لو قارنا بين قائمة الأخطار التي تهدد الجنس البشري (أسلحة الدمار الشامل، الإرهاب، الإيدز، مرض السارس وغيرها) والسباق المحموم لصنع كائنات حية قادرة على استنساخ نفسها ذاتياً (دون تدخل الإنسان) فسيبدو مبدئياً ذلك الأقل خطرا.
غير أن أمير ويلز أعلن قلقه من الأخطار الكامنة لتكنولوجيا النانو (Nanotechnology) العلم الحديث الذي يجعل من صنع كائنات (قادرة على استنساخ نفسها ذاتياً) وآلات ومواد متناهية في الصغر قد لا تُرى بالعين المجردة أمراً ممكناً. لذلك فإن الأمير تشارلز سيحذر في قمة تكنولوجيا النانو التي ستعقد في بلده بعد أشهر، من إمكانية أن تحول الكوكب إلى <<مادة رمادية لزجة غير معروفة المحتوى>>.
فقد طرح سيناريو <<المادة الرمادية اللزجة>> لأول مرة من قبل باحثي تكنولوجيا النانو قبل ما يزيد على العشرين سنة مضت عندما كانت هذه التكنولوجيا مجرد نظرية. وهو يشير الى إمكانية بناء آلات ميكروسكوبية (دقيقة) بإمكانها، مثلاً، أن تطوف حول الكوكب وتلتهم النفايات السامة، أو تبحر في مجاري دمنا لتدمير مسببات المرض. ولعل أسهل طريقة لتصنيع مثل هذه الآلات بكميات هائلة، هو بجعلها قادرة على إعادة استنساخ نفسها ذاتياً (من دون تدخّل بشري) مثلما تفعل الفيروسات والعصيات المجهرية الأخرى ويبدو أن هذه الخاصية هي التي جلبت انتباه الأمير تشارلز.
وبالرغم من قلق الأمير تشارلز من <<السيناريوهات المخيفة>> لهذه التكنولوجيا يبدو أن ملايين البشر حول العالم يستخدمون يومياً منتجات تقنية النانو من دون أن يدركوا ذلك ومثال على ذلك أحد أنواع كريمات الحماية من أشعة الشمس فوق البنفسجية. كذلك يعود الفضل إلى تكنولوجيا النانو في ظهور الزجاج المضاد للاتساخ بفعل الأمطار الذي يمنع التصاق قطرات المطر بالزجاج. ويتوقع أن يقدم الباحثون قريباً معجون أسنان يغلّف ويحمي ويرمم منطقة ميناء السن. ويتوقع أيضا أن يتقدم العمل على أنواع من الأحذية التي تنظف نفسها ذاتياً من دون حاجة إلى تلميع وأن تقود هذه التقنية إلى تطورات متسارعة في إنتاج الطاقة وتكنولوجيا الدفاع والعناية الصحية.
أخطار كامنة؟
وإذا كان لا أحد حالياً يشير إلى أي خطر في المنتجات المتوفرة غير أن بعض منتقدي التكنولوجيا يرون أنها يوماً ما ستُخرج المارد من قمقمه.
فمعظم علماء هذه التكنولوجيا يعتقدون أن مثل هذه الآلات حتى ولو كان بالإمكان صناعتها لن تظهر قبل عقود من الزمن. ويعتبر المتخصص في التجميع الذاتي للجزيئات في جامعة الجمعية الملكية البريطانية جيم أي. توماس <<إن فكرة مقدرة هذه الآلات على تقليد سلوك الأنظمة البيولوجية سخيفة جداً>> وهو يشير إلى أنه حتى لو كان الاستنساخ الذاتي ممكناً فلن يكون ذلك إلا في نطاق غير مؤذ. ويخشى علماء النانو في أن يدفع الذعر غير المبرر من التكنولوجيا إلى الحد من البحوث المهمة التي تؤدي إلى تقدم هذا العلم الفتي.
وتزعج هذه التوجهات على ما يبدو مديرة البحوث في مجموعة <<إي.تي.سي.>> هوب شاند، وهي منظمة كندية للدفاع عن حقوق المجتمع، والتي تطالب بقرار دولي يمنع استخدام تكنولوجيا النانو إلى أن تجرى عليها اختبارات تثبت سلامتها من الناحية الصحية والأمنية والبيئية. ويبدو أن المخاطر التي حذرت منها هذه المجموعة هي التي جعلت الأمير ويلز يتدخل في هذا المجال، وهي تطالب بالإطلاع على <<الدراسات الصناعية التي تشير إلى أن هذه المنتجات آمنة إذا كانت متوفرة>>.
ويعتبر رئيس تحرير مجلة <<إيكولوجيست>> (Ecologist) زاك جولدسميث <<أن مجتمع علماء النانو لا يريد الحديث عن المخاطر الكامنة لهذا العلم.. لكننا عندما نواصل هذا البحث فإننا كمن يغذي الجنون الذي سيتسبب بدمار هذا العالم>>.
ويرى جولدسميث <<أن الناس غاضبون لأن العلماء أخطأوا كثيراً في السابق بتطويرهم مواد خطرة كال<<دي.دي.تي.>> وغازات <<الفلوروكلوروكاربون>> ودواء <<الثاليدومايد>> (المسكّن للآلام الذي ثبت تسبّبه بتشويه الأجنة)>> وهو يعتقد <<أن خطأً آخر من تكنولوجيا النانو هذه المرة سيكون أكثر خطورة بكثير من كل الأخطاء السابقة>>.
وكان تقرير لمجموعة <<إي.تي.سي.>> قد تضمّن موجزا لبحث صحي حول المواد الدقيقة المنتجة بتكنولوجيا النانو. وقد أكدت البروفسور وعالمة الأمراض فيفيان هوارد <<أن الجزيئات الدقيقة المنتجة بهذه الطريقة، والتي يمكن أن تتسرب عبر الجلد والأنسجة الأخرى، قد تساعد على تسميم أجزاء حساسة من الجسم البشري>>.
وتقوم ثلاث عشرة دولة حاليا ببرامج للبحوث في تكنولوجيا النانو تحت إشراف الدولة وتتمنّى جميعها الحصول على حصة من سوق هذه التكنولوجيا التي تقدر بحوالى تريليون دولار (ألف مليار دولار) بحلول العام 2015. وتستثمر فيها كل من الولايات المتحدة الأميركية واليابان حوالى 700 مليون دولار هذا العام، فيما ينوي الاتحاد الأوربي استثمار مبلغ مليار يورو خلال الأربع سنوات القادمة.
فمن الواضح أن عبارة النانو ستكون ملازمة للكثير من المنتجات التي ستظهر في الإعلانات خلال السنوات القادمة بدءاً من مواد التجميل وانتهاءً بالبناطيل ومضارب التنس، ومع ذلك فمع انتشار هذه التكنولوجيا ودخول منتجاتها إلى الأسواق قد تتزايد المخاوف والشكوك حولها ما لم يناقش العلماء والساسة التعقيدات الحالية لها بدلاً من الحديث عن مستقبلها البعيد. ومن دون نقاش مفتوح وصريح فإن فهم عامة الناس لهذه القضية لن يتجاوز السيناريو الغامض <<للمادة الرمادية اللزجة>>.