عصا م بن الشيخ ISSAM BENCHEIKH
الحوار المتمدن-العدد: 8527 - 2025 / 11 / 15 - 12:13
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
هل تعني التعدديّة القطبيّة هزيمة الهيمنة؟: مقتضيات تكيّف الجزائر مع تحوّلات النظام الدوليّ الجديد
***********************************************************************
أد/ عصام بن الشيخ - كاتب من الجزائر
يراقب الجزائريّون تحوّلات السياسة الخارجيّة الأمريكيّة بعد وصول الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب إلى سدّ الحكم في واشنطن، يتقدّم تيّار (ماغا – MAGA) الفريق القياديّ الجديد في الحزب الجمهوري الحاكم بنموذج مختلف من السلام، يطلق عليه مصطلح: "السلام بالقوة Peace Through Strength"، والذي يروّج له مساعدو ترامب (ستيف ويتكوف Steve Witkoff، توم برراكTom Barrack، مسعد بولس Musaad Boulos، مارك سافايا Mark Savaya وآخرون)، يقدّم مبعوثو واشنطن إلى منطقة مينا MENA (الشرق الأوسط وسلام إفريقيا)، مبادرات سياسية نوعيّة لحسم: (مواجهة جيش الدفاع الإسرائيلي في حرب غزة ضدّ حركة حماس وحرب لبنان ضدّ حزب الله، التفاهمات السورية الجديدة بعد تغيّر النظام السياسيّ في دمشق، حرب الصحراء الغربية بين جبهة البوليساريو والجيش الملكي المغربي، ومبعوث ترامب للفرقاء الطائفيين العراقيين). يتضمّن خطاب السلام الأمريكيّ الجديد احتمالين للتعامل مع العروض الأمريكية للسلام: (اختيار الدول بين التبعية أو المواجهة) Every nation must choose between: Subordination´-or-Confrontation. وفي الوقت الذي تنحاز فيه عدّة دول للسلام الأمريكيّ الجديد للاستفادة من امتيازاته، فإنّ الرافضين لهذا النموذج (البارادايم Paradigme)، لن يكونوا على خلاف وتوتّر مع واشنطن فقط، بل سيصبحون في مواجهة مع كل من ينخرط في حملات مناهضة الرافضين للهيمنة الأمريكية، الذين يروّجون أنّ امتيازات السلام ستكون حصرا على أنصار واشنطن، دون غيرهم!.
كانت عضوية الجزائر في مجلس الأمن خلال سنتين (2023 – 2025)، علامة تاريخية فارقة في دفاع عضو غير دائم في مجلس الأمن، عمّا يسمى "النظام الدولي المبني على القواعد / Rules-based International Order"، وسجّلت الخارجيّة الجزائريّة ذاكرة مؤسسيّة أمميّة ووطنية في الدفاع عن القضايا العادلة التي توثّقها مرافعات الدبلوماسيين الجزائريين في كل المنابر الأممية (مجلس الأمن، الجمعية العامة للأمم المتحدة، اللجان الأممية لتصفية الاستعمار، المجلس الأممي لحقوق الإنسان، وغيرها). فما الذي تعنيه إشارات الباحث الأمريكيّ جيف بورتر بأنّ الجزائر (لا تجامل، لا تطارد الاتجاهات، ولا تمارس اللوبيينغ). ويتفق معه الباحث الفرنسي برتراند بديع في توصيفه للدبلوماسية الجزائرية بأنّها: "دبلوماسية احتجاج في عصر الميغا-إهانة". لكن، ورغم اتفاق المجتمع الدوليّ على أنّ الجزائر دولة حسنة النية Good-Natured State كما يصفها بديع، إلاّ أنّ نظريات تحول النظام الدوليّ الجديد تجعل الجزائر – كغيرها من دول العالم-، في مواجهة تحول عاصف، يصفه الباحث الفرنسيّ بيار هيلار Pierre Hillard في كتابه: "الزحف الحتميّ للنظام الدولي الجديد La Marche Irrésistable du Nouvel Ordre Mondial" بأنّه تحوّل لا يقاوم. ويتفق هيلار مع المؤرّخ والأنثروبولوجيّ وباحث الديمغرافيا الفرنسيّ إيمانويل تود -Emmmanuel Todd الذي أصدر كتابه الأخير (هزيمة الغرب The Defeat of The West - La Défaite de L Occident) عام 2024، وهو الذي تنبأ بالخريف الشيوعي الأخير وانهيار الاتحاد السوفياتي السابق في كتابه (السقوط الأخير La Chute Finale) الصادر عام 1976. وسبقه الفيلسوف الألماني اسوالد شبنغلر (1880- 1936) صاحب كتاب (انحدار الغرب Der Untergang des Abendlandes) الصادر عام 1918، والذي يعترف شبنغر أنّه تأكيد لنظرية العلامة المسلم عبد الرحمان إبن خلدون (1332 – 1406)، حول نظرية الدولة. وهناك دراسات تقول أن عام 2040 هو نهاية هذا المخاض العسير الذي نعيشه اليوم، بعد توضّح جميع معالم النظام الدولي الرابع (الجديد).
أولا: النهج الأمريكيّ لتأطير التعددية القطبية
الثقة الصفرية Zero Trust ومنطق المنافسة الشاملة Logic of Pervasive Competition
يحاول أنصار واشنطن ترسيخ صورة خصوم الهيمنة الأمريكية بأنّهم فاعلون همجيّون غير قادرين على الاستفادة من امتيازات مظلّة السلام الأمريكيّ، وينصبون الأفخاخ بشكل مقصود لأعدائهم من خلال تصميم حملات ضغط دبلوماسيّ وإعلاميّ مكثّف، وتصف في خطاباتها رافضي خيار "السلام بالقوة" بأّنهم (لا يستطيعون قراءة الإشارات)، ومتخلّفون عن الركب!، بل ويحثونهم على الانجراف نحو الوضوح الوقائي The Preventive Clarity، لمواجهة التصعيد (التهديد الأمريكيّ).
يؤسّس هذا الحكم الاستعجاليّ لوضع الغموض الاستراتيجيّ المهدّد للسيادة، والذي يصف مناوئي إدارة الرئيس ترامب، بدول البيئات (المعطّلة Disrupted، الممنوعة Denied، المتقطّعة Intermitted)، ويهدّدها بالتصنيف في خانة (المشكلة العسكرية). رغم أنّ القراءات المقاومة تؤكّد أنّ هنالك وضعية واضحة لما يسمى "اليأس الاستراتيجي" لإمبراطورية مرهقة ومتداعية، تحاكي انتهاء الامبراطوريتين البريطانية والسوفييتية، بسبب المؤشرات التالية: (عقد اجتماعي يرثى له، شيخوخة سكانية وعمالة مضطربة، وقاعدة صناعية مجوّفة). فرغم أنّ هنالك من يسعى لتصوير هذه القراءة بأنّها يسارية، غير أنّ أصحابها أمثال الباحث جيف ريتش Jeff Rich والباحثة نيل بونيلا Nel Bonilla، تلقى رواجا عالميا كبيرا في أوساط الأكاديميين الموضوعيين اليوم، لأنذها تصف الإمبراطورية الأمريكيّة بأنّها (هيمنة متراجعة) تتبع استراتيجيات مستحيلة. وتقدّم حكما قاسيا بأنّها "نمر ورقيّ" تآكلت أسسه المادية، وبحث عن أسس ماديّة جديدة.
يروّج أنصار ترامب أنّ الخطة الأمريكية للسلام بالقوة، هي أنسب طرق تأطير التعددية القطبية Framing The Multipolarity، التي تحوّلت إلى منطقة رماديّة Gray Zone، تصنّف كلّ لاعب مستقل بوصفه "هدفا مشروعا"، وتحوّل العالم بأسره إلى (ساحة معركة). تأمل الولايات المتحدة الأمريكية حسب راتش وبونيا إلى أن بلوغ لحظة "البجعة السوداء" والتي تعني بلوغ هدف (اختراق تكنولوجيّ أو فوز استراتيجيّ مفاجئ أو الوصول على موارد هائلة من خلال تغيير النظام، أو تحقيق قفزة في قدرات الحرب المعرفيّة..، حتى تستعيد الولايات المتحدة هيمنتها المستحقة).
تقول نيل بونيا أنّ في واشنطن نخبا أقنعت نفسها بأنّ التعددية القطبية تساوي الهزيمة والتهديد الوجودي، وأنّها ترفض بحجة بلوغ لحظة اللاقطبية Apolarity. لطالما ردّد الأمريكيّون مبدأ: (لا تثق أبدا، تحقّق دائما) "Never Trust, Always Verify"، لمواجهة احتمالات تسارع لحظات الصدام الكبير مع القوى المنافسة مثل روسيا والصين.
يزيد "الغموض الاستراتيجي" لخطط (السلام الأمريكيّ بالقوة)، من تعزيز معضلة (الثقة الصفرية Zero Trust) التي تجعل خيارات الدول الضعيفة والقوى المتوسطة في مخاض عسير قبل الاصطفاف النهائي. فلقد أصدر مركز لاهاي للدراسات الاستراتيجية تقريره لعام 2023 بعنوان: (كسر الأنماط Breaking Patterns)، والذي يشجّع الدول للاستفادة من فرص السلام الأمريكي مثل اتفاقات أبراهام للتطبيع في منطقة الشرق الأوسط. وترى نيل بونيلا أنّ حالة عدم اليقين تقود الغرب إلى الجنون: (فكلّما زادت عسكرة الأمريكيين للحرب، ازداد ردّ منافسيه بالمثل. وكلّما تصاعد عدد المنافسين المتكيّفين، ازداد منسوب التصعيد العسكريّ الأمريكيّ).
تفيد الخطط الأمريكية للسلام بالقوة في العقيدة الترمبية الجديدة، في تجنيب القوات الأمريكية احتمالات التعرض لهزيمة أو تلقّي هجمات مفاجئة، ففي ساحة المعركة المستقبلية يصبح التطويق هو القاعدة في حال بقاء القوات في مكان واحد لأكثر من 3 ساعات. لذلك، ستؤسس واشنطن إمبراطورية القواعد العسكرية النقطيّة The Pointillist Empire of Bases لحماية المدن الكبرى Metropoles من مختلف التهديدات الكبرى.
ثانيا: أسباب تغيّر العقائد العسكرية الأمريكية بعد الحرب الأوكرانية:
كيف نفهم كجزائريين المواجهة الأمريكية لـ: "أوهام القيادة":
تمرّ السياسة الاستراتيجية الأمريكيّة بتحوّل عسكريّ كبير في إطار الشبكة الموحدة للجيش الأمريكيّ 2.0 The US Army s Unified Network Plan (AUNP)، الذي ينقل العقيدة العسكرية الأمريكية من الحروب الإقليمية العرضيّة المتقطّعة إلى نقاط الاتصال المترابطة للصراع الكوكبي والحروب العابرة للحدود (from EpisodicWarfare to Transregional Wars)، وهو مسار مختلف A Different Trajectory، يعتمد على نقاط اتصال مترابطة Interconnected Nodes تضمن التدخلات العسكرية المنفصلة والمشاركة الدفاعية المستمرة والمتزامنة للقوات الأمريكية. وقد تمّ ترسيم هذا النهج العملياتي العسكري الجديد بعد دروس الحروب الأخيرة، خاصة الحرب البرية تيليروكراسي، والتي أعادت الأهمية للحروب البحري تالاسوكراسي، وبقوة أكبر.
