل لها هو في التعبير النهائي اخفاق لاطارها الاجتماعي و السياسي . فعندما تسوء أحوال  العمّال و الموظفين ، و تزداد نسبة الأمية الأبجدية و التعليمية وتنعدم وسائل الصّحة و الوقاية و العلاج و تتدهور حالة البيئة ، سوف تتراجع الديموقراطية ، لأنها في هذه الحالة هي معيار التقدم أو تخلّف المجتمع والدولة .
      وهكذا ، فالأزمة التي عصفت بالجزائر منذ سنوات هي الجزء الظاهر من البناء الفاسد برمته ، الذي افتقر الى الاسمنت المسلح بثقافة الديموقراطية و القناعة الحضارية لنظرية تداول السلطة ، و بسببب ذلك عبرت الأزمة بعنف عن وجود علاقة توتر بين المشروع الديموقراطي و بنية المجتمع السياسي و الاجتماعي ، كما عبّرت عن أن كل محاولة  لقسر و اجبار  تنفيذ المشروع الديموقراطي في غير محلّه و في غياب امكناته سوف  يفضي لا محالة  الى الكارثة و الى تدمير  عدّة المقاومة و القدرة على المواجهة  التي يحتاج اليها المجتمع  لكي يخرج من دوامة التخلف و المآزق التي تحل به  كما القدرة على الثبات في المنعطفات الكبرى التي تباغته بين لحظة و أخرى . وبتعبير موجز وصريح ، ان الديموقراطية  لاتكتفي  بذاتها و انما  تحتاج الى قدرات فعّالة  في وجدان الأمة و المجتمع و الى قوى ايجابية  تعزز الطريق السليم لزيادة التنمية  و التقدّم . و من هنا فالاخفاق الديموقراطي  يرتبط بالجوهر و الأساس بتراجع مؤشرالت الوضع الاجتماعي  و الاقتصادي لحالة الامة(2).
        منذ أكثر من عقد من الزمن و الجزائر تحاول أن تتلمس طريقا من أجل الخروج من المأزق التي آلت اليه الأوضاع فيها  بعد أحداث 5أكتوبر / تشرين أول1988 ثم الغاء  مسار الأنتخابات التشريعية جانفي / كانون الثاني 1992، وقد أفرزت هذه الأحداث من التداعيات و النتائج الجسيمة و الخطيرة على حياة الدولة و المجتمع حد التساؤل هل بقى في الامكان الحديث عن مستقبل الديوقراطية في الجزائر ؟
        و عليه ، فالباحث  اليوم  مضطر الى تتبع التطورالذي انتاب مفاصل الدولة وبنية المجتمع)3( خلال هذه الحقبة الزمنية ، و كل شيء يحتاج الى اماطة اللثام عنه ، و تتبع مصادر الفعل السياسي و الاجتماعي و علاقتيهما بالمستوى الذي تحتاجه الديموقراطية . و لا يمكن في هذه الحال  الاستباق و اتهام الباحث بالتحيز الحزبي و الذاتية في المعالجة أوبتقصده الطعن في السلطة و نظام الحكم  أو أن الباحث يولي أهمية أكثر لهذا الجانب من جوانب المجتمع و الدولة على حساب نواحي أخرى .. لأن تعقد الأزمة و استحكام بنيتها في جميع مستويات و المجالات ، تملي على الباحث العلمي و التاريخي  الاحاطة  بكل تجليات الظاهرة و محدداتها و كيفية مساهمة الأطراف فيها و نصيب كل واحد فيها ، و لأنها أزمة حقيقية فانه تقتضي اذن بحثا حقيقيا لا يماري و لا يوارب  و تشجم مشقة و عناء الموضوعية و الصراحة ، حتى لا يساهم الباحث بدوره في التنكر لها و التظاهر بواسطة أجهزة الأعلام بغيابها مثل ما تفعل السلطة منذ سنوات .
    فالمثقف / الباحث له من السلطة و الحياد ما يستطيع به أن ينأى عن مغريات النفوذ السياسي و يستطيع أن يقف خارج هيمنة المال الواصل الى المجال السياسي و القاطع للنسيج الاجتماعي الذي لا ينفك أن يتعرى يوميا من مناعاته الاخلاقية و المعنوية ، و رأسماله الرمزي ، علاوة على مفقدانه المتوالي لثرواته النفطية مادة الآقتصاد الأولى و الوحيدة ، من دون أن يعوض ما تحتاج اليه مقوماته الثقافية و مكونات هويته . ولعل هذا هو الوجه الحقيقي الذى يجب أن نجابه به الأوضاع الحالية في السلطة و المجتمع، لأنه في الوقت الذي تواصل فيه السلطة محاربة الأرهاب و العنف ، لا تكف في ذات الوقت عن هدم محصنات ثقافة السلم و الاستقرار، و كأن قدر السلطة هو العيش مع الأزمة  و تسييرها على أساس أنها قدر محتوم!؟
      ان المعضلة الجزائرية الراهنة  هي تعبير عن مغامرة الشعب و المجتمع نحو بناء مؤسسات الدولة  الجزائرية المستقلة . فقد سبق لهذا الشعب و قيادته أن جازف بمصيره في ثورة تحريرية كبرى عام 1954و انتهت الى الاستقلال ، ثم لم يلبث أن دخل في معركة بناء أجهزة الحكم و التسيير لمرافق الدولة على أساس من الديموقراطية .. لكن التجربة باءت  الى حد الآن بالاخفاق ، و لا يمكن الاطمئنان الى أوهام السلطة الحالية التي توحي بالحياة العادية أو في أكثر تقدير تعترف بالأزمة و تقيد الجهة المسئولة عليها بصيغة المبني للمجهول .
       ان تقييم التجربة السياسية الجزائرية  ، سلطة و أحزاب  نعتمد فيها على التجربة  كلها أي ادراج سنوات الأزمة كلها  كتجربة تاريخية ، تتقاسم كل الأطراف فيها المسئولية  ، لأنها من صنع الجميع و لم تعد من صنع السلطة فقط . فالديموقراطية التي جاءت بها أحداث 5 أكتوبر / تشرين الأول1988 ذاته ، و من ثم فان  اشكالية الديموقراطية  لا تعني السلطة فقط بل الأحزاب و القوى الاجتماعية و التنظيمات الشعبية أيضا ، علاوة على فساد سلوك الأفراد في حياتهم اليومية و العامة ، كما أبدوا تقصيرا فاضحا في الحفاظ على الأموال العامة و قدركبير من هدر امكانيات المجتمع و الدولة .
     و هكذا ، ان تحليل مسألة الديموقراطية و الاحزاب السياسية  في الجزائر  تنتهي في نهاية المطاف الى توكيد الصلة بين السلطة و الأحزاب ، و ان هذه الأخيرة لا يمكن دراستها دراسة تاريخية مستقلة ، لأنها لا تتمتع بتاريخها الخاص ، و انما اعتمدت في البداية و السياق و النهاية على مقتضيات السلطة و شروطها و حاجاتها... ولعل مكمن الافلاس الديموقراطي في الجزائر ان الساحة السياسية لم تتشكل منذ البداية بمجالها الثقافي  كشرط لازب لأية ممارسة للشأن العام ، و كل ما حدث هو افتراض التعددية في الهوامش و الأطراف مع بناء السلطة الفعلية في المركز و النواة .
