أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جورج لابيكا - *في قبو الأعمى: الانتخابات الرئاسية الفرنسية للعام 2007















المزيد.....


*في قبو الأعمى: الانتخابات الرئاسية الفرنسية للعام 2007


جورج لابيكا

الحوار المتمدن-العدد: 1889 - 2007 / 4 / 18 - 12:46
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    



يُبَيِّن الكاتب الذي يَشْغَل اليوم حيزا هاما في الماركسية الراهنة كيف تحوَّلت الديمقراطية الفرنسية في ما تخوض البلاد حملتي الانتخابات الرئاسية والتشريعية إلى هوة شاسعة تفصل بين الشعب والنُخَب المنتخَبة بعدما سيطر حزبان على المجتمع والسلطات الدستورية، الحزب الاشتراكي المنبثق عن الأممية الثانية، وحزب الاتحاد من أجل الحركة الشعبية الذي ينحو في منحى الليبرالية الجديدة وقد تخلَّص من أثار الديغولية. فأصبح التناوب على السلطة مجرد لعبة سياسية يتقاسم أدوارها هذان الحزبان بقيادة سيغولين روايال ونيكولا ساركوزي اللذين يتشابهان من حيث الخطاب السياسي. ويرافق هذا التقاسم بالتناوب اختفاء الحدود المُمَيِّزة بين الأبيض والأسود، اليمين واليسار، لأن ما كان يُسَمَّى بيسار الحزب الاشتراكي قد تخلَّى عن أمرين اثنين: أولهما مقاومة نمط النظام السائد والذوبان فيه، وثانيهما تخريب كل محاولة لتشييد جبهة يسارية معادية للنيوليبرالية تؤَهِّل اليسار لخوض الانتخابات ضد سيغولين روايال التي تقود حزبها عبر عملية الانتقال الليبرالي إلى نهاية كل مرجعية اشتراكية لديه، وضد مرشحي اليمين، المحافظ منه والليبرالي الجديد. لكن المجتمع الفرنسي، مجتمع الصراع الطبقي بامتياز، يخوض في هذه الأثناء بصورة ضمنية حربه ضد هذه الهوة التي تجعل من رئيس الجمهورية ملكا ووزارته ونوابه حكاما بدون سلطات، وبين المواطن الذي يعيش حالة من الاستراحة السياسية الطويلة بين فصلين انتخابين كل خمس سنوات. فإذا ما نظرنا إلى نمط الانتخابات ووقائعها وقوانينها بعين نقدية لوجدنا أن المعطيات، ومنها النسبة العالية لمقاطعة الانتخابات والتي تصل أحيانا إلى حوالي 30 بالمائة، والنسبة الملموسة من التصويت الأبيض الذي يُعتبر دستوريا لاغيا، تشير إلى أن المجتمع الفرنسي يحمل في أحشائه طموحات التغيير الراديكالي الذي يُعبر عن نفسه بين الفينة والأخرى بقوة في الشارع، كرفضه لمشروع الدستور الأوروبي في أيار/مايو 2005، ورفضه أيضا لقانون أول وظيفة، وغير ذلك من الدلالات التي تؤكد أن الثورة في فرنسا ما تزال حية في الأوساط الشعبية ولدى شرائح من المثقفين (المترجم: حسان خالد).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تتميز الظروف الراهنة في فرنسا بانزلاق القوى السياسية الرئيسة باتجاه اليمين. ويَنتُج عن هذه الظروف أن الحالة الراهنة مَنَحَت الناخب الفرنسي من الخيارات بين مرشحي اليمين ما لم تمنحه إياه الانتخابات الرئاسية في أي وقت مضى: جان ماري لوبين، فيليب دوفيلييه عن اليمين المتطرف، نيكولا ساركوزي عن اليمين الليبرالي، فرانسوا بايرو مرشح اليمين المحافظ، وسيغولين روايَّال مرشحة الحزب الاشتراكي. ولما كان الخطاب الأمني أصبح أيديولوجية سائدة، فإن هذا الخطاب يُبَرِّر لكل الإجراءات القتالية التي تأتي عن الليبرالية من حيث هي آخر مرحلة للرأسمالية المعولَمَة؛ طالما تُعلٍن هذه الأيديولوجية أن هذه الإجراءات أمرٌ واقع لا مفر منه.


