عائد ماجد
الحوار المتمدن-العدد: 8452 - 2025 / 9 / 1 - 09:17
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
لا يمكن لأيّ شخص قرأ التاريخ الفلسفي أن يتجاوز لفظة "المادية" أو يمرّ عليها مرور الكرام، فلهذا اللفظ ما له من الأثر البالغ في الفكر الإنساني في مختلف الحقول، من الاجتماع والسياسة وحتى العلوم الحديثة. وإنّها ممتدّة امتداد لفظة الفلسفة نفسها، فهي ممتدة من الفلسفة اليونانية ما قبل سقراط إلى الآن، وتمّ خلال هذا الامتداد تشكيل مفاهيم وثورات عميقة في الفكر الإنساني.
إنّ الفلسفة المادية، في مفهومها العام، هي الضدّ من الفلسفة المثالية، كما أن المثالية هي الضدّ من المادية، وهي التيار الذي يرى أن المادة هي الأصل الأول للوجود، وليس الوجود عقلياً أو روحياً كما تقول المثالية، بل هو وجود مادي محسوس فيزيائياً ومادياً، يمكننا رؤيته والتأكد منه بالحواس والتجربة. هنا يتبلور الصراع الفلسفي بين المادية والمثالية، ففي الموقف المثالي ترى المثالية أن حتى العالم هو امتداد للوعي والعقل، بما يناقض الموقف المادي الذي يرى أن حتى الوعي والإدراك ما هو إلا نتيجة لتفاعلات مادية ونتيجة تطور للمادة، أي أن كل شيء في هذا الوجود مادي.
وهذه الفكرة ليست طارئة على الفلسفة، بل نجد أصولها عند الفلاسفة الطبيعيين ما قبل سقراط، وخصوصاً في فلسفات أمثال طاليس، وأناكسيمندر، وأناكسيمينس، الذين بحثوا عن أصل الكون في العناصر. ورغم اختلاف كلٍّ منهم في تحديد تكوين العالم من أيّ عنصر، لكنهم كانوا يفسرون العالم بشكل بعيد عن الأساطير، أي بشكل طبيعي ومادي. فطاليس رأى أن الماء هو مكوّن العالم وأصل كل شيء، وأناكسيمندر قال باللامحدودية، وأناكسيمينس قال إن الهواء هو أصل كل شيء. كلّ ما نلاحظه في رؤيتهم وآرائهم هو أنهم حاولوا تفسير العالم بعدسة مادية، وهذا استمر إلى ديموقريطس الذي بلور أول نظرية ذرية مادية للكون، وقال بأن كل شيء يتكوّن من ذرات (Atoms) ومن الفراغ. لهذا لا يمكننا تجاوز ديموقريطس عند الحديث عن الفلسفة المادية، فهو يعدّ أحد الأعمدة الشامخة التي تقف المادية عليها.
لكن، رغم وجود فكرة المادية في الفلسفة بشكل واضح كما قرأنا، فإنها لم تتبلور إلا عند الثورة العلمية، عندما جاءت هذه الثورة بالتيارات التي رفضت كل الفرضيات الميتافيزيقية لتفسير العالم، وأقرّت بأن العالم خاضع لقوانين يمكننا تجربتها والتأكد منها، دون وضع عقل كلّي أو مطلق ما ورائي لتفسير هذا العالم الذي يمكننا تفسيره من خلال قوانين علمية يمكننا التحقق منها. وقد ساهم في هذا فلاسفة كبار مثل فرانسيس بيكون، ومن خلال هذا تم تأسيس منهج مادي صارم رافض لكل التفسيرات الميتافيزيقية للعالم.
وتعمّقت المادية في الفلسفة الغربية أكثر عندما نصل إلى الحداثة، حيث تعشّق المنهج التجريبي العلمي في الثقافة الأوروبية والغربية بشكل عام. فوصلنا إلى فلاسفة مثل توماس هوبز، الذي رأى أن الإنسان بحد ذاته مجرد أداة مادية، وأن كل ما فيه من وعيه وإدراكه ما هو إلا نتاج التفاعلات المادية التي تحدث داخل جسده. ثم تطوّرت المادية حتى بلغت أوجها وأوجه الصراع بين المثالية والمادية في الفلسفة الماركسية، وهي التي أعادت صياغة المادية في إطار جدليّ تاريخي، وأصبحت المادية الجدلية أو المادية التاريخية من أبرز مناهج الفلسفة الحديثة. فكارل ماركس تأثّر بشكل كبير بالديالكتيك أو الجدل عند هيجل، رغم أنه كان جدلاً مثالياً، لكن ماركس قلبه من مثالي إلى مادي، وأسس بذلك رؤية ترى أن كل البُنى الفكرية والدينية والسياسية ما هي إلا انعكاسات لبنية مادية واقتصادية أعمق.
عندما وصلنا إلى نقطة تغلغل المادية في الفكر الغربي وفي الفلسفة الحديثة، لا يمكننا تجاهل أوجه الصراع بينها وبين المثالية، خاصة المثالية الألمانية، حيث تمّ انتقادها بشكل كبير، كون الماديين ينظرون إليها على أنها هروب من الواقع الملموس إلى تصورات عقلية مجردة لا أصل لها. وهذا بسبب اختلاف نظرة الماديين، بحيث إنهم ينظرون إلى الواقع كما هو، لا كما نريد أن نراه.
ومن الأمور التي يجب علينا ملاحظتها أن الفلسفة المادية لعبت دوراً مهمّاً في تطوّر العلوم الحديثة، فهي وافقت المنهج التجريبي وأعطته المشروعية الفلسفية، فكان كل اكتشاف في نظر الماديين هو تأكيد جديد على أن العالم محكوم بقوانين يمكن دراستها والتأكد منها، وليس هناك داعٍ لوضع العلل الغيبية. ولهذا نحن نرى أن أصحاب الثورات العلمية من العلماء في كل العالم كانوا متأثرين بالفكر المادي.
ومن الإشكالات الناتجة عن عدم قراءة، يرى الكثير أن المادية ضد القيم تماماً لأنها لا تعترف بغير المادة، وكأنها فلسفة صُنعت لتفقد الإنسان قيمته. وهذه فكرة خاطئة، فحتى الأمور التي تتمثل بالقيم مثل الأخلاق يمكن تفسيرها كنتيجة تفاعلات اجتماعية مادية أو تطورية. هم ضد افتراض علّة تُفرض من الخارج، فهي ليست كما يراها البعض إنكاراً عبثياً لما وراءيات، بل هي تيار فلسفي ينطلق من موقف فلسفي، وموقفها يرفض التسليم بفرضيات ما ورائية بدون أن تخضع للعقل والتجربة بما يمكن أن يثبتها مادياً. فهي بذلك ليست إنكاراً عبثياً.
يمكننا القول بأن الفلسفة المادية كانت ولا تزال أحد أهم التيارات في التاريخ الفلسفي، من طاليس إلى هوبز وماركس، ومن النزعة الذرية إلى الفلسفة الحديثة والمنهج التجريبي. هي حلقة في سلسلة التاريخ الفلسفي لا يمكن لأيّ شخص يريد قراءة الفلسفة أن يتجاوزها.
#عائد_ماجد (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