       فقد انطوت الأحزاب السياسية  على قصور واضح ، لم تتعرف عليه منذ البداية  لأنها كانت عاجزة عن ادراكه ثقافيا ، كما لم تكن بيدها الوسائل الشرعية للفعل السياسي ، وانتهت تجربة الأحزاب السياسية  الى انهاتجارب غير مكتفية بذاتها و لا يمكن بالتالي كتابة تاريخها الخاص كرافد يصب في تاريخ الفكر السياسي الجزائري المعاصر . فاذا كانت معظم الأحزاب من انشاء السلطة ، فان الباقي – عدا حزب القوى الاشتراكية – ساهم  بقصوره في تأييد  نظام الحكم و بالتالي تفويت  فرصة الوصول الى الديموقراطية  عبر وصول المعارضة الحقيقية الى السلطة ، الضامن الحقيقي لبداية المسارالديموقراطي السليم و بداية عدّها التصاعدي الذي يرسخ رصيدها التاريخي و يعزز مستقبلها .
      و توكيدا لما سبق ، نرى أن الديموقراطية طلبها الجميع وأخفق فيها الجميع أيضا ، و من هنا مكمن المأزق الذي آلت اليه الأوضاع ، و نبهت الجميع الى ضعف ثقافة الدولة و هشاشة الوعي السياسي في مسألة خطيرة  و هي زرع الديموقراطية كأسلوب للحكم و ادارة المجتمع . فقد توسلت المعارضة الاسلامية الأسلوب الديموقراطي  للوصول الى الحكم ، و التمست السلطة أيضا أسلوب الديموقراطية لصد المعارضة عن الوصول الى الحكم .
      و استمر الوضع على ذلك الحال الى اليوم ، و بقتت الديموقراطية كاشكالية تراوح مكانها في الوقت التي تزيد الأوضاع سوء.. بل تراجعت مسألة الديموقراطية من سلم الأولويات و حلّ محلّلها استعادة الأمن و استمرار مؤسسات الدولة ، و البحث عن اسعافات خارجية  بسبب الضعف الذي انتاب مفاصل و دواليب نظام الحكم ونفاد مدخراته الذاتية طوال أكثر من عقد من زمن الأزمة .
        وثمة أمر آخر على جانب كبير من الخطورة  أفرزته أزمة الديموقراطية في الجزائر ، و يتعلق بتقلص فضاء التعبير لؤلائك الذين شاركوا بصورة من الصور في اسعاف و انقاذ  السلطة  من وصول المعارضة  الى الحكم , فقد وظفت قوى سياسية  بسبب قلة مصداقيتها و افتقارها الى التجربة الذاتية التي تبرر وجودها في ساحة العمل السياسي ، و فقدت بالتالي حق الكلام و الاقتراح و ادارة الشأن العام. فقد تآكلت أرصدة الأحزاب السياسية في دواليب النظام بالقدر الذي تعرّت فيها نواياها و انطلقاتها الخاطئة ، و صار من الصعب اسناد لها ادارة الشأن العام ، فضلا  على أن  ليس بوسع السلطة أن تجدد آليات الحكم نحو توسيع قاعدة المشاركة و المسئولية . و هذا بالضبط ما عقّد الأزمة السياسية  و كشفت انسداد الخيال في تقديم و تصور الحلول و البدائل بعد نفاد وسائل و امكانات يعوّل عليها في اجتراح عتبة الحل السياسي .
      ان السلطة ، كما يرى الباحث الجزائري هوّاري عدّي ، طرحت بعد الاستقلال مباشرة كغاية ، و لم تطرح اطلاقا كوسيلة لترقية العمل السياسي و تكوين طبقة سياسية . فقد شاع تعبير في الأدبيات الفرنسية ، أن ما بعد الاستقلال شهدت الجزائر سعيا لاهثا نحو البحث عن السلطة  بكل الوسائل ومهماكانت الطرق ، و صارت السلطة  المقصد النهائي و مطاف اللعبة السياسية , و بالفعل فقد تبين أن مشروع الدولة ، في نهاية التحليل  السياسي و الاجتماعي ، هو بناء رأسمالية الدولة  التي شكلت أربابها و عرّابها ، و صارت الدولة/السلطة مصدر و حامية السلطة . و عليه ، فالاشتراكية كمشروع بناء مؤسسات لا تزول  بزوال الرجال ، كما ورد في تصريح بيان 19 جوان / حزيران 1965 ، المتعلّق بالانقلاب الثوري على نظام مابعد 1962، فقد دام هذا المشروع قرابة العشر سنوات فقط ، مّدة بقاء الرئيس هوّاري بومدين في سدّة الحكم أي الىغاية 1978. ثم جاءت مرحلة أطلق عليها مرحلة المراجعة والتراجع عن الخط الاشتراكي  و بداية العمل بقانون السوق الذي طال أكثر من عشرين سنة و لم تفلح السلطة الى غاية اليوم في  تأسيس و تحرير مجالاته ، و تمكين آلياته و التحكم في دواليبه الاقتصادية و التجارية و المالية و السياسية¸، فقد طالت مدّة البحث عن مجالات  السوق و نظامه أكثر من مدّة تطبيق الاشتراكية ، و مع ذلك لازال الجميع تقريبا يكيل تهمة الافلاس السياسي الى التطبيق الاشتراكي . و هذا وجه آخر من وجوه المفارقة التي صنعها الاعلام الرسمي و يتغذاها الرأي العام كتقية لتمديد عمر أزمة الديموقراطية في الجزائر . ولعلّ هذا كفيل بأن يفصح من الناحية السوسيولوجية و السياسية  و الثقافية عن غياب أصلي لفكرة مشروع بناء الدولة و مؤسسات الحكم تحايث الواقع و تفرزه بشكل يعبر عن جدلية شرعية  بين الواقع التاريخي و فكرة المشروع المراد تحقيقه ، أي أن  التخلف كان مرافقا لتصوّر المشروع و ينم عن حقيقة مروّعة لا يمكن الافتئات عليها و تحتاج الى وعي حاد بها قبل كل محاولة  تطمح الى بناء الديموقراطية .
      فقد كشفت الأزمة الجزائرية الأخيرة عن خلفيتها و ما قبل تاريخها عندما عبرت عن أن السلطة  حكم مصادر مستحكم في نواة لا تريد أن تطلق سراحه ، و تخاف من أي محاولات التحرير .. لا بل  فقد انطوت السلطة على الخوف من الديموقراطية  التي تسعى الى  ردم الفجوة السحيقة  ما بين السلطة و المجتمع ، أي تحرير التواصل لآليات  التمثيل و معايير الاستحقاق و الجدارة  التي تثري التجربة  الديموقراطية و تزيد من صلابة النواة الحيوية للنظام السياسي  .
      ان استمرار منطق الشرعية الثورية و الكفاح الوطني المسلح ضد الاستعمار ، و انبناء نواة الحكم على مصدر عسكري ، من شأنه أن يبقي الديموقراطية في حكم المؤجل. لأنه ستنتهي كل صور و صيغ التلاعب بحتمية الحل الديموقراطي للأزمة الجزائرية التي تعد في جوهرها تعبير عن  الغياب المتواصل لمقتضيات الديموقراطية من الفضّ السلمي للنزاعات الاجتماعية و السياسية، و امكانية تداول المسئوليات العليا و ليس السيطرة على مؤسسات الدولة أو محاولة امتلاكها و الا أخذ النظام السياسي  الشكل الاستبدادي . فالسلطة كما يرى الفكر الفرنسي كلود لوفور* غير قابلة للامتلاك، و مجالها فارغ  غير قابل الاستحواذ. و بتعبير آخر فالأحزاب الديموقراطية* هي تلك التي تسعى الى الحكم و ليس لمتلاكه. و الدولة بالتعريف هي مؤسسة رمزية يصعب امتلاكها أو استيعابها  من قبل حزب واحد أو فرد واحد، لأنها تعني الجميع ، وفكرة الجماعة هي التي تعطي مدلول العمومية التي تمثل الخاصية الجوهرية  للدولة . و أفضل طريق لآضفاء الرمزية  و المعنوية على الدولة  هو الأسلوب الديموقراطي في ادارة الحكم و تسيير الشؤون العامة للمجتمع و الدولة.
 
