أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير - محمد البصيري العكرمي - سكان أمريكا الاصليين... متى ينصفهم التاريخ ؟















المزيد.....


سكان أمريكا الاصليين... متى ينصفهم التاريخ ؟


محمد البصيري العكرمي

الحوار المتمدن-العدد: 1900 - 2007 / 4 / 29 - 11:52
المحور: القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير
    


تحتفل الولايات المتحدة الأمريكية هذا العام بمرور أربعة قرون كاملة على إنشاء أول مستوطنة أقامها المهاجرون الانجليز على الساحل الشمالى الشرقي لأمريكا. ففي يوم 14 أيار 1607، نزل 108 رجال وفتيان على الشاطئ الذى لن يلبث أن يصل إليه بضعة ألوف آخرين خلال السنين الخمس عشرة التالية، ليبدأوا في إقامة أولى المستوطنات الدائمة في البلاد التي سوف تصبح بعد قرن ونصف، الولايات المتحدة الأمريكية.
ولقد كان على أولئك المهاجرين الأوائل أن يواجهوا صعوبات جمة وأوضاعا قاسية، وهم يخطون خطواتهم الأولى في "عالم جديد" كانوا يجهلون عنه كل شيء تقريبا، وذهب الكثيرون منهم ضحية للأمراض والمجاعات والأخطاء القاتلة. أما الذين استمروا على قيد الحياة، فإنهم تمكنوا بعد لأي من وضع اللبنات الأولى لمشروع لم تتوضح معالمه إلا بعد بضعة أجيال، وبعد تعاقب موجات الهجرة من أوروبا الغربية على مدى عشرات السنين.

*"الآباء الحجاج"*في الذكرى الوطنية الأمريكية، يتبوأ "الآباء الحجاج" مكانة خاصة في تاريخ الولايات المتحدة؛ وهي مكانة تبلغ درجة القداسة، لأنها نابعة من عقيدة مسيحية "متطهرة" فر معتنقوها من الاضطهاد، الذى سلط عليهم في مواطنهم الأصلية لأسباب وضمن ملابسات تاريخية ليس هنا مجال الخوض فيها؛ ولكن يظل من غير الواضح كيف اكتسب أولئك "الحجاج" تسميتهم بالآباء، ليس بالنسبة "لإنجلترا الجديدة" فحسب، وإنما بالنسبة لبلد وشعب بأكمله.
على أنه من الثابت أن تلك التسمية ظهرت مع وصول الموجة الكبرى الثانية من المهاجرين إلى شواطئ فرجينيا، وتأسيسهم لمستوطنة أخرى هي بلايموث "Plymouth" بعد ثلاثة عشر عاما، أي في 1620؛ وهكذا خسرت جيمس تاون موقعها الريادي لصالح بلايموث، ربما لأن الكابتن جون سميث الذى قاد مهاجري 1607، لم تتوفر له المقوّمات والخصال التي تجعله يحظى بمنزلة مرموقة بين أولئك الآباء الحجاج؛ وهو أيضا لم يطل به المقام في جيمس تاون؛ فقد غادرها بعد سنوات ثلاث ولم يعد إليها ثانية.
وهنا أيضا نجد أن ويليام برادفورد الذى كان على رأس الآباء الحجاج في 1620، وهو في سن الثلاثين - قد تصرف وكتب عن تجربته كأب، في حين برز جون سميث كجندي جاء من انجلترا مارلوي وشكسبير، بينما كان برادفورد ينتمي إلى انجلترا جون ميلتون الشاعر الصوفي، صاحب "الفردوس المفقود".







