أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - علي حاكم صالح - حداثة جديدة بحدود أخلاقية كلية - ملاحظات حول كتاب -روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية















المزيد.....



حداثة جديدة بحدود أخلاقية كلية - ملاحظات حول كتاب -روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية


علي حاكم صالح

الحوار المتمدن-العدد: 1876 - 2007 / 4 / 5 - 11:17
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


كتاب "روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية" للدكتور طه عبد الرحمن، الصادر عن المركز الثقافي العربي، 2006، محاولةٌ فكريةٌ ترمي إلى تأسيس حداثة إسلامية من إبداع المسلمين أنفسهم، وليس عبر تقليد الحداثة الغربية، التقليد الذي يمثله من يسميهم المؤلف "مقلدة المتأخرين"، وهو نوع "يضمُّ الذين يقلدون المتأخرين من غير المسلمين" (ص،11)، وكذلك ليس عبر تقليد المتقدمين، وهو تقليد يمثله من يسميهم "مقلدة المتقدمين"، وهو نوع "يضمّ الذين يقلدون المتقدمين من المسلمين" (11). إنما هي حداثة تتوسل مفاهيم يبدعها المسلمون "من داخل التراث الإسلامي العربي" (12 – 13) كتلك المفاهيم التي أبدعها المؤلف في مجمل نشاطه التنظيري. ومحاولة وضع هذه المفاهيم تتوسل "قاعدتين منهجيتين" هما: "كلّ أمر منقول معترضُ عليه، حتى تثبت [كذا] بالدليل صحته" (13) ويسمّي هذا النوع من النقد باسم "النقد الإثباتي" (13)، و "كلّ أمر مأصول مسلّم به، حتى يثبت بالدليل فساده" (14)، ويسمّي هذا النوع من النقد باسم "النقد الإبطالي" (14). ويقول في هامش 6 ص 14: "ويبدو أن موقفنا من المأصول والمنقول يشبه من بعض الوجوه موقف أحد الأئمة الذي قال: قولنا صواب يحتمل الخطأ وقول غيرنا خطأ يحتمل الصواب". ولا تخفى على أحد المسحة الأنوية الظاهرة في هذا القول. فمعيار الصواب والخطأ الموضوعي كان يجب ألاّ يستند إلى مصدر القول، إلاّ إذا كانت هناك نزعة صريحة، أو مضمرة، تفيد بأن الأنا مركز للقول، ولمعياريته. كما أن هذين النوعين من النقد (الإثباتي، والإبطالي) يناظران على التعاقب مبدأ التحقق لدى الوضعية المنطقية، ومبدأ التكذيب لدى كارل بوبر، رغم الفارق، طبعاً، بين نوع القضايا، والعبارات التي تطبق عليها هذه المعايير.
بأي حال، تنطلق هذه المحاولة من قياس يفيد: "كما أن هناك حداثة غير إسلامية، فكذلك ينبغي أن تكون هناك حداثة إسلامية" (17)، بل إن الطموح يرمي الوصول إلى غاية أبعد، ومنزلة أرقى، وهي: "إن الفعل الحداثي يجد رقيَّه في الممارسة الإسلامية بما لا يجده في ممارسة غيرها" (18) حيث "لا يُعقل أن يتقرر في الأذهان أن الحداثة تأتي بالمنافع والخيرات التي تصلح بها البشرية، وأن تتحقق هذه المنافع والخيرات في الأعيان، ثم لا يكون هذا الجزء النافع منها متضمناً في الحقيقة الإسلامية" (17)، ويؤكد: "وهل الزمن الإسلامي إلاّ بمنزلة الزمن الأخلاقي الذي تتحقق فيه ظاهرة الحداثة والذي يتمم ما نقص في سابق الأزمان من المكارم، ناهيك عن أن كل دين منزل يَمُدُّ الإنسان بأسباب الصلاح في دنياه، فضلاً عن أسباب الفلاح في أخراه، فإذن لابد أن تدخل الحداثة الصالحة في الممارسة الإسلامية! (17 – 18).
والصلاحُ يتجسّد في حقيقة أنّ الحداثةَ التي يريد أن يؤسّس لها السيد طه عبد الرحمن تتمثل في كونها "حداثة ذات توجه معنوي بديلة عن الحداثة ذات التوجه المادي التي يعرفها المجتمع الغربي" (16). ويقدم من أجل ذلك في هذا الكتاب، وكتاب سابق، أصولَ هذه الحداثة، وهي أصول أخلاقية "استخرجناها" يقول "من معين تجربتنا الروحية الخاصة... ولا يمتنع أن يتوصل إليها غيرنا متى كابد نفس التجربة" (15). ومحور هذه الأصول أصل يفيد "أن ماهية الإنسان تحددها الأخلاق، وليس العقل، بحيث يكون العقل تابعاً للأخلاق، فيكون محموداً متى أفاد ومذموماً متى أساء، وليس العكس" (15). وهناك أصول أخرى من بينها "أن الأخلاق مستمدة من الدين المُنزّل" (16).
ولتشريحِ الحداثة مفهوماً وواقعاً يميّز المؤلف بين "روح الحداثة"، وواقع الحداثة" (24) وهو تمييزٌ يتوخى أشياءً عديدة من بينها "التخلص من التشييئ" (24) الذي ألحقته التعريفاتُ العديدة والمتنوعة والمختلفة لمفهوم الحداثة، حتى أنّ هذه التعريفات هوّلت هذا المفهومَ فبدا كأنه "كائن تاريخي عجيب يتصرف في الأحياء والأشياء كلِّها تصرّف الإله القادر، بحيث لا رادّ لقدره" (24). كما يتوخى هذا التمييز وضعَ الشروط المعرفية، والوجودية ليس للتمييز بينهما حسب، إنما لكسب شرعية واقعيات حداثية أخرى غير واقع الحداثة الغربية القائم فعلياً. ونحن نظفر في هامش رقم 1 صفحة 175 بتعريف واضح لهذين المفهومين؛ إن روح الحداثة هي: "جملة القيم والمبادئ القادرة على النهوض بالوجود الحضاري للإنسان في أي زمان ومكان، أما واقع الحداثة فهو تحقق هذه القيم والمبادئ في زمان مخصوص ومكان مخصوص". والعلاقة بين روح الحداثة وواقع الحداثة كالعلاقة بين المثال وممثوله، فواقع الحداثة الغربية "ليس ... إلا واحداً من التجليات ـ أو التطبيقات ـ الممكنة لروحها، ذلك أنه ينزل منها منزلة المثال من ممثوله؛ ومعلوم أن المثال غير الممثول، فيلزم أن يكون الواقع الحداثي غير الروح الحداثية، وهذا يعني أن هذه التطبيقات لا تكون متماثلة من جهة قوة أدائها لهذه الروح، بل قد يفضل بعضها بعضاً من جهة مزيد تمسكه بها في نهوضه الحضاري" (30).
