أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سامي قره - التلقين الدّيني المبكّر: بين قدسية العقيدة وحقوق الطفل الفكرية















المزيد.....


التلقين الدّيني المبكّر: بين قدسية العقيدة وحقوق الطفل الفكرية


سامي قره

الحوار المتمدن-العدد: 8401 - 2025 / 7 / 12 - 10:59
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


أ‌. سامي قرّه

همس السيد بروكلهرست في أذن جين: "هل أنتِ طفلة صالحة"؟
رفرفت عينا جين بخوف وتمتمت: "نعم، أعتقد ذلك".
اقترب صوته أكثر، كأنفاس باردة تهمس في أذنها:
"وهل تعلمين إلى أين يذهب الأطفال السيئون؟"
ابتلعت جين ريقها بصعوبة، وعيناها تتسعان رعبًا، ثم أجابت وهي ترتجف: إلى... إلى الجحيم، سيدي".
ساد سكونٌ مروعٌ في الغرفة للحظة، ثم ارتجف جسدها كله حين سمعت همسته الأخيرة الباردة:
" أحسنتِ. على الأقل، تعرفين إلى أين أنتِ ذاهبة."

في رواية "جين آيير" للكاتبة البريطانية شارلوت برونتي، يستغل السيد بروكلهرست، المدير الصارم والمستبد لمدرسة لوود، الدّين كأداة لبثّ الخوف والرعب في نفوس الطالبات، وخاصة تجاه الطفلة جين، بدلًا من استخدامه مصدرًا للتوجيه الروحي والأخلاقي وبثّ الطمأنينة النفسية. ومن خلال تأويله المتشدّد للدّين، يمارس السيد بروكلهرست قمعًا فكريًا وسلوكيًا تحت عباءة الورع الزائف، ويلجأ إلى تضييق الخناق على الطالبات، ومعاقبتهنّ، وإذلالهنّ باسم الفضيلة والتقوى. لا يرى السيد بروكلهرست في الدّين وسيلة لتعزيز الإيمان أو تهذيب الأخلاق، بل أداة لإحكام قبضته وفرض سلطته، ونشر الخوف في قلوب الطالبات بهدف كسر إرادتهنّ وإخضاعهنّ لرغباته. وقد ترك هذا النهج جرحًا نفسيًا غائرًا في وجدان جين الصغيرة، كما أثر بشكل بالغ على رؤيتها للحياة ومفهومها للسلطة والأخلاق.
أدّت المعتقدات الدّينية دورًا محوريًا في تشكيل الثقافات وبناء القيم وصياغة الهويات الفردية في مختلف أنحاء العالم. فمنذ نشأتها، منحت الديانات التوحيدية – اليهودية والمسيحية والإسلام – إطارًا أخلاقيًا، وإحساسًا بالانتماء، ومعنىً وجوديًا للإنسان. ومع ذلك، يثير تعليم العقيدة الدّينية للأطفال في سنّ مبكّرة، قبل تطوّر قدراتهم على التفكير النقدي، تساؤلات أخلاقية عميقة ومخاوف متعددة.
يتناول هذا المقال مسألة التلقين الدّيني المبكّر، أي تعليم المعتقدات الدّينية الإيمانية وتقديمها كحقائق ومسلّمات لا تقبل النقاش أو التأويل لأطفال لم يكتمل نمو قدراتهم المعرفية والفكرية. يبيّن المقال أن هذا النهج لا يستغل فقط هشاشة الطفل العقلية والنفسية، بل يمكن أيضًا أن يسبب أضرارًا نفسية لا يمكن تبريرها أخلاقيًا. ويستند هذا الطرح إلى علم النفس التطوري، والفكر الفلسفي العلماني، وبعض أوجه الفكر الإسلامي التقليدي والمعاصر. علاوة على ذلك، يدعو المقال إلى اتباع نهج تربوي ديني تعددّي، ليبرالي حداثي، يحترم استقلال الأطفال العقلي وحقهم في اختيار المعتقدات التي يرغبون بالإيمان فيها.