*بمناسبة الذكرى المائوية الرابعة*حرصت المكتبة الوطنية الأمريكية بمناسبة هذه الذكرى على إصدار مجلد جمعت فيه كتابات جون سميث، واشتمل أيضا على ما سجله بعض مرافقيه المؤسسين، ولكنه، أي سميث- يبقى هو الشخصية الأبرز والأهم بحكم موقعه القيادي، ووعيه الواضح بذلك.
والشيء نفسه يصح على ما وضعه خمسة من المؤرخين المعاصرين الكبار وهم كل من كارين كوبرمان في كتابها "مشروع جيمس تاون"، وجيمس هورن في مؤلفه "البلد كما خلقه الله: جيمس تاون ومولد أمريكا"؛ وبنجامين وولي في كتابه بعنوان "المملكة المتوحشة: التاريخ الحقيقي لجيمس تاون، 1607 والاستيطان في أمريكا"؛ ثم ويليام كيلسو الذى وضع هو الآخر كتابا بعنوان "جيمس تاون: الحقيقة المدفونة"؛ وأخيرا هيلين رونتري في مؤلفها القيم، عن ثلاث قبائل من "الهنود الحمر"، غيرت جيمس تاون نمط حياتهم، وكيف نظروا إلى جون سميث. وتتناول الكتب الخمسة المذكورة جوانب شتى من سيرة الرجل، ومن منظور يختلف من كتاب إلى آخر وإن كانت جميعها تذهب إلى تبيين وتفسير الملابسات الحقيقية التي حفت بالبدايات الأولى لحركة "التأسيس والبناء"، والتي أفضت إلى نشوء وتطور الكيان الأمريكي المعروف اليوم باسم الولايات المتحدة، في الجزء الشمالي من القارة، والتي وصفت أيضا بـ"العالم الجديد".

*جون سميث، الجندي الذى لا يستريح*عاش جون سميث حياته جنديا مقاتلا لا يعرف الراحة، وهو الذي نشأ في العهد الإليزابيثي الذي مثل الفترة الذهبية لانجلترا، وهي تعيش تحولات حاسمة، وتنتقل بثقة وثبات إلى عصر النهضة وتمد بصرها إلى ما وراء البحار من أجل طرق آفاق جديدة للتوسع، منافسة قوى ناهضة هي الأخرى على غرار إسبانيا والبرتغال في أوروبا، والسلطنة العثمانية في تركيا وما جاورها شرقا وغربا وجنوبا.
وهكذا نجد هذا الضابط الشاب المتقد حماسا وإخلاصا لوطنه، في حركة دائبة عبر القارة من شواطئ اسطنبول شرقا وحتى مدريد ولشبونة غربا، ثم بين سواحل "بلاد البربر" "شمال إفريقيا" وغينيا جنوبا؛ وقد انجذب سميث إلى "استكناه مذاق" العقائد الدينية الوثنية المنتشرة في تلك الأصقاع النائية، وكثيرا ما انضم إلى جيوش بلاده التي كانت تخوض من حين لآخر، حروبا ضد الإسبان في هولندا أو ضد الأتراك في بلاد المجر "هنغاريا". ثم يعود إلى أرض الوطن وهو متأهب لخوض أية مغامرات من شأنها أن تساعد في توسع دائرة الممتلكات الانجليزية في منطقة الأطلسي.
على أن ما راق لنفس سميث هو تلك الفرصة التي أتيحت له للمشاركة في غزو واستعمار أمريكا التي أخذت ملامحها تتكشف شيئا فشيئا. وكانت "شركة فرجينيا اللندنية" بمثابة المؤسسة التي وضع فيها المستثمرون الانجليز آمالهم وأموالهم لاقتحام العالم الجديد منذ أواسط القرن السادس عشر، وبدأت المساعي من أجل ذلك تمضي حثيثة من خلال مغامرات "كلاب البحر" "القراصنة" الذين اتجهوا إلى مهاجمة السفن الإسبانية العابرة للمحيط الأطلسي وهي محملة بالكنوز المنهوبة من القارة الأمريكية ومن قسمها الجنوبي بوجه خاص. وقد جعلت الملكة إليزابيث الأولى من القرصنة شأنا خاصا لا بد من حمايته، وهو ما أدى إلى الاصطدام مع إسبانيا في 1585، في الحرب المعروفة بمعركة أرمادا. وفتح الباب على مصرعيه لرجال من أمثال جون هوبكنز وفرانسيس بريك للاستيلاء على ثروة إسبانيا الجديدة؛ وهذا بدوره جعل مغامرين آخرين من مواطنيهم "الانجليز" يفكرون في مشاريع أخرى تساهم في تفكيك إمبراطورية العدو "الإسباني" والاستيلاء على ممتلكاتها.

