عبد المجيد خلف الله
الحوار المتمدن-العدد: 8351 - 2025 / 5 / 23 - 13:56
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الملخص
يستعرض هذا المقال التحولات العميقة التي تشهدها الدولة الحديثة والمجتمع المعاصر في ظل تغيرات جيوسياسية متسارعة وثورات تكنولوجية جذرية. من خلال تحليل فلسفة الدولة ككيان تاريخي-أخلاقي يتفاعل مع محيطه، يتناول المقال أزمة السيادة التقليدية، وصعود أنماط جديدة من الحوكمة، إلى جانب التفكك المجتمعي الناتج عن العولمة الرقمية. ويقترح نموذجًا فكريًا جديدًا للدولة، قائمًا على الذكاء الأخلاقي، والحوكمة الرقمية، والتجذر في الثقافة المحلية، بما يُمكّن من إعادة بناء المجتمع على أسس العدالة والانخراط والوعي السيبراني.
الكلمات المفاتيح: فلسفة الدولة، التغيرات الجيوسياسية، التسارع التكنولوجي، الحوكمة، المجتمع، المواطنة الرقمية.
Abstract
This academic article analyzes the profound transformations facing the modern state and society in the context of accelerated geopolitical changes and radical technological revolutions. By exploring the philosophical foundations of the state as a historical-ethical entity, it discusses the erosion of traditional sovereignty, the emergence of new governance models, and the social fragmentation caused by digital globalization. It proposes a new conceptual framework for the state grounded in ethical intelligence, digital governance, and cultural rootedness, enabling the reconstruction of society on the basis of justice, engagement, and cyber-consciousness.
Keywords: Philosophy of the State, Geopolitical Shifts, Technological Acceleration, Governance, Society, Digital Citizenship.
تعيش الدولة الوطنية والمجتمع المعاصر على إيقاع تحولات جذرية تهدد النموذج التقليدي للسلطة والسيادة والتنظيم الاجتماعي. بين الانهيارات الجيوسياسية في بعض المناطق، واحتدام صراع الأقطاب، وهيمنة التكنولوجيا الرقمية على كل مجالات الحياة، بات من الضروري إعادة التفكير في فلسفة الدولة، لا من منظور قانوني أو إداري فقط، بل كمفهوم يحمل في طياته معاني الهوية والسلطة والمواطنة والغاية من الاجتماع البشري.
أولًا: فلسفة الدولة من العقد الاجتماعي إلى الحوكمة الرقمية
1. الدولة ككيان أخلاقي-سياسي
منذ أفلاطون وأرسطو، اعتُبرت الدولة مجالًا لتحقيق العدالة والخير العام. ومع تطور الفلسفة السياسية، تبلورت الدولة الحديثة في فكر هوبز ولوك وروسو، بوصفها ناتجًا لعقد اجتماعي ينظم العلاقة بين الأفراد والسلطة. لكن مع صعود الحداثة التقنية، بدأت هذه الدولة تفقد معناها الأخلاقي، لتتحول إلى جهاز إداري أو بيروقراطي محض.
2. من السيادة إلى الشبكة
بحسب ميشال فوكو، فإن الدولة لم تعد مجرد قوة مركزية، بل شبكة من “السلطات المصغّرة” التي تتغلغل في الجسد الاجتماعي. هذا ما يظهر اليوم في الحوكمة الرقمية حيث تتحول الدولة إلى منظومة بيانات والمواطن إلى رقم قابل للقياس والمراقبة. إن تحدي العصر الراهن يتمثل في الحفاظ على الطابع الأخلاقي للدولة في بيئة تتسم بالتقنية والسرعة والتجزئة.
ثانيًا: التغيرات الجيوسياسية وإعادة ترتيب خرائط السلطة
1. تعددية الأقطاب وتفتت الهيمنة
ما بعد الحرب الباردة شهد تحولًا من نظام أحادي القطب إلى واقع متعدد القوى. لم تعد الولايات المتحدة تحتكر الفعل الجيوسياسي، بل برزت قوى بديلة مثل الصين، والهند، وتحالفات جنوب-جنوب، بما زعزع أنماط السيطرة التقليدية، وأعاد طرح سؤال الدولة في ظل انحسار “العالم الليبرالي”.