وإذا كان واقع الحداثة هو واقع الحياة الغربية الحداثية نفسها، فماذا عن روح الحداثة مادامت هي ليست واقع الحداثة ضرورة؟ وجواباً على التساؤل يقول: "ليست روح الحداثة، كما غلب على الأذهان، من صنع المجتمع الغربي الخاص، حتى كأنه أنشأها من عدم، وإنما هي من صنع المجتمع الإنساني في مختلف أطواره، إذ أن أسبابها تمتد بعيداً في التاريخ الإنساني الطويل؛ ثم لا يبعد أن تكون مبادئ هذه الروح أو بعضها قد تحققت في مجتمعات ماضية بوجوه تختلف عن وجوه تحققها في المجتمع الغربي الحاضر؛ كما لا يبعد أن يبقى في مُكنتها أن تتحقق بوجوه أخرى في مجتمعات أخرى تلوح في آفاق مستقبل الإنسانية" (30 – 31). وستتجلى ماهية روح الحداثة فعلياً في أي واقع كان في حال جسّد هذا الواقع مبادئَ هذه الروح. ومبادئُ الحداثة هي أولاً: "مبدأ الرشد،... أن الأصل في الحداثة الانتقال من حال القصور إلى حال الرشد" (25)، والمؤلف لا يتردد في أن يستعين بتفسير كانط لهذا المبدأ رغم أن الفيلسوف الألماني كان يجب أن يكون، بمقتضى فهم المؤلف، جزءاً من واقع الحداثة وليس تجسيداً لروح الحداثة نفسها. ثانياً : "مبدأ النقد؛ مقتضى هذا المبدأ هو أن الأصل في الحداثة هو الانتقال من حال الاعتقاد إلى حال الانتقاد، والانتقاد هو "المطالبة بالدليل على الشيء كي يحصل التسليم به" (26). أما المبدأ الثالث فهو "مبدأ الشمول .. أن الأصل في الحداثة الإخراج من حال الخصوص إلى حال الشمول" (28). ولكل مبدأ من هذه المبادئ ركنان. ولاحاجة بنا للوقوف عندها طويلاً.
ولكن إذا كانت روح الحداثة بهذا الوضوح الدقيق، فلماذا تعثّر الغربُ في تطبيقها؟ ولهذا السؤال غايات لعلّ المؤلف يتوخى من ورائها وضع شروط التطبيق الإسلامي الخاص والمبدع لروح الحداثة هذه. أمّا أسباب تعثر الغرب فنجملها بالشكل الآتي: يقول، "معلوم أن هذا التطبيق قد دخلت عليه آفات مختلفة جعلته يبدو وكأنه محكوم بقانون قد نسميه بقانون انقلاب المقصود إلى ضده، مقتضاه أن هذا التطبيق يتوصل في كثير من الأحيان إلى نتائج مضادة للنتائج التي يتوخاها أصحابه أو يتوقعونها أو يراهنون عليها" (32). ويسوق لنا المؤلفُ مثالاً على ذلك، وهو: "أراد الإنسان الحداثي أن يسود الطبيعة، فإذا بها هي التي تسوده وتفعل به ما لا يريد؛ ويتجلى ذلك في بروز أخطار طبيعية مختلفة" (32-33)، أو مثلاً "أنشأت الحداثة الغربية نظاماً اقتصادياً عالمياً باتت لا تعرف كيف تتحكم في آلياته، فضلاً عن أن تتنبأ بمصيره" (33)، أو أن الحداثة الغربية "أرادت أن تقطع صلتها بالسلط التقليدية من غير رجعة، فإذا بهذه السلط تعود، وقد اتخذت عودتها أشكالاً ووسائل أغرب وأعقد من تلك التي عهدتها" (33). وعلى الجملة فإنّ الحالَ الذي انتهى إليه واقع الحداثة بعيدُ البعدَ كلّه عن روح الحداثة: "فما أريد له في الأصل أن يكون سيادة صار عبودية، وما أريد أن يكون استقلالاً غدا تبعية، وما أريد أن يكون شأناً خاصاً، أضحى شأناً عاماً" (33).
وبغية تجنب مهاوي التطبيق الغربي، يتعيّن علينا كمسلمين أن نجرّد الهمة عالية من أجل "حداثتنا الخاصة، المبدعة" التي تحقق هي دون غيرها روح الحداثة الفعلية. فالمسلمون، هم أحق (أما "أقدر" فهذا سؤال آخر غير محلّ نقاش، وسنعرف لماذا) من غيرهم في هذا العمل، بل على عاتقهم، وليس على عاتق غيرهم، تقع مسؤولية إنزال هذه المبادئ السامية، وتحقيقها على أرض الواقع؛ لسبب بسيط، ولكن جوهري، هو أن زماننا هذا هو زمان اللحظة الإسلامية الخاتمة القادرة على تحقيق ما يسميه السيد عبد الرحمن "الحداثة الروحية" (58). فيضع لكل مبدإ من مبادئ روح الحداثة صورته التي "يجب أن تكون" (ما بين القوسين في غاية الأهمية) في الواقع الحداثي الإسلامي. كما يفصّل المؤلف تجلياتِ نكوص الحداثة الغربية كما تجسدت في نظام العولمة الشرس، وفي نظام الأسرة الغربية، ومفهوم المواطنة. وسنعود إلى هذا لاحقاً.
عمادُ الحداثةِ الإسلاميةِ هو الجانبُ الأخلاقي الروحي، والمرشدُ إلى تحقيقِها التزامُ الفرد المسلم بروح الحداثة، التي هي حسب رؤيته (وهو لا يبخس الآخرين حقهم في بثّ رؤى جديدة ومختلفة تنهل من المصدر نفسه) روح الإسلام. ولكنه لم يقل صراحة أبداً أن الإسلام هو فقط دون غيره من يمثل روح الحداثة؛ فهذه الروح كما يقول غير مخصوصة بمكان وزمان معينين. والإسلام كواقع إنما هو واحد من بين واقعيات عديدة ممكنة لتحقيق هذه الحداثة؛ وهذا ما يقوله بصريح العبارة: "إن المبادئ التي بُنيت عليها هذه الروح [روح الحداثة] عرفتها كثير من الحضارات الماضية، فضلاً عن الحضارة الإسلامية؛ فقد تختلف هذه الحضارات في مدى تشبعها بمبادئ هذه الروح، ولكنها لا تختلف في صحتها" (47). وعليه، فإن النتيجة المترتبة على ذلك حتماً هي عدم جواز تعميم هذا الواقع على غيره. فلربما كان للصينيين، أو اليابانيين، أو الهنود، أو غيرهم من أمم الأرض واقعهم الحداثي المتفرد، الذي ينبني بمقتضى تراثاتهم، وتصوراتهم، وشروطهم المحلية بالضبط كذلك التفرد الذي يريده المؤلف للمسلمين. وعلى الرغم من ذلك، فإنّ السيد عبد الرحمن كان يهدف من محاولته هذه أن يجعل من الواقع الحداثي الإسلامي المفترض أنموذجاً يحتذى، ومثالاً تحاكيه البشرية عامة؛ لأن "النفع الذي تسعى إليه هذه الأمة لا تقف آثاره عند حدود الذات، بل تتعداها إلى نطاق الآخرين" (175).