*السير والتر رالي ومستوطنة فرجينيا*في 1584، تمكن السير والتر رالي من إقناع الملكة إليزابيث بالسماح له بإنشاء مستوطنة في جزء من الأرض بالشمال الشرقي الأمريكي، وهي التي أطلق عليها اسم فرجينيا تيمنا بالملكة وتخليدا لما اشتهرت به من عذرية وعفاف. وكانت الغاية من مستوطنة رالي هي استخراج موارد طبيعية من منطقة تخلى عنها الإسبان واعتبروها لا تستحق الاهتمام.
وقد ساعد موقعها على شبه جزيرة تقع على تخوم هضاب وتلال كارولينا في استخدامها كقاعدة للإغارة على السفن الإسبانية في حوض الكاريبي. ولكن ولسوء الحظ، فإن المستوطنين الذين أرسلهم للاستقرار هناك لم يصبروا على العيش بعيدا عن اليابسة، فتحركوا إلى المناطق الداخلية، ولا سيما عندما اقتربت ساعة إبحارهم لموجهة الأرمادا الإسبانية في 1588. وهكذا، لم يمض عامان حتى كانت مستوطنة رونوك الفرجينية الأولى قد خلت من سكانها وضاعت إلى الأبد.
بيد أنه قبل تلك الكارثة، عاد عدد كبير من ممثلي رالي إلى انجلترا وهم يحملون تقارير مشجعة ويصفون ثروات فرجينيا الكامنة والهائلة بأنها تستحق التضحية من أجلها. ومن بين أولئك كان جون وايت الذى قدم وصفا مسهبا ورائعا لحياة "الهنود" الأمريكيين، صورهم كشعب يتميز بالجاذبية وروح الابتكار، ولو أنهم كانوا حفاة وشبه عراة، حسب تعبيره! فهم كانوا يحسنون تنظيم حفلات الرقص ويصنعون أدوات جميلة تنم عن ذوق رفيع، وكانوا يجلون موتاهم، ويزرعون الحبوب لطعامهم ويصطادون الأسماك التي يتقنون شواءها. أما مساكنهم فكانت من القصب وجذوع الأشجار التي برعوا في تهذيبها وحسن التنسيق في استخدامها، إلى جانب مواد أخرى بسيطة.
وكما تؤكد كوبرمان، على سبيل التفكه أو ربما من باب التسليم بالأمر الواقع، فإن التصورات الانجليزية الأولى عن حياة "الهنود الحمر" وسجاياهم، لم تلبث أن تشابكت بقوة مع تبرير مغامرة استيطانية أخرى. فايرلندا كانت تخضع اسميا للحكم الانجليزي، ولكن السيطرة الفعلية لم تمتد إلى ما هو أبعد من الحي الصغير المعروف باسم "ذي بيل"، والذى كان يتوسط مدينة دبلن. أما بقية الجزيرة، فإنها كانت موطنا "للأيرلنديين المتوحّشين"، والذين انقسموا إلى مجموعات مبعثرة من محاربين كل همهم هو تحدي الانجليز. وبوجود الإسبان الذين اندفعوا بقوة صوب أصقاع جديدة بغاية بسط سلطانهم على العالم، فإن انجلترا سرعان ما أدركت الخطر الذي ربما يكون لإسبانيا الكاثوليكية على ايرلندا التي يعتنق سكانها المذهب نفسه، فيجعل منها معقلا وقاعدة لغزو انجلترا نفسها.
ومن ثم، فإن إخضاع الايرلنديين بات مسألة حيوية ولا غنى عنه للوقوف في وجه إسبانيا. فكان أن عمدت الملكة إليزابيث الأولى إلى تقسيم أراضي ايرلندا وتوزيعها على محاسيبها من النبلاء الانجليز ومن بينهم السير والتر رالي. وهذا الأمر- أو المعضلة بالأحرى- هو الذي واجه رالي في رونوك، وهو الذي سوف يواجه شركة فرجينيا في جيمس تاون، بل هو المشكل ذاته الذي سوف يواجه الولايات المتحدة في مسيرتها الطويلة عبر أمريكا الشمالية.