جبهة التحرير الوطني : الحزب ، الدولة، الأمة
   لامراء أن جبهة التحرير الوطني، هي التي تقدّمت المشهد السياسي و التاريخي للجزائر المعاصرة ، بفعل الثورة التحريرية التي نقلت الجزائر من عهد الاستعمار الى عهد الاستقلال . وقد كان لهذا الفعل قوة ابداع الجزائر ذاتها و غطى على كل المكونات و الجوانب التي لم تكن ظاهرة في الكيان الجزائري ابان الاحتلال الفرنسي له. فسنوات الثورة ثم الاستقلال كانت كافية لكي تستولي جبهة التحرير الوطني على الأداة)الحزب(  ثم الموسسات)الدولة ( و الكيان) الأمة(. فقد كانت ثورة التحرير الوطني 1954-1962، ثورة مؤسسة و فاعلة تجاوبت مع مقتضيات العصر الجديد  الذي جاء بعد الحرب العالمية الثانية النابذة للاستعمار و الاحتلال ، و المتجهة الى تأسيس الدول على مقومات الأمة و المواطنة، و من هنا استأهلت جبهة التحرير الوطني  صفة صانعة المجد التاريخي للجزائر، و صارت  على هذا الأساس  المثال الذي يحتذى في العالم الثالث .
       غطى حدث الثورة  على كل  المقوّمات الذاتية و المراحل السّابقة للحركة الوطنية1926-1954 و علاقتها بالاستعمار، و لم تعبأ الا بلحظة الثورة، و سيرورتها كفعل كاسح لا يتوقف  الا ليحصد من يعترض عليها أو يروم التوقف لاعادة التفكير  و تحسس الطريق السليم لمنجازات الثورة . فقد  استمر منطق الثورة  وافتراض الحرب على الأعداء الجدد  لكي تتمكن الجبهة من الاستحواذ على الحزب و الدولة و الأمة  طوال فترة الاستقلال في مختلف المراحل ، و لم تعرف كيف تتخلص من هذه المؤسسات و تعيدها الى الجزائر .. لا بل اختزلت الأزمة الجزائرية الراهنة  في  غياب الديموقراطية  المقوّم الأساس في حصول عملية استلام المجتمع لمؤسساته الشرعية من  سلطة الثورة ، و هذا ما أبرزته الأنتخابات التشريعية مطلع التسعينيات ، عندما عمدت السلطة السياسية الى الغاء نتائج الأقتراع بسبب هزيمة جبهة التحرير الوطني ، و نبه الجميع الى أن  الجبهة  لا زالت تملك فعلا  الدولة و الأمة ....