النظام
إن البرامج الانتخابية والحملة الرئاسية تتجاهل بلا قيد أو شرط الإشارة إلى طبيعة النظام السائد، أو إنها بالكاد تشير إلى نمط النظام السائد تلميحا فقط، وبعضهم يتحدَّث أحيانا عن جمهورية سادسة هي أشبه ما تكون بالسر؛ بيد أن البرامج الانتخابية والمرشحين في حملاتهم يمتنعون بصورة نهائية عن الإدلاء بأي إعلان يَحمِل برامج واضحة ودقيقة.
والحال إن من أوجه الضرورة أن نُذَكِّر بأن الديمقراطية معدومة: إن قطاعات بأكملها من الرأي العام، أي القوى الاجتماعية، مٌبْعَدَة عن كل تمثيل سواء عبر لعبة جمع التواقيع من خمسمائة عمدة لاستكمال شروط الترشُّح - والأخطر من ذلك أن الحزب الاشتراكي أوصى العمد الاشتراكيين بحجب تواقيعهم عن مرشحي اليسار الشيوعي – أم جراء الآلية الانتخابية التي تقسِّم الاقتراع إلى دوائر ما تزال هي نفسها منذ العام 1982، فضلا عن البرلمان الذي يضطلع بدور شكلي، استشاري، وهو الذي يَخَضَع بإذعان لحكومة هي نفسها معدومة السلطة أمام الهاوية الانتخابية التي تفصل ما بين السلطات المنتَخَبَة والشعب، لاسيما وأن الرئيس المُنتَخَب فردٌ مُخَوَّل بسلطات مَلَكِيَّة.
ويتمخَّض عن هذا النظام واقعين اثنين: 1- وجود منظمات حزبوية مُكَرَّسَة للرهان الانتخابي والحفاظ على مواقعها المكتَسَبَة، السياسية والأخلاقية والمالية، وتوسيعها. 2- عدد الممتنعين عن التصويت والذي ما انفك يتضخم منذ نحو عشرين سنة حتى أنه أصبح يُشَكِّل أكثرية الناخبين، علما أن هذا العدد لا يَدْخُلُ في حسابات الاقتراع. ويرافق ذلك كله نتيجتان هما قاسم مشترك بين كل ديمقراطياتنا الغربية "الأنموذجية": 1- سيطرة حزبين اثنين حسب ما هو واضح بصورة مؤكَّدة في فرنسا من انتخاب إلى آخر، وسَيَكَرَّس لهذه السيطرة على الأرجح في التصويت المقبل. 2 - مُنْتَخَبون بما في ذلك رئيس الجمهورية نفسه هم إذاً أقلِّيَّة بمنطق المبدأ الجمهوري المحض، وهم غير مؤهلين لممارسة وظائف السلطة التنفيذية. وفي الحالتين فإن الهوة تتسع أكثر فأكثر ما بين "لنُخَب" والشعب.
إن هذا المغلاق يضمن سيطرة القوى الاحتكارية وبوجه خاص عبر وسائط الإعلام التي تقع تحت سيطرة هذه القوى. وإن جمعية اللصوص التي تَجْمَع بينهم قد تَوزَّعت الأدوار في ما يتعلق بالاقتراع القادم.

