أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الارشيف الماركسي - جورج بوليتزر - 2-أصول الفلسفة الماركسية















المزيد.....



2-أصول الفلسفة الماركسية


جورج بوليتزر

الحوار المتمدن-العدد: 1766 - 2006 / 12 / 16 - 11:01
المحور: الارشيف الماركسي
    


القسم الرابع
أصول الفلسفة الماركسية
المادة التاريخية
2

تأليف تعريب
جورج بوليتزر شعبان بركات
جي بيس ، موريس كافين ليسانيه في الآداب

منشورات المكتبة العصرية
صيدا – بيروت


الدرس الخامس عشر
الإنتاج :
القوى الإنتاجية وعلاقات الإنتاجية
1 – ظروف حياة المجتمع المادية
رأينا في القسم الثالث من هذا الكتاب ما هي نتائج النزعة المادية الجدلية إذا ما طبقناها على تاريخ المجتمعات و درسنا كيف تعكس حياة المجتمع الروحية ظروف حياته المادية.
ولكن هناك سؤال يعرض لنا وهو: ماذا يجب أن نفهم، حسب نظرة النزعة المادية التاريخية، من "ظروف حياة المجتمع المادية" أن الظروف المادية أي الظروف الموجودة مستقلة عن إرادة الناس التي توفرها لنمو المجتمع، متعددة ومتفاعلة.
فما هي، بين ظروف حياة المجتمع المادية، القوة الرئيسية التي تحدد وجه المجتمع وطابع نظامه الاجتماعي، وتطور المجتمع من نظام إلى نظام آخر؟
ادعى البعض أن هذه القوة الرئيسية هي البيئة الجغرافية، وقال آخرون أنها ازدياد السكان. فهي أما أن تكون القضاء المحتوم الناتج عن ازدياد السكان.
فليس أمام المجتمع، كي يعيش سوى حلين عند الحاجة:
أما أن يغير الأرض، كما تفعل القبائل الرحل فتغزو أراضي جديدة، وأما أن يقلل من عدد سكانه، مستخدما الخصي EUGENIME كما كان يفعل الإسبارطيون القدماء1 وأما باهلاك الأفواه التي لا فائدة منها كالعجز والمقعدين والمرضى والمجانين، كما كانت تفعل بعض القبائل البدائية.
وتجمع حرب الغزو والأفناء الجماعي للسكان بين هذين الحلين. فلقد كان الخصي وإفناء المعتوهين يصحبان عند الهتلريين، نظريا وعملياً، عقيدة "المجال الحيوي"
تزدهر نفس النظريات البربرية الآن في أمريكا 2 وتنحط هذه النظريات بالإنسان إلى مرتبة الحيوان، إذ حينما يعيش نوع حيواني على أرض ذات مساحة معينة ولها إمكانيات غذائية معينة، تنشأ "قوانين للإسكان" تسمح بالتنبؤ بتغيرات النوع. ويمكن لنقص الغذاء وضرورة استهلاك غذاء مختلف أن يؤديا إما لزوال النوع أو تحوله.
ولكن الإنسان يختلف عن الحيوان: فهو يعمل ويناضل ضد الطبيعة. ولا يجب أن ننسى الجدلية: فليس هناك الطبيعة من جهة والناس من جهة ثانية، الجغرافية من ناحية، والبيولوجيا من ناحية ثانية، فيؤثر كل منهما تأثيرا سيئاً.
يكذب هذه الفكرة التطبيق العملي للإنسانية التي حولت الأرض لخدمتها عبر آلاف السنين.
ا – البيئة الجغرافية
البيئة الجغرافية، بما فيها من طبيعة تحيط بالمجتمع ومناخ ومصادر طبيعة وسهولة مواصلات، وأراض، هي شرط ضروري دائم لحياة المجتمع المادية. ولهذا كان من البديهي أن تؤثر على نمو المجتمع: فهي أما أن تعمل على هذا النمو أو أن تعيقه. فلقد عملت سهولة استخراج الفحم الحجري في انجلترا على نمو الصناعة في هذه البلاد. بينما وجود المستنقعات التي تتطلب أعمال التجفيف، أو وجود الصحراء التي تحتاج للري أو فقدان البترول كل ذلك ظروف يمكن أن تعميق نمو منطقة من المناطق.