*هل كان الايرلنديون يشبهون "الهنود الحمر"؟*كان الايرلنديون و"الهنود" الأمريكيون يتصفون بتلقائية تحتاج إلى تكوين لجعلهم يتصرفون كما ينبغي، فلم يكونوا مدنيّين حضريين، وهذه صفة تنطوي على معان وإيحاءات خفية سوف تظل تنعكس على مجمل التاريخ الأمريكي.
فالتمدّن كان أسلوبا في الحياة غير محدد الدلالة، ولكن نتائجه كانت ترى رأي العين: مساكن ذات شأن وملابس وأغذية وفيرة. أما غير المتمدنين من الشعوب، فإنهم كانوا عراة يعيشون حياة البداوة.
فالتمدن كان يستوجب ويفرض على من استحقوا هذه الصفة، بذل جهود دائبة، بدنية وذهنية- ولم يكن ذاك يستوجب الإيمان بالمسيحية، لأن الإغريق والرومان القدامى لم يكونوا مسيحيين؛ وإنما صارت المسيحية فيما بعد وعلى الأقل المذهب البروتستانتي منها- لا غنى عنها من أجل المدنية والحضارة. والكاثوليك الايرلنديون والهنود الذين اعتنقوا المسيحية على يد "المبشّرين" الإسبان والفرنسيين، لم يكونوا في نظر الانجليز، متحضرين ولا مسيحيين. والغاية من الاستيطان كانت نشر المدنية والمسيحية بين غير الحضر، وفي الوقت ذاته.

*الهدف في مواجهة التهديد*هذا الهدف المزدوج كان لا بد أن يواجه تهديدا لو أن المستوطنين الكسالى، والذين يصرفون كل همهم في جمع مكاسب الحياة المادية، تحولوا هم أنفسهم إلى ما عليه الأهالي غير المتحضرين، فأصبحوا عراة حفاة مثلهم . فالملابس كانت ولا تزال تدل على هوية صاحبها. ومن ثم، فإن أهالي سكوتلندا وايرلندا- وقريبا "الهنود" الأمريكيين- سوف لن يظهروا بمظهر حضاري ما لم يلبسوا الثياب الانجليزية كجميع الحضر، ويقصروا من شعورهم الطويلة كعلامة على قبولهم بحكم أسيادهم "المتنورين"!!
وقد اختارت انجلترا "لتحضير" الايرلنديين وسيلة القوة المسلحة، ولكن بعد غزوات عسكرية لا تعرف الرأفة، فشل الانجليز في فرض السلام ومعه المدنية، وكان الحل الجديد هو زرع البلاد بأناس كانت تروق لهم، وهي على تلك الحال؛ وسوف يتعلم الأهالى الموزّعون من خلال المثل والنموذج، أو أنهم سوف يسلمون بالأمر الواقع، وقد أصبحوا على هامش الحياة في ايرلندا التي كانت تشهد تحولا عميقا.
وقبل زمن ليس بالبعيد من شروع شركة فرجينيا في جلب الناس إلى جيمس تاون لنفس الغرض، فإن السلطات الانجليزية أخذت تأتي بأعداد أكبر من المستوطنين عبر البحر الايرلندي؛ وقد قدر عددهم في 1641، بمائة ألف مستوطن.
كان مشروع الاستيطان الانجليزي الأول مؤسسا على دعامتين: نشر الحضارة والتبشير بالمسيحية! وكان لا بد من أجل إحداث "الصدمة والانبهار" لدى أولئك "الهمج البدائيين الوثنيين" - أن يبادروا إلى إنشاء قلعة حصينة في جيمس تاون، وتكون مهيبة تثير الدهشة والروع في نفوس "الهنود الحمر" الذين تعلموا من تجربتهم مع المبشرين الإسبان قبل عقد ونيف من الزمن - أن "رسل الحضارة الأوروبية" هؤلاء كان يصعب التعايش معهم، فأخذوا يهاجمون الجماعات الجديدة من الوافدين الأوروبيين.
وهكذا، فإن تلك القلعة غدت، هي المحور والعصب الحيوى للمستوطنة كمركز للقيادة، ومعلما حضاريا متألقا يعيش فيه ومن حوله رجال ونساء انجليز بثيابهم الأنيقة، ويقيمون لهم بيوتا بسيطة ولكن محترمة تقيهم من تقلبات المناخ، وينعمون بعيش هانئ نسبيا، وهم منصرفون إلى "تحضير وتمسيح البدائيين المتوحشين". فذلك، على أي حال، كان هو الأساس الإيديولوجي "للمهمة الجليلة"، والتي تعززها شركة مساهمة لا بد أن تجني منافع ومكاسب مادية من استثمار أموالها بين الأهالي، والذين بدورهم سوف تنزل عليهم بركات "الحضارة والمسيحية" القادمة من أوروبا.