حدّد الأمريكيّون بعد الحرب الأوكرانية (فبراير 2022) تشخيصا حاسما للتهديدات الكبرى Meta-Threats، وقد قامت الباحثة نيل بونيا بتحديد معالم العقيدة الأمريكية الجديدة لما تسميه "إمبراطورية القواعد العسكرية The Pointillist Empire of Bases" للردّ على عالم مشغول بإعادة رسم الخرائط A World Busy Returning The Maps، والتي تلخصها في ما يسمى الحرب الفسيفسائية The Mosaic Warfare، ولخّصت مبادئها في مضامين كتيب الجيش الأمريكيTRADOC 525-3-1 حول مفهوم جديد يدعى: "العمليات متعددة المجالات Multi- Domain Operations"، الذي يؤكّد التحوّلات التالية:
1ــ انتهاء زمن الهيمنة الجويّة الأمريكية Aerocracy بعد ظهور حروب الدرونات، وحتمية تجنّب المبالغة في استخدام الحرب البرية تيليروكراسي Tellirocracy بسبب قطع خطوط الإمداد اللوجيستيكي Cuttign The Supply Lines، وضورة العودة إلى نمط الحرب البحرية تالاسوكراسي Tallasocracy، والقيادة اللامركزية Decentralized Command.
2ــ حتمية الاستخدام المكثّف لعمل الخلايا المتفرّقة The Autonomous Cells، واستخدام التشويش الإلكتروني The Electronic Jammers، واعتبار الأنظمة المأهولة وغير المأهولة في المنصات المجمعة آنياThe Disposable Platforms of Maned and Unmanned Systems Assebled in Real Time، باعتبارها من المزايا العابرة Fleeting Advantages.
3ــ أهمية تسليح الوقت Weponizing Time وإتقان الزمن والأقاليم Mastering Time and Territories، لهندسة نظام الاشتباك الكوكبي للتصميمات المتعددةThe Planetary System Operates Through Multipal Deseigns، التي ستجنّب الأمريكيين ظاهرة تحوّل القواعد العسكريّة الثابتة إلى فخاخ قاتلة (Static Bases can becom Death Traps).
تكتب الباحثة نيل بونيلا عن هذه المبادئ لتكشف عبر علم النفس السياسي، حالة الشعور الأمريكيّ بنفاذ الوقت، خصوصا وأنّ الغرب يواجه ظواهر: (تأسيس بنوك تنمية ذات معايير منفصلة، تأسيس الصين بناء هياكل مالية بديلة خارج السيطرة الغربية، تأميم أصحاب الموارد النادرة لثرواتهم مثل أزمة الليثيوم، خلق ممرّات طاقة Energy Corridors تتجاوز الممرّات البحريّة المفضّلة Pass-favored Hubs التي يسيطر عليها الغرب، وظهور أنظمة دفع تتجاهل الدولار Payment Systems ignore the Dollar). وواجهت الباحثة بونيلا رسالة رئيس قسم الاستشراف الاستراتيجي في حلف الناتو فلورنس غوب Florence Gaub اذي تمّ نشره في فيديو برنامج "تحويل قيادة الحلفاء لحلف الناتو /The NATO s Command Transformation"، والذي تصفه بأنّه مزيج من الإلحاح والإصرار الأمريكيّ على القتال، وهي لغة ردع تراهن على حروب قصيرة للسيطرة الشاملة، لإدارة صراعات شديدة الحدّة High-Intensity Conflict.
ويتقبّل الأمريكيون الوصف الناقد لما يدعى (حروب أمريكا الأبديّة America s Forever Wars) التي انتهت غالبا بالإذلال، وآخرها رحيل القوات الأمريكية من أفغانستان، حيث طردت القوات الأمريكية من كلّ القارات كما وصفها الباحث الأمريكي مايكل هودسون Michael Hudson. لذلك، ضغط فريق الرئيس ترامب لإقناع حركة طالبان لتوقيع اتفاق عسكريّ جديد يتيح للقوات الأمريكية الوصول إلى استخدام قادة باغرام الأفغانية، وتصحيح أخطاء إدارة بايدن. كما يشكّل الاتفاق العسكريّ القطريّ الأمريكيّ لإنشاء قاعدة عسكرية جوية نهاية هذا العام 2025، نموذجا تفسيريا واضحا عن ما يسمى الامتيازات العابرة لعدم الثباتThe Impermanence باعتبارها مفتاحا للبقاء Survival وتجنب التفكك Lethality.
بالنسبة للأمريكان والغرب، يمثل هذا النسق نهج واشنطن الخفيّ، لكن بالنسبة للمجتمع الدولي، هنالك تشكيك ورفض كبير لخطاب الرئيس الأمريكيّ تجاه عدة قضايا خلافية تشكّل مساسا خطيرا بسيادة الدول.
ثالثا: هواجس هيئة الأمم المتحدة:
تأسيس اتحاد كونستورتيوم الأمانة العامة:
استدارت هيئة الأمم المتحدة لاعتماد ما يُعرف بـاتحاد الكونستورتيوم Constortium، وهو نموذج تعاون متعدد الأطراف يجمع بين (الحكومات، ومراكز الأبحاث، والذكاء الاصطناعي، والمجتمع المدني)، لصياغة مستقبلٍ مشترك يقوم على التشارك المعرفي والحوكمة الشفافة. وقد تعزّز هذا التوجّه الأممي مع المبادرة التي أطلقها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في (سبتمبر 2021) من خلال الوثيقة الرائدة أجندتنا المشتركة Our Common Agenda التي دعا فيها إلى تطوير آليات تفكير مستقبلي مؤسسي داخل منظومة الأمم المتحدة.
ومن أبرز ما تضمنته الوثيقة، اقتراح إنشاء مخبر للمستقبل UN Futures Lab والذي تمّ تأسيسه سنة 2023 كمؤسسة تنفيذية داخل سكرتارية الأمين العام للأمم المتحدة، بهدف تنسيق الجهود العالمية في مجال الاستشراف، وتحليل الاتجاهات الكبرى، وتطوير أدوات التنبؤ بالتحولات الدولية. وقد نظم هذا المخبر في (23 و24 سبتمبر 2024) مؤتمرًا دوليًا رفيع المستوى شاركت فيه (الدول الأعضاء، وشركاء من القطاعين العام والخاص، والذكاء الاصطناعي، والمجتمع المدني)، وأسفر عن صدور الوثيقة التاريخية ميثاق المستقبل Pact for the Future الموجهة إلى الأجيال المقبلة، والتي أرست الإطار المرجعي الجديد للفكر المستقبلي الأممي، وجعلت من الاستشراف والتعاون التكنولوجي العالمي حجر الزاوية في صياغة السياسات الدولية للقرن الحادي والعشرين.
يمكن تصنيف تهديد واشنطن بموت النظام التجاريّ الدوليّ البني على القواعد أحد أهمّ هواجس كونستورتيوم الأمانة العامة للأمم المتحدة، بسبب الطبيعة الميكافيلية والهوبزية للمركانتيلية الأمريكية. حيث تعتبر الحرب الترامبيّة التجارية الجديدة من أعقد القضايا التي يفرضها فريق الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب، ويخشى المجتمع الدوليّ أنّ تتحوّل إلى سبب لاندلاع حروب عسكريّة تعيد تبرير استعمار الدول ونهب موارد شعوبها. ويسجّل الباحث الأمريكيّ مايكل فرومان أنّ معظم هذه الرسوم الجمركية الأمريكية الجديدة يتجاهل الاتفاقيات التجارية السابقة، ولا يراعي الخسائر المرافقة لتكفيك التكاليف والمقايضات التجارية القديمة، وإذا واصلت واشنطن مسارها الأحاديّ للصفقاتية الميركانتيلية (التجاريّة)، ستكون النتائج قاتمة، خاصة وأنّ بكين ستردّ بالمثل، عبر سياسات التصدير المفترسة، والإكراه الاقتصادي. وهو ما سيؤدي إلى تزايد حالة عدم اليقين، وتراجع الإنتاجية، وانخفاض النمو بشكل عام.
كما يظهر معطى آخر في السياسة الترامبية، هو تبرير الاستخدام المكثّف للحجج الدينية في السياسة الخارجية للدول، وقد نشرت المجلة الكنسيّة الأسبوعيّة (le pèlerin/ الحاج)، في عددها 7443 الصادر في (جويلية/ يوليو 2025)، قراءة عن استخدام الدين في الخطاب السياسي الدولي، كان العدد بعنوان: (إسرائيل وروسيا وإيران والولايات المتحدة: هذه الحروب التي تستخدم الله / Israel, Russie, Iran, Etats-Unis ces Guerres qui utilisent DIEU) (2) ، يتحدث فيه الصحفيان مارك اينوسو Mark Ionesco وكارولين سال Caroline Celle عن مسألة عودة الدين إلى الواجهة السياسية والعسكرية، حيث لم يعد مجرد ممارسة شخصية أو طقس روحي، بل أصبح شعارًا سياسيًا يُرفع في ساحات الصراع، مثل مسيرات يوم القدس في إسرائيل، أو المظاهرات الدولية والعالمية المضادة التي تندّد بحرب الإبادة في قطاع غزّة. كما أنّ وزير الخارجية الأمريكيّ ماركو روبيو ظهر علنًا وعلى جبهته "رماد الأربعاء" إشارةً إلى الطقس الكاثوليكي.
تقول مجلة الحاج أنّ البابا الراحل فرنسيس وصف ما حدث في أوكرانيا وقطاع غزة بأنّه (حرب عالمية مجزأة)، حيث يستدعي كل طرف الله للدفاع عن (أرضه، شهدائه، هويته، حضارته). لذلك أورد صاحبا المقال مقولة لأسامة بن لادن مخاطبا الغرب: "من أجل ماذا أنتم مستعدون للموت؟"، ويعتبرونه اعتقادا راسخا لدى المحاربين بأنّ هنالك خطرا وجويا يستدعي ضرورة انخراط الربّ في القتال، واستعمال الله كمبرر لاستخدام القنابل.
اعتبر البابا فرنسيس أن مبدأ الحرب العادلة الذي اعتمدته الكنيسة لتقييم أخلاقيات الحرب قد عفا عليه الزمن: "من الصعب جدًا الدفاع عن المعايير العقلانية، التي نضجت في عصور سابقة، للحديث عن إمكانية "حرب عادلة".(3)
لم يغب الدين أبدًا عن الحرب منذ الحرب العالمية الأولى، التي شهدت مباركة رجال الدين للجنود والمدافع، بدء بالرئيس السوفياتي جوزف ستالين عام 1941، والذي استبدل لغة الشيوعية بخطاب "الأخوة والأخوات" لحشد مقاومة دينية-وطنية، إلاّ أنّ الدين تحوّل منذ مطلع الألفية الثالثة من مجرد دعم معنوي إلى أداة سياسية مباشرة في تبرير العنف والشرعية، خاصة بعد المنعطف التاريخي للثورة الإيرانية عام 1979، ثم الجهاد الأفغاني ضد الاتحاد السوفييتي، والذي أبرز قوة الخطاب الديني في الحرب داخل العالم الإسلاميّ، ثم أحداث (11 سبتمبر/أيلول 2001) والتي استخدمها الرئيس الأمريكيّ جورج دابليو بوش كدافع للصراع بين الحضارات.
والآن نعيش وضعا عالميا شبيها بأحداث (11/09/2001) بعد الغزو الروسي لأوكرانيا (مارس 2022)، واندلاع الحرب بعد طوفان الأقصى (07 أكتوبر 2023)، في أوكرانيا، قدّمت روسيا نفسها كـ "روما الثالثة" الحامية للقيم الأرثوذكسية، وردّت أوكرانيا بكنيسة مستقلة منذ 2019 كرمز للمقاومة والهوية الوطنية. وفي إسرائيل بعد (07 أكتوبر 2023)، تزايد حضور الخطاب الديني في السياسة والحرب ضد غزة وإيران.
بعد حرب 1967 واحتلال القدس الشرقية والضفة الغربية، برز تيار صهيوني ديني يرى أن السيطرة على الأراضي العربية (فلسطين، مصر، سوريا، الأردن، لبنان)، هو (مهمة إلهية) لأنّها "يهودا والسامرة" في النصوص التوراتية. كما أنّ فشل مفاوضات السلام والانتفاضة الثانية في بداية الألفية عزز لدى هؤلاء اعتقادًا أن السلام مع الفلسطينيين مستحيل. وبلغ هذا التحالف ذروته في عهد دونالد ترامب، الذي يعتمد على خطاب سياسي أمريكي يتشبع بالرموز الدينية، خاصة بعد اعتراف واشنطن بالقدس عاصمة لإسرائيل (2017)، فلم يعد الدين مجرد رمز مرافق للحرب، بل أصبح سببًا جوهريًا لدخول الصراع.
رابعا: حول جدوى استمرار الدور التقليدي للسياسة الخارجية الجزائرية في المسرح الدوليّ:
هل يجب على الجزائر أن تتكيّف مع الفرص الأمريكيّة المعروضة؟
تؤكّد الأبحاث الدولية المعاصرة أنّ مصطلح "تحوّل/ Transformation" يقدّم فرصا عمليّة للتعاون الدولي وفق قانون الحتمية التاريخية law of historical inevitability Determisnism، ليتجاوز صعوبات رفض الكثير من الدول الكبرى والصغرى لمبادرتي "الإصلاح/ Reform" و"التغيير/ Change"، فهل يمكن للدولة الجزائرية قبول تحولات النظام الدولي باعتبار سياسة دونالد ترامب مشروعا من الفرص المنافسة للمشروعات الروسية والصينية المغرية أيضا. فهل ستكون هنالك عملية مفاوضة لاختيار فرص هذه المشروعات؟.
نشر جيف بورتر Geoff D. Porter أستاذ العلوم السياسية بجامعة فوردهام Fordham University ورئيس "شركة شمال إفريقيا لاستشارات المخاطر/ North Africa Risk Consulting" دراسة هامة عن السياسة الخارجية الجزائرية، ومن بين ما كشفت عنه مقالته، المبادئ التالية:
ــ الجزائر لا تطارد الاتجاهات، ولا تجامل، ولا تمارس اللوبينغ. يقصد جيف بورتر أنّ الجزائر تنطلق في دبلوماسيتها من نقاء الثورة الجزائرية ونقاء الثوار(4)، الجزائر دولة تحترم مبادئ حق الشعوب في تقرير مصيرها، لديها يقين بأنّ الشعوب التي حرمت من حقّ تقرير مصيرها ومن حقّ العيش على أرضها والتمتّع بسيادتها، ستنال استقلالها طال الزمن أو قصر Sooner´-or-Later، وأنّ الحقيقة ستسود في نهاية المطاف. لذلك، لا داعي لكي تستأجر الجزائر جماعات الضغط والمصلحة للدفاع عن صورتها التي تعتبر نقية، وهي ليست بحاجة إلى تنظيفها بالأساس، قائلا: (الجزائر ليست بحاجة لمن يحمل ماءها)، لذلك، لن تطارد الجزائر الاتجاهات ولن تجامل أحدا.
يلخصّ بورتر مبادئ السياسة الخارجية الجزائرية في النقاط المختصرة التالية كما يراها جيف بورتر، بأنّ الجزائر تفضّل العمل الدبلوماسيّ الشفّاف وفق مبادئ:
أــ الحقيقة دون افتراء .Truth without slander
ب ــ السيادة دون خضوع .Sovereignty without submission
ج ــ الصداقة دون تواطؤ Friendship without collusion.
د ــ الولاء دون ضغط Loyalty without pressure.
تبنّت الجزائر سياسة خارجية ترتكز على مبدأ الحياد وعدم الانحياز منذ استقلالها عام 1962، وتسعى لتجنب استقطاب أيّ من القوى العالمية الكبرى. وتلتزم الجزائر باستقلالية القرار، مما يجعلها لاعبًا دبلوماسيًا يسعى لإيجاد حلول سياسية بدلًا من الانخراط في المحاور الإقليمية أو الدولية. ويميل الباحث برتراند بديع لتسميتها "دبلوماسية الاحتجاج والاعتراض" في كتابه "زمن المذلولين".(5)
تعترف موسكو أنّ الجزائر مستقلة في قراراتها السيادية، لكنّها بقيت وفية لعلاقات الصداقة والتعاون المبادئي الذي كان بينها وبين موسكو لأكثر من 60 عاما، لذلك أقدمت موسكو على مسح الديون الجزائرية التي تجاوزت 04 مليار دولار من ديون العتاد العسكري الذي يعود للعهد السوفياتي.(6)
ولا تقلّ الصين قدرة على تطوير علاقاتها الإستراتيجية مع الدول الإفريقية وعلى رأسها الجزائر، خاصة بعد أن أقّرت بيجين عام 1993 مبدأها "سياسة الخروج Going out" ونجم عنها إعلان "العشرين سنة المجيدة للصين في إفريقيا" والتي وصلت عام 2004 إلى إعلان بيجين تفوقها التجاريّ في إفريقيا على ألمانيا وعام 2005 على إيطاليا، وتفوقها على الولايات المتحدة الأمريكية عام 2009.(7)
فهل تعتبر الجزائر في وضع اخيار حرّ للحياد الإيجابيّ، أم أنّه هذه القوى ستمارس الإكراه الاقتصاديّ للترويج إلى فرص مشروعاتها.
تصدر الدراسات الدوليّة جردا دوليّا للخامات المعدنيّة، وتقع الجزائر في القائمة القصيرة لدول العشر الأكثر امتلاكا لمواقع احتياطيات اذهب والحديد واليورانيوم، وحسب جغرافيا توريد الخامات فإنّ التقديرات الأمريكية والصينية تؤكّد إمكانية تحوّل الجزائر إلى مستقطب للمشروعات العملاقة Mega Projects، ويمكن استغلال هذه الفرص لتعزيز موقف الجزائريين في سياساتهم الخارجيّة.(8)
****************************
الهوامش والمراجع:
(*)ــ أستاذ التعليم العالي، كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة قاصدي مرباح ورقلة الجزائر:
≤[email protected]≥
ــ(1) Michael B. G. Froman, "After the Trade War: Remaking Rules From the Ruins of the Rules-Based System", Foreign Policy, (September/ October 2025)، p-p. 60- 98.
(2) – Mark Ionesco, Caroline Celle, "Dieu Enrôlé sur le Camp de la Bataille", dans: Israël, Russie, Iran, Etats-Unis: Ces Guerres qui Utilisent DIEU, Le Pèlerin Bayard, N. 7443, (Juillet 2025), p-p. 18 – 21.
(3) – Christophe Chaland, "Interview: Le Christianisme a Les Moyens de Donner du Sene", dans: Israël, Russie, Iran, Etats-Unis: Ces Guerres qui Utilisent DIEU, Le Pèlerin Bayard, N. 7443, (Juillet 2025), p-p. 22 - 23.
(4)ــ Geoff D. Porter, "NARCO ANALYSIS: Algeria s Foreign Policy Five Pillars," North Africa Risk Center, (June 26, 2023), Stable URL:
((5ـ أنظر: برتراند بديع، زمن المذلولين: باثولوجيا العلاقات الدولية (ترجمة: جان ماجد جبور) (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015).
(6)ــ عصام بن الشيخ، "السياسة الروسية تجاه إفريقيا: العلاقات الجزائرية الروسية أنموذجا (1992 – 2022)، مجلة العلوم القانونية والسياسية، العدد: 01، المجلد: 14، (أفريل 2023)، ص-ص. 162 – 189، جامعة حمّة لخضر الوادي الجزائر، الرابط الإلكتروني:
(7)ــ عصام بن الشيخ، "السياسة الإفريقيّة للصين في القرن 21: دراسة حالة العلاقات الجزائريّة-الصينيّة أنموذجا"، مجلة دفاتر السياسة والقانون، العدد: 02، المجلد: 15، (جوان 2023)، ص- ص. 413 – 431، جامعة قاصدي مرباح ورقلة الجزائر، الرابط الإلكتروني:
<https://asjp.cerist.dz/en/downArticle/120/15/2/224728>
(8)ــ عصام بن الشيخ، "تطوّر الصناعة الجزائريّة للفولاذ والصلب والتنافس الفرنسيّ الصينيّ"، المجالة الأكادمية للبحوث القانونية والسياسية، العدد: 01، المجلد: 07، (19 مارس 2023)، ص- ص. 1951 – 1969، جامعة عمار ثليجي الأغواط الجزائر، الرابط الإلكتروني:
< https://asjp.cerist.dz/en/downArticle/441/7/1/217359>
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