وفقًا لنظرية النمو المعرفي لعالم النفس السويسري جان بياجيه، تعتبر مرحلة الطفولة المبكّرة – عادة تحت سن السابعة – مرحلة ما قبل العمليات، حيث يستخدم الأطفال اللغة والرموز والخيال لتمثيل الأشياء والتجارب، لكنهم يفتقرون إلى القدرة على التفكير المجرد. وفي هذه المرحلة، يميل الأطفال إلى تلقي المعلومات من الشخصيات السلطوية (مثل المعلّم، أو المعلّمة، أو الأب، أو الأم، أو الجد) وتقبلها كحقائق مطلقة، سواء كانت هذه الحقائق مرتبطة بشخصيات مثل شخصية ليلى الحمراء وسانتا كلوز، أو بمفاهيم دينية مثل الجنة والجحيم والهلاك الأبدي والسعادة الأبدية.
على الرغم من هذه الهشاشة المعرفية، يبدأ الأطفال في مدارسنا بتلقي التعليم الدّيني في هذه المرحلة، إذ يرى الأهل والمؤسسات التعليمية أن التعليم المبكّر للدّين أمر أساسي لتنمية الأخلاق ونقل الهوية الثقافية للأطفال. ومع ذلك، فإن تعليم مفاهيم دينية معقدة — مثل القدرة الإلهية المطلقة، أو وجود الروح، أو العقاب الأبدي — باعتبارها حقائق مطلقة لا تقبل الشك، قد لا يغرس بذور الإيمان الواعي في عقول الأطفال، بل قد يتحوّل إلى شكل من أشكال التكييف النفسي الذي يُلغي قدرة الطفل على التفكير المستقل.
لا يدور النقاش هنا حول القيمة الروحية والأخلاقية للدّين، فهذا أمرٌ مُسلّمٌ به. بل إن المسألة تكمن في مدى اعتبار تعليم العقائد الدّينية للأطفال في سنّ مبكرة انتهاكًا لحقهم في حرية الفكر.
في كتابه "وهم الله"، ينتقد عالم الأحياء التطوري البريطاني ريتشارد دوكينز إلصاق الصفات الدّينية بالأطفال كأن نقول "طفل مسيحي" أو "طفلة مسلمة"، معتبرًا ذلك شكلًا من أشكال الإكراه الفكري الذي يحرم الأطفال فرصة تكوين معتقداتهم الخاصة استنادًا إلى العقل والأدلة.
أمّا الكاتب والصحفي البريطاني-الأمريكي كريستوفر هيتشنز، ففي كتابه "الإله ليس عظيمًا"، يذهب أبعد من ذلك بوصفه تهديد الأطفال بالعقاب أو الهلاك الأبدي في جهنم كشكل من أشكال الإيذاء النفسي، لا علاقة له بالإرشاد الروحي أو الأخلاقي. كما يُشير العديد من المختصين في الصحة النفسية إلى هذه الظاهرة بوصفها "متلازمة الصدمة الدينية" – حالة نفسية معقدة تتطوّر عندما تصبح التعاليم أو الممارسات أو المجتمعات الدّينية مصدرًا للخوف والعار والضيق العاطفي بدلًا من أن تكون مصدرًا للراحة والنمو الروحي. وتؤكد هذه الانتقادات المخاطر النفسية الناجمة عن غرس العقائد الدّينية المطلقة في عقول الأطفال الصغار غير القادرين على معالجتها نقديًا.
من أبرز المخاطر النفسية التي قد تترتب على تلقين الأطفال عقائد دينية مطلقة، يمكن الإشارة إلى مثالين رئيسيين، أولهما اضطرابات القلق والصراع الداخلي وثانيهما صعوبة التكيف الاجتماعي والتصلّب الفكري. فعندما يتعرض الأطفال لتعاليم دينية يتم تقديمها لهم بوصفها حقائق مطلقة لا تقبل النقاش أو الاختلاف، وتدعو إلى رفض وجهات نظر مخالفة لها وتصنيفها على أنها "ضالة" أو "شريرة"، فقد ينشأ لديهم صراعًا داخليًا حادًا عند احتكاكهم بتنوّع الآراء والأفكار في العالم الخارجي الواقعي. هذا الصراع قد يفضي إلى شعور دائم بالقلق، أو تأنيب الضمير والإحساس بالذنب، أو ضغوطات نفسية ناتجة عن محاولتهم التوفيق بين ما تعلموه وما يشهدونه في الواقع. على سبيل المثال، قد يشعر الأطفال بالخوف الشديد من "العقاب الإلهي" بسبب أخطاء بسيطة، أو بالذنب تجاه أفكار طبيعية لا تتوافق مع القواعد والمعايير الصارمة التي تلقوها.