*جون سميث رجل الأقدار*كان عدد "الهنود الحمر" لا يزيد عن 15000 في فرجينيا الشرقية يتوزعون في تشكيلات قبلية يجمع بينها اتحاد قوي بزعامة رجل واحد هو باوهاتان. وقد وجدوا أنفسهم في مواجهة جمع من الوافدين الأغراب هم خمسمائة من الانجليز. وكانت الشركة المستثمرة في أشد الحاجة إلى يد قوية لرجل شجاع ومحنك يستطيع فرض النظام على ميدان معركة غير مألوف، ومحفوف بكل المخاطر والمفاجآت غير السارة.
وكل هذه الخصال توفرت في جون سميث، الجندى الإيليزابيثي الذي وكما أسلفنا- حنكته التجارب والمغامرات، وبوأته لتولى مسؤولية "تاريخية" كان هو فيها بمثابة الرجل الذى هيأته الأقدار لها عن جدارة.. إذ لولا صحة العزم وقوة الشكيمة والمعرفة العميقة بنفوس البشر وطبائع الرجال وحسن قيادتهم في سائر الأحوال والملابسات، لما كان بوسع جيمس تاون أن تصمد وتستمر، ولكان مصيرها مصير مستوطنة رونوك قبلها.

*لعله كان محظوظا*كانت الأرض التي نزل بها جون سميث ومن معه واعدة بإمكانيات سارة. فالتربة بدت خصبة تبشر بالخير العميم لو أحسن استغلالها. وكان مستثمرو شركة فرجينيا يتوقون إلى ما هو أكثر من التربة الخصبة. وكاد شغلهم الشاغل يقتصر على البحث عن الذهب... الذهب ثم الذهب... أما توفير الغذاء وضمان التزود منه بما يكفي لمواجهة الأوقات العجاف، فلم يعيروا لذلك أي اهتمام، بل كانوا يغيرون على مزارع "الهنود الحمر" في جنح الظلام فيسرقون وينهبون ما يصادفون من مواد كان يعيش عليها الأهالي كالذرة وأنواع من الخضر واللحوم والأسماك المحفوظة...
وقد توالت الأزمات إلى حد انتشار المجاعة والأوبئة أحيانا، والتي أودت بحياة الكثيرين.. وعندما ضاق سميث ذرعا، فإنه حزم أمره وقرر أن يفرض سلطانه على الجماعة في المستوطنة ويصبح هو الحاكم، وهو المشرع وواضع الخطط والمشرف على تنفيذها، ثم هو المترجم والمفاوض للهنود الحمر. وهكذا ظل جون سميث حتى إعفائه من القيادة، يفعل ما يراه صالحا وضروريا لبقاء المستوطنة على قيد الحياة... ولكنه كان عاجزا عن فعل أي شيء إزاء أصحاب الشركة والذين كانوا يديرونها من على مسافة ثلاثة آلاف ميل؛ "ولا يفهمون شيئا، أي شيء مما كانوا يقومون به".
ومن ثم اتجه سميث إلى كبح جموح المستوطنين في البحث عن الذهب، والدفع بهم إلى بناء الملاجئ وزرع البساتين؛ واعتمد سياسة الكر والفر مع الهنود وبأساليب من المكر والدهاء، كانت تجمع بين الترغيب والترهيب، واستخدام أقسى وأشد وسائل القوة عند الاقتضاء.
أما بالنسبة لمستوطني جيمس تاون، فإنهم لم يصبروا على شدته، وهو العسكري الذى كان مسكونا بهاجس التوسع الإمبراطوري أكثر من اهتمامه بالمكاسب الاقتصادية والمادية، ورأى في القارة الجديدة المجال المناسب والفرصة السانحة لتحقيق الهدف، لا سيما وأن إسبانيا المنافسة كانت قد سبقت إلى جنوب القارة، ولا بد لانجلترا أن لا تفرط بشمالها وقبل فوات الأوان.