الباحثون عن وظيفة عليا أو في التنافس
ونحن نََعلََم بفضل أي حالات كثيرة من التلاعب قديمة العهد إلى حد بعيد أمكن للثنائي ساركوزي/بايرو (اليمين الليبرالية واليمين الوسط المحافظ) أن يَتَرَبَّعا على مقدمة الساحة الانتخابية. والحال إن البديل المعادي للنيوليبرالية، والذي كان مؤهلا على الأرجح لمواجهة هذا الثنائي قد مات حسب ما يبدو. فلنتذكر أن هذا البديل كان من المُقَدَّر له لو هو عاش أن يقوم على أسس من برنامج معادٍ لليبرالية بصورة أصيلة ومُستَمَد من تجمُّع القوى الاجتماعية التي كانت التزمت في الصراع ضد مشروع الدستور الأوروبي الذي سَقَط بعدما حاز على نسبة من الرفض تبلغ 60 بالمائة في استفتاء 29 أيار/مايو 2005، بالإضافة إلى رفض القوى الاجتماعية ل"عقد أول وظيفة"، ما أَرغَمَ الحكومة في حينه على سحبه تحت ضغط التعبئة الجماهيرية. أما التمرد الذي سُمِّي بتمرد الضواحي في نهاية العام 2005، فإنه لم يجد لدى هكذا "يسار" متردِّد أو معادٍ للضواحي أي مساندة أو من يتحدَّث منهم باسم هذا التمرد.
وبوسعنا أن نضع الفرضيات حول أسباب الفشل في تشييد جبهة معادية لليبرالية دون أن نحظر على أنفسنا تسمية المسؤولين عنها. فلنقل بصورة أكثر مباشرة إن النظام في مواجهته لتحدٍ كهذا كان مطالبا بتشييد قوة موحَّدَة، وإن هذا النظام السائد هو الذي انتصر مرة أُخرى. وكان الأمر يتطلَّب من اليسار الشجاعة والابتكار ولربما أيضا حس المغامرة. فماذا رأينا من كل ذلك؟ جمعيات عامة غير منسجمة مع نفسها وبدون قاعدة سياسية مشتركة وهي أشبه ما تكون بتبادل التعليقات في المخازن التجارية. أما في ما يتعلق بالفاعلين الرئيسين في الحزب الاشتراكي أو يسار الحزب، فإن الأكثرية في الحزب الاشتراكي التي كانت رفضت مشروع الدستور الأوروبي، من أمثال أصحاب الأصوات العالية من فابيوس إلى إيمانويلي وموتيبورغ، قد ذابت في ضبابية مؤتمر عام للحزب الاشتراكي كانت مهمَّته تقوم على التوفيق والجمع بين أفكار متضاربة تفتقد للإلهامات النظرية. هل هم خونة للقوى الاجتماعية؟ لنقل إنهم بالأحرى مرتدِّون لم يكن منطق الطبقة لديهم حسب ما يتبيَّن من ردَّتهم هذه سوى فسحة بين فصلين دراسيين من غير غدٍ. أما رجل العقيدة والقناعة السيد جان بيير شوفينمان فإنه التحق بهم مقابل صحن عدس من أجل إستررضاء وهؤلاء. ولم يبق أمام الطفلة وليدة هذه الظروف الضبابية السيدة سيغولين روايال إلا أن تُوَحِّدَ بين الأشباح.
وها نحن ذا نعود إلى المقولات القديمة التي تتحدَّث عن "التصويت المفيد" لسيغولين روايال للحؤول دون وصول مرشحين اثنين من اليمين في انتخابات الجولة الأولى (22 مايو وتليها الجولة الثانية في 6 مايو) على غرار ما كان حدث في الانتخابات الرئاسية للعام 2002، أو"التصويت السد". ها هنا بالضبط حيث استُنْفِدَت أجيال كاملة من مناضلي اليسار حتى غاية الانتخابات التهريجية للعام 2002 (حيث انتهى الأمر باليسار إلى الاضطرار رغما عنه إلى التصويت لجاك شيراك ضد مرشح اليمين المتطرف جان ماري لوبين - المترجم).