2. الجغرافيا المتحولة في العالم العربي
منطقة الشرق الأوسط مثال حيّ على تأثير التغيرات الجيوسياسية على الدولة والمجتمع. تفكك الدولة الوطنية في بعض السياقات (العراق، سوريا، ليبيا)، وصعود قوى ما دون الدولة، وعودة الهويات ما قبل الحداثية، كلها مظاهر تهدد بنية الدولة الحديثة، وتعيد طرح الأسئلة حول الهوية والسيادة والعقد الاجتماعي.
ثالثًا: التسارع التكنولوجي وتحولات الدولة
1. التكنولوجيا كفاعل سياسي
لم تعد التكنولوجيا مجرد أداة، بل أصبحت فاعلًا سياسيًا واقتصاديًا. الذكاء الاصطناعي، أنظمة الرقابة البيومترية، الحكومات الخوارزمية، كلها تقود إلى شكل جديد من الدولة: الدولة السيبرانية، التي تحكم من خلال البيانات وتعيد تعريف العلاقة بين المواطن والسلطة.
2. أزمة الخصوصية والمراقبة
في فلسفة بيغون، تُصبح المعلومة سلطة. ونحن اليوم أمام معضلة أخلاقية: هل تملك الدولة الحق في تتبع مواطنيها تحت غطاء الأمن؟ أم أن ذلك يُهدد حرية الإنسان وكرامته؟ إن إعادة التفكير في العلاقة بين الأمن والسيادة والحرية بات أمرًا ملحًّا في ضوء الهيمنة التقنية.
رابعًا: المجتمع تحت ضغط التفكك وإعادة البناء
1. تفكك الروابط التقليدية
العائلة، المدرسة، الجماعة المحلية… كلها مؤسسات تشهد تآكلًا واضحًا. المجتمع، بوصفه شبكة من القيم والعلاقات، بات مهددًا بالتفكك في ظل العزلة الرقمية، وتفشي النزعات الفردانية، وانهيار القيم الجماعية.
2. نحو مشروع مجتمعي جديد
الحل لا يكمن في الحنين إلى الماضي، بل في بناء مشروع مجتمعي جديد يؤسس لمواطنة رقمية فاعلة، تعزز الوعي، وتعيد تشكيل العلاقة بين الفرد والمجتمع والدولة. هذا يتطلب إعادة الاستثمار في الثقافة، والتعليم، والسياسات العمومية ذات الطابع التشاركي.
خامسًا: نحو فلسفة جديدة للدولة والمجتمع
1. الدولة الأخلاقية في زمن الخوارزميات
الدولة المقبلة يجب أن تكون عقلانية وأخلاقية في الآن ذاته. أي قادرة على استثمار التكنولوجيا دون أن تفقد بعدها الإنساني. يجب أن نؤسس لنموذج جديد من الحكم: يقوم على “الذكاء الأخلاقي”، ويجمع بين الحوكمة الرقمية والعدالة الاجتماعية.
2. المجتمع الواعي المتعدد
نحن بحاجة إلى مجتمع لا يكتفي بالاستهلاك والتلقي، بل يُنتج ويبتكر ويُشارك. المواطنة لا تُختزل في الانتخاب، بل في الفعل اليومي، في النقد، والمساءلة، والانخراط. هذا يفتح الباب أمام ولادة “مجتمع المستقبل” القائم على المعرفة، والعدالة، والكرامة.
إن فلسفة الدولة لم تعد رفاها فكريًا، بل ضرورة تاريخية. في زمن التحولات الكبرى، على الدولة أن تُعيد صياغة ذاتها على أسس جديدة تتجاوز السيادة الترابية إلى السيادة الرقمية، وتتجاوز البيروقراطية إلى الحوكمة الأخلاقية. وفي المقابل لا يمكن بناء مجتمع حقيقي دون وعي و دون ثقافة ودون مشروع جامع يعيد للمواطنة معناها، وللحياة السياسية بُعدها الإنساني.
قائمة المراجع
1. Foucault, Michel. Surveiller et punir: Naissance de la prison. Paris: Gallimard, 1975.
2. Hobbes, Thomas. Leviathan. Oxford: Oxford University Press, 1996.
3. Castells, Manuel. The Rise of the Network Society. Wiley-Blackwell, 2010.
4. Harari, Yuval Noah. Homo Deus: A Brief History of Tomorrow. London: Harvill Secker, 2016.
5. Bauman, Zygmunt. Liquid Modernity. Polity Press, 2000.
6. Morozov, Evgeny. The Net Delusion: The Dark Side of Internet Freedom. PublicAffairs, 2011.
7. Honneth, Axel. The Idea of Socialism: Towards a Renewal. Polity Press, 2017.
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