أمّا الخطر الثاني فيتمثل في أن التلقين الدّيني المطلق، الذي لا يفسح المجال للاجتهاد أو التأويل قد يزرع في الأطفال جمودًا فكريًا تجعلهم عاجزين على فهم الآخر المختلف أو تقبلّه، مما يؤدي إلى عزلة اجتماعية، وصعوبة في بناء علاقات قائمة على الاحترام المتبادل والتسامح، بل وقد يتطور إلى مواقف متطرفة في التعامل مع الآخرين. ومع مرور الوقت، قد يفقد الفرد القدرة على التعاطف مع من لا يشاركه معتقداته، وقد يعتبرهم "أعداء" أو "فاسدين"، مما يعوق نموّه النفسي والاجتماعي، ويهيئ بيئة خصبة لانتشار التطرّف والانغلاق.
لا يقتصر النقاش حول تلقين العقائد الدّينية للأطفال على المنظور العلماني وحده، بل نجد في التراث الفكري الإسلامي العديد من المفكرين البارزين الذين شدّدوا على أن الإيمان الحقيقي ينبغي أن يُبنى على العقل والتحقق. على سبيل المثال، أكّد الفيلسوف ابن رشد في القرن الثاني عشر أن القرآن الكريم يحثّ على التحقق العقلاني والتساؤل المنطقي. لقد رأى ابن رشد أن القرآن يشجع على استخدام العقل والتأمل في الكون للوصول إلى فهم أعمق للدّين والحقيقة، وحذّر من أن القبول الأعمى للعقائد يضعف كلًا من الإيمان الشخصي والنمو الفكري. رحم الله الفيلسوف ابن رشد، فكم كانت مقولته بليغة: "إن كنت تعتقد أن كل ما تؤمن به هو فوق مستوى النقد، فاعلم أن إيمانك دون مستوى الفكر. فالفكر قائم على قداسة المنطق، وليس منطق القداسة". هذه المقولة تعني أن الاعتقاد الذي لا يقبل النقد لا يرقى إلى مستوى التفكير السليم، وأن التفكير الصحيح يقوم على المنطق الرصين لا على مجرد التسليم بالمعتقدات دون تمحيص.
على غرار ما سبق، أكّد الكاتب والمفكر والأكاديمي المصري نصر حامد أبو زيد على أهمية الاجتهاد – أي استخدام العقل المستقل – كعنصر جوهري لبناء علاقة واعية ويقظة مع النصوص المقدّسة. وقد حذّر أبو زيد بشدّة من أن تلقين التفسيرات الجامدة لعقول لا تمارس التفكير النقدي من شأنه أن يقود إلى استعباد العقل وقمع الفكر. عندما يُجبر الأطفال أو أي شخص بالغ على حفظ تفسيرات دينية محددة نصًا، دون السماح لهم بالتساؤل عنها أو محاولة فهم سياقاتها المختلفة أو التفكير في دلالاتها المعاصرة، فإن هذا يمثل شكلًا من أشكال استعباد العقل وقمع الفكر. لو أن طالبًا تعلم أن نصًا دينيًا معينًا يعني بالضرورة شيئًا واحدًا فقط، وأن أي محاولة لتأويله بطريقة أخرى هي "بدعة" أو "ضلال"، حتى لو كان هذا التأويل يتناسب مع قضايا العصر أو يتوافق مع قيم إنسانية أوسع كالمساواة أو العدل، هذا النوع من التلقين يلغي دور العقل المستقل في التفكير، ويجعل الفرد يعتمد كليًا على سلطة التفسير الجاهزة، بدلًا من أن يمارس الاجتهاد الذي تحدث عنه أبو زيد. النتيجة هي عقل أسير لتأويل واحد، غير قادر على التكيف أو التطور، ومكبوت عن إبداء أي رأي مخالف، مما يقود إلى الجمود الفكري وربما التطرف.