فرضيات
فهل ثمة ضرورة تُلزِمنا بالتصويت لمرشحة الحزب الاشتراكي سيغولين روايَّال؟ ثمة مواقف متعددة للإجابة على هذا السؤال: سد الأذنين، الانقياد، الثقة والأمل. فما هي الحجج وراء مثل هذا الإلزام بالتصويت لها؟
إنهم يتحدثُّون عن "تناقضات" داخل الحزب الاشتراكي، وهم يعولُّون عليها الآمال من أجل يسار أفضل في المستقبل مستعينين من أجل ذلك بعدد من الفلاسفة الذين هم بدورهم يستنجدون بفلاسفة غيرهم - علما أن أيا منهم ليست لديه في ما يتعلق بالانتخابات مزايا تفوق مزايا أي مواطن - ويزعمون إن هذه التناقضات كفيلة بتفجير وحدته البادية على الواجهة، وإن تشكيلات أكثر يسارية في الحزب تستند على هذه التناقضات لتوجيهه. فلنتذكر أن "تحالف التعددية اليساري " في عهد أول حكومة للرئيس فرانسوا ميتيران في العام 1981 شأنه شأن التجارب التاريخية تثير اليوم الشكوك حول القدرات الراهنة للحزب الاشتراكي.
إن هذا الحزب آيل في ما حضر إلى فقدان كل ما هو اشتراكي فقدانا نهائيا حتى انه سينتهي إلى تمثيل الشرائح المتوسطة العليا من المجتمع وقيادات إدارية. انظر على سبيل المثال كيف أن 166 بالمائة من الأعضاء الجدد للحزب يقطنون الضواحي الغربية الراقية للمدن، وقلة قليلة منهم تقطن في الضواحي الساخنة. هذا، في ما يُصَوَّت عدد كبير من العمال لحزب اليمين المتطرف حزب "الجبهة القومية". ومن الواضح أن خط سيغولين روايَّال، حتى وإن كان يجد صعوبة في التلاقي مع خط مرشح اليمين الليبرالي نيكولا ساركوزي، – على حد قول سيزار مارتينيللي في جريدة لاستانبا الإيطالية – إلا أن خطها يبدو أكثر انسجاما مع خط مرشح اليمين الوسط المحافظ فرانسوا بايرو منه مع خط مرشَّحة الحزب الشيوعي ماري جورج بوفيه. ويرى البعض إن هذا المنعطف اليميني هو هو نفسه الذي يشق الطريق أمام يسار راديكالي قادر على إحراز النجاح ضد يمين الحزب الاشتراكي، وذلك حيث كان اليسار الراديكالي نفسه فشل إبان الحملة ضمن الحزب ضد مشروع الدستور الأوروبي على إقناع يمين الحزب المؤيد للمشروع برفضه. أما الذين يستندون بجسارة أشد إلى أوجه الشبه ما بين روايَّال وبايرو، وهؤلاء يَهْوون جمع حبَّات الخرز صغيرة الحجم ، فإننا سنرى كيف أن جاذبية هواية جمع الحبات الصغيرة للخرز تتمخَّض عن تُوزيع جديد للأوراق، تصبح فيه ورقة اليمين الوسط المحافظ هي الرابحة.