لا يستهدف مشروع الحداثة الذي يبثّه كتاب الدكتور عبد الرحمن مناقشة الواقع الفعلي أبداً، رغم أنّ الباعث على المشروع هو التحديات المعنوية والمادية التي يكابدها المجتمع المسلم وفي صدارتها "تيه فكري متمثل في فتنة مفهومية كبرى" (11). وهو نفسه يدرأ عن نفسه منذ البداية أية إمكانية لقيام اعتراض بهذا الصدد؛ يقول: "ولا ينفع معترض أن يقول إننا نهمل الواقع ونشتغل بغيره؛ ذلك أن مقاربتنا للحداثة هي أصلاً مقاربة فلسفية؛ ومعلوم أن كل مقاربة فلسفية تكون تقويمية، لا تحقيقية كما هي المقاربة العلمية؛ وككل تقويم ينبني على النظر إلى ما يجب أن يكون، بحيث يبقى النظر إلى الواقع أمراً عارضاً وتابعاً له" (هامش 11، ص 18). هذه الملاحظة التي تأتي في مقدمة الكتاب صيغت كي تكون رُقية، وتعويذة تطّرح غائلة كل نقد، أو اعتراض. فالواقع مجرد "أمر عارض"، أما كيف يمكن تحقيق ما يريده المؤلف فهو أمرٌ لا ينشغل به لأن محاولته "لا تحقيقية"، ويُستفاد من قوله أن المقاربة التحقيقية هي من شأن "المقاربة العلمية" من دون أن نعرف ما معنى هذه "المقاربة العلمية": هل المقصود بها المقاربة الواقعية، النقدية، التي تضع الواقع الفعلي التاريخي القائم والممكن في نظر اعتبارها، وفي الصدارة؟ أم أنه يقصد إلقاء هذه المقاربة على عاتق العلوم بالمعنى التقني للكلمة؟
وتزودنا ملاحظة أخرى للمؤلف، تحمل الروح نفسها، بجوهر مقاربته كلها؛ يقول: "إن مبادئ هذه الروح [روح الحداثة] قد تكون كامنة في روح التراث الإسلامي حتى على فرض أنها لم توجد متحققة في واقعه؛ فليس شرطاً في وجود المبادئ حصول التحقق، وإنما إمكانية التصور" (48). إذن حصول التحقق ليس شرطاً، الشرط هو إمكانية التصور. فإن كانت لك القدرة على التصور، تصور إذن! تذكّر كلمات المؤلف هذه بما ذهب إليه الوضعيون المنطقيون مرةً في تحديد نطاق المعنى. كانت الوضعية المنطقية، قد وسّعت من شروط القول ذي المعنى بعد أن تعرضت لنقود صارمة، فزادت على شرط القابلية على التحقق، إمكانيةَ التصور. ولكنها حصرت هذه الإمكانية بما هو مستحيل، الآن، فنياً أو تقنياً، وتجريبياً، وأبعدت ما هو مستحيل منطقياً. فأنت تستطيع أن تجمعَ معطياتٍ حسيةً من الذاكرة وممّا هو مباشر، وتبني بالتصور كائناً خرافياً له ألف عين وألف ذراع وقلب واحد، إن الأمر ليس بمحال، وسيكون لتصورك هذا معنى؛ لأنه يقع في نطاق ما يمكن تصوره، أو تستطيع أن تتصور بشراً بأربع عيون يعيشون في كوكب قصيّ، وسيكون لتصورك معنى، ولكنك بالطبع لا تستطيع أن تتصور مربعاً دائرياً، ولا تستطيع أن تتصور ما صدقات الميتافيزقا. وسيكون قولك، مثلاً، بروح مطلق، أو قولك "إن الوجود ينوجد" قولاً غير ذي معني وفق الشرط الوضعي هذا. كان هدف هذا التوصيف الوضعي التمييزَ بين القول ذي المعنى والقول الخالي من المعنى. ورغم الاختلاف الجذري في هذا الصدد بين محاولة الدكتور طه عبد الرحمن تشييدَ حداثة ممكنة تصورياً ومفهوم الوضعية المنطقية لحدود نطاق العبارات ذات المعنى، فإنهما محاولتان لا تاريخيتان، يهملان معاً كلية الواقع التاريخي. الأول بتوجهه نحو مثال غير قابل للتطبيق من حيث نموذجه البدئي، والثاني باختزالها المعنى في حدود المعطى الحسي التجريبي. ونحن هنا لانريد أن نصف محاولة المؤلف بخلوها من المعنى؛ لأن لكل قول معنى، والميتافيزيقا لها معنى، نحن في عالم أوسع من عالم الوضعية المنطقية. (حتى الهذيان له معنى). ذلك أن الفكر النقدي، التاريخي، الاجتماعي، الواقعي؛ النقد الذي يتطلع إلى المستقبل عبر الممكن الواقعي هو دون غيره من يمنح هذا الكلام معنى!
ولكن السؤال الملّح الآن هو كيف يمكن التنظير لحداثة، وهي حداثة يُراد لها أن تكون حلاً للمشكلات والمعضلات الجوهرية التي تكتنف الواقع العربي والإسلامي، من دون التفكر في هذا الواقع؛ لا بل إن هذه المحاولة تعدّه "أمراً عارضاً"؟ وحتى لو درأ المؤلف، أو ظنّ أنه يدرأ، عن نفسه أية ملاحظة نقدية بصدد ما يذهب إليه، فإن ذلك لا يمنع أيّ شخص أن يطرح التساؤل السابق. صحيح أنّ هناك فاصلاً منهجياً، وبنيوياً بين المقاربات العملية، والنظرية، ولكنهما يجتمعان معاً في حال كان الموضوع هو واقع مشخص وتاريخي. ويزداد تقاربهما في حال، وخصوصاً في حال، كان مستقبل هذا الواقع موضوعهما. لأنه لا معنى للحديث عن المستقبل من دون الحديث التفصيلي عن الممكن الذي يكتنزه واقع الحال.
ولكن ما المقصود من مفهوم "روح التراث الإسلامي" الذي يرى المؤلف أن روح الحداثة "قد تكون كامنة فيه"؟ هل هو النصّ القرآني؟ أم كلّ ما انبنى عليه، وتأسّس، وانتمى، وصدر عنه، متأولاً وشارحاً، ودار حوله، واستثمره، وربطه بفكر فلسفي "وافد"، واختلفوا فيه، وتصارعوا، هذا وغيره كثير يمثل بمجمله أيضاً التراث الإسلامي؟ إن كان المعنى الأول هو المقصود، إذن نحن أمام محاولة فلسفية (هكذا يسميها) لفهم النص القرآني؛ وسيكون من المضلّل الحديث عن التراث الإسلامي، لأن هذا التراث لم يكن يحمل روحاً واحدة، ولا اتخذ مساراً أخلاقياً متصلاً واحداً. أمّا إذا كان المقصود منه المعنى الثاني، فنحن سنكون أمام محاولة تحاول أن تختزل رؤى، وطرقاً عديدة، ومتنوعة، ومختلفة ليس في التطبيق فقط، بل حتى في المفاهيم: فالمعتزلة، والأشاعرة، والظاهريون، والمتصوفة، والمذاهب الإسلامية وغيرها جميعها جزء من التراث الإسلامي، والفارابي وابن سينا، والغزالي الذي أعلن تهافتهما، وابن رشد الذي ردّ هذا التهافت ينتمون كلهم إلى التراث الإسلامي؛ أليست سلالات الحكم الإسلامية جزءاً من التراث الإسلامي؟ وأليس الحلاج وصالبوه جزءاً من التراث الإسلامي؟ أم أن السيد طه عبد الرحمن يحتفظ لنفسه بمعيار تصنيفي، على أساسه يحدد بنود التراث الإسلامي؟
لهذا الصوت نغمات عديدة، مختلفة، متنوعة، ومتناقضة أيضاً، جميعها تتردد فيه، مادام الأمر لا يتعلق بأي شيء. وأحد وجوه بؤس محاولة السيد عبد الرحمن أنها، من بين أشياء أخرى، تتأرجح بين الجميع، فأنت لن تفوتك سماع النغمة الكانطية الشكلانية الجميلة، ولكن العقيمة، وأخلاق الواجب، وعالم "ما يجب أن يكون"، بل إن الكتاب ينتهي في فصوله الأخيرة بمبادئ صورية لا تختلف في شيء عن صورية مبادئ كانط الأخلاقية. إسمع : "لترحم الآخرين رحمتك لنفسك، وحفظاً لقيمة الإنسان" (252)، أو "لترحم غير الإنسان رحمتك للإنسان، حفظاً لقيمة الوجود" (253). والفارق بين الاثنين أن الفيلسوف الألماني يؤسّس مبادئه الخلقية على "ميتافيزيقا الأخلاق"، أما مفكرنا العربي فيؤسسها على المثال الديني. فمن بوسعه أن يقول أن هذا الكلام من دون معنى! لا أحد بالتأكيد. ومن بوسعه نقضه أو الجهر برفضه، فإنْ سلكتَ هذا، ستعصف بك كل الضمائر الحية، وتلقي بك في خانة آل بنثام! ولكن سؤالي البسيط والواضح هو أين الممكن الواقعي في هذا كله؟
ووجه آخر لبؤس مقاربة السيد عبدالرحمن أنها تعتمد ، من جهة أولى، المقارنة بين واقعي متحقق فعلياً وممكن تصوري؛ أي المقارنة بين واقع معروف، وواضح، له تاريخه، وحركيته، وزمكانه، له مؤسساته، وبرامجه وبين ممكن تصوري نصّي لم يتحقق يوماً كستراتيجية مجتمعية جماعية أبداً. ويتعمق بؤس هذه المقارنة حين نركز في أذهاننا أن أحد طرَفي المقارنة ـ واقع الحداثة الغربية ـ إنما هو وإن كان ممكناً واحداً لروح الحداثة كما يرى المؤلف، ولكنه ممكن واقعي. ومثل كل واقعي لابد أن يصيبه الدنس، والنقص، وتخترمه العيوب الكثيرة، والعميقة، والجوهرية، ولكنها عيوب قابلة على التشخيص، وقابلة في أحيان كثيرة على الحلّ، أو حتى الرفض، والنقد، والاعتراض. والمؤلف نفسه مصيب في كثير من نقوده للحداثة الغربية في وجهها الاستعماري، والرأسمالي الأميركي، وهو في هذا يلتقي مع العديد من نقاد الحداثة الغربية بمن فيهم طبعاً حداثيون غربيون. يقول زغمونت باومان: "لقد تعلمنا في هذا القرن أن الحداثة لا تعني فحسب إنتاجاً أكبر ورحلات أسرع وثراء أوفر والحركة بحرية أوسع. الحداثة تعني أيضاً ـ بل وكانت تعني دائماً ـ طريقة القتل ذات التقنية الرفيعة، والأسرع والأكثر فاعلية وكفاءة؛ القتل لإبادة شعب على نحو مخطط ومسير علمياً، باعتباره فناً استخدمته الحداثة بتوسع لتحقيق أهدافها الحداثية الخاصة بها، بينما وضعت هذا الفن تحت تصرف كل نزعات الخوف المرضي من الآخر، سواء كانت مرتبطة بالقبيلة أو الطبقة، بالعنصرية أو الإثنية، مما كان يعد مندثراً وينتمي إلى عصور ما قبل الحداثة" (عن كتاب الحرب، والقمع، والإرهاب، بقلم يوخن هبلر).