*اكتشافات أثرية*وفي كتابه "جيمس تاون: الحقيقة المدفونة" نجد ويليام كيلسو يصف ما عثر عليه هو ومساعدوه من آثار لقلعة عتيدة ذات شكل مثلث، ضلعان منها بطول 300 قدم، والآخر يناهز 420 قدما، كما ضمت جملة من المباني الضخمة نسبيا يمتد أحدها بطول 170 قدما، ويقوم على أساسات صخرية قوية.
كما أن المستوطنة اشتملت على عدد كبير من المخازن والآبار والسراديب. وجمع علماء الآثار ما يزيد على 200000 قطعة أثرية، لعلها تضفي قيمة على العمل الذى قامت به شركة فرجينيا. ولكن ذلك لا ينبغي أن يعنى أن المستوطنين والمستثمرين الأوائل لم يخسروا أموالا وأرواحا، أو أن الأهالى من سكان البلاد الأصليين هم أيضا لم يخسروا أرواحهم وأراضيهم، بل إن المستوطنين أنفسهم وحسب إحصاء جرى في 1625، بقى منهم على قيد الحياة 1210، من ضمن خمسة أو ستة آلاف قبل ذلك التاريخ.
وكل من كوبرمان وولي وهورن يتناولون المسألة من خلال رؤية متقاربة، ولكن مع الحرص على إبراز تلك السنوات المبكرة والاحتفاء بها كالبدايات الحقيقية لنشوء وتطور الولايات المتحدة الأمريكية؛ على أن وولي في كتابه "المملكة المتوحشة"، يهتم بكل الأحداث المفجعة التي كانت تجري على الأرض بتفاصيلها وبوجه خاص، تلك المناورات والدسائس التي شاعت وخيمت بظلالها على سياسات البلاط الملكي الانجليزي.
أما هورن، فإنه صرف جل اهتمامه إلى الكتابة عن البدايات الأولى لمستوطنة جيمس تاون. ويمكن قراءة كتابه بعنوان "الأرض كما خلقها الله" كمقدمة للحديث عن جون سميث أو خلاصة لسياساته وإنجازاته، فضلا عن أساليبه الصارمة في القيادة والحكم.

*جيمس تاون حددت مستقبل أمريكا*في سائر المؤلفات التي عرضنا لها، نكتشف أن إنشاء مستوطنة جيمس تاون واستمرارها في تلك الظروف المعقدة القاسية، لا بد أن ينظر إليه على حد قول هورن، "بمثابة الموقع الأول لإمبراطورية عابرة للأطلسي سوف تكون لغتها الانجليزية، وكذلك قوانينها وأنظمتها ومؤسساتها عبر أمريكا الشمالية". أما كوبرمان، فإنها تبدو أكثر تحديدا ودقة عندما تذكر أن ما يجعل جيمس تاون بهذه الأولوية، هو أنها وضعت النموذج والنمط بالنسبة لحركة الاستيطان الانجليزي. فجميع المستوطنات الناجحة التي جاءت بعدها قد سارت على منوالها.
ومثل هذا القول يحتاج إلى شيء من التأمل؛ فإذا كان يعنى أن استغلال التربة واستثمارها على نحو يعود بالنفع، فإن جيمس تاون بعد 1616، ربما شكلت نموذجا بالنسبة لكل من مريلاند وكارولينا الجنوبية وجورجيا. ولكن العقد الأول من حياة جيمس تاون لم يكن كذلك. فقبل 1616، ظلت جيمس تاون وفرجينيا على مدى نصف قرن، تشبهان مجموعة من أعمال الفوضى تقوم بها عصابات لا تعرف الانضباط.
وكان السكان من الذكور في معظمهم، ولم توجد سوى عائلات قليلة بهذا المعنى. وكانت الزيادة في أعدادهم تجرى من خلال الهجرة أكثر من أي مصدر آخر. والوافدون الجدد كانوا يخضعون لنظام الخدم الذين عليهم قضاء بضع سنوات في خدمة من ساعدهم على الرحيل إلى أمريكا، وحتى يصبحوا قادرين على زراعة التبغ لحسابهم الخاص. أما مدة الأعمار، فإنها ربما كانت أدنى مما هي عليه في مستوطنات أخرى، وحتى في أنجلترا خلال القرن الأول "السابع عشر". وتأثير هذه الاختلالات على تطور المؤسسات جعل من جيمس تاون مجتمعا حافلا بالتناقضات والغرائب قبل وبعد 1616. فلماذا ينبغى أن يتخذ منه نموذجا؟
بيد أنه كان هناك جانب في التجارب التي شهدتها المستوطنات اللاحقة، يضاهي ما حصل في تجربة جيمس تاون: فقد كان أسلوب التعامل مع "الهنود الحمر" هو نفسه. وأسوة بجيمس تاون، فإن المستوطنات الأخرى اتبعت نفس النهج الرامى إلى نشر "الحضارة والمسيحية" بين أهالي البلاد الأصليين. ولكن وباستثناءات قليلة، لم تتحقق تلك الغاية أو أنها فشلت في بلوغ ما كانت تتوق إليه كاملا. على أن قرار الفرجينيين المبكر بإبادة مضيفيهم لم يكن نموذجا يتعمد الآخرون الاحتذاء به؛ بل إنه كان مدعاة لاختلاف وتضارب الرؤى والأفكار والأغراض والوسائل التي يمكن أن تؤدي إلى النتائج ذاتها.
فالمتحضرون والهمج البدائيون انتهي بهم الأمر إلى رغبة عارمة في التناحر وإبادة بعضهم البعض؛ ولكن النجاح كان إلى جانب المتحضرين بوجه عام للتباين في موازين القوى. فالتمدن هو الذى كان يوفر الأملاك من أرض ومسكن وغذاء ولباس إلى غير ذلك من مقومات الحياة الحضرية، والتي تساعد في تنمية وتطور شخصية الفرد وتجعل منه رقما مهما في الحياة الاجتماعية ثم السياسية. أما عدم اكتراث غير المتحضرين بهذا التعبير عن الذات وتأكيدها، فإنه كان غير مقبول بالنسبة لأولئك الذين يعيرونه كل اهتمامهم ومبالاتهم.
ولعل غياب مثل تلك المبالاة لدى "الهنود الحمر" كان يعني بالنسبة للانجليز ضربا من افتقارهم "أي الهنود" للقيمة الإنسانية، وهو ما ينعكس بطبيعة الحال على نظرتهم لقيمة الآخرين، الأمر الذى أضحى مبررا لتجريدهم من الأرض التي لم يحسنوا ملكيتها خالصة لهم بأي حال من الأحوال. وجميع حالات التمييز التي ارتبطت لاحقا بالعنصرية، إنما كانت شديدة الحضور في عمق الانقسام والهوة بين "متحضرين" و"غير متحضرين". وهكذا، اتخذت الحرب بين الهنود والانجليز في سائر المستوطنات زخما إيديولوجيا رفع من حدة العنف والوحشية.
وفي دراسة قيمة عن حرب الملك فيليب في انجلترا الجديدة سنة 1676، يلخص جيل ليبور المسألة قائلا:
"إن الممتلكات الانجليزية بمعنى ما، كانت محل رهان تقرره الحرب والقدرة على صيانة ما كان يميز الانجليز عن الهنود من بيوت وثياب وما جمعوه من ثروة وممتلكات. وهذه لم تكن مجرد فوارق مادية، بل ثقافية أيضا، تبرز في كل زخرف أو توشية لمعطف انجليزي، وفي كل سقف من القش والآجر لبناء يقوم على دعائم صلبة، وأيضا في كل الأوانى والماعون بأشكالها المعبرة هي الأخرى، عن عالم من الأفكار والمشاعر".