بعض المعطيات
والحال إن أيا من مقترحات مرشَّحِة الحزب الاشتراكي أو في برنامج حزبها - أو بالأحرى نواياها ليس كما هي تُعَبِّر عنها وإنما تلك الافتراضية - يَحمل على الاعتقاد أنها تستطيع أن تقف ولو قليلا أمام السياسات النيوليبرالية. بل وعلى النقيض من ذلك، فإن سيغولين روايّال عاكفة على إنجاز الحالة الانتقالية لحزبها والتي كانت بدأت مع تجربة ميتيران – جوسبان التي وَضَعَت فرنسا في إطار العولمة؛ وذلك على غرار منافسها نيكولا ساركوزي الذي قضى على آخر بقايا الديغولية بعدما كان جاك شيراك حافظ بالكاد عليها.
وبصرف النظر عن الالتزامات الاجتماعية التي تلازم العملية الانتخابية بدون فكاك، فإن مقترحات المرشحة الاشتراكية تفتقد للضمانات في ما يتعلق بالمسألتين اللتين تُميّزان الأبيض عن الأسود، ألا وهما أوروبا والنزاع العربي الإسرائيلي، وذلك بين أسئلة غيرها. ففي ما يتعلق بأوروبا، فإن سيغولين روايّال المخلصة لمنطقها المؤيِّد لمشروع الدستور الأوروبي لم تتخل أبدا عن الدعوة إلى مداولات جديدة تُلغي الرفض الفرنسي للمشروع، وذلك تمشيا مع رغبات المستشارة الألمانية آنجيلا ميركيل ورئيس المفوضية ا|لأوروبية خوزي مانويل باروزو. ومن جهة أخرى، وفي ما يتعلق بزيارتها لعدد من بلدان الشرق الأوسط في شهر ديسمبر الماضي حيث هي لم تتردَّد في الإعراب عن تأييدها لبناء جدار "العار" باسم "أمن" إسرائيل، فإن مساعديها في حملتها الانتخابية يزعمون في محاولة منهم للتبرير، أن البعض أدلى قبلها بتصريحات مماثلة، وأنها لم تتلق الاستشارة المناسبة. وهذا كله يدعو إلى قلق جدِّي في ما يتعلق بكفاءة هذه التي يلقبونها، السيدة "أنا أُريد"، للاضطلاع بالوظائف العظمى لفرنسا. ثم هي لم تلبث أن عادت وارتكبت ما كان ارتكبته قبل ذلك، فقد التحقت بخصمها ساركوزي لتعلن عن تأييدها لاستقبال إسرائيل ضمن مجموعة البلدان الفرنكفونية (بانتظار انضمامها للاتحاد الأوروبي)، كما شاركت في مأدبة العشاء التي تُقام سنويا بدعوة من المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا (كريف).