 

ان الانتصار الكبير الذي حققته جبهة التحرير الوطني  على قوة استعمارية كبيرة مثل فرنسا ، مثّل أيضا وضعا خطيرا  ،  لأن عظمة الانتصار  لم تماثله و توازيه  قوة في الاستعداد لبناء الدولة و مؤسساتها ، فكلما كان الانتصار عظيما كلما  جاء التحدي كبيرا أيضا ، خاصة  على مستوى وسائل تحقيق مشروع و محتوى الاستقلال  الوطني . وقد برز هذا التحدي في سوء الانطلاق نحو تحقيق مؤسسات لا تزول بزوال الرجال ، و نظام حكم غير قابل للامتلاك و كان من مضاعفات  هذا الوضع افتقار الدولة لعنصر الشعب  عندما قدّم أكثر من ثلات أرباع أصواته الى غير حزب جبهة التحرير الوطني  في أوّل انتخابات تشريعية .

 

      ان انتصار  الثورة  التحريرية غطى على التاريخ الحقيقي للثورة المسلّحة . فقد كان الانتصار كافيا  لكي يختزل التاريخ الجزائر  الحديث   في تاريخ جبهة التحرير الوطني و العناصر  الفاعلة فيه . فنشوة الانتصار  طالت مدّتها أكثر من اللازم ، و الشرعية الثورية  كمرجعية طالت  بدورها أكثر مما ينبغي ، و ضاعت علينا  بسبب ذلك مسألة مهمة جدا ، و هي البحث التاريخي العلمي و الموضوعي لكي  يعاد  للثورة معقوليتها و فهم أسبابها وسياق جريانها ، و كيف صارت ممكنة ووجوه الاخفاق  و النجاح الذي رافقها ، أي بتعبير واضح ماذا أضافت الثورة المسلّحة و الحركة الوطنية قبلها الى علم التاريخ  و التاريخ الجزائرى بشكل خاص، لأن مشكلة تحرير التاريخ الجزائري مازالت معلقة و تعاني من  عوائق لم يتيسر للجزائريين سبل تجاوزها كامكانية لظهور مجالات جديدة  تعول عليه الديموقراطية عند الشروع فيها . فعلى سبيل المثال ، أن تاريخ الجزائر لازال يكتب  بالفرنسية ، رؤية و لغة ، و لم يتحرّر كما تحررت الثورة المسلحة و حصلت على الاستقلال . و وجه الاخفاق في تحرّر التاريخ و امتلاك الذات و الوعي  بحقيقة الوطن ، هو الكتابة المناسبتية  و الخطابات  الرسمية الظرفية  و المفرطة في الاحتفالية و التبجيلية ، حيث طمست كل محاولات الكتابة الجادة العلمية التي لا تكتفي  بتاريخ جبهة التحرير، و انما  تلتفت أيضا الى العناصر التي صنعت التاريخ في كل وجوهه و جعلت الثورة ممكنة . كما يمكن الاشارة الى غياب التاريخ الآخر لجبهة التحرير  لكي نؤكد على فقر التاريخ السياسي  من جوانب مختلفة  لم يعرّف بها كحقائق ، و لم تتمثلها الأجيال اللاحقة على الاستقلال. فقد كان هناك خلاف بين عدة أطراف و فاعلي الحدث السياسي العام قبل و ابان و بعد الثورة : حكومة  باريس  ضد الوطنيين الجزائريين ، جبهة التحرير الوطني ضد الحركة الوطنية الجزائرية  للزعيم مصالي الحاج ، الأوروبيون ضد المسلمين الجزائريين ، المستوطنون و الأقدام السوداء ضد فرنسيي فرنسا ، ثم و ليس أخيرا  المنظمة الجيش السرى ضد  الجيش النظامي  افرنسي ، فضلا على جبهة التحرير  كانت تقطعها عدة تيارات و توجهات و ايديولوجيات .
        فقد كان لهذا الغياب ، أي عدم اعتراف و عدم اكتراث جبهة التحرير الوطني  كحزب  في السلطة ، بهذا الخلاف و الاختلاف هو الذي  أفضى الى ظهور  أزمة الديموقراطية  بوجهها الخطير  و الذي نعيش آثارها الى اليوم . فقد  ولجت الجبهة /الحزب  العمل السياسي التعددي  بالذهنية الأحادية التي تأباها الحياة الديموقراطية  في الأصل و المسعى .
       كانت الثورة من مميزات  الجبهة ، و عندما جاء الاستقلال عام 1962 كان مشروع الدولة و متطلبات الاستقلال و السلم الاجتماعي و المرحلة الانتقالية و الاجماع الوطني  من العوالم التي لم تألفها  جبهة التحرير . فقد كان عليها ان تعيد تهيئة النفس  لكي تتجاوب مع حياة تختلف كلية  عن عهد  الحرب و الاحتلال . فوجدت صعوبة كبيرة لأن الاستقلال كان الى حد كبير استمرار للثورة بوسائل أخرى ، و لعل أهمّها غياب المستعمر ذاته ، و استمر  الخطاب الثوري  يفترض وجود  العدو الخارجي سواء عني به الطابور الخامس ، أو الاستعمار الجديد ، أوالمتربصين بالثورة. و لعل هذا ما جعلنا  نفهم أكثر لماذا أخفقت جبهة التحرير في تحرير مجالها السياسي المدني ، و انفراد بالتالي  القيادة العسكرية أي جيش التحرير  الذي استولى – بسبب فوضى أوضاع الاستقلال(4)- على السلطة، و تحولت مع الأعوام الى مؤسسة عسكرية بالقوة  و القانون و الفعل ، لها دولة *و تتوكأ على مرجعية تحرير الوطن من المستعمر و تمكنت  من الاحتفاظ بنواة  السيادة التي تكثف السياسة و الاقتصاد و القوة الردعية و القمعية  تجاه الأطراف التي تحاول أن تتموقع خارج اطارها أو تأتي من غير المجال  المؤسسة العسكرية . و هذا وجه آخر من وجوه الاخفاق للجبهة  في تجربتها  مع الديموقراطية ، عندما انفلتت منها  السيادة  المدنية ، و أعطت بالتالي  ثنائية لرأس السلطة أ افصح عن مأزقه عند أوت انتخابات تعددية عام 1991/1992.
جبهة التحرير ، جبهة استوعبت في صفوفها جميع العناصر التي ساهمت  بصورة من الصور في الثورة  التحريرية ، فقد انطوت منذ البداية على التعددية و الاختلاف لكن داخل اطار الحزب أثناء الجلسات و المؤتمرات . ومن شأن هذا الاختلاف و التعدد  أن يحتوي على الطرف و نقيضه ، الاسلامي المناهض أصلا للوطني ، و المناهض بدوره للفرنكو-لائكي ، و المتمثل للنموذج الفرنسي  في الجزائر  المناقض للعروبي  الذي  يولي وجهه نحو المشرق العربي و تياراته  البعثية و القومية و العروبية .. علاوة علىوجود التيار الكبير  من القوى الانتهازية  التي ليس  لها محل من المشهد السياسي  العام  و تمثل قوة هلامية ، غير واضحة ، لا تعرف كيف تبدي مواقفها و لا الدفاع عنها ، و ليست على قناعة في شيء سوى مصالحها الضيقة  واغتنام  الفرص و المناسبات و التأثير على مجريات  الانتخابات لصالح ممثل السلطة الفعلية . فقد  بقيت الجبهة تتفرّج على الأحداث التي جاءت  بعد الغاء  الانتخابات  مطلع التسعينيات و أنفضح أمرها عندما  اكتشف الجميع العجز  المضمر  في جهاز الحزب  و أنه مجر  تقية للمؤسسة العسكرية  .
        أما اللحظة الثانية  التي  أفصحت عن هلامية  حزب جبهة التحرير الوطني زمن التعددية ، فتمثل في لحظة انتخاب السيد ليامين زروال رئيسا للدولة عام 1995، بعد رتّب له حزب جديد  من رحم جبهة التحرير  التي  طالها الموقف الفاسد جراء الغاء الانتخابات التشريعية الأولى . فقد كان الحزب الجديد ، حزب التجمع  الوطني ، نباتا طفيليا  تخطى جبهة التحرير . ثم تواصلت اللعبة السياسية حصرا في مجال السلطة فقط أي  أنها  أصبحت شئنا لا يعني الا دوائر السلطة  و النفوذ  أما الجماهير  فلا تأتي الا لتزكي الرئيس المعيّن ، الذي عادة ما يحمل على  ضرورة التنصل من أي حزب  كشهادة لاثبات  بعده عن التلوث الحزبي ، و يسمح له بالتالي الطعن و نقد كل الأحزاب و حتى الشعب ، و تحميلهما مسؤولية فشل و اخفاق البرامج و المشاريع ، و هذا ما تأباه بطبيعة الحال الديموقراطية التي تبحث  دائما  عن مسؤولية الفشل في حزب الرئيس .
و ما يؤجل الديموقراطية في الحياة الحزبية و منه حزب جبهة التحري  ، هو استمرار الاهتمام  بالشأن الداخلي للحزب  على حساب الحياة السياسية العامة  و الحياة الاقتصادية و الاجتماعية  و حياة المواطنين بشكل عام . فالمناضل السياسي  يمكن  أن يكون عرضة لاجراءات عقابية  اذا تنافى سلوكه مع توجيهات الحزب و لوائه الداخلية ، لكن  قلّما يكترث الحزب  بالاخطاء و التجاوزات و الفشل في تحقيق برامج التنمية عندما  يتسبب  فيها أعضاؤه في الحكومة . و هكذا ، فالاعتبار الداخلي  لصالح الحزب يتفوق على اعتبار المجتمع و الدولة ، فلا  وجود للجزائم السياسية و لا يخضع المسؤول السياسي لاجراءات  الحق العام لأن السلطة الفعلية  التي عيّنته موجودة فوق سلطة الدولة الشرعية .
 
حزب اسلامي في لعبة الديموقراطية
        يمثل حزب مجتمع السلم – الاسلامي سابقا-  تجربة لحزب اسلامي  حاول أن يتعاطى مع الوضع المؤسساتي الرسمي لدولة حديثة النشأة ، و يكشف أيضا عن مدى قدرة هذا التنظيم القائم على أساس ديني  ، ان على المستوى المنطلق أو على مستوى الخطاب و اختيار الممكن في الحياة العامة. فقد كان حزب مجتمع السلم الحزب الوحيد الذي خاض تجربة مع السلطة  و ليس ضدّها كرافد لها أنقذها أكثر مما ساعدته على بلورة تصوّرات العمل السياسي الذي  يتخذ من الديموقراطية اطارا و منهجا  لتوزيع العدل و الثروة  في المجتمع . و مهما كان من أمر ، فان تجربة حزب اسلامي في الجزائر هي أساسا قاصرة ، لأنها تمّت في مجتمع متخلف  ، يتلمّس طريقه نحو الديموقراطية الحديثة ، و وجه المفارقة في هذه التجربة ، هو محاولة  التغاضي  عمّا تتطلبه الديموقراطية من مستوى حضاري أو محاولة توريط الديموقراطية في مجتمع لازال يقوم على هياكل اجتماعية و ذهنية منافية لروح الديموقراطية، و منها قيام أحزاب ذات توجه اسلامي  التي سوف تسعى الى توكيد الاختلاف الدينى في مجتمع قائم أصلا  على مقوّم جوهري هو الدين الاسلامي ، أي بتعبير آخر ، ان انخراط حزب حركة  المجتمع الاسلامي مع بقية الأحزاب الأخرى سوف  يفضي لا محالة الى تفتيت عرى الوحدة الاجتماعية و الوطنية ، لأن مقومات الوحدة و  الهوّية ليست للامتلاك و المزايادات  بعد استردادها من المستعمر ، و انما تندرج في النسيج العام  لا نسأل عليها  الا من خارج السياسية و نسعى الى توكيدها  عبر الابداع و الخلق و الانتاج الذي يستلهم الهوّية و مقوّماتها .
     وهكذا، فمجتمع السلم  لا يختلف كثيرا عن باقي الأحزاب الاسلامية  في العالم العربي التي أخفقت في الوصول الى السلطة  و التحصّن بمزيد من التجربة الديموقراطية و تكويد رؤية حديثة لفض النزاعات السياسية و ادارة و تسيير الشأن العام  دونما خلط لمراحل التاريخ  ، مرحلة المطالبة  باستعادة الاستقلال و الكفاح المسلح ضد الاستعمار و مرحلة السلم الاجتماعي و الاستقلال الوطني . و تنفرد حركة مجتمع السلم  أن سجلها التاريخي   يحتفظ به نظام الحكم لأنه هو الذي دعّمها منذ البداية بعد ما استنفذت نفسها في أول انتخابات تشريعية ديسمبر /كانون أول 1991، و لم تعد تقوى على التجديد وتغيير التاكتيك السياسي  و لا تعبئة الشعب على  يقينيات  تتماشى و روح العصر و معطيات الواقع ، خاصة التعاون مع بقية الأحزاب الأخرى في مواجهة السلطة ، كما لم تستطع أن تبلور مواقف سياسية تخدم رصيد الحزب ، علاوة على غياب  البرنامج السياسي في كيفية الحكم . و لعّل هذه الأخيرة  كانت ملازمة له منذ البداية(5) ، و تمثل في واقع الأمر ثغرة كبيرة  لدى جميع الأحزاب السياسية  الاسلامية  بشكل عام .
        دخل حزب حركة مجتمع السّلم المعمعان السياسي دونما استعداد  يذكر ، و تحت ضغط أجبره على الانسياق مع ملابسات و تداعيات  لحظة الغاء الانتخابات التشريعية  التعددية الأولى في تاريخ الجزائر عام1991، و قبلت التعاطي مع الخارطة السياسية الجديدة  التي فرضتها السلطة العسكرية .
       ثمة حقيقة ، أكدتها التجربة الدموقراطية في الجزائر ، و تنسحب على جميع الأحزاب ذات التوجه  الاسلامي ، و هي أنها فعلا أحزاب دينية  بالمعنى الدقيق للكلمة  ،من حيث التصور  و الوسيلة  و الغايات المنشودة ، حتى و ان أدعت غير ذلك  و قدمت برامج  عادية ، وأي تنكّر لذلك ، دليل آخر على عدم مصداقية الحزب و ضعف وجوده السياسي . و لعلّ مقتل الأحزاب الدينية أنها جازفت بمقوّم جوهري في المجتمع الجزائري  ودخلت به  المعترك السياسي  بدل أن تبقيه بمنآى عن التلاعبات السياسية ، و لا تستغله ضدا على الأحزاب  العلمانية  و الأحزاب الوطنية  و غيرها . فقد كان المدخل السياسي لحركة مجتمع السلم يمثل الخطيئة الأصلية التي يصعب معها ترتيب نتائج طيبة  ، لأنها ولجت  العمل السياسي  ليس ضدا على الأحزاب غير الاسلامية  و ليس أيضا ضد السلطة ، و أنما ضد أحزاب اسلامية أخرى  خاصة الجبهة الاسلامية للانقاذ التي حلها النظام في أعقاب الغاء الانتخابات التشريعية لعام 1991.  لأن الأحزاب السياسية ذات التوجه الديني ، كانت منذ البداية قاصرة عن ادراك مجال السياسة ، أي استقلال السياسة بحقلها الخاص و عقلها الذي يحكمه منطق اختيار البدائل الممكنة في التاريخ و ليس بعيدا عنه . و لعل عجز هذه الأحزاب ، ومنها حركة مجتمع السلم / الاسلامي ، عن ادراك المجال السياسي و ما يقتضية من طبيعة العمل و النشاط ، هو الذى أدي الى تشرذم داخل الاسلام ذاته ، و أن الصورة العبثية  التي  كان يمكن  أن تصدر عن أي انتخابات تشريعية لاحقة في  حالة أنتصارحزب اسلامي  ، هي أن هناك اسلام في السلطة و اسلام في المعارصة ، و تختزل المسألة  في : عن أي اسلام نتحدث ؟
    كادت أحداث 5 أكتوبر 1988 أن تفضي الى الانهيار العام  لولا أن بادرت السلطة الى فتح مجالات جديدة للتعبير السياسي ، و اقرار التعديدية السياسية  كمشهد جديد في الحياة العامة  في دستور جديد فيفري 1989... و لكن ، و بالرغم من ذلك ، جاءت أول انتخابات تشريعية  تعددية ديسمبر / كانون الأول محاولة  لخيبة عارمة ، كاشفة عن فقر مدقع  بالثقافة الديموقراطية ، و عن حساسية مرضية للجسد السياسي الحاكم من الحريات و نظرية تداول السلطة ، فقلبت الطاولة على الجميع ، وتصدّعت على اثرها هياكل و مؤسسات الدولة و المجتمع  بسبب الغاء هذه الانتخابات ، و لانزال تعاني هذا التصدع ، و كل محاولات جبر الكسور و رأب الشقوق باءت بالفشل . و صار الفشل حالة ملازمة لكل هذه المرحلة . و هكذا ، فقد دخل حزب محفوظ نحناح*اللعبة السياسية في ظل هذا الاخفاق الذريع للديموقراطية ، بعد ما تخلى و تنكّر لطبيعة التنظيم الاجتماعي الذي كان يتزعّمه جمعية الاصلاح و الارشاد  التي كانت تسعى الى التكافل الاجتماعي و العمل الخيري و النفع العام ، لا تشترط معايير و لا شروط الاستحقاق لخدماتها .  فقد تحوّل البرنامج الاجتماعي  في لحظة واحدة الى برنامج سياسي ، أدى الى نسف  الرصيد الاجماعي و الأخلاقي الديني  الذي راكمته  جمعية الاصلاح و الارشاد ، و ورّط في معارك  مرهقة خاصة مع الجبهة الاسلامية قبل و بعد حلّها من قبل النظام القائم . و على خلاف برنامج حركة المجتمع الاسلامي ، دخلت الجبهة الاسلامية للانقاذ  بخطاب اسلامي احتجاجي ضد السلطة و من يناصرها بما في ذلك حماس / حمس ، لا تهادن أحدا ، و من هنا سر اكتساحها الاجتماعي و شعبيتها ، ثم تحقيقها الأغلبية المطلقة في أول انتخابات تشريعية .
           لكن بعد الغاء الانتخابات من طرف السلطة العسكرية ، اختير  حماس ، لكي  يمثل الوجود الاسلامي  في دائرة السلطة ، كقوة سياسية تسخّر ضد التيار العلماني  المتطرف و في لعبة سياسية تعتمد على بقاء النواة الفعلية  للحكم كعراب يملك كل خيوط و أووراق اللعبة  خلف الستار . و تمثل هذه الخطوة  التي أقدم عليها حماس التورط الثاني في لعبة لا تعرف قواعدها أصلا ، و ذلك عندما قبلت التمثيل السياسي  على جثة حزب الجبهة الاسلامية للانقاذ  و اشلاء أصواتها التي كانت تعد بالملايين. و كان هذا المصل الذي أتاها من الخارج  غير طبيعي ، لأنه لم يتبلور و يتطوّر من داخل التجربة الخاصة . أما ثالت الأثافي  الذي أدى الى  انكماش الدّور الاسلامي للحزب هو اكتفائه بالتفرّج على الأحداث و قبلوها بشكل سلبي ، و كل الاعتراضات و الاحتجاجات انتهت  في نهاية المطاف الى قبول رأي السلطة و الدخول الى صف الطاعة ، على أساس  من المساومة القاضية بأن وجود حماس/ حمس يمثل الطرف المسعف لنظام الحكم ، وينتهي وجودها بخروج  السلطة من الأزمة ، كما حدث ذلك في انتخابابات الرئاسيات  ربيع 1999، و لم يسمح للشيخ محفوظ نحناح بالترشح اليها ، ثم توالت الحركة في التراجع في الانتخابات اللآحقة تشريعيات و محليات .
       دخلت حركة حماس/ حمس الى العمل السياسي  في اطار محدد لها سلفا ، يحرمها من ممارسة ديموقراطية  و حرية المبادرة  و امكانية اقتراح .. بل الصورة العبثية التي قدمتها  الحركة هي دخولها الحكومة  مع بقاء الاحساس بانها غريبة وأنها دائما في المعارضة ، مما نمّ في التحليل النهائي عن افتقار مروّع لفكرة السلطة و فكرة المعارضة ، و عجز عن ادراك مدلول  العام / فضلا عن عدم القدرة على الفصل بين الديني و السياسي وماالحد الذي يخدمهما معا .
         و عدم اكتفاء حماس / حمس  بقدراته و امكاناته ، هي التي جعلته  يفقد القدرة أيضا على التحالف  مع الأطراف السياسية في الأوقات التي تستدعي ذلك  و في ظروف التي تحتاج فيها المعارضة الى حالة من الاستقطاب و التوحد . و هكذا ، فقد  تأخّرت  عام 1995* عن التوقيع على وثسقة أرضية سانت ايجديو ، مع مجموعة من الأحزاب المعارضة للسلطة القائمة بالقوة الفعلية  :  مثل جبهة التحرير الوطني بقيادة عبد الحميد مهري ، الذي رضي  بالخول في المعارضة  بعد أن تراجع حزبه في الانتخابات التشريعية لعام 1991/1992 و ممثلين عن الجبهة الاسلامية للانقاذ  و حركة النهضة الاسلامية بقيادة الشيخ عبد الله جاب الله (6) و حزب القوى الاشتراكية  وحزب العمل للسيد لويزة حنون .... فبعد أن شاركت حركة الشيخ نحناح  في الاجتماعات الأولى ، عدّلت عن التوقيع بايعاز من السلطة ، و انحازت الى معارضة قوى المعارضة و رضيت بموقع مشبوه غير محدد سياسيا .
أما هشاشة  الحزب في التصدي و المواجهة ، بسبب الخطيئة الأصلية التي لازمته ، يمكننا أن نذكر على سبيل المثال : اقصاء الشيخ محفوظ نحناح من الترشح الى الانتخابات الرئاسية لعام 1999 ، بعد ما كان قد شارك في انتخابات  عام 1996 ، مكتفيا باداء دور الأرنب في المسابقة الانتخابية ، انصياعه لغيير اسم الحزب من حركة مجتمع االاسلامي الى حركة مجتمع السلم أي تصفيتها  من الصلة الاسلامية  و هو ما يعد اجهازا على بقايا تاريخ الحركة و تمييع لمادتها الدينية .، كما أن حزب نحناح استقل بدور مشارك شكلى و ليس مساهم في صياغة قرارات الدولة   و لا يخرج اطلاقا عن التصويت لصالح  مشاريع القوانين التي تتقدم بها السلطة الا بالقدر الذي تقدر فيه السلطة أنها لا تحتاج الى صوت حماس داخل البرلمان .
      أخيرا و ليس آخرا،  ما يؤكد علاقة النزعة الشعبوية لنظام الحكم و النزعة الاسلامية ، هو أن هذه الأخيرة  تشكلت من وحي الخطاب الشعبوي  و الثقافة الأحدية لجبهة التحرير الوطن  طوال حكمها بعد الاستقلال الى غاية بداية التسعينيات (7) , فالخطاب الاسلامي ، و حتى و لئن ادعى أنه معارض للسلطةالقائمة ، فان معاضته ، لا تعدو كونها تنوعا عن طبيعة واحدة ، و لا ترتقي اطلاقا الى الاختلاف في التصور و المنهج و انتاج المعنى المغاير ، كل ما في الأمر أنه خلاف مزاجي عارض و لا يؤسس لما بعده , و يبقى دائما  رهينا الطرف الذي يعترض عليه و يتغذى منه ، الى حد يصعب عليه الاستقلال بذاته  ، و لعل هذا ما جعل التيار الاسلامي ، من خلال التجربة  الأخيرة ، يفتقر الى الأصالة و الثقافة الذاتية . و من هنا نفهم جيدا  اقدام النظام على الغاء الانتخابات التشريعية لعام 1991/ 1992 مخافة أن يقوم  الحزب الاسلامي الفائز بنفس عمل السلطة أي مصادرة الحريات و الخيارات الممكنة ، و اعاقة الديموقراطية ، لأنه من جنس التيار الأحادي . و على هذا الأساس ، لا يمكن أن نبتعد عن الحقيقة اذا ربطنا الصلة بين التيار الاسلامي  و التيار الشعبوي  في علاقة صهرية  لا يمكن فصم عراها  الا عند التحليل و البحث العلمي . أما تاريخيا ، فقد عبرا التياران معا عن مضمون واحد ، الشعبوية و الارتجالية ، غياب النصوص الكبرى ، غياب الوعي التاريخي  في انجاز المشاريع.