غير أن تأثير البيئة الجغرافية ليس مبرماً. والدليل على ذلك أن التغيرات في المجتمع تتم بصورة أسرع من التغيرات في البيئة الجغرافية. فلو أن البيئة الجغرافية تؤثر تأثير مبرماً على تاريخ المجتمعات لوجب أن تحفظ هذا التاريخ بنفس المعالم طالما أن البيئة الجغرافية لم تتغير تغيراً أساسياً. بينما عرفت أوروبا خلال ثلاثة ألاف سنة أربعة أو خمسة أنظمة اجتماعية مختلفة: نظام الكومون البدائي، ونظام الرق، والنظام الإقطاعي وأخيراً النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي. ولم تتغير ظروف أوروبا الجغرافية تقريباً خلال هذه الفترة من الزمن.
والنظام الاجتماعي، بالعكس، هو الذي يحدد تحول البيئة الجغرافية. إذ أن نظام الرق القديم استنفذ أرض حوض البحر المتوسط ودفع إلى غزو الجول وتسوية أرضها. كما أن البرجوازية التجارية الهولندية قد انتزعت، في فجر الأزمنة الحديثة جزءاً من بلادها من مياه البحر. ولقد حولت الرأسمالية القائمة على التبادل الحر حقول القمح الإنجليزية إلى مراع للقطعان، وكذلك قضت الرأسمالية على الغابات في مناطق كاملة من أوروبا، فعملت بذلك على انتشار الطوفانات، كما أفقرت الأراضي الزراعية وحولت مناطق بأجمعها في الولايات المتحدة إلى بواد قفراء. بينما تقوم ورشات العمل في روسيا الشيوعية، بإخصاب الصحاري وتحويل مجاري الأنهار، وتحسين المناخ. ولقد أوجد العلم التقدمي، بعد دراسته لقوانين نمو الأراضي، الزراعة القطبية، وأحيا "الأراضي السوداء" الشهيرة، كما اكتشفت قوانين تطور المناظر.
وكذلك قضت الديمقراطية الشعبية في الصين على مصائب فيضانات الأنهار الكبرى.
تحتج الطبقات الرجعية "بالبيئة الجغرافية" للتخلص من مسؤولياتها في المصائب العامة. فإذا كانت سدود هولندا قد تداعت عام 1953 فما ذلك ألا لأن البرجوازية الرجعية أبت أن تسحب فلساً من ميزانية الحرب لإصلاح هذه السدود.وإذا كانت الجماهير الفقيرة في اليونان لم تحظ بالمعونة ضد الزلازل، وفي ايطاليا ضد الفيضانات فسبب ذلك سياسة البرجوازية الطبقية وليست "البيئة الجغرافية".
يدعي المؤرخون الاجتماعيون الديمقراطيون، الذين يريدون إخفاء العامل الحقيقي في التطور الاجتماعي، أنهم يفسرون التاريخ بواسطة "البيئة الجغرافية". وليس هدف هذه النزعة المادية الفجة إلا أن تقنعنا بأزلية "مدنية" غريبة أو أطلنطية مزعومة وتعارض "الشرق" و "الغرب" وتبرير الحرب الباردة.
ب – السكان
السكان، نموهم وكثافتهم، كل ذلك بدون شك عناصر ضرورية من بين ظروف حياة المجتمع المادية، إذ لا يمكن لأي مجتمع أن يوفر حياته المادية بدون حد أدنى من الناس وأن يقف في وجه قوى الطبيعة. وعدد السكان الفعالين من العناصر التي يجب أن نحسب حسابها لتقدير القوى الإنتاجية. لأن نمو السكان يؤثر في النمو الاجتماعين فهو يسهله أو يعيقه. وهكذا فأن تدفق الأيدي العاملة، التي هاجرت إلى الولايات المتحدة، قد ساعد على النمو السريع للصناعة الضخمة التي لم يمكن قد مضى قرن على وجودها. كما أن أفناء جزء من سكان أميركا الشمالية من الهنود على يد المستعمرين الانجلو سكسون، قد ساعد على ركود القبائل الباقية التقني والاقتصادي.
ولكن هذا التأثير نفسه ليس فاصلا، والدليل على ذلك أن نمو السكان نفسه لا يمكن أن يفسر لنا لماذا يخلف نظام اجتماعي معين نظاماً اجتماعياً ولا يخلفه نظام آخر، فخلف نظام الرق النظام الإقطاعي وهذا النظام الإقطاعي قد خلفه النظام الرأسمالي. فلو أن نمو السكان يؤثر تأثيرا قاطعا لكان على البلاد التي بلغت أضخم كثافة من السكان أن تتمتع بأفضل نظام اجتماعي. فقد كانت كثافة السكان في بلجيكا عام (1939) 26 مرة أعلى منها في الاتحاد السوفياتي، ومع ذلك لا تزال بلجيكا في مرحلة الرأسمالية بينما الاتحاد السوفياتي قد انتهى من هذا النظام.