أترانا أمام أسوأ الشرَّين كما هم يقولون؟
إن مؤيدي روايَّال يمنوننا بأنها تََحْمِل معها أمرين عظيمين اثنين. الأول منهما يطمح إلى أن تمنَع روايَّال مرشح اليمين الليبرالي ساركوزي الذي يبدو وكأنه بونابرت من حجم صغير، أوتاتشر أو برلسكوني، أن تمنعه من تحويل فرنسا إلى واحد من الخيارات التالية: جمهورية موز، أو مستعمرة للولايات المتحدة الأمريكية، أو ديكتاتورية أصحاب الأسهم في البورصة. إنهم يُضَخِّمُون على هذا النحو من الخطر كي يجعلوا من العلاج المقترح مقبولا. ذلك أن قياس التباينات أو تداخل الألوان يُقَدَّر بالملليمترات بين أضخم مرشَّحين اثنين، ساركوزي- روايال، وذلك في ما يتعلق بقيمة العمل، ابتداءً من مرونة الأسعار، وحرية انتقال المصانع والشركات إلى البلدان الأجنبية، وانتهاءً بالبطالة عن العمل والنظام التقاعدي، والمدرسة والبحث العلمي، الأمن أو السياسة الدولية، وذلك بين أمور كثر غيرها. أترانا أمام جراحة فظَّة أم أُخرى دقيقة للغاية؟ إن هذه الجراحة ستنتهي في الحالتين إلى تقطيع للَّحم.
الأمر الثاني يطمح إلى إقناعنا بأن المرشحة روايَّال ستفتح الطريق رغم كل شيء أمام تدابير معادية لليبرالية، اجتماعية وعلى أسس من المساواة، بل إنها تَعِدُ حتى بالقطيعة مع الرأسمالية. والحال، إن منهج التنويم المغنطيسي، بالإضافة إلى أننا لسنا اليوم في عهد الجبهة الشعبية للعام 1936 أو في العهد الرئاسي الأول لميتيران للعام ،1981 لم يعط في أي يوم من الأيام النتائج المطلوبة في عالم السياسة. وهو أمر مُسَجَّل خطيا في الصفحات الأكثر مجدا من تاريخ الاجتماعيةالديمقراطية: إن تخدير العمال والمُسَيْطِر عليهم بصورة عامة هو الثمن المطلوب سداده مقابل سذاجة التصديق بما تقوله أحزاب الأممية الثانية.
إن أهون الشَرَّين الموعودين به يفترض من جهة أخري برأي المروِّجين لانتخاب روايَّال اجتماع شرطين اثنين. الأول يستدعي تقديم صورة مثالية عن الحزب الاشتراكي. أي أن ينظر إليه بخلاف ما لم يعد هو عليه، سواء من الناحية النظرية أم الاجتماعية. إن الاشتراكيين يحلمون بمؤتمر تأسيسي هو نسخة ثانية مقلوبة عن مؤتمر تور Tours الذي كان عُقد في العام ،1921 والذي أسَّس للحزب الاشتراكي، وفَصَلَ الاشتراكيين عن الشيوعيين، أو حتى عن بديل للحزب الشيوعي بعدما بَلَغ هذا الأخير حالة يرثى لها على إثر تخلِّيه عن هويته. حلم يُلقي الأضواء بما فيه الكفاية على إغراء باقتراع عام يَمنح الحزب الاشتراكي مصداقية قوية. وخُيِّل أيضا للبعض أن الذين رفضوا مشروع الدستور الأوروبي سيشَكِّلون قاعدة مساندة للتجمع المعادي لليبرالبية، هذا التجمع الذي لم ير النور والذي لقي من هؤلاء الرفض. أو إن تصويتا واسعا لصالح سيغولين روايَّال سيَمنَح "الثوريين" إمكانيةً" لتغيير تيار الاجتماعية الليبرالية تغييرا إيجابيا شرط أن ينسى "الثوريون" أنهم كانوا صدَّقوا ذلك وأقنعوا الآخرين به عندما دعوا في الانتخابات الرئاسية للعام 2002، نسبة 80 بالمائة من الناخبين إلى التصويت لشيراك ملوحين بفزاعة لوبين، هذه الفزَّاعة التي كانوا رفعوها من أجل هذا الهدف. وأخيرا، فإذا كانت الرغبة واللذة المرجوة من سد الطريق أمام ساركوزي، هذا الخطير بصورة لا يتسرب إليها شك، مشروعتين وتتيح الفرصة أمام اختيار أهون الشرين، فإن المرجو بطبيعة الحال هو الأقل طالما يستطيع المرء أن يختار الصحة على المرض.
وماذا عن اللجوء إلى جوزي بوفي الذي كانت اللجان المؤيِّدة لتشييد جبهة معادية للنيوليبرالية تلح عليه من أجل حمله على ترشيح نفسه لانتخابات الرئاسة، وهي كانت على هذا النحو تتحدَّى الأحزاب الموجودة على الساحة؟ لقد جاء ترشيحه للانتخابات متأخرا، ما دامت تَحَطَّمَت هذه الجبهة قبل أن ترى النور، ولن يَنتُج عن ترشيحه سوى بعثرة مرشحي اليسار الشيوعي الجذري إلى فتات. وهو الأمر الذي سيزيد في تشجيع ما يسمُّونه بالتصويت "المفيد"، أي لروايال، بحيث يُكتب لها النجاح في الجولة الأولى. وفضلا عن ذلك ، فإن شخصية بوفي التي تَعْتَبِر الثورات مجرد مُحَرِّكات للقرن الماضي (فلنفهم من ذلك القرن التاسع عشر) ليس غير، تُؤيِّد التفاهم مع الحزب الاشتراكي.