أما الطرف الثاني ـ واقع الحداثة الإسلامية ـ إنما هو مجرد ممكن نظري. وكفى! لا تاريخ له، لا واقع، لاحدّ له اللهم إلاً الحدود المنطقية. إنه نسغ المنطق الأرسطي الشكلي ذاك الذي يمتاح منه المؤلف: مقدمات واضحة، صادقة ضرورة، وبعملية بسيطة تنتج كالبيوض نتائج صادقة ضرورة!
ويكمن بؤس هذه المحاولة، من جهة أخرى، في أنها ترى كلّ ما يمكن تصوره عقلياً قابلاً لأن يتحقق كما هو من حيث كينونته المثالية البدئية قبل ملامسة الواقع. ولكن الخبرة التاريخية تفيد العكس. فتحول الدين، مثلاً، إلى واقع سيخرجه من كينونته المثالية البدئية إلى كينونة واقعية تتخذ لها مجرياتها التاريخية الخاصة بها. ولا يصح حتى أن نقول إنهما قد لا يتطابقان، لأنه قول يبقي إمكانية تطابقهما قائمة، والحال التاريخي يشهد، بما في ذلك تاريخ الفكرة الإسلامية ذاتها، على عدم تطابقهما، إن لم نقل إنه يشهد على تناقضهما.
وكارثة هذا التفكير الصوري أنه يعدّ ما يفعله مشروعاتٍ مستقبلية، توصل إليها بعد مكابدات علمية وروحية طويلة. ويعود هيغل واقفاً على رأسه مرة أخرى؛ ويشرق علينا فجر روح مطلق جديد؛ هو روح الحداثة. وكما روح هيغل المطلقة، تتصف روح الحداثة باللامكان واللازمان لأنها يمكن أن توجد في كل زمان ومكان. ولهذه الروح المطلقة الجديدة، كظيرتها القديمة، تجليات يسميها واقع الحداثة. في هذه الخلطة العجيبة مذاقات عديدة: كانطية، وهيغلية، وصوفية، وأفلاطونية. ونغمة هذه الأخيرة بالغة الوضوح. فروح الحداثة عند السيد عبد الرحمن يناظرها عالم المُثل أو الأشكال لدى أفلاطون، أما واقع الحداثة فيناظره عالم المظاهر الحسية، والعلاقة بين الطرفين، عندهما معاً، علاقة "المثال بممثوله" حسب تعبيره. وعيب المفكرين العرب المحدثين، كعيب الشعراء لدى أفلاطون، أنهم يقلدون الممثول؛ أي أنهم ينتجون نسخة النسخة: لذلك وجب نبذهم وطردهم.
إن محاولة التخلص مما يسميه المؤلف "التشييء" الذي لحق بالحداثة، انتهى بها الأمر أن تستحيل طهرية نقية لا شائبة تشوبها لأنها بكل بساطة غير واقعية،، وليس لها من جوهر غير تمارين عقلية بارعة. حذفُ التاريخ يقود حتماً إلى اللاشيء، وحذف الواقع الذي يتحرك في التاريخ يستمرئ حتماً بناء مدن فاضلة جميلة ولكن لا يسكنها أحد لأنها اللاشيء، وتأسيس أرضية هذه المدينة لن يحتاج غير منطق أرسطي الذي لا يقول شيئاً.
من أين استقى المؤلف ما يسميه "مبادئ روح الحداثة"؟ هل توصل إليها عبر الاستقراء؟ وهل تجسدت جميعها في يوم من الأيام في حضارة واحدة؟ وهل كانت متساوية القوة، والظهور، والفاعلية في تجسدها ذاك؟ بالتأكيد هي لا تخصّ روح الحداثة الإسلامية وحدها لأن روح الحداثة بمقتضى قوله هو ليس لها زمان ولا مكان محددين، ولا تخص واقعاً قد يراه البعض تجسيداً لهذه الروح؛ أعني واقع الحضارة العربية الإسلامية في عصور ازدهارها. لأن هذه الحضارة مَثلُها مَثلُ غيرها من الحضارات لم تكن الغايات الخلقية الإنسانية "فقط!" هي التي تحركها.
لاشك في أن الإسلام كان الباعث على قيام هذه الحضارة. إن الإسلام بطاقته المذهلة والجبارة ضخّ روحاً جديدة غير مسبوقة أبداً في أوصال الجسد العربي، فحوّله من كائن خامل تابع (أما أن يلوذَ بالصحراء، أو أن يعيش في خدمة الأمبراطورية البيزنطية أو الساسانية) إلى كائن فاعل وفاتح (على يديه تلاشت هاتين الإمبراطوريتين). فأقام حضارة واسعة زمانياً ومكانياً، وأسّس له وجوداً على الأرض لم يَخبُره من قبل أبداً. ولكن ما من أحد ينكر أن هذه الطاقة لم تكن تشتغل على أرض الواقع وفق الباعث الديني الإسلامي البحت، إنما نهلت من تراثات الحضارات القديمة والمعاصرة لها، فأعادت إبداعها "حتى كأنها نتاجها هي" (حسب تعبير السيد عبد الرحمن المفضل). وإعادة الإنتاج كما لا يخفى يخرج الفكر المنتج من نقاوته البدئية ليتعدى حدوده، وبفضل ذلك فقط أسهم في نفخ روح جديدة في الحضارة الغربية في نهضتها الحديثة هذا من جهة. ولم تكن كذلك، من جهة أخرى، تشتغل على أرض الواقع وفق الباعث الديني الخلقي البحت، بمعنى أنها لم تظل أبداً رهينة المبدأ الخلقي، إنما اتسعت بفعل الامتداد الطبيعي لكل قوة إمبراطورية تسعى إلى الهيمنة. أنشأت الحضارة الإسلامية، كغيرها من بقية الحضارات الإنسانية، عمراناً ودولاً ومدناً لا تُنسى، وكان لها ميدانها الديني والأخلاقي، وكغيرها من بقية الحضارات: تغزو، وتُغزى، وتفتح البلدان، وتغنم، وتسبي، وتقتل، وتنتهك قيماً إنسانية في الداخل والخارج، وتحافظ على قيم إنسانية في الداخل والخارج، وتعدل، وتظلم، تتصارع على الملك، يقتل الأخ أخاه، ويخون الابن أباه من أجل الملك، وتعبُّ من ملذات الدنيا، وتتهتك، وتتزهد، وتتصوف، وتنتج شخصيات أخلاقية كونية فعلاً؛ وتنتج شخصيات دموية، وتكتب في الحب العذري، والفحش، وتلتزم بالعهود، وتخونها، وتصلب، وينحر أحدُ ولاتِها مفكراً في أول أيام العيد، وتستعين بالغريب على الأخ المنافس، وترقص، وتغني، وتتفلسف خارج النص الديني، وتلتزم بحرفيته السطحية، وتتأوله، ويداهن فقهاء السلطانَ، ويسجن السلطانُ فقهاء، ويعذبهم، ويقتلهم، ويعطي الأمان وينتهكه بفتوى فقيه؛ سلالات وأقوام يحلّ بعضُها محلّ بعض، تقوى، وتضعف، تتوحد بقاع شاسعة، وتنحلّ مرة أخرى جزراً متعادية، تحج وتغزو، تكنز الذهب وتستعين بأبناء الأديان الأخرى لتنظيم شؤونها، ولنقلِ علوم الأولين، وتبني مدنا عظيمة (بغداد عظيمة): هي إذن حضارة كغيرها من بقية الحضارات؛ لذلك ازدهرت ثم انحلّت.
وليس بوسع المؤلف، وهو لم يفعل ذلك أبداً، أنْ يزعمَ أنّ هذه الحضارة كانت قد جسّدت ما يسميه "أمهات القيم التي شملتها روح الحداثة [الحداثة الروحية] مثل الكرامة، والعدل، والمساواة، والحرية، والتسامح، والأخوة" (58)؛ فإن كان لهذه القيم من حضور، فهو حضور يوازيه حضور أضدادها، بل يفوقها دائماً. هذا الوصف المطول فقط لتأكيد أن الحضارة الإسلامية شيء والقرآن الذي يجسّد المثال شيء آخر. تبدأ الأديان، جميع الأديان، نقية، سامية الأخلاق، تقودها روح استثنائية لن تتكرر، ثم تصير حضارات يحكمها منطق الدنيا، وتتحكم بالدنيا.
وبوسعنا هنا أن نكرر جملة قالتها حنة آرنت مرة بصدد التراث الغربي، ونطبقه على التراث الإسلامي نفسه: "لم يعد في وسعنا أن نأخذ ما كان جيداً في الماضي ونعلنه ببساطة تراثاً لنا، بهدف التخلص مما نعتبره سيئاً، ومما ننظر إليه كأثقال نزيحها جانباً على أمل أن يطويها الزمن في غياهب النسيان" (عن المصدر السابق نفسه، 15).
لعلنا نلمس في هذه المقاربة الجديدة حنيناً ماضوياً، يلتمس استعادة لحظة من الزمان كانت قد تحققت، ولكنها استعادة تصف نفسها بالمبدعة، ومستندة إلى إنتاج ذاتي لا ينتهج تقليد المتقدمين ولا المتأخرين. وهي مقاربة تتوخى ما يسميه المؤلف "الاندماج في الفضاء المفهومي الكوني" (266)، ولكنه "اندماج طوعي" (267)، بمعنى أن "يختار [المجتمع المسلم] تلقي المفاهيم المخترعة، معترضاً عليها وفاعلاً في مضامينها؛ فيكون هذا الاندماج عبارة عن انخراط واع يحفظ قدرة أبنائه على إبداع الأفكار وإنتاج المعارف" (267).
ولكن الشيء الذي فات المؤلف، كما أظن، هو أن إنتاج الأفكار والمفاهيم لا يكون محض تأمل فكري نظري فقط، إنما هناك واقع فعلي (أخصباً كان أم مجدباً) يدفع إلى عملية الإنتاج هذه؛ وهناك أيضاً خزين فكري غير منفصل عن هذا الواقع، بل مرتبط به ارتباطاً جدلياً؛ إن البنيتين الفوقية والتحتية متواشجتان من جهة تحريكهما الجديد، والتأثير فيه، بل هما كلٌ واحد. وهذا الجديد لا ينتج إلاّ من رحِم الممارسة النظرية والعملية. والحداثة الغربية حين تنتج مفاهيمها الخاصة بها إنما تستند أصلاُ إلى تراثها، وموروثها الفكري، وإلى واقعها المتحرك، وتجربتها العالمية.
صحيح أن الخلق الإنساني المتعالي، أي ذلك المخزون الأخلاقي غير القائم تجريبياً، يظل مبدأ، وفكرة، وأنموذجاً، ومثالاً يدفع إلى الأمام بما له من طاقة إنسانية خيّرة. ولكنه سيظل ممكناً، ليس ممكناً واقعياً، بل ممكناً مثالياً. إن الانشداد إلى المستقبل سمة تميز روح المجتمعات الأصيلة، والأفكار الأصيلة، والفرد الأصيل، والتحرك نحو هذا المستقبل، لا انتظاره، يعمل على تجسيد ما ينطوي عليه هؤلاء الفاعلون من ممكنات قابلة للتحقق في التاريخ. وتناول هذه الحقيقة كان يجب أن يبدأ بواقعها العيني مهما كان هذا الواقع ناقصاً أو مخيباً قياساً للنموذج المحتذى، أو المثال المطلوب. لأن الجري عكس ذلك، أو فوقه، سيقع (كما وقعت مقاربة الدكتور عبد الرحمن) في صورية قاتلة، تستحيل محض وصايا، وإرشادات، من دون برنامج فكري واضح. ووضع الجانب الخلقي مبدأً للحداثة لا يسوّغ بحد ذاته الانفصالَ الطوعي عن حادثات التاريخ، لأن الأخلاق شكل يتجسد فيه كل فعل، والتجسد السلبي نفسه لهذا المثال يمكن النظر فيه من جهة سلبيته هاته، وحتى في هذه الحالة يبقى النظر محايثاً للواقع التاريخي. كما أنّ الحديثَ عن المبدأ الخلقي يفقد معناه، ويصبح مجرد طوباوية، إن لم ينشبك بالحديث عن المؤسسات التي تجسده، فالفرد الفاعل في عالمنا اليوم (وهنا لا فرق بين واقع حداثي وآخر) الآخذ بالتعقيد المتزايد هو دائماً جزء من كيانات أوسع من الأسرة (التي يفصّل فيها الدكتور عبد الرحمن). كيانات تغمرها لعبة المصالح، والسياسة، والقوة؛ وهي لعبة ستظل قائمة مادام هناك إنسان.
قد تنتهي هذه اللعبة إلى شيء أفضل مثالاً لكن شريطة أن "يظهر" إنسان آخر، في تقويم آخر مختلف جذرياً. وظهور هذا الإنسان الجديد كان كما يبدو الشرط المسبق، أو الحكم المسبق، ولكن المضمر، لجميع المشروعات الدينية، والمثالية، والطوباوية. فهي جميعها تفترض وجود هذا الفاعل كي تتحقق. ولكن التاريخ يشهد أنها لا تتحقق إلاً عبر كائن متحقق فعلياً؛ وتحققه الفعلي هذا ليس له صورة واحدة، بل ليس له صورة واحدة في الفرد الواحد نفسه عبر مراحل حياته، متى ما اندرج فعلياً في معترك الحياة والمصالح، وفي تعقيد الأفعال وردود الأفعال. لا أحد ينكر أن الواقع التاريخي شهد النموذج الخلقي، ولكنه شهده في بضعة أفراد، استطاع بعضهم تغيير وجه العالم، ولكن ليس على وفق نموذجهم الذي جسدوه. كانوا القوة الباعثة، وحين اقتدي بهم، صار المقتدون (على فرض أنهم اقتدوا بهم فعلا) بعيدين عن النموذج، بل مناقضين له. والسبب هو ما ذكرناه أنّ تحول الفكرة من كينونتها المثالية البدئية إلى كينونة واقعية فعلية يفقدها صورتها الأولى.
يقول الدكتور عبد الرحمن إنه "لا دخول للمسلمين إلى الحداثة إلا بحصول قراءة جديدة للقرآن الكريم، ذلك أن القرآن، كما هو معلوم، هو سرّ وجود الأمة المسلمة وسرّ صنعها للتاريخ؛ فإذا كان هذا الوجود والتاريخ ابتدآ مع البيان النبوي" أو قل "القراءة النبوية" للقرآن، فدشنت بذلك الفعل الحداثي الإسلامي الأول... فإن استئناف هذا الوجود لعطائه ومواصلة هذا التاريخ لمساره، وبالتالي تدشين الفعل الحداثي الإسلامي الثاني، كلّ هذا لا يتحقق إلا بإحداث قراءة أخرى تُجدد الصلة بهذه القراءة النبوية، ومعيار حصول هذا التجديد هو أن تكون هذه القراءة الثانية قادرة على توريث الطاقة الإبداعية في هذا العصر كما أورثتها القراءة المحمدية في عصرها" (191)، وعليه فإن "الفعل الحداثي الإسلامي لا يقوم إلا على أصل التفاعل مع الدين، سواء في طوره النبوي الأول أو في طوره الإبداعي الثاني" (192).
ولتفصيل الحداثة الإسلامية الثانية، يضع المؤلف خططها. أولاً: "خطة التأنيس المبدعة هي عبارة عن نقل الآيات القرآنية من وضعها الإلهي إلى وضعها البشري، تكريماً للإنسان" (197)؛ ثانياً: "خطة التعقيل المبدعة هي عبارة عن التعامل مع الآيات القرآنية بكل وسائل النظر والبحث التي توفرها المنهجيات والنظريات الحديثة، توسيعاً لنطاق العقل" (199)؛ ثالثاً: "خطة التأريخ المبدع هي عبارة عن وصل الآيات القرآنية بظروف بيئتها وزمنها وسياقاتها المختلفة، ترسيخاً للأخلاق" (202).
لنقف هنا مع هذه الخطط الثلاث. على عاتق الإنسان المسلم، إذن، تقع مسؤولية تنفيذ هذه الخطط، وهي علاقة تقوم بينه وبين النصّ القرآني؛ علاقة ثلاثية تعبر عنها ثلاثة أشكال علائقية وهي : "نقلُ الآيات..."، و"التعامل مع الآيات..."، و"وصلُ الآيات...". وواضح أنّ الإنسان المسلم هو طرف فاعل (فاعلية الطرف الآخر، أعني النصّ) في كل علاقة من هذه العلاقات، أو في كل عملية من هذه العمليات، لأن الذي سيحدث هو فعلاً عملية زمانية مكانية. إنها علاقة بين كائن تاريخي، وليد ورهين شروط تاريخه التاريخية، والعلمية، والثقافية، والسياسية، وما إلى ذلك مما يكوّن حياة الإنسان الزمانية، وبين نصّ إلهي ولكنه نزل أصلاً كي يكون بمعية جميع لحظات الزمان، بل أن هذه اللحظات نفسها متضمنة فيه ذلك أن "راهنيته راهنية دائمة" (204). إذن ثمة فهمٌ يجب أن يبلغه المسلم كي يُحضر هذه الحقيقة الإلهية إلى دنيا الزمان القُلّب. فمن هذا المسلم (أفرداً كان أم جماعة) الذي سيكون بوسعه فعل ذلك؟ يجلّي تراثنا الإسلامي حقيقة أساسية لا يماري فيها أحد وهي أنه لم يكن هناك أبداً فهمٌ واحدٌ للنص القرآني، والبعض يعد ذلك سمة من سماته الخصبة، ولكن الخطورة تكمن في أنّ كلّ فهم من هذه الفهوم يطرح نفسه على أنه حقيقة القرآن نفسه، وكل ماسواه خاطئ. والخطأ في العرف الديني كفر. وتنوع هذه الفهوم واختلافها يعني تنوع الصراعات، وامتدادها. كان هذا الاختلاف يستند في الأصل إلى تبرير واقع ما، يأتي هذا الفهم مانحاً إياه الشرعية. وأظن أن المِحن والفتن (وليس فقط الفتنة المفهومية الكبرى الحديثة كما يسميها المؤلف) التي حدثت في عقود التاريخ الإسلامي الأولى لم تكن أطرافها تعلن الخروج على القرآن، إنما جميعها بلا استثناء تستند إليه، وما القول "إن القرآن حمّال أوجه" إلاً تأكيداً لهذه الحقيقة الفاقعة. فأي سلطة حداثية بوسعها أن تلمّ خيوط التفسيرات المختلفة في بوتقة واحدة، وتقول هذا هو القرآن متجسداً في جميع الفهوم المختلفة، بل والمتضاربة أحياناً؟
إنّ كلّ محاولة تتصدى لتأسيس ما أسميناه بالعلاقة الثلاثية، التي عبر عنها المؤلف في أعلاه، لا تتحقق إلاّ عبر الفهم. والفهم حدث إنساني تاريخي. ومَثلُه مَثلُ كل حدث بهذا التوصيف، يكون نسبياً، وجزئياً، وعرضة للخطأ والصواب على حد سواء. وعليه سنقع في نفس الحلقة المفرغة من الفهم وسوء الفهم. وليس غير القوة، والعنف من سيفصل بينها، ومن سيحدد الشرعية. وسيكون حال واقع الحداثة الإسلامية كحال نظيرتها الغربية، فهي أيضاً ستكون بمثابة الممثول من المثال الذي تحاكيه. غير أن الفرق بينهما، حتى في هذه الحالة، سيكون شائكاً؛ لأن واقع الحداثة الإسلامية المأمولة ستتوسل الدين في مجتمع ديني لا يقبل، لأنه لم يقبل يوماً، النقد الموضوعي. إن المقدس المتجسد يتعالى على كل النقود الصادرة عن عالم دنس.
لنؤشر ما يأتي؛ إن الحداثة المنشودة من وراء هذه القراءة للقرآن الكريم ينبغي ألاّ يُراد منها تغطية جانب واحد من جوانب الحياة، إنما الحياة بوجوهها كافة: السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والإدارية، وسوى ذلك من من وجوه الحياة المتعددة والمتنوعة. إذ لا تستقيم الحداثة إلاّ بشموليتها؛ لأنّ كلّ حداثة منقوصة ليست حداثة، ولأنّ القرآن، الذي يُراد له أن يكون المرشدَ لهذه الحداثة، ينبغي ألاّ يكون فقط قيماً أخلاقية وروحية، إنما أساساً للحياة بأوجهها كافة. بيدَ أن التاريخ يقول لنا: "إن المسيحية والإسلام والبوذية والهندوسية ... لم تقدر على عرقلة أي من أعمال العنف والوحشية أو الحروب أو المذابح الجماعية، أو الإرهاب وإبادة الشعوب، بل على العكس كانت تُستخدم دوماً لتبرير مثل تلك الجرائم. ولم يكن ذلك يرتبط بمحتويات الكتب المقدسة والمراجع العلمانية الأساسية، حتى وإن كان يسهل توظيفها من حين إلى آخر (وبدرجات مختلفة)، وإنما يرجع إلى وظيفتها الاجتماعية التي لا تقتصر، مثلاً، على العلاقة بين الإنسان والله، وإنما كانت تتحول دائماً لتصبح نظماً قيمية مجتمعية أو حتى أيديولوجيات للسلطة، تستغلها النخب الحاكمة لتبرير سلطتها (أو النخب المعارضة لوضعها موضع الشك). لا تنبثق إذن النتائج العنفية للدين من أبعاده الدينية، وإنما من أبعاده المجتمعية _ السياسية" (المصدر السابق نفسه، 80).