والنظام الاجتماعي، على العكس، هو الذي يفسر حركة السكان. فليس من الصعب أن ندرك أن الرأسمالية في خفضها لقوة الجماهير الشرائية، وإفقار العمال، وفرض حياة بائسة عليهم تزيد من نسبة الموت (ولا سيما بين الأطفال). وأما في الاتحاد السوفياتي، حيث تتعارض ظروف الحياة الاشتراكي مع ظروف الحياة الرأسمالية، فلقد ازداد عدد السكان بين 1949 – 1952 بما يقرب من العشرة ملايين، أي بما يساوي سكان بلجيكا والقطاع الشمالي معاً.
ولهذا فأن الاقتصاديين البرجوازيين، حين يعتمدون في تحاليلهم على حركة السكان -، دون أن يدركوا أن هذه الحركة في الواقع هي نتيجة يرتكبون في ذلك خطأ جسيماً.
ولهذا فليست البيئة الاجتماعية ولا نمو السكان هما اللذان يحددان طابع النظام الاجتماعي وتطور المجتمع من نظام إلى آخر.
وترى النزعة المادية التاريخية أن بين ظروف حياة المجتمع المادية قوة أخرى مستقلة في وجودها عن أرادة الناس وهي القوة الرئيسية للتطور الاجتماعي. وتتكون هذه القوة من طريقة الناس في الحصول على وسائل معاشهم، ألا وهي الوسائل المادية الضرورية للحياة. وهذا ما يسمى بطرية الإنتاج للوسائل المادية.
2 – طريقة الإنتاج
ليس هناك شيء آخر سوى الطبيعة والناس. ولقد رأينا أن كلا من هذين العنصرين لا يمكن أن يفسر، لوحده نمو المجتمعات بل أن اتحادهما الجدلي هو الذي يمدنا بالجواب. وهذا الاتحاد الجدلي هو العمل والإنتاج. إذ لا يمكن للمجتمع أن يعيش أو ينمو بدون العمل والإنتاج. وليس هذا قضاء إليهاً محتوما بل هو الشرط الموضوعي لكل وجود إنساني.
وأمام المجتمع طرق عديدة للحصول على وسائل المعيشة الضرورية. فهو يمكنه مثلا أن يستخدم آلاف المصانع اليدوية أو يستخدم الآلات أو الحيوانات أو الأرقاء. ولهذا يجب أن ندرس الطريقة التي يتم بها الإنتاج أو طريقة الإنتاج.
يفهم البرجوازي الصغير، حين نتحدث عن طريق الحصول على الوسائل المادية الضرورية للعيش , الظروف التي نشتريها بها في السوق. ولكن هذا يتعلق بالتوزيع والاستهلاك وليس بالإنتاج مطلقاً. ومن البديهي أنه لا يوجد توزيع أو استهلاك بدون الإنتاج.
ا – القوى الإنتاجية
يحتاج الإنسان إلى الغذاء والثياب والأحذية والمسكن والمحروقات في معاشه. ويجب أن ينتج المجتمع هذه الوسائل المادية لكي يستطيع الحصول عليها. ويحتاج المجتمع في إنتاجها لآلات خاصه، فيجب أن يعرف كيف يصنع هذه الآلات وكيف يستعملها.
يؤدي بنا، إذن تحليل القوى التي تساعدنا على الحصول من الطبيعة على معيشة المجتمع، إلى أن نميز بين:
آلات الإنتاج التي تنتج بواسطتها وسائل الحياة المادية (ولا تحتوي هذه الوسائل على وسائل الأستهلاك بل آلات الإنتاج نفسها).
الناس الذين يستخدمون الآلات (ولا سيما عددهم) والذين لا يمكن استعمال هذه الآلات بدونهم.
تجربة الإنتاج التي اكتسبتها الأجيال المتتابعة: التقاليد المهنية، المعارف التقنية والعلمية. فمن الصعب مثلا أن نستغني، في وقت قصير، عن التجربة التي تجمعت في صناعة الحرير في ليون.
عادات العمل الخاصة بكل عامل، صفته، مهارته إذا نظرنا إلى هذه القوى المادية في مجموعها وتفاعلها تكون لنا منها قوى الإنتاج.