وفي السنوات الأخيرة، أشار الفقيه الإسلامي خالد أبو الفضل إلى أن الإيمان الحقيقي لا يمكن أن يستمر دون إتاحة المجال للتأمل الأخلاقي والاختلاف في الرأي، مؤكدًا أن الطاعة العمياء ليست سمة من سمات الإيمان، بل من سمات الاستبداد. تدعم هذه الرؤى الفكرة القائلة بأن الإيمان الدّيني الأصيل ينبغي أن يتطوّر عبر التفاعل الذي يستند إلى التفكير النقدي والتأمل العقلاني، لا عن طريق الطاعة العمياء.
غالبًا ما تتضمن مناهج التربية الدّينية الموجهة للأطفال مفاهيم ذات طابع عاطفي شديد التأثير، مثل الخطيئة، والعقاب الإلهي، والجحيم، والخلاص، وعندما يتم تقديم هذه المفاهيم للأطفال بصيغتها الحرفية والمباشرة دون مراعاة لمرحلتهم العمرية أو مستوى نضجهم النفسي، فإنها قد تخلّف آثارًا نفسية عميقة. فالقصص التي تتناول الغضب الإلهي، أو العذاب الأبدي في نار جهنم، بوصفها عواقب محتملة لسلوكيات طفولية شائعة – كالكذب لتجنب العقاب مثلًا – قد تزرع في الأطفال مشاعر مبالغ فيها من الذنب والخوف، يمكن أن تلازمهم لفترة طويلة وتؤثر في نموّهم النفسي وسلامهم الداخلي.
يفتقر الأطفال في مراحل نموهم المبكّرة إلى الأدوات المعرفية اللازمة التي تمكّنهم من فهم السرديات الدّينية أو تفسيرها ضمن سياقها الرمزي أو المجازي الصحيح. هذا النقص في القدرة على التحليل والفهم قد يؤدي، بدلاً من تعزيز تهذيبهم الأخلاقي، إلى إحداث صدمة نفسية عميقة، تعيق نموّهم النفسي السليم، وتُضعف علاقتهم الصحية بالقضايا الروحية والدينية.
على مرّ التاريخ، ارتفعت أصوات عديدة مطالبة بضرورة عدم استغلال الدّين والتلاعب به كوسيلة لترهيب الآخرين والتحكّم فيهم. فعلى سبيل المثال، ندّد الفيلسوف والشاعر أبو العلاء المعرّي في القرن الحادي عشر الميلادي بشدّة بالسلطات الدّينية التي كانت تستغل فكرة الخوف من العقاب للتلاعب بعقول المؤمنين وتخويفهم، واصفًا هذا الأسلوب بأنه شكل من أشكال العبودية الروحية. يكتسب هذا النقد اليوم أهمية متجددة وملحوظة، خاصة في ضوء الأبحاث النفسية الحديثة التي تؤكد آثاره السلبية.
هناك العديد من الحجج المطروحة التي تدافع عن أهمية التعليم الديني في المراحل المبكّرة من حياة الطفل. وفيما يلي، سأقوم بعرض ثلاث من هذه الحجج الأساسية، ثم سأعمل على تفنيدها وتحليلها نقديًا، مع الأخذ في الاعتبار الجوانب المختلفة لكل منها.
تستند الحجة الأولى في الدفاع عن التعليم الديني المبكّر إلى الاعتقاد بأنه يشكّل جزءًا أساسيًا من تربية الطفل، لما له من دور في تعزيز النمو الأخلاقي وتكوين الضمير السليم. ولا شك أن الدّين يمكن أن يسهم في ترسيخ قيم إيجابية مثل الصدق، والأمانة، والرحمة، واحترام الآخر. ومع ذلك، فإن الادعاء بأن الأخلاق لا تُكتسب إلا من خلال الدّين هو تصوّر غير دقيق، إذ أن النمو الأخلاقي ليس حكرًا على المعتقدات الدّينية وحدها.
فالأخلاق يمكن أن تتشكل أيضًا من خلال مصادر أخرى مثل التربية المدنية، والتفاعل الاجتماعي، والتجارب اليومية، والنماذج السلوكية الإيجابية في حياة الطفل. فعلى سبيل المثال، يتعلم الأطفال قيمة العدالة من خلال اللعب الجماعي وتقسيم الأدوار بعدل، كما يمكن أن يكتسبوا قيمة التعاطف من خلال مشاهدة مشهد إنساني في فيلم أو قراءة قصة عن مساعدة الآخرين. كذلك تُسهم البيئة المدرسية والأسرة الداعمة في غرس مفاهيم المسؤولية والاحترام والانضباط دون الحاجة إلى إطار ديني مباشر.
وقد أكّد العديد من المفكرين والفلاسفة هذه الرؤية. رأى المفكر الألماني إيمانويل كانط أن الأخلاق تنبع من "الواجب العقلي" ومن احترام الإنسان كغاية في ذاته، وليس من الخوف من العقاب أو الطمع في الثواب الدّيني. أمّا المفكر البريطاني جون ستيوارت ميل، فقد أسّس نظريته النفعية على أن ما هو أخلاقي هو ما يحقق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس، بغض النظر عن الإيمان الدّيني. كذلك أشار المفكر الفرنسي جان جاك روسو إلى أن الطفل يولد بطبعه خيرًا، وأن المجتمع هو من يفسده، مما يعني أن التربية الأخلاقية لا تحتاج بالضرورة إلى مرجعية دينية بل إلى بيئة إنسانية واعية.
أما في الفكر العربي والإسلامي، فقد ميّز ابن رشد بوضوح بين الشريعة والحكمة (الفلسفة)، وأكّد أن الإنسان يمكنه أن يبلغ الفضيلة والعقلانية عبر التأمل الفلسفي والتجربة العقلية، لا فقط عبر التلقين الديني. وذهب الفارابي إلى أن "المدينة الفاضلة" تقوم على العقل والتربية السليمة أكثر من قيامها على السلطة الدينية وحدها، مؤسسًا بذلك تصورًا للأخلاق يتجاوز البعد العقائدي.
وفي الفكر المعاصر، يشير المفكر المغربي عبد المجيد الشرفي إلى أن "الأخلاق يمكن أن تكون علمانية من دون أن تكون معادية للدين"، موضحًا أن القيم الإنسانية لا تُشتق بالضرورة من النصوص المقدسة، بل من التجربة الإنسانية ذاتها. أما المفكر المصري فؤاد زكريا، فقد دافع عن استقلال المجال الأخلاقي عن المرجعيات المطلقة، معتبرًا أن الإنسان قادر على بناء نظام أخلاقي إنساني عقلاني يستند إلى الضمير والحرية. كما دعا المفكر اللبناني جورج طرابيشي إلى تحرير الأخلاق من سلطة الغيب، والعودة إلى المسؤولية الفردية بوصفها حجر الزاوية في أي بناء أخلاقي حقيقي.
إن الأخلاق، في جوهرها، نتاج مشترك للضمير الإنساني، والخبرة الحياتية، والبيئة الثقافية، وليست حكرًا على المنظومات الدّينية وحدها.
تشير العديد من الدراسات الحديثة في مجالي التربية وعلم النفس الأخلاقي إلى أن القيم الإنسانية الأساسية مثل التعاطف، والعدالة، والصدق، يمكن غرسها في نفوس الأطفال من خلال وسائل علمانية فعّالة لا تعتمد على المرجعيات الدّينية. فعلى سبيل المثال، تُظهر أبحاث تنمية الذكاء العاطفي أن الأطفال الذين يشاركون في برامج مخصّصة لتعليم التعرف على المشاعر وفهمها وتعبيرهم عنها، يبدون مستويات أعلى من التعاطف والسلوك الإنساني الإيجابي. كما أظهرت دراسات في مجال "الحوار الموجّه" الذي يُشجّع على التفكير النقدي، أن المناقشات الصفية المنتظمة حول المعضلات الأخلاقية تساهم في تطوير الحسّ بالعدالة وتنمية الصدق كقيمة سلوكية. إلى جانب ذلك، فإن تقديم نماذج سلوكية إيجابية عبر القدوة – سواء من المعلمين أو الشخصيات القصصية – يُعد من أكثر الأساليب فعالية في ترسيخ القيم الأخلاقية لدى الأطفال.
يكتسب التوجه نحو تنمية القيم الإنسانية عبر مسارات علمانية أهمية متزايدة، خصوصًا في ظل التحذيرات المتكررة من مخاطر التلقين الدّيني في سنّ مبكرة، قبل أن تتطوّر لدى الأطفال القدرة على التفكير النقدي والاستقلال الذهني. فعندما يتم تلقين الأطفال المعتقدات الدّينية بوصفها حقائق مطلقة، ويُطلب منهم قبولها دون نقاش أو تفكير، فإن ذلك قد يعرّضهم لاحقًا للانغلاق الفكري ويزيد من قابليتهم لتبني الأفكار المتطرفة. ومن هنا، تبرز ضرورة تعليم الأطفال مهارات التفكير النقدي منذ الصغر، وتمكينهم من تحليل المعتقدات والمواقف بطريقة عقلانية وواعية. فبناء هذا النوع من الوعي يحصّنهم من التعصب الديني والتطرف، ويحدّ من الانزلاق نحو أشكال العنف الرمزي أو المادي الناتجة عن ضيق الأفق ورفض الآخر.

وفي هذا السياق، يرى المفكر الأمريكي سام هاريس في كتابه "المشهد الأخلاقي" أن المبادئ الأخلاقية لا ينبغي أن تُبنى على الخوف من العقاب الإلهي، بل على أساس أعمق وأكثر إنسانية، وهو رفاهية الإنسان، أي أن ما يُعد أخلاقيًا هو ما يسهم في تخفيف المعاناة وتحقيق الخير العام. من هذا المنطلق، يصبح من الممكن تعليم الأطفال الأخلاق بطريقة عقلانية وإنسانية، دون الحاجة بالضرورة إلى إطار ديني تقليدي.
تنص الحجة الثانية على أن للآباء والأمهات الحق الطبيعي والأصيل في نقل معتقداتهم وإيمانهم إلى أبنائهم وبناتهم، وتربيتهم وتنشئتهم على الدّين ذاته الذي نشأوا عليه. تعتبر حقوق الوالدين أساسية وجوهرية في تربية الأبناء، لكنها ليست مطلقة أو غير محدودة. فالمجتمع يتدخل ويُقيّد سلطة الأهل عندما تشكل ممارستهم خطرًا حقيقيًا على صحة الطفل الجسدية أو النفسية أو سلامته العامة. يتجلى ذلك بوضوح في حالات الإهمال الطبي الجسيم أو سوء المعاملة اللفظية أو الجسدية.
يجب تطبيق المبدأ الأخلاقي ذاته عندما يُسبب التعليم الدّيني للأطفال أذى نفسيًا بالغًا. إن تعليم الأطفال مبادئ الإيمان بحد ذاته لا يُعد أمرًا إشكاليًا أو مرفوضًا، بل قد يكون مفيدًا. ومع ذلك، فإن استخدام أساليب التخويف المفرط، أو الإكراه، أو قمع التفكير النقدي في سياق التعليم الدّيني، يُعد تجاوزًا واضحًا للحدود الأخلاقية المقبولة ويتعارض مع مصلحة الطفل الفضلى.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الاتفاقيات الدولية المعنية بحقوق الطفل تؤكد على ضرورة احترام استقلاله الفكري والديني منذ سن مبكرة. فعلى سبيل المثال، تنص المادة 14 من اتفاقية حقوق الطفل التي اعتمدتها الأمم المتحدة عام 1989 على أن "تحترم الدول الأطراف حق الطفل في حرية الفكر والوجدان والدّين." كما تُلزم الفقرة الثانية من المادة ذاتها الدول الأطراف بضمان حقوق الوالدين في توجيه الطفل في ممارسة هذا الحق، ولكن بطريقة تتوافق مع نمو قدراته العقلية.
وهذا يعني أن حرية الدّين أو المعتقد ليست حكرًا على الكبار، بل تُعد حقًا أصيلًا للطفل نفسه، يتعيّن احترامه بما يتناسب مع نضجه العقلي والمعرفي. ومن هذا المنطلق، فإن التلقين الدّيني الصارم في سنّ مبكرة، الذي لا يراعي قدرات الطفل على التفكير النقدي أو حقه في التساؤل، قد يشكّل انتهاكًا مباشرًا لهذه الاتفاقية.
وبالتالي، فإن أي نموذج تعليمي أو تربوي يستخدم الدّين كأداة لتقييد حرية التفكير أو زرع الخوف من العقاب الأبدي ينبغي أن يخضع لمراجعة نقدية، ليس فقط من زاوية نفسية وفلسفية، بل كذلك من زاوية قانونية وأخلاقية دولية.
تفيد الحجة الثالثة بأن التعليم الدّيني المبكّر يسهم بشكل فعّال في تعزيز وتشكيل الهوية الثقافية للطفل. لا شك أن التعرف على التقاليد الدّينية يمكن أن يُثري بشكل كبير شعور الطفل بـالهوية والانتماء الثقافي. ومع ذلك، يكمن الفارق الجوهري والبالغ الأهمية بين مجرد "التعرّض" للدّين وبين "التلقين" المباشر له.
فـالتعرّض يُقدّم للأطفال الطقوس الدّينية، والقصص التراثية، والممارسات المجتمعية المرتبطة بالدّين بطريقة تُشجع على الفضول المعرفي، والتأمل الهادئ، والتفكير المستقل. أما التلقين، في المقابل، فيعمل على فرض الإيمان كحقيقة مطلقة، ويُثبط أي محاولة للتساؤل أو التفكير النقدي.
ولهذا، يجب أن تُفسح التربية الأخلاقية الحقيقية المجال للشك البناء، والاختلاف في الرأي، وللسماح بنمو الطفل في تفسيره وفهمه الشخصي لما يُعرض عليه من مفاهيم دينية أو أخلاقية. هذه المقاربة تضمن بناء فهم عميق وناضج للدّين، بدلًا من مجرد الامتثال السطحي.
أخيرًا، بالاستناد إلى رأي المفكر الأمريكي دانيال دينيت، سأقوم باقتراح نهج تربوي ديني تعددّي وشامل يهدف إلى تشجيع الأطفال على التفكير النقدي المستقل، ويعزز في الوقت نفسه نموهم النفسي الصحي والمتوازن.
يدعو دينيت في كتابه "كسر التعويذة" إلى تعليم ديني يشمل طيفًا واسعًا من وجهات النظر العالمية، سواء كانت دينية أو فلسفية أو علمية. ويُشجّع هذا النموذج التعددّي على التفكير النقدي، ويُعبّر عن احترام استقلالية الطفل المتنامية.
يؤكد دينيت في كتابه على أن الدّين بحاجة ماسة إلى تحليل دقيق وفق منهجية علمية صارمة. هذا النهج العلمي هو الذي سيتيح لنا فهمًا أعمق وأكثر شمولية لطبيعته المعقدة ومساره المستقبلي المحتمل. ويوضح دينيت أن ما يجب "كسره" أو التخلص منه ليس الإيمان الدّيني في جوهره، بل الاعتقاد الخاطئ بأن هذا الإيمان يقع خارج نطاق وحدود المنهجية العلمية والبحث العقلاني.
كما يدعو دينيت في مؤلفه إلى تبني نموذج تعليمي ديني شامل ومتعدّد الأبعاد. هذا النموذج يجب أن يستوعب ويقدم طيفًا واسعًا ومتنوعًا من وجهات النظر العالمية المختلفة، سواء كانت دينية بحتة، أو فلسفية عميقة، أو علمية قائمة على البحث والتجريب. إن هذا التوجه التعددّي ليس فقط يشجع على التفكير النقدي المستقل والبناء لدى الأطفال، بل يعبّر أيضًا عن احترام عميق ومتزايد لاستقلاليتهم المعرفية والشخصية المتنامية.
يعكس هذا النهج في جوهره الدعوة الأصيلة والمترسخة إلى الاجتهاد الموجودة في عمق الفكر الإسلامي؛ فهو يهدف إلى بناء إيمان راسخ يستند إلى العقل والتفكير النقدي، لا إلى العقيدة الجامدة أو التقليد الأعمى. ومن هذا المنظور المستنير، لا ينبغي للتعليم الدّيني أن يسعى مطلقًا إلى تشكيل الإيمان وفرضه قسرًا على المتلقي، بل يجب أن يرتكز هدفه الأساسي على تنمية القدرة الفردية على اختياره بحرية تامة ووعي كامل.
في الخلاصة، إن تعليم المعتقدات الدّينية على أنها حقائق مطلقة، قبل أن يتمكن الطفل من تطوير قدراته على التفكير النقدي المستقل، يُعد أمرًا يثير تساؤلات أخلاقية كثيرة، وقد يكون ضارًا بشكل كبير. هذا النهج يستغل هشاشة الطفل المعرفية ونضوجه غير المكتمل، ويُدخل إليه تعاليم غالبًا ما تكون قائمة على الخوف والترهيب من العقاب، مما يُقيّد بشكل فادح استقلاله الفكري وقدرته على التساؤل.
ورغم أن الدّين يمكن أن يُقدّم بالفعل معنىً عميقًا للحياة، وراحة نفسية كبيرة، ورؤية أخلاقية سامية، إلا أن فرضه على الأطفال بصورة عقائدية جامدة، لا تقبل النقاش أو التساؤل، يصبح أقرب إلى التكييف الأيديولوجي القسري منه إلى التوجيه الروحي الهادف والبناء.
إن الحل الأمثل لا يكمن في إلغاء التعليم الدّيني برُمّته، بل في إصلاح جوهري لطريقة التعامل معه وتدريسه. فالتعليم الذي يتناول الدّين بطريقة شاملة لمختلف وجهات النظر، ويُشجع على طرح الأسئلة البناءة، ويُبدي احترامًا لذهن الطفل المتنامي وقدراته العقلية، يمكنه أن يُعزز في آن واحد كلًا من النمو الأخلاقي السليم والبصيرة الروحية العميقة. ففي نهاية المطاف، إن الإيمان الذي ينبع من التأمل الشخصي والاختيار الحر هو أثبت وأكثر ديمومة بكثير من مجرد الاعتقاد المتجذر في الخوف أو التلقين الأعمى.
إن المجتمع الذي يُقدّر ويصون الحرية الفكرية، ويعطي الأولوية للصحة النفسية لأفراده، ويحترم ويحمي حقوق أضعف مكوناته يجب عليه حتمًا أن يُعيد النظر بشكل نقدي ومتمعّن في الجوانب الأخلاقية المتعلقة بـالتلقين الدّيني المبكر. وعليه أن يسعى جاهدًا نحو تبني وتطبيق نهج تعليمي أكثر صدقًا، وأوسع انفتاحًا، وأعمق إنسانية في تدريس المفاهيم الدّينية. هذا التغيير ليس مجرد خيار، بل هو ضرورة أخلاقية تخدم مصلحة الأفراد والمجتمع برمته.






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- حرب غزة ومعضلة الهوية في المجتمع اليهودي بالولايات المتحدة
- تردد قناة طيور الجنة الجديد على النايل سات.. متع طفلك الأن
- مشروع -الرقعة اليهودية- ينهي حلم الدولة الفلسطينية
- الرئاسة الروحية للدروز بالسويداء: نرفض دخول الأمن العام إلى ...
- دمية عالم سمسم تثير الجدل على إكس وتدعو إلى تدمير اليهود
- الاحتلال يجبر مواطنا على هدم منزله جنوب المسجد الأقصى
- أولمرت: يهود يقتلون فلسطينيين في الضفة ويرتكبون جرائم حرب
- في ذكراها الثامنة.. كيف يمكن استلهام تجربة هبّة الأسباط لحما ...
- العمود الثامن: الثورة ومعارك الطائفية
- نيجيريا تدين 44 عنصرا من بوكو حرام بتهمة تمويل الإرهاب


المزيد.....

- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سامي قره - التلقين الدّيني المبكّر: بين قدسية العقيدة وحقوق الطفل الفكرية