رشيد عبدالرحمن النجاب
الحوار المتمدن-العدد: 8345 - 2025 / 5 / 17 - 15:51
المحور:
الادب والفن
ليست الإسكندرية كغيرها من مدن مصر، ثمة ما هو مختلف دوما هناك، في تلك المدينة المجاورة للبحر المتوسط، المبتلة أقدامها بمياهه، المتفاعلة مع أمواجه عبر القرون، المستقبلة للضيوف، المبتلاة بالغزاة وأسلحتهم وأطماعهم. لهذه المدينة رونقها الخاص، ثمة سر ما في هوائها، وشواطئها، وأمواجها، وشوارعها وحكاياتها، ثمة انجذاب إليها يصفه الشاعر اليوناني قسطنطين كفافيس الذي عاش فيها حياة استحقت أن يسمى الشارع حيث كان يسكن باسمه، وأن يغدو بيته متحفا، يقول كفافيس عن الإسكندرية في استهلال هذه الرواية:
" ستدركك الشيخوخة في هذه الأحياء،
وفي الأحياء ذاتها سيدب الشيب في رأسك
ستصل دائما إلى هذه المدينة
لا تأمل في أماكن أخرى
ما من سفينة لأجلك
ما من سبيل"....
فلا عجب إذن أن تحتضن بين أهلها من يعتبر نفسه مصريا من أصول يونانية أو طليانية أو غير ذلك، ولا عجب أن تعمل "شانتال" السيدة الفرنسية إحدى شخصيات الرواية جاهدة للتشبث بالإقامة في الإسكندرية مستعينة بشبكة واسعة من معارفها رواد المكتبة التي تمتلكها وتديرها. وصاحبة المطعم "ليدا" إذ تقف بصلابة ضد دعوة من زوجها للهجرة قائلة "أنا مصرية من أصول يونانية".
أما شانتال فهي سيدة فرنسية من رواد مطعم "أرتينوس" الشهير بسمعته المدوية، وتقاليده الصارمة، وبكونه مقرا لمجموعة "الكوكاس" وملتقى لأفرادها في أمسيات الشراب التي تبدأ بعد منتصف الليل يوميا، وتشهد حوارات تعددت مواضيعها "وإن كانت مصر في عهد عبد الناصر ، في صلب هذه المواضيع". وعلى هذه المجموعة تطل الفصول الأولى من الرواية موضوع هذه المقالة: "الأشجار تمشي في الإسكندرية" للطبيب والأديب المصري علاء الأسواني والصادرة عن دار نوفل (هاشيت أنطوان) عام 2024 في نحو 435 صفحة من القطع الكبير.
أما العنوان فيشير إلى رؤية "مستقبلية" لمنحى الأحداث في الإسكندرية آخذين بعين الاعتبار انها تتناول منتصف الستينيات من القرن العشرين، صورة "نبوءة" يقرأها الفنان التشكيلي أنس الصيرفي مستمدا من الرواية الأسطورية المعروفة بزرقاء اليمامة التي كذبها قومها واتهموها بالخرف عندما زعمت أن الأشجار تمشي ، ثم تبين صدق مقالتها بعد فوات الأوان عندما داهمهم الأعداء الذين تخفوا تحت الأشجار.
قدم الأسواني مجموعة "الكوكاس" زاعما أن القنصل الأميركي في الإسكندرية أطلق عليهم هذا المسمى الذي يعني "اجتماع دوري لمجموعة من الناس لهم اهتمامات سياسية مشتركة"، فمن هم أعضاء الكوكاس؟ وما الاهتمامات السياسية المشتركة بينهم؟
ضمت المجموعة محاميا مشهورا وزوجته ابنة "اسماعيل الشواربي" أحد الباشوات الذي أممت الثور أملاكه، وفنانا تشكيليا صديقا مقربا لصاحبة المطعم "ليدا" وهي من أصول يونانية، ثم مالك مصنع شوكولاتة من أصول يونانية يعلن صراحة ابتعاده عن السياسة ويستعين ب"بدوي خضير" الذي تولى الأمور ذات العلاقة بالدولة والسياسة، لكن السياسة لم تبتعد عن "توني" كما ابتعد عنها، ففوجيء بها تتعامل معه في عقر داره وقد تعرض المصنع للتأميم.
وشانتال صاحبة مكتبة شهيرة تعبر عن حبها للشعب المصري ولكنها تصفه بالميل للإذعان للحاكم عبر العصور، وترد ذلك لأسباب دينية، ثم كارلو سباتيني شاب في مقتبل العمر من أصول إيطالية، نما وشكل نفسه بجهده الشخصي، وبمعونة ودعم صاحب المطعم إلى أن غدا بارمان ومديرا للمطعم في الفترة المسائية ويعتبر نفسه صديقا لمجموعة الكوكاس وليس مجرد بارمان يعمل في خدمتهم، وقد عرف عنه بكونه"زير نساء" وكانت هذه الشهرة منفذا وصلت إليه أجهزة الدولة من خلاله ليجد نفسه في مواجهة مع الدولة، مواجهة أطاحت بمجالس مجموعة الكوكاس فكيف كان ذلك؟ ... أترك للقارىء أمر اكتشاف هذه التفاصيل.
كان أنس بين أفراد المجموعة الأكثر اتصالا بالناس البسطاء مثل "الفتوة" عدلي الأسود وصديقته الراقصة نعمت وقد حرص المؤلف على أن يظهرهما في أدوار تتصف ب"الشهامة والجدعنة".
هناك من جهة أخرى "جليل" شقيق المحامي عباس الذي كان خلافا لشقيقه متحمسا للثورة مدافعا عنها بل مضى في حماسه إلى حد الإيقاع بالناس من خلال اقحامهم في جدل حول قضايا مثل دور مصر في حرب اليمن وغيرها من القضايا ثم تتكاثر التقارير للتنظيم الطليعي ويتكاثر الضحايا. يحاول جليل أن يلعب دور صحوة الضمير أزاء تفاصيل عملية تأميم مصنع الشوكولاته رغم كونه مستفيدا إلا إنه يجد نفسه مرغما على توجيه رسالة تكرس الخنوع والإذعان.
يطل الأسواني على الأحداث في نسق مشابه للأشجار المتحركة التي تخفي المهاجمين في أسطورة "زرقاء اليمامة" فيشير إلى حادثة مسابقة "جمال العيون للشباب" وما فتحته من أبواب للنقاش داخل مجموعة الكوكاس، وظهر من خلالها مواقف أعضاء الكوكاس من إدانة لعهد عبد الناصر قادها كل من عباس المحامي وأنس الصيرفي الفنان التشكيلي وفيها تعظيم لمساوىء النظام والتقليل من شأن إنجازاته، وسط دهشة شانتال الصاخبة لمظاهر التدخل في الحرية الشخصية للأفراد، ومحاولات مستبسلة من توني لتأكيد حياده السلبي نحو الأحداث .
ثم يقترب المؤلف من مشهد التفاعل مع النظام الناصري ليصور مواجهات منفردة لأعضاء الكوكاس من شانتال التي تحتك بالنظام لمصلحة العمل في المكتبة لتجد نفسها عشيقة لأحد ضباط الداخلية، وأنس الذي يتمرد على رغبة ولي أمر إحدى الطالبات لمنعه من التجوال في المقاهي، إلى أن تصل المواجهة حد الدخول إلى عقر دار المجموعة في مطعم أرتينوس.
وتتخذ الأحداث مظهرا أكثر صخبا، بتأميم مصنع الشوكولاته واضطرار توني للرحيل من ناحية، وتدخل تهمة الجاسوسية كسلاح موجه خصوصا ضد أبناء الجاليات الأجنبية من الناحية الأخرى، فليدا متهمة بالجاسوسية لمجرد أن أحد المتهمين بالجاسوسية تناول الطعام في مطعمها، وكارلو متهم لأنه رفض الإيقاع بمواطنة من دولة عربية للضغط على زوجها وابتزازه سياسيا. ثم هذا الحشد الإعلامي بزعم التصدي للجاسوسية الذي قاد العامة لإيقاع الضرر بمطعم مارتينوس لولا مشهد التدخل الذي قاده الفتوة عدلي الأسود.