فما هو العنصر الأساسي الذي يسمح بتحديد حالة قوى الإنتاج؟ هي آلات الإنتاج. لأن طبيعة هذه الآلات هي التي تحدد عدد الناس الضروري لإتمام عمل معين، والمعارف التقنية الضرورية، وعادات العمل التي يكتسبها المنتج باستخدامه لها. كما أن طابع العمل اليدوي وطابعة الفكري يتعلقان بطبيعة وسائل الإنتاج.
ذلك لأن تطور قوى الإنتاج مشروط بتطور وسائل الإنتاج، فقد كانت هذه الوسائل، في أول الامر، عبارة عن حجارة ضخمة بدائية، ثم أصبحت سهاماً مما ساعد على الانتقال من الصيد إلى تأليف الحيوانات وتربية القطعان عند البدائي، ثم ظهرت الآلات المعدنية التي ساعدت على الانتقال إلى تطور الزراعة، وبعد ذلك حدثت اختراعات جديدة ساعدت على صنع المواد، كصناعة الخزف POTERIE وصناعة الحديد ثم تطورت المهن. وتم انفصالها عن الزراعة، ومن ثم ظهرت الصناعات اليدوية التي تمتاز بتقسيم العمل إلى مهام جزئية لصنع منتوج معين ، وبعد ذلك تم الانتقال من وسائل إنتاج الصناعة اليدوية إلى الآلة التي ساعدت على التطور من الصناعة اليدوية إلى الصناعة الآلية والمصنع والصناعة الضخمة الإلية الحديثة بظهور الآلة البخارية والطاقة الكهربائية.
ذلك هو عرض مختصر لنمو قوى الإنتاج على ممر تاريخ الإنسانية.
ونلاحظ أن هذا النمو هو أصل تقسيم العمل بين الناس، ولا سيما التقسيم الأول الكبير للعمل بين الصيادين البدائيين وصيادى الأسماك وبين القبائل التي تقوم بتربية المواشي ثم الزراعة.
وأما التقسيم الثاني للعمل بين المهني والزراعة فقد أدى بالضرورة إلى وجوب تبادل المنتوجات بين الزراع وبين العمال اليدويين المهنيين والبحث عن توزيع آخر غير التوزيع العائلي. وهكذا ظهرت في ظروف معينة، سنحددها فيما بعد السلعة ، كما أن هذا التقسيم الثاني للعمل هو أصل الاختلاف التدريجي بين القرية والمدينة (وهذه الاخيرة ضرورية كمركز للإنتاج ومصدر للتبادل).
وأخيراً أثر تطور وسائل الإنتاج على مظاهر قوى الإنتاج الأخرى: لا شك أن تطور وسائل الإنتاج وكما لها قد تما على يد الناس الذين لهم علاقة بالإنتاج ولم يحدث ذلك بعيدا عن الناس. ولهذا ففي الوقت الذي تغيرت فيه وسائل الإنتاج تغير الناس – وهم العنصر الأساسي في قوى الإنتاج – أيضا وتطوروا. فتغيرت ذلك تجربتهم الإنتاجية وعاداتهم في العمل ومقدرتهم على استخدام وسائل الإنتاج وتطورت.
فاضطرت البرجوازية الرأسمالية، تلبية لحاجات الصناعة الضخمة الحديثة، إلى تعليم العمال القراءة والكتابة والحساب، كما اضطرت إلى تنظيم التعليم الابتدائي المجاني الأجباري وفتح بعض المدارس المهنية.
ولقد حاول ليون بلوم أن يدخل النزعة المثالية من جديد فادعى أن الآلات لا يمكن إتقانهاإلا بفضل اختراعات الفكر الإنساني، ولهذا فأن الفكر هو أصل تقدم قوى الإنتاج ولكننا نعرف كيف تتولد الأفكار من التطبيق العملي نفسه: وذلك أن أفكار الإتقان تتولد بفعل حاجات الحياة المادية فهي تظهر عند استعمال آلة من الآلات.
والآلة هي الواسطة بين الإنسان والطبيعة، ووظيفتها أنها تساعدنا على تحويل الأشياء الطبيعية إلى أشياء يمكن أن يستعملها الإنسان. ولهذا تعكس الآلة متطلبات المادة التي يجب معالجتها (لا يعالج النحاس بنفس الآلات التي يعالج بها الصلب) ولتطلبات الإنسان الحياتية، أي صفات الشيء الذي يجب أن يقوم بخدمته و الذي يجب صنعه (ولهذا اختلفت الآلات باختلاف المهام).