مالعمل؟
ها هنا تكمن حقيقة المشكلة، أي استخلاص الدرس المُستقى من الظروف الراهنة التي تلزمنا بالقطيعة مع الأوهام التقليدية، وذلك برفضنا حتى لمبدأ التحالف مع الحزب الاشتراكي، بل وحتى لتسوية ما معه إذا ما هو انتصر في الانتخابات. وبتعبير آخر فإن المسَّلم به هو أن الخيار روايَّال أو خيار الحزب الاشتراكي هو خيار غير ملائم البتة للظروف. فلنتجنب تشييد خرافات تتستر على الواقع. ولنُذَكِّر بما انتهى إليه نظام الحزبين من دمار، شأنه شأن التناوب بين جهازين على السلطة حسب الأسلوب الأنجلوساكسوني، هذا النظام الذي يعني، حسب ما تردِّده "الطبقة" الإعلامية- السياسية وتهيء له، نهاية كل مجابهة وتمييز بين اليمين واليسار، مجابهة كان لَحِق بها المرض منذ وقت. هذا، في ما ستجد مجدَّدا السلطة إياها وضعها المريح دائما وأبدا رغم مت يُوَجَّه إليها من اتهامات "الانقلاب العسكري الدائم" ضد الجمهورية بالنظر إلى السلطات الملكية لرئيس الدولة، والتي كان الدستور الديغولي أسس لها بمنحه الوظائف الرئاسية مزايا النظام الملكي(الحصانة القضائية، والتكتم على النفقات المالية للرئاسة، و"المجال المحفوظ للرئيس وحده" أي المجال الدبولماسي. وكان فرانسوا ميتيران إبان كان في المعارضة يتَّهم السلطة بأنها في حالة انقلاب دائم ضد الدولة حسب ما جاء في عنوان لأحد كتبه، إلا أنه سحب كتابه هذا من الأسواق ما أن انتخب رئيسا للجمهورية في العام 1981.
ولنضف إلى كل ما تقدّم طريقأ مسدود ا آخر، وهو أعلى شأنا من حيث أبعاده، وهو من ابتداع المؤمنين. إن هذا الطريق يتعلق بما يجب أن نصفه ب "النبذ السياسي". هذا النبذ سواء أكان مفروضا أم طوعيا فإنه يَشمَل في أغلب الأحيان النبذ المجتمعي. إنه يجعل من الهيئة الانتخابية عضوية عاجزة شبه مَعطوبة جراء ما يَلحق بها من بتر للأعضاء، وذلك في ما يتعلق بالأصوات التي تسقط من حساب النتائج الانتخابية، وهي: الامتناع عن التصويت، وسقوط الأسماء من قوائم الناخبين، التصويت الأبيض أو المرفوض، وإلى غير ذلك من تصويت احتجاجي ملغى دستوريا. وإن التمييز القهري يصل هنا إلى قمته ما دام الامتناع عن التصويت ورفض التصويت مقبولين بصورة قانونية في الانتخابات النقابية والشركات والجمعيات. لكن وظيفة ما يسمونه ب"التصويت المفيد" لا يَكتمل لها معنى إلا على أسس من "التصويت غير المفيد" الذي يُمَوَّه بطريقة دقيقة. والحال، إن التصويت غير المفيد أيا كانت الطريقة التي تُستَخدَم للحماية منه، بالإضافة إلى الدوافع التي تحرِّك الأفراد، فإنه يُشكِّل المستودع لاحتجاج عميق من حيث مبدئه، طالما هو يعني الرفض في حالة التوكيد للُّعبة المفروضة وما تحمله من نبذ واختلاط.

الاختيار
هل يتأتى عن التصويت الأبيض أن تحتفظ الأيدي بطهارتها، أم يَنتُج عن الامتناع عن التصويت انعدام الاهتمام بما يجري؟ كلا بكل توكيد، فمن شأن هذا وذاك أن يجعلنا أقرب ما نكون إلى الواقع الملموس اليوم، هذا الواقع الذي يدعونا ولنقل ذلك بدون وجل يدعونا إلى إنجاز قفزة ثورية. أي دحض الانتخابية التي تلتصق بالجلد، وتُقَلِّص حقوق المواطن إلى الاستراحات ما بين إقتراعين اثنين. ولابد أن يأتي وقت ويأخذ فيه النبذ والتصويت غير المفيد معناه الحقيقي كتعبير سياسي ليس أكثر انتقائية مما كان عليه التصويت المناوىء لمشروع الدستور الأوروبي. وإن اختيار مثل هذا المعسكر لا يعلن في ما حضر عن مستقبل سعيد. وليس المطلوب منا أن نحل محل حركة الجماهير التي تقع اليوم بصورة بديهية تحت التأثير الثلاثي لتدهور شروط العمل والحياة، وانعدام المساواة بصورة ما انفكت تتسع، والتكييِّف الإعلامي والخنوع النقابي، فالحركة الجماهيرية ليست ناضجة بصورة كافية بحيث تبدأ بصورة مدروسة مسيرة التغيير الراديكالي ، وهي ذو أشكال لابد وأن تكون على وجه الضرورة جديدة لا مثيل لها في السابق. أتراه حلم فارغ أن نرفض أن تكون فرنسا قد سُخِّرِت إلى حدِّ أنها تخلَّت عن الصراع الطبقي الذي كان أحد الخصائص الأصيلة لتاريخها؟
إن المهمة الملقاة على عاتق كل منا هي اعتبارا من ذلك المساهمة في التغيير الراديكالي، أيا كانت درجة إمكانات كل منا في هذه المساهمة متواضعة. أما المثقفين فبكلمتهم التي أصبحت غير مسموعة من أجل نشر الوعي ومساندة كلا أشكال الاحتجاج والغضب الذي يَعمَل عمله في مجتمعنا ضد كل أنماط التسويات السائدة.

جورج لابيكا

• Dans la cave de l’aveugle - شهر يناير من العام 2007: نُشِر المقال في عدد من المصادر في العالم منها في فرنسا مجلة أوتوبي كريتيكUtopie critique . والكاتب Georges Labica أستاذ الفلسفة في جامعة باريس العاشرة (نانتير)، والمدرسة العليا للأساتذة، وقد دَرَّس الماركسية في هذه الجامعة ما بين نهاية الستينات ونهاية التسعينات من القرن الماضي. ويُعتبر الكاتب أحد رواد القراءة الجديدة لأعمال ماركس وانجلز. فهو صاحب المؤلف "الوضع الماركسي للفلسفة" الذي يبيِّن أن أفكار ماركس تُشكِّل قطيعة مع الفلسفة منذ "الأيديولوجية الألمانية". وله منذ مطلع الستينات دراسة رائدة لمقدمة ابن خلدون "الدين والسياسة عند ابن خلدون" حيث يكشف لابيكا عن تبعية الدين للسياسة في الفكر الخلدوني. وذلك بالإضافة إلى عشرات الدراسات والمؤلفات حول أعمال ماركس وأنجلز ولينين، والعلاقة بين الأيديولوجيا والتاريخ. وله مواقف مشهودة في التضامن مع نضالات الشعوب من أجل التحرر، وبوجه خاص الشعب الفلسطيني. وهو قدَّم في العام الماضي لمؤلف كريم مروة وسمير أمين "الشيوعيون في العالم العربي" - ترجمة: حسان خالد.



#جورج_لابيكا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- روسيا تعلن احتجاز نائب وزير الدفاع تيمور ايفانوف وتكشف السبب ...
- مظهر أبو عبيدة وما قاله عن ضربة إيران لإسرائيل بآخر فيديو يث ...
- -نوفوستي-: عميلة الأمن الأوكراني زارت بريطانيا قبيل تفجير سي ...
- إصابة 9 أوكرانيين بينهم 4 أطفال في قصف روسي على مدينة أوديسا ...
- ما تفاصيل خطة بريطانيا لترحيل طالبي لجوء إلى رواندا؟
- هدية أردنية -رفيعة- لأمير الكويت
- واشنطن تفرض عقوبات جديدة على أفراد وكيانات مرتبطة بالحرس الث ...
- شقيقة الزعيم الكوري الشمالي تنتقد التدريبات المشتركة بين كور ...
- الصين تدعو الولايات المتحدة إلى وقف تسليح تايوان
- هل يؤثر الفيتو الأميركي على مساعي إسبانيا للاعتراف بفلسطين؟ ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جورج لابيكا - *في قبو الأعمى: الانتخابات الرئاسية الفرنسية للعام 2007