والدكتور عبد الرحمن يختار ميداناً واحداً يعتبره أوفى من غيره في تبيان آلية التطبيق الإسلامي لمبادئ الحداثة. ومبدأ الحداثة المقصود هنا هو مبدأ الشمول، الذي يشتمل على ركنين، "أحدهما التوسع المعنوي، وهو نفوذ الحداثة في كل مجالات الحياة البشرية نفوذاً يتقدم فيه اعتبار المصالح المعنوية والقيم الروحية على اعتبار المصالح الدنيوية والقيم المادية" (209)، أما "الركن الثاني، ويتخذ، في التطبيق الإسلامي، مظهر التعميم الوجودي، وهو امتداد آثار الحداثة إلى كل الموجودات في هذا العالم ـ بشرية كانت أو حيوانية أو طبيعية" 209 – 210).
والمواطنة هي أمثل ميدان يتجلى فيه التطبيق الإسلامي المنشود لمبدأ الشمول، فتتحول المواطنة طبقاً لركن التوسيع إلى "المؤاخاة". وفضلُ مفهوم المواطنة في الحداثة الإسلامية على نظيره في الحداثة الغربية أنه "يرتقي بالمواطنة من رتبة المواجدة في الوطن الواحد إلى رتبة المشاركة في الصلة الواحدة، أو في الاصطلاح رتبة المؤاخاة" (213)، و "المؤاخاة ... هي المواطنة وقد تأسست على القيم الأخلاقية التي تنزل أعلى الرتب" (213). والمؤاخاة لا تعبر عن جوهرها الصافي إلاّ في الأمّة. ومفهوم الأمّة أوسع كماً وكبفاً من مفهوم الجماعة الذي يدعو إليه "الجماعانيون" (217). وفضلُ الأمّة على غيرها أنّها "تمكّن من التحقق بالماهية الأخلاقية... [أي] تحقق الماهية الآدمية ذاتها" (227)، كما "أن الأمّة تزوّد بالقدرة على إبداع القيم؛ ذلك أنّ الأخلاقَ فيها ترتقي من رتبة الأوامر والنواهي التي تقهر الإرادة إلى رتبة المعاني الجمالية التي تملأ الوجدان" (228). والأساس العقائدي والواقعي الذي يسند الأمة هو الدين (أنظر هامش 22، ص 235).؛ أي الأمّة الإسلامية. إنّ عيب المواطنة، كما يرى المؤلف، أنها منفصلة عن الأخلاق، لأن "المواطنة جملة من الحقوق الفردية تحدِّدها نظرية في العدل تم وضعها خارج نطاق الأخلاق" (217)، وينعى الدكتور عبد الرحمن على هذا المفهوم الغربي أنه "فصل الأخلاق عن الحقوق القانونية والاجتماعية والسياسية" (217)، فغدت المواطنةُ "عبارة عن مصالح مادية وحظوظ فردية" (217). والسؤال أليس ذلك بحد ذاته هو الضامن لحق الاختلاف في المعتقد؟ أليس ذلك بحد ذاته ما يمنح الفرد حريته الفردية في اختيار معتقده الديني وممارسته في نطاق يسمح له وللآخرين أن يمارسوا ما يعتقدون فيه من دون تضارب، ولا وصاية، ولا تعارض، ولا تحريم، ولا حَجْر، ولا تكفير؟ أليست المواطنة المبنية على احترام فردية الفرد هي القادرة، كما نرى بالملموس، ومن دون نصل كيخوتي هش، على صيانة معتقدات الجميع ضمن وحدة منسجمة غير متصادمة؟ أليس مفهوم الأمة الذي يدعو إليه الدكتور طه عبد الرحمن سبيلاً أكيداً للقمع، وللاضطهاد، والوصاية، مادام يستند إلى حقيقته هو دون غيره، ومادام يرى أن كلّ ما عداه باطل، أو كفر، أو ارتداد؟ وهل كان الدين كما تجسد تاريخياً، وكما يمكن أن يكون في أي تجربة تاريخية، يسير حقاً، وصدقاُ وفعلاً على وفق أن ينظر المتخلق به "إلى العصاة بعين الرحمة لا بعين الإيذاء" (257) كما يقول الغزالي في النص الذي يستشهد به المؤلف. نعرف جيداً أن تراثنا الإسلامي لم يمضِ فعلاً على وفق هذا المبدأ، ونعرف أن جميع الأنظمة السياسية الدينية، أو حتى الجماعات السياسية في الشرق أو الغرب، حاضراً وماضياً، لم تهتد يوماً بهذا المبدأ، ولن تفعل. فإذا كانت الأمة تتكون من مؤمنين وعصاة (والعاصي ليس فقط المخالف في الدين، بل حتى المخالف في المذهب، أو الرأي) فكيف يضمن لنا السيد عبد الرحمن ألاّ تتحول هذه الأمة إلى جماعات، بالضبط كتلك الجماعات التي ينتقد مَفهمتها الحديثة. بل إنّ الأمّة كما يفهمها المؤلف هي في حقيقتها ليست أفضل حالاً من تلك الجماعات، لأنها هي أصلاً ستقودها جماعة تتميز عن غيرها بمعتقداتها، وتصوراتها. وكلُّ ما يقوله في نقده للجماعانيين ينطبق على مفهومه تماماً، فحيث يقول منتقداً الجماعانيين "إن الجماعة تركز على ظاهر الفوارق بينها وبين غيرها من الجماعات داخل المجتمع" (221)، وحيث يقول "إن الجماعة قد لا تكتفي بادعاء تميّز تاريخها وتراثها، بل تتجاوز ذلك إلى أن تبث في نفوس أفرادها تعلقاً بهما أشبه ما يكون بالولاء الأعمى" (221)، وحيث يقول "إن الأخلاق التي تأخذ بها الجماعة غالباً ما تتسم بسمة المحافظة، حرصاً منها على أن تكون لها أخلاق بعينها تميزها عن غيرها" (222)؛ حيث يقول ذلك كله، ألا يحق لنا نحن أيضاً أن نقول إن الأمة التي ينشدها المؤلف ستبدأ وسيكون مآلها (كما كان مآلها في السابق) نفس المآل الذي ينكره هو على غيرها. بل سيكون الأمر في حالته أقسى وأمرّ خصوصاً حين تكون الجماعة مبنية بناءً دينياً. لا نقول هذا اعتباطاً، ما عليه إلاّ أن يكلّف نفسه عناء النظر في تاريخ البشرية كله، وأن ينظر في الواقع من حوله. ولكنه لا يكترث بالواقع، لأن هذا الأخير مجرد "أمر عارض" على حد تعبيره. إنه يُعنى فقط، بالجانب الفلسفي الفكري، رغم أن أي حديث في الأخلاق، إنما هو أدخل في الفلسفة العملية كما يجب أن يعرف هو أكثر من غيره.