 

مستقبل الديموقراطية في الجزائر
(1)
  - كانت ثورة التحرير الوطني 1954-1962، ثورة  شاملة ، و افصاح متقدم لخلفية تاريخية  عن مقومات و هياكل المجتمع الجزائري برمته  الى حد لا يصح للأحزاب الدينية  و لجبهة التحرير كحجزب أن تتلمس منها الشرعية السياسية . و يبقى المعول الوحيد لهذه الأحزاب و غيرها  هو ما الذي تستطيع أن تقدمه زمن السلم الاجتماعي  و العمل السياسي القائم على فكرة الاجماع الوطني  و القيم الانسانية و العالمية  التي  يكتب بها  التاريخ الانساني  الراهن . ان النشاط السياسي الرامي  الى الوصول الى السلطة  لادارة  الشأن العام يحتاج الى الجدارة و الاستحقاق و القدرة  على الانخراط في الحياة العامة للاجابة على انشغالات و تساؤلات و مشاكل المواطنين) المواطن الذي له حقوق تبرر وجود الدولة).


       و لكن هذا ما لم يستطع أن يحققه حزب حركة مجتمع الاسلامي / السلم ، لأنه بقي يعارض السلطة  بنفس المفاهيم و الأفكار و لغة الخطاب الشعبوي ، دون أن يصل الى الاستقلال بفكره الخاص و برنامج يكتفي  بذاته ان من حيث النشأة و السيرورة و رسم الغايات .
        ان المأزق الذي آلت اليه القوى السياسية في الجزائر ، ومنها خاصة جبهة التحرير الوطني ، أنها دخلت لعبة المزاحمة في من  يستحق الشرعية الثورية و التاريخية ، أي ان الكل انصرف الى التماس استحقاق السلطة من زاية البحث في الماضي ، و لم يستطع أن يبلور برنامجه و خطابه و مفردات قاموسه من الواقع الفوري الذي يتجاوب مع الجماهير التي تبقى دائما هي المحك الحقيقي لاستحقاق السلطة . و هكذا  استمر حزب جبهة التحرير الوطني محملا  بثقل لم يستطع التخلص منه لأنه مثل مبرر وجوده منذ البداية ، و كان عليه أن يفكر تفكيرا حضاريا واعيا لشروط تاريخية جديدة لكي يتجاوز الشرعية الثورية و يؤسس لنفسه مسارا جديدا  في زمن الديموقراطية و الشرعية الدستورية . و هذاما لم يحصل ، و ضاعت فرصة تأسيسية التي يستدعى لها جميع القوى السياسية و الاجتماعية  لتدشين عصر جديد اسمه عصر التعددية لفائدة الوحدة الوطنية .
         ان غياب لحظة لقاء الجميع عطلت الخروج من الأزمة  و تمادت السلطة في حبك تاكتيك الحضور و الغياب كلعبة سياسية تسويفية للاحتفاظ أكثر بالحكم . فالنظام هو الذي يحدد الأطراف التي يتعامل معها  و التي يقصيها حسب مقتضيات الحالة السياسية و دائما في أفق الاحتفاظ بالحكم . فقد غاب النظام  في اللقاء دعت اليه جمعية سانت أجيديو* عام 1995 ، كسبيل لحل الأزمة السياسية ، بعد ما تأكدت من جدية مسعى الجمعية و الحضور الحقيقي للأطراف الفاعلة  في ساحة المجتمع الجزائري .
          ان مستقبل الديموقراطية  في الجزائر  مرهون بشكل حثيث  بتوفير لحظة لقاء الجميع سلطة و أحزاب ، لأن لعبة  النظام المتمثلة في التواري خلف الأحزاب و توظيفهم في الأوقات المناسبة  من أجل  الاحتفاظ بالسلطة و الثروة و الخطاب الرسمي ، لم تعد تجد بقدر ما صارت تضر  و يزيد شرها على الدولة و المجتمع .
 