*جيمس تاون، هل كانت النموذج؟*لقد كان اللقاء الأول بين "التحضر" الانجليزى و"همجية" "الهنود الحمر" في رونوك. ولعل جيمس تاون لم تمثل النموذج بالنسبة لحركة الاستيطان الانجليزى اللاحقة كما ينبغي، ولكنها جسدت بالتأكيد - الأفكار والقوى التي سوف تحدد مسار العلاقات مع "الهنود الحمر" طوال ما تبقى من تاريخنا.
فلقد أصبحت سياسة الولايات المتحدة هي تحويل الهنود إلى فلاحين طول الوقت، وغالبا ما يلقى بهم في أراض هامشية نائية تنقصها المياه ووسائل العمل المناسبة. ومن ثم، فإنهم كلما خيبوا ظن الحكومة وعامة الناس بالتقصير في الدور الموكول إليهم أو بافتقارهم للكفاءة والمهارة في أدائه، فإنه كان عليهم أن يتركوا المجال للناس المتحضرين الذين يعرفون جيدا كيف يجعلون الأرض ملكا حقيقيا لهم، يحسنون استغلاله والانتفاع به.
وقد كانت جيمس تاون هي مجرد بداية؛ والحديث عن حركة الاستيطان الأوروبى في أمريكا يظل طويلا وتكتنفه تعقيدات والتباسات لا حصر لها.
ويظل السؤال الكبير قائما وهو: هل كان أولئك المهاجرين الأوائل إلى العالم الجديد من آباء حجاج ومن مغامرين ومن تجار ومن مجرمين فارين من العدالة، حقا حملة رسالة حضارية لسكان أصليين هم "الهنود الحمر" الذين ثبت ولا يزال يتأكد كل يوم، أنهم كانوا أصحاب حضارات لا بأس بها، وإن اختلفت بطبيعة الحال عن غيرها في أصقاع أخرى من الدنيا؟ وهل الاختلاف بين حضارة أخرى يدعو بالضرورة إلى الاصطدام والصراع بينها، إلى حد الاقتلاع والإبادة؟
وهو ما كان نصيب حضارات "الهنود الحمر" المشؤوم في شمال القارة وجنوبها على يد الانجليز والإسبان أساسا. فمتى ينصف التاريخ من عانوا ظلم ووحشية الأوروبى "المتحضر"، بل والمسيحي "المتطهر"، الذى زعم دائما أنه حامل رسالة إيمانية وخلاصية، هي وحدها سوف تكفر عن الخطيئة الأولى، وتعود بالإنسان إلى الفردوس المفقود.





#محمد_البصيري_العكرمي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- فعل فاضح لطباخ بأطباق الطعام يثير صدمة بأمريكا.. وهاتفه يكشف ...
- كلفته 35 مليار دولار.. حاكم دبي يكشف عن تصميم مبنى المسافرين ...
- السعودية.. 6 وزراء عرب يبحثون في الرياض -الحرب الإسرائيلية ف ...
- هل يهدد حراك الجامعات الأمريكية علاقات إسرائيل مع واشنطن في ...
- السودان يدعو مجلس الأمن لعقد جلسة طارئة الاثنين لبحث -عدوان ...
- شاهد: قصف روسي لميكولايف بطائرات مسيرة يُلحق أضرارا بفندقين ...
- عباس: أخشى أن تتجه إسرائيل بعد غزة إلى الضفة الغربية لترحيل ...
- بيسكوف: الذعر ينتاب الجيش الأوكراني وعلينا المواصلة بنفس الو ...
- تركيا.. إصابة شخص بشجار مسلح في مركز تجاري
- وزير الخارجية البحريني يزور دمشق اليوم للمرة الأولى منذ اندل ...


المزيد.....

- الرغبة القومية ومطلب الأوليكارشية / نجم الدين فارس
- ايزيدية شنكال-سنجار / ممتاز حسين سليمان خلو
- في المسألة القومية: قراءة جديدة ورؤى نقدية / عبد الحسين شعبان
- موقف حزب العمال الشيوعى المصرى من قضية القومية العربية / سعيد العليمى
- كراس كوارث ومآسي أتباع الديانات والمذاهب الأخرى في العراق / كاظم حبيب
- التطبيع يسري في دمك / د. عادل سمارة
- كتاب كيف نفذ النظام الإسلاموي فصل جنوب السودان؟ / تاج السر عثمان
- كتاب الجذور التاريخية للتهميش في السودان / تاج السر عثمان
- تأثيل في تنمية الماركسية-اللينينية لمسائل القومية والوطنية و ... / المنصور جعفر
- محن وكوارث المكونات الدينية والمذهبية في ظل النظم الاستبدادي ... / كاظم حبيب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير - محمد البصيري العكرمي - سكان أمريكا الاصليين... متى ينصفهم التاريخ ؟