وهكذا استبسل المؤلف عبر فصول الرواية في حشد القراء في تظاهرة بالرأي ضد الناصرية، التي أممت، والتي قمعت من خلال التنظيم الطليعي، والتي تدخلت في الحرية الشخصية للناس، والتي خاضت حربا في اليمن تسبب في العديد من الضحايا الأبرياء والتي جهدت في جعل مصر مكانا غير ملائم لعيش الجاليات الأجنبية. (وفق ما يستخلص من المقولات الفكرية والسياسية للرواية).
قدم د.علاء الأسواني من خلال هذه الرواية أطيافا وشرائح متعددة من المجتمع المصري في فترة حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر المشار إليها "أواسط الستينيات من القرن العشرين"، فقد تناول إلى جانب الطبقة البرجوازية التي تمثلها مجموعة "الكوكاس" من المهنيين، والفنانين وأصحاب المصالح (مطاعم، معرض بيع الكتب، والمصانع الصغيرة) بما فيهم من أشخاص يعتبرون أنفسهم مصريين وإن كانوا من أصول أوروبية مختلفة. كذلك قدم صورا لطبقات تضم "الراقصة والفتوة الذي حرص الكاتب على تلميعه وتقديمه بصورة البلطجي الجدع صاحب المباديء!!!" ثم رواد المقاهي ، ولم يغفل عن تقديم صورة للسلطة في مواقع مختلفة مع التركيز عل الداخلية كممثل للجهات الأمنية في صورها المختلفة، وكان لا بد من الإشارة إلى الانتهازيين في صورة "بدوي خضير " والمخدوعين المتحمسين وربما المؤمنين بمباديء الثورة المعلنة" وفقا للصورة التي قدمها الأسواني ممثلة في شخص جليل القوصي شقيق المحامي.
وقد أتقن الأسواني كما هو شانه دائما - وقد نال قدرا كبيرا من الإلمام بالفن الروائي بلغ حد المقارنة والتشبيه بالأديب والمفكر الأكثر شهرة نجيب محفوظ- تقديم الفكرة التي أراد من خلال التنقل الرشيق بين هذه الفئات من المجتمع في مشاهد لا ينقصها التشويق بالرغم من مساحات من التنظير التي شملت عرض أدبيات "الفكر السياسي" الذي حرصت الناصرية على ترويجه وربما بأسلوب خدم الفكرة التي أراد الأسواني الوصول إليها والتي مثلت محاكمة غير عادلة لتلك الفترة المحورية من حياة مصر السياسية والاجتماعية. وتضمنت الإدانة تهما بالديكتاتورية وما يتبعها من إجراءات قمعية، والتعدي على أملاك الغير"التأميم"، والإساءة للمواطنين من اصول أجنبية، والتدخل في حرب اليمن التي أدت إلى خسارة الكثيرين من أبناء الشعب المصري وفقا للصورة التي تضمنتها الرواية، أضف إلى ذلك التقليل من المزايا التي حققتها مصر والعالم العربي في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.
صحيح أن النظام الناصري ألغى الأحزاب عن يمينه ويساره، وحال بذلك دون نهضة فكرية كان يمكنها أن تمنع ما وصلت إليه الأمور من تدهور وضياع، إلا أنه ثمة ما يمكن الإشارة إليه بكثير من التقدير في الحقبة المشار إليها يأتي السد العالي، والصناعات الكبرى، والزراعة الاستراتيجية للقطن وغيره من المحاصيل الهامة، ومجانية التنعليم التي أتاحت فرصة التعليم للملايين بما في ذلك التعليم الجامعي، الذي اتيح ليس لأبناء مصر فحسب بل للملايين أيضا من ابناء الدول العربية. إضافة إلى قيمة معنوية هامة تمثلت في قدر عال من المنعة والعزة للعرب نفتقر للحد الأدنى منه في الوقت الحالي فأي هدف يسعى إليه الأسواني من توثيق هذه المحاكمة في عمل روائي في الوقت الحالي؟ ومن ترى يملك حق محاكمة عهد عبد الناصر بما عليه وما له؟ ويبقى السؤال الأهم هال باتت مصر في وضع أفضل بعد رحيل عبد الناصر؟!!!
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