(2)
         الحديث عن الديموقراطية ، يتم في سياق تطور اقتصادي ، و أوضاع اجتماعية  تتحسن . و صارت الديموقراطية تتحدد بوجود نسبة مقبولة من التنمية ، اضافة الى الخدمات  التي تقدم الى المواطنين ، علاوة على حسن التدبير السياسي  لنظام الحكم مثل مبدا فصل السلطات ، نزاهة الانتخابات ، وجود اجماع عام حقيقي  يلتزم به الجميع في الشدائد كما في المسرات . لكن اذا كانت الديموقراطية تقتضي كل ذلك، فانه في حالة الجزائر ، يصعب التنبؤ  بتحسن الأوضاع الشرط اللازب لامكانية الحديث عن ديموقراطية تتحسن، لأن الجزائر منذ ان ولجت الأزمة في وجوهها المتعددة ، لا تترى أوضاعها لاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية  تتفاقم و تؤجل بالتالي  قدوم لحظة اللقاء مع  مسار الديموقراطي السليم .
     في السنوات الأخيرة حرص التاريخ الجزائري أن يكتب سجله بالكوارث و الأزمات و المآزق و المشاكل الحادة  التي تتعقد يوما بعد آخر . كيف يمكن الحديث عن الديموقراطية كمفتاح لحل الأزمة السياسية  في الوقت الذي يزيد فيه منسوب الفقر و البطالة و الفساد المالي و التجاري و الاختراق السياسي و القانوني للمؤساسات الدولة . و لم يكفي الجزائر كل ذلك لتضاف اليها  الكوارث الطبيعية  بسبب الاهمال الأرعن و غياب الشفافية ، كان آخرها الزلزال الذي ضرب مدينتي الجزائر و بومرداس  في 21 ماي الفارط ، وأسفر عن مقتل أكثر من 2000 شخصا و آلاف آخرين من الجرحى ، حدث هذا و اثار كارثة الطوفان الذي ألم بحي باب الواد في مدينة الجزائر  العام الماضي 10 نوفمبر 2001 ، لا تزال عالقة بالأذهان ، و أسفرت هي أيضا على قرابة الألف من الضحايا ، ناهيك عن الأرهاب و العنف و الاغتيال اليومي الذي تأصل في تلافيف و نسيج المجتمع و الدولة .
      و ما يؤشر فعلا على صعوبة ما يواجه الجزائر في المستقبل القريب هو انسداد الأفق و جمود الرؤية  المستقبلية  بعد ما تكاثرت المصاعب و المعضلات . فقد ظهرت  في الآونة الأخيرة  أمراض كانت في عداد المنقرضة مثل الطاعون و التيفوئيد ، فضلا على انتشار الأوبئة و التلوث المرعب للبيئة  و الفساد العمراني  المتواصل  كالسرطان الذي شوه المدن و الأرياف ، الغلاء الفاحش  للمعيشة  في ظروف اقتصادية  تتحكم فيها مافيا المال و الأعمال  ، التي برهنت على قدرتها على تأسيس الأمبراطوريات المالية و التجارية و هدمها بتصرفات رعناء و اجراءات  طائشة غير مسؤولة  تسبب دمار اقتصادي و اجتماعي  اثاره لا تتوقف اطلاقا .
    و هكذا ، يصعب ازدهار الديموقراطية  في سياق اجتماعي و سياسي مناوىء لها ، خاصة ، وهنا الخطر القاتل ، أن الرأسمال الرمزي الّذي  يعد القاعدة المعيارية  التي  يتوكؤ عليها المجتمع الجزائري ، تفقد يوميا قيما و خصالا و فضائلا  و مزايا من دون أن تعوض بأخرى عدا السلب و النهب و تويهن أواصر النسيج الاجتماعي  التي تسبب في ارتفاع معدل الجرائم و حوادث الطرقات و الافلاس الأخلاقي و المعنوي .
   و من هنا  التوكيد على حقيقة مفزعة و مزعجة للجزائر . فبعض هذه المظاهر السلبية  موجودة  في العديد من الدول ، و هذا صحيح  الى حد كبير ، لكن ما تنفرد به الجزائر التي تعيش فقط على ريع النفط ، هو أن مظاهر الفساد تمثل معطى يومي  يجري التعامل معه  كأنه قدر محتوم  يجب تسييره ، و استمرار قناعة عدم قدرة الدولة على الحل  في ما يشبه اعلان ضمني عن اشهار افلاس لنظام يبحث أكثر عن مساعدات خارجية  لاسعافه و اعادته الى جادة الطريق  الذي سلكته الدول الحديثة . 
                                              (3)
     العالم من حولنا  يتطور و يشهد خطوات عملاقة في مجال تطبيق الديموقراطية  الى درجة أنها اجتاحت كافة المجالات و الميادين ، و لم تعد قاصرة على المجال السياسي  بل امتدت و طالت المجال الاقتصادي و الاخلاقي و الديني ، فضلا على اتساع  رقعة و اطار تطبيق الديموقراطية لتتعدى اطار الدولة / الأمة  و تصل الى  المجموعات الجهوية  الكبرى مثل المجموعة الأوروبية .. اذا لم نقل  ان النظام الدولي  يرسي  قواعد ديموقراطية  تفرض على الجميع و تكون قوة الاقتراح فيها  الى الدول العريقة في التجربة الديموقراطية  و التي كرست مبادىء و قيم الاختلاف ، و الحكم الراشد و فكرة التناوب و المشاركة وفقا لمبدأ و معيار الاستحقاق  و الجدارة .
       الأهم من ذلك  أن المجتمع الدولي  ينحو الى ارساء أساليب الحكم الديموقراطي لتكون مثالا و مرآة لكل الأنظمة الدولانية و تستقبلها في انظمتها القانونية الداخلية . وعلى هذا الأساس ، فمن المتوقع ان لا يترك المجال واسعا لنظام الحكم في الجزائر  لكي  يتمادى في محاصرة مقتضيات الديموقراطية  و طمس الحريات العامة ، و فتح و تحرير المجالات و ابرام علاقات مع المجموعات البشرية  الجهوية و الدولية  بصورة مباشرة ، عبر ما يعرف  بالديموقراطية الاسهامية(8) ، التي تقتضي من جملة ما تقتضي الاحتكام ليس الى الهيئات القضائية المحلية فقط .. بل أيضا الى المحاكم و الهيئات الخارجية  أيضا .
      ان مسار العالم  اليوم  يسير نحو استبعاد ، بصورة قطعية ، الأنظمة الشمولية ، و أساليب الحكم الجائر  التسلطي . و من جملة الآليات التي وظفت  لمقاومة الأشكال الاستبدادية ، الحصار  الدولي الذي تفرضه الأمم المتحدة  و الولايات المتحدة الأميركية  باعتبارها القوة الفعلية في العالم ..أو هيئات  فاعلة على الصعيد الدولي و قادرة على تطبيق اجراءات الردع و التعزير و الحصار كأسلوب  لتفادي «  النمو الوحشي لأنظمة الحكم الفاسدة  » و التي تأباها الديموقراطية العالمية(9) .
    هل معنى ذلك أن الجزائر سوف تشهد ازدهار الديموقراطية بسبب السياق الدولي الجديد  المؤثر على الدول التي تعاني غياب الديموقراطية ، و أن الديموقراطية  قادمة فعلا  في الجزائر عبر أحزابها . بطبيعة الحال من الصعوبة بمكان الافراط في الثقة و الارتياح الى مثل هذا التوجه لأن آليات استبعاد الديموقراطية و الالتفاف حولها لا تكف هي أيضا من الظهور  باشكال مختلفة لأن  المستفدين من الأوضاع القائمة التي تغّيب أشكال الحكم الشفاف و الواضح النظيف ، سوف يبقون يتصدون لها ، و يقومون لها بالمرصاد . و مع ذلك أو بالرغم من ذلك سوف تؤدّي العلاقات النوعية  للتنظيمات الاجتماعية و الثقافية  و المهنية الاقتصادية   بين الدول الى تحديد حجم تدخل الدوائر المستفيدة من غياب الديموقراطية .
    فالديموقراطية التي سوف تنشأ في الجزائر في الأجل المتوسط على الأقل ، لن تكون  لها الألوان المحلية بسبب التأثير الخارجي  عليها و لأنها تتلقى الفعل أكثر مما تمارسه عن وعي تتفتق به عبقريتها . فتكتفي بالحد الأدنى  النمطي الذي يعرّف الديموقراطية بأنها أسلوب  ادارة الشأن العام كما تمليه الأعراف و القوانين الدولية كما جرى للتقاليد الديبلوماسية و البروتوكولات  التي يسير عليها المجتمع الدولي .
       تقلص النموذج الاسلامي و تراجع فكرة الديموقراطية الاسلامية أو الصورة النمطية التي يتمثلها التيار الاسلامي  لادارة الحكم . و يمكن توقع  ذلك بسبب افلاس التجربة السياسية للأحزاب الاسلامية  في الجزائر و عجزها  شبه المطلق في تقديم الحل للأزمة ، ناهيك عن بلورة  مفهوم اجرائي لادارة حكم راشد  يعطي معنى للديموقراطية  حتى و لولم يسميها بنفس الاسم . فقد كان شعار  الاسلام هو الحل ، شعارا  فارغا من مضمونه و لا يعنى عند التجربة أي معنى  و لا يحمل ، و هنا بيت القصيد ، لا يحمل أي مضمون لأنه  لم يستخلص من الواقع و التاريخ . فقدم هذا الشعار  في عدة مناسبات من الانتخابات  و لوّح به ضد الأحزاب الأخرى و ضد السلطة ، ثم تبيّن عدم مصداقيته بسبب عدم استناده الى نصوص اجتهادية  فقهية و فكرية و سياسية كبرى  وافتقار الحركة الاسلامية في الجزائر الى مرجعية ايديولوجية محكمة .
    هذا من جانب التجربة  الداخلية التي تفصح عن ضمور مد الاسلام السياسي، و هناك جانب آخر سوف يؤثر على اشكالية الاسلام و السياسة ، هو ما يحدث لتجربة الاسلام في اوروبا ، التي من  المحتمل أن تعيد انتاج لعلاقة جديدة بين الدين الاسلامي و الحياة المدنية الحديثة  و يتم طرحها في اطار النظام الجمهوري العلماني و مباديء حقوق الانسان و المواطن . و الجزائر التي كان دائما قدرها في العصر الحديث الأخذ من الآخر عندما يعني فرنسا بالذات ، فانه من المتوقع أن تتأثر الحركات الاسلامية و المؤسسات و الفكر السياسي و الاسلامي  بما يسفر عنه الجدل القائم  اليوم في فرنسا و نوعية تسيير المسلمين  الفرنسيين لشؤونهم الدينية ، و كذا الدنياوية ، عندما يوفقون الى رسم الحدود المقبولة  بين الدين و مبادىء الجمهورية  أي وجود الاسلام و وجود  العلمانية ، وهو ما سوف يحد من غلواء الراديكاليين و أنصار الاسلام الاحتجاجي و يعيد لهم الوعي  الىضرورة تجاوز الطبيعة الصدامية بين الاسلام و الفكر السياسي الحديث و المعاصر.
 