ليست الأخلاق فعالية منفصلة، أو مستقلة بذاتها، وليست القيمة الخلقية قيمة فعلية إلاّ من حيث تجسدها، وليس السلوك الأخلاقي إلاّ أن يكون منضفراً في كلية الحياة المتنوعة الوجوه والأبعاد. ومهما كان القول إن القيمة ينطوي عليها الفعل السلوكي جوهرياً، أم أنها تُضفى عليه، فإن الثابت في كلا الحالين أنها لا تظهر، ولا تُقيّم إلاّ من خلال تجسدها. وكلية المجتمع الإنساني خزين هائل من الأفعال الفردية، والجماعية، تحدث في زمان ومكان معينين. ومن يتصور أن السلوك يجسد القيمة المطلقة، فإنه لن يرى غير أفعال ناقصة حتى وإن كانت تحاكي تلك القيمة. وكلّ نقصان يكون كيفياً، ذلك أن القيمة لا كمّ لها. وعلى هذا النحو سوف يتلبس السلوك بكيفية أخرى خلاف كيفية القيمة المطلقة. إنّ الفارق بين السلوك الأخلاقي، الذي لابد من أنْ تسيّرَه قيمة خلقية ما، والإنسان الخيّر يأمل أن تكون هذه القيمة خيّرة، أقول إن الفارق بين هذا السلوك والقيمة المطلقة يعكس، من جهة أخرى، الفارق الجلي بين القرآن الكريم وقراءة القرآن، أو بين روح الحداثة الإسلامية كما يجسدها القرآن وواقع هذه الحداثة الذي تجسده القراءة (أو القراءات). ولا يغيبنّ عن البال أن الفارق هنا يستحيل، كما استحال تراثنا، إلى بنية أخرى لا تنسجم مع روح الأصل، أو المثال الأعلى، دع عنك أن يتطابق معه. يقول وينفريد فون بريدوف: "يبرر الناس عَبر الدين أخوّتهم وتضامنهم، كما يبررون عدوانيتهم وخيالات القتل التي تراودهم. فاللغات الرمزية الدينية مزدوجة الدلالات بشكل يثير الروع" (عن المصدر السابق نفسه، 81)، وهذه الجملة تكرر الجملة التي اشتهرت في تراثنا الإسلامي: "إن القرآن حمّال أوجه".
لا أظن أن أحداً يخطّئ المبادئ الأخلاقية التي يعرضها الدكتور طه عبد الرحمن، ولكن هذا شيء، وتحوّل هذه المبادئ إلى واقع الحياة شيء مختلف جوهرياً، ويزداد الاختلاف حدةً، حين يتوقع المؤلف أن تصبح هذه المبادئ دستور حياة أمّة. فضلاً بالطبع عن أن الطابع النسبي سيظل يخترم حتماً كلَّ فهم لهذه المبادئ. الجميع يدعو إلى الخير، ولكن الخير يتعدد بتعدد الجميع، والجميع يدعو إلى العدالة، والعدالة تتعدد بتعدد الجميع، وعلى هذا القياس بوسعك أن تزيد ما تشاء!
هل نحن إذن نفضّل الفوضى الخلقية، وتعميم فكرة أن لا معيار خلقياً يميز بين هذا الفعل وذاك؟ أبداً. رغم أن تسويغ ذلك ليس بالأمر السهل. لبّ الفكرة هي أن البشرية، وإن لم تجسد ذلك فعلياً، تشيع في وقتها الحاضر مفاهيم التعدد، والتنوع، والدفاع عن الحقوق المدنية والإنسانية، وهي بالتأكيد مفاهيم لا تتعارض مع مبادئ الدكتور طه عبد الرحمن، ولكنها تضع الخصوصية الثقافية، والنسبية الحضارية، والتنوع القيمي الذي يلازم ضرورةً تنوع المعتقدات، والأديان، والمذاهب؛ تضعها في صلبِ القيم الأخلاقية. إذ يبدو، بمقتضى الخبرة التاريخية البشرية المريرة، ومجتمعاتنا الإسلامية نالت حصتها من هذه المرارة، أن المقولات الكلية إقصائية، ونابذة، وبالتالي قاتلة. ففي واقعنا العربي ليس ثمة تراث واحد، ذو هوية واحدة متماسكة، إنما هناك تراثات متنوعة. وليس غير التعسف الذي نمارسه فكرياً، ومادياً، ما يدفعنا إلى هذا المحو والطمس. ثمة أديان عديدة (هذا إن حصرنا التراث في جانبه الديني) تحمل تصورات، وأفكاراً، ومعتقدات مختلفة بالطبع، وهي لا شك يجب أن تُحترم، ولكن بالتأكيد ليس على الطريقة التقليدية، إنما على طريقة المواطنة. والإسلام نفسه خلّف تراثات متنوعة حتى بين تلك التي تنتمي إليه فقهياً، فضلاً بالطبع عن تلك التي تنتمي إليه حضارياً وإنسانياً.
لا يخفى على السيد عبد الرحمن أن لا تراث خالصاً نقياً مادام التراث مقوماً للفهم، بنفس الدرجة التي يعتمد فيها على الفهم. وهذا الأخير، الفهم، يتكون بوعي وبلا وعي من عناصر عديدة ذات مشارب مختلفة هي في جزء كبير منها ليست محلية. والتراث مفهوماً على هذا النحو ملك للبشرية جمعاء.
لم تنبن الحضارة العربية الإسلامية على أساس قيم خلقية فقط، ولم تتسع، وتمتد في جهات المعمورة إلاً بفضل الإحساس، والانتماء إلى هوية جديدة، صاغها الإسلام بمقابل هويات الحضارات القائمة آنذاك. فتبلورت مفهوماً وواقعاً، وتكون إنسان جديد يسمى المُسلم. وفي جدل حركته المحلية، مكنته قدرته على صياغة وجوده الجديد من التوسع خارج حدود محليته. فالإسلام ليس قومياً. إنه حركة عالمية. ولكن حركته التاريخية تبين لنا أن توسعه هذا، المحلي وخارج المحلي، وسع في الوقت نفسه من عناصر هويته ذاتها، وتلونت بألوان عديدة ومتنوعة، وقلب كذلك قيمه الأصلية. ولو دققنا النظر جيداً، نجد أن جميع القيم التي بدأ بها تحولت إلى مثالات تُحاكى، ولم تعد معايير فعليةً يُعمل بها. إن للتوسع شرائطه المادية، وكل حركة من هذا النوع لابد لها من أن تتلبس براهنية اللحظة التاريخية النسبية، وكذا الأمر مع قيمه الخلقية. فتأسيس الكيانات السياسية الواسعة، بل تأسيس الكيان السياسي نفسه، لا يسير أبداً على وفق القيم الخلقية الثابتة والكلية. إن الكلّي الذي يحرك كل توسع من هذا القبيل هو السلطان، والهيمنة؛ أي الهيمنة المادية بصورها كافة. لا قيم أخلاقية ثابتة لكل حركة تاريخية، القيمة الوحيدة هي الهيمنة. وإن اتخذت هذه الأخيرة أشكالاً تختلف باختلاق القوى المحركة عبر التاريخ، وعبر تاريخها هي نفسها. فالأمة التي ينشدها الدكتور طه عبد الرحمن خائضة لا محالة في الدرب نفسه. وفي هذا الدرب ستشحب القيم الكلية التي يرسمها لها كمقدمات لهويتها المميزة. هل هذا درسٌ نتعلمه من التاريخ؟ إنه لكذلك فعلاً. وإنه أيضاً لَقانونٌ كليّ لمْ نشهد له من قبل تعديلاً ولا تبديلا.



#علي_حاكم_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- مصدردبلوماسي إسرائيلي: أين بايدن؟ لماذا هو هادئ بينما من ال ...
- هاشتاغ -الغرب يدعم الشذوذ- يتصدر منصة -إكس- في العراق بعد بي ...
- رواية -قناع بلون السماء- لأسير فلسطيني تفوز بالجائزة العالمي ...
- رواية لسجين فلسطيني لدى إسرائيل تفوز بجائزة -بوكر- العربية
- الدوري الألماني: هبوط دارمشتات وشبح الهبوط يلاحق كولن وماينز ...
- الشرطة الأمريكية تعتقل المرشحة الرئاسية جيل ستاين في احتجاجا ...
- البيت الأبيض يكشف موقف بايدن من الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين ف ...
- السياسيون الفرنسيون ينتقدون تصريحات ماكرون حول استخدام الأسل ...
- هل ينجح نتنياهو بمنع صدور مذكرة للجنائية الدولية باعتقاله؟
- أنقرة: روسيا أنقذت تركيا من أزمة الطاقة التي عصفت بالغرب


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - علي حاكم صالح - حداثة جديدة بحدود أخلاقية كلية - ملاحظات حول كتاب -روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية