عبده حمد الدوسري
الحوار المتمدن-العدد: 8389 - 2025 / 6 / 30 - 22:08
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
عبده الدوسري
وسط مشهد إقليمي يشهد تقلبات سياسية وحقوقية متسارعة، تشق البحرين طريقها بثقة نحو تعزيز منظومتها الحقوقية من الداخل، لا خضوعًا لضغوط، بل انطلاقًا من قناعة بأن احترام الإنسان هو حجر الزاوية في أي مشروع تنموي مستقر، وبينما يُسلّط الضوء غالبًا على بعض الملفات الخلافية، فإن التجربة البحرينية في مجال حقوق الإنسان تتسم بجدية إصلاحية لا تُختزل في شعارات، بل تتجلى في بنى تشريعية، وهياكل مؤسسية، وخطط وطنية تعكس إدراكًا عميقًا لمفهوم الحقوق بمضمونه الشامل.
كثيرًا ما تُحصر حقوق الإنسان في بعدها السياسي فقط، دون الانتباه إلى أن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والصحية والتعليمية هي مكونات لا تقل أهمية، بل تُعد الضمانة الأساسية لصون كرامة المواطن. في هذا السياق، أحرزت البحرين تقدمًا ملموسًا يُستدل عليه بلغة الأرقام: أكثر من 99% من المواطنين مشمولون بالرعاية الصحية، ونسبة التحاق الفتيات بالتعليم العالي تجاوزت 60%، في حين تم تدشين برامج إسكانية ومساعدات اجتماعية للفئات الضعيفة، أبرزها "صرف بدل الإيجار" الذي استفاد منه الآلاف من الأسر.
هذه المؤشرات لا تُقرأ بمعزل عن الإطار الحقوقي، بل تمثل تطبيقًا فعليًا لحق الإنسان في الحياة الكريمة، والصحة، والتعليم، والمساواة في الفرص—وهي مبادئ تؤكدها الاتفاقيات الدولية وتترجمها البحرين بلغتها الوطنية.
مؤسسات رقابية وطنية… لا للتجميل، بل للمساءلة
من أهم ملامح الإصلاح الحقوقي في البحرين هو تأسيس مؤسسات رقابية غير مسبوقة خليجيًا، تعمل باستقلالية نسبية داخل المنظومة القضائية والأمنية. أبرزها:
• وحدة التحقيق الخاصة: أنشئت عام 2012، وتحقق في مزاعم التعذيب وسوء المعاملة. بحسب تقريرها لعام 2021، تلقت 16 شكوى، وأُحيل عدد من أفراد الأمن للمحاكمة، مع صدور أحكام فعلية بالإدانة في بعض القضايا.
• الأمانة العامة للتظلمات: استقبلت أكثر من 1,600 شكوى منذ تأسيسها، مع نشر تقارير شفافة حول الحالات والتحقيقات.
• مفوضية حقوق السجناء والمحتجزين: تقوم بزيارات مفاجئة للمراكز الإصلاحية، وتنشر تقارير دورية حول ظروف الاحتجاز، في خطوة تعزز ثقافة الشفافية.
هذه المؤسسات، رغم التحديات، تمثل تحولًا نوعيًا في بنية العدالة الداخلية، وتفتح الباب لإصلاح مستدام ينبع من الداخل، لا من التقارير الخارجية وحدها.
الالتزام الدولي والحوار مع المنظومة الأممية
لا يمكن تجاهل انخراط البحرين في المنظومة الدولية لحقوق الإنسان، إذ إنها مصادقة على اتفاقية مناهضة التعذيب والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وشاركت في جولتي الاستعراض الدوري الشامل في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة عامي 2017 و2022. وقد قبلت غالبية التوصيات المقدمة، مع توضيح تحفظاتها على ما يتعارض مع هويتها الثقافية والدستورية. وهذا يُظهر نية واضحة في التفاعل المسؤول، لا التهرب أو العزلة.
في ملف تمكين المرأة، تجاوزت البحرين مرحلة الرمزية إلى الشراكة المؤسسية. فالمرأة البحرينية اليوم تقود أجهزة قضائية، وتمثل بلادها في السلك الدبلوماسي، وتترأس مجالس إدارات في القطاعين العام والخاص. وهو ما يعكس نجاح سياسة المجلس الأعلى للمرأة، واستراتيجية وطنية تُمكّن المرأة لا فقط في الحقوق، بل في التأثير وصناعة القرار.
فلسفة إصلاحية تتجاوز العقوبة التقليدية
في تجربة نادرة في العالم العربي، دشنت البحرين برنامج السجون المفتوحة كامتداد مبتكر لقانون العقوبات البديلة. يسمح البرنامج لبعض المحكومين بقضاء يومهم خارج مركز الإصلاح—لدى أسرهم أو في أعمالهم—ثم العودة مساءً، لتسهيل اندماجهم التدريجي في المجتمع. وقد بلغ عدد المستفيدين من هذا النظام حتى مطلع 2024 نحو 105 نزيلًا، بينما تجاوز المستفيدون من بدائل العقوبة عمومًا 7,400 شخص. وتُعد هذه الخطوة تطورًا نوعيًا في فلسفة العدالة الجنائية يعكس انتقالًا من "العقوبة" إلى "الإصلاح".
مع التحديات الأمنية التي واجهتها البحرين في العقد الأخير—من تحريض خارجي إلى محاولات إخلال بالنظام العام—سعت الدولة إلى تحقيق توازن دقيق بين متطلبات الأمن وصون الحقوق. تمت محاكمة المتهمين وفق ضمانات قانونية، وسمح لهم بالحصول على التمثيل القانوني وحق التقاضي، وهو ما يُظهر سعيًا نحو ترسيخ دولة المؤسسات.
إن البحرين لا تدّعي المثالية، لكنها تؤكد بوضوح أن الإصلاح الحقوقي ليس استجابة لضغط خارجي، بل خيار وطني نابع من رؤية التنمية المستدامة. وبينما يُتركز الحديث كثيرًا حول فئة المعتقلين السياسيين، يغيب أحيانًا صوت الإنجاز: في صحة الطفل، وتعليم الفتاة، وحماية كبار السن، ودمج فئات بلا وصم أو تهميش.
لذلك، من المهم أن يُعاد تعريف سردية حقوق الإنسان خارج القوالب الجاهزة، وبمنظور يُنصف التقدّم ولا يُقصي النقد. فالدولة التي تبني مؤسسات رقابة مستقلة، وتبادر بخطط وطنية مدروسة، وتفتح باب الحوار مع الشركاء الدوليين—هي دولة لا تنكر الأخطاء، بل تُصلحها بإرادة سيادية ومسؤولية حضارية.
عدالة أمنية في زمن معقد
من الجدير التذكير أن البحرين عايشت في السنوات الماضية تحديات أمنية حقيقية، شملت تحريضًا طائفيًا، وتهديدات خارجية، ومحاولات لزعزعة الاستقرار. وقد تعاملت الدولة مع هذه الملفات ضمن الأطر القانونية، ومع توفير حق الدفاع لجميع الموقوفين. فالعدالة لا تكون حقيقية ما لم تتوازن بين صون الحقوق وحماية النظام العام، وهو التحدي الذي تواجهه حتى أعرق الديمقراطيات.
إن الدفاع عن سجل البحرين الحقوقي لا يعني الادعاء بالكمال، بل الاعتراف بالسير في طريق صعب تتخلله أخطاء وتصحيحات. لكن من الجور أن يُقرأ هذا السجل بعدسة سياسية ضيقة تتجاهل المكاسب الحقيقية، وتستعيض عن المعايير بروايات أحادية الجانب. فالبحرين، بكل وضوح، تُقدّم نموذجًا لدولة عربية خليجية تسعى إلى التوازن بين الخصوصية الوطنية، والانخراط في معايير العدل والكرامة الإنسانية.
الاستثمار في الإنسان من الطفولة حتى الشباب
من أبرز تجليات التقدّم الحقوقي في البحرين أن الاهتمام لم يتوقف عند معالجة التحديات، بل تجاوزه إلى تأسيس بيئة تمكينية للشباب والأطفال بوصفهم قلب المستقبل وروحه. فقد تبنّت القيادة البحرينية رؤية استراتيجية شاملة للنهوض بهذه الفئات، تجلّت في عدد من الخطط والبرامج بالتعاون مع الشركاء الدوليين، وعلى رأسهم مكتب الأمم المتحدة في البحرين.
ففي عام 2022، أُطلقت استراتيجية الطفولة المبكرة (2023–2027)، بالشراكة مع منظمة يونيسف، والتي تهدف إلى حماية حقوق الطفل من حيث التعليم، الصحة، الحماية من الإساءة، وتعزيز المشاركة المجتمعية. كما شكّلت البحرين لجنة وطنية لمتابعة تنفيذ اتفاقية حقوق الطفل، لتكون مرجعية وطنية تضمن الالتزام بمعايير الأمم المتحدة وتحقيق التكامل بين الجهات المعنية.
أما في ما يخص فئة الشباب، فقد دشّنت البحرين سياسة وطنية واضحة منذ إنشاء وزارة شؤون الشباب، وعززتها باستراتيجية تتناغم مع أهداف التنمية المستدامة، حيث تم إشراك الشباب في رسم السياسات، وتطوير برامج الابتكار والتمكين الاقتصادي، وتوسيع المشاركة في العمل التطوعي والمجالس البلدية.
إن هذا التوجه يعكس قناعة القيادة البحرينية بأن حقوق الإنسان تبدأ من الطفولة وتتبلور في الشباب، وأن بناء الإنسان لا يُترك للظروف، بل يحتاج إلى مؤسسات، وشراكات، وإرادة سياسية تعرف أن المستقبل يُبنى اليوم، لا غدًا.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