الهوامش
(1)- لمزيد من التفصيل ، حول أن الديموقراطية  لا تكف عن التقدم ، يمكن العودة الى : Claudine CALEUX, la démocratie  moderne ,éd.Cerf, Paris,1997:
 (2)- نقصد أن التوظيف غير الملائم للديموقراطية كما حدث في الجزائر ، يفضي الى تدمير المناعة  الاجتماعية ، و الحصانة للشخصية القاعدية  للأمة ، و يصبح بعد ذلك عاجزا عن توفير شروط الديموقراطية كأسلوب للحكم و الحياة . و لهذانقول  ان مشروع الديموقراطية في الجزائر ، انتقل من امكانية  تحقيقها الى البحث عن اسباب  غيابها و البحث عن امكانات  و شروط  صلاحية الحديث عنها . و مشروعية  هذه الاشكالية هو أن الوقت قد طال لاستعادة  مشروع الديموقراطية و هذا ما لم يحدث الى الآن
(3)- أنظر كتاب  الأستاذ هوّاري عدّي بالفرنسية Lahouari Addi ,les mutations de la société algérienne, la Découverte,Paris,1999.
 (4)- أنظر بعض الكتب الحديثة التي تؤكد على صعوبة الأوضاع التي انطلقت فيها الجزائر عام 1962.Benyoucef Benkhadda , L Algérie à l indépendance , la crise de 1962,éd.Dahleb, Alger,1997 .
Ali Haroun , l été de la discorde , Algérie1962,Casba éditions, Alger,2000.
 (5)- هذا  ما يلاحظ مثلا  في ننشورات حزب مجتمع السلم / الاسلامي  منذ تأسيسه عام 1990 الى اليوم. ففي مشروع السياسة العامة  الذي  قدمه الى المؤتمر الثالث للحزب ، و مشروع القانون التأسيسي ، لا نلاحظ أي بلورة لمفهوم الديموقراطية  و لا لتجربة الحزب خلال حقبة  العقد الأخير  ، كما لا يقدّم  أي مساهمة فعّالة  لمواقفه في القضايا المتعلقة بالوطن ، فضلا  عن غياب  التفكير في كيفية الخروج من الأزمة  الحالية ؟ أنظر منشورات اللجنة الوطنية  لتحضير المؤتمر الثالث ، أفريل 2003.
 (6)- أطلق على هذه الوثيقة  بالعقد الوطني  الذي وقّع عليها 8 تنظيمات حزبية ، تحت رعاية الكنيسة الكاثولكية سانت ايجديو من 8 الى 13 جانفي / كانون الثاني1995. و قد ضمت الوثيقة البيانات التالية – الاطار :  القيم و المبادىء .- التدابير التي تسبق المفاوضات .- اقامة السلم .- العودة  الى الشرعية الدستورية .- العودة الى السيادة الشعبية .- الضمانات . أنظر  النص الكامل للوثيقة في Le monde diplomatique , mars , 1995.
 (7)- لمزيد من  التفصيل حول  صلة الخطاب الاسلامي  بايديولوجية جبهة التحرير ، أنظرLahouari Addi , L Algérie et démocratie ,éd. La Découverte,Paris 1994, p.p.97-119. 
 (8)- حول معنى هذا المعني الجديد للديموقراطية ، يمكن العودة الى Antoine Bevort, pour une démocratie participative, éd.Presses de sciences po., Paris,2002.
 (9)- أنظر مدلول و مسار الديموقراطية العالمية في : :Jean-Yves Ollivier, Démocratie mondiale, éd. Chronique sociale,Lyon,1994.
 
* أستاذ / باحث جامعة الأمير عبد القادر
  قسنطينة / الجزائر
___________________________________________
اللقاء السنوي الثالث عشر 30/8/2003       "الديمقراطية داخل الأحزاب في البلاد العربية"
BERNARD SUNLEY ROOM, ST. CATHERINE’S COLLEGE
UNIVERISTY OF OXFORD
MANOR ROAD, OXFORD, UK.
 



#نورالدين_ثنيو (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- زيادة كبيرة.. مصر تستقبل 3.9 مليون سائح خلال أول 3 شهور من 2 ...
- السودان: ما دلالات استهداف الدعم السريع لقاعدة جوية في بورتس ...
- أوكرانيا: إصابة 11 شخصًا في هجوم روسي بطائرات مُسيرة على كيي ...
- الكرادلة يدخلون مرحلة الصمت الانتخابي قبيل انعقاد المجمع الم ...
- المحادثات النووية مع أمريكا - شكوك وأمل لدى المعارضة الإيران ...
- الجيش السوداني يعرض أسلحة غنمها من الدعم
- مصر.. الكشف عن قضية فساد تضم 16 مسؤولا حكوميا
- -سرايا القدس- تعرض مشاهد تفجير عدد من آليات الجيش الإسرائيلي ...
- نتنياهو يتوعد بشن -المزيد من الضربات- على اليمن
- غزة.. 65 ألف طفل مهددون بالموت جوعا


المزيد.....

- عن الجامعة والعنف الطلابي وأسبابه الحقيقية / مصطفى بن صالح
- بناء الأداة الثورية مهمة لا محيد عنها / وديع السرغيني
- غلاء الأسعار: البرجوازيون ينهبون الشعب / المناضل-ة
- دروس مصر2013 و تونس2021 : حول بعض القضايا السياسية / احمد المغربي
- الكتاب الأول - دراسات في الاقتصاد والمجتمع وحالة حقوق الإنسا ... / كاظم حبيب
- ردّا على انتقادات: -حيثما تكون الحريّة أكون-(1) / حمه الهمامي
- برنامجنا : مضمون النضال النقابي الفلاحي بالمغرب / النقابة الوطنية للفلاحين الصغار والمهنيين الغابويين
- المستعمرة المنسية: الصحراء الغربية المحتلة / سعاد الولي
- حول النموذج “التنموي” المزعوم في المغرب / عبدالله الحريف
- قراءة في الوضع السياسي الراهن في تونس / حمة الهمامي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي - نورالدين ثنيو - الأحزاب السياسية في الجزائر و التجربة الديموقراطية