تعبر الآلة، في المظهر الأول، عن خضوع الإنسان للضرورة الطبيعية، بينما هي تعبر في المظهر الثاني عن خضوع الطبيعة لحاجات الإنسان وعمله، أي لحرية الإنسان. تعبر الآلة إذن بصورة جدلية، عن النضال بين الإنسان والطبيعة.
وأما قوى الإنتاج فهي تعبر عن مسلك الناس نحو الأشياء وقوى الطبيعة التي يستخدمونها لإنتاج منتوجات مادية فبماذا ينتج الناس؟ هل ينتجون بواسطة المحراث البدائي أم بواسطة المحراث المتعدد السكك؟
تلك هي المسألة الأولى التي يثيرها تحليل طريقة الإنتاج ألا وهي مسألة مستوى قوى الإنتاج.
ب – علاقات الإنتاج
الإنتاج هو نضال الإنسان ضد الطبيعة. ولكن الإنسان لا يناضل قط لوحده لأنه إن فعل ذلك فشل وعاد القهقرى إلى حالة الحيوان. ولهذا يناضل الناس سوية ضد الطبيعة. فمهما كانت الظروف فالإنتاج دائماً هو إنتاج اجتماعي. لأن المجتمع هو الذي جعل الإنسان ما هو عليه، وهو الذي أنقذه من حالة الحيوانية.
ولهذا فإن خطأ الاقتصاد السياسي البرجوازي الأساسي هو التحدث عن النشاط الاقتصادي عند رجل وحيد يشبه روبنسون كروزوه أو آدم، وهذا الإنسان لم يوجد قط، بل هو ضرب خيال ميتافيزيقي. ولهذا لم نبدأ نحن بالحديث عن المنتوجات المادية الضرورية للفرد بل عن المنتوجات الضرورية للمجتمع في مجموعة.
فإذا كان للإنتاج دائما طابع اجتماعي فلا بد من أن تنشأ بعض العلاقات بين الناس بصدد هذا الإنتاج. وليست هذه العلاقات علاقات أفلاطونية بل هي علاقات تتصل بالإنتاج وتخضع له. وليس هناك فقط علاقات الناس بالطبيعة (قوى الإنتاج) بل هناك علاقات الناس فيما بينهم خلال عملية الإنتاج، ونسمى هذه العلاقات بين الناس علاقات إنتاج.
ويمكن لعلاقات الإنتاج بين الناس أن تكون أنواعا متعددة:
يمكن للناس أن يجتمعوا بحرية للقيام معا بعمل مشترك كبناء بيت مثلا فتنشأ بذلك علاقات تعاون و تعاضد بين أناس أحرار من كل استغلال.
ولكن يمكن لإنسان أيضاً، في بعض الظروف، أن يضطر أخاه الإنسان للانتاج من أجله: فيتغير بذلك طابع الإنتاج تغييرا سياسيا، فتصبح علاقات سيطرة وخضوع ويظهر استغلال عمل الآخرين.
وأخيرا يمكن أن نلقى، عبر التاريخ، مجتمعات يوجد فيها هذان النموذجان: أحدهما في طريق الزوال والآخرة في طريق الاشتداد فتنشأ علاقات فترة انتقال من صورة لأخرى.
ولكن مهما كان نموذج علاقات الإنتاج فإن هذه العلاقات عنصر ضروري للإنتاج. ولنكتف الآن بمثال بسيط فنقول أن الإنسان الذي يعمل من أجل نفسه لا يعمل كالذي يشتغل من أجل الآخرين. ولقد بلغ من صحة هذا الأمر أن المستغلين يحاولون دائما تغطية الاستغلال تحت ستار تعاون مزعوم وإيهام المستغلين بأن علاقات الاستغلال هي علاقات تعاون "عائلي" وهذا ما يسمى Paternalisme فيقولون للعمال: "دافعوا عن مصالح صاحب العمل فسوف تنالون الأجر على ذلك في الآخرة!".
ولكن إذا كان طابع علاقات الإنتاج عنصرا أساسيا في الإنتاج، فإن هذه العلاقات لا تتفق والفكرة التي يمكن أن نكونها عنها. وكان ليون بلوم يقول، منافقا أنه لا يفهم بماذا تزيد العلاقات الاقتصادية بماديتها على سائر العلاقات. ونحن نعلم أن المادية تعني الوجود بعيدا عن إرادة الناس ووعيهم، والإنتاج بالنسبة للناس ضرورة موضوعية لا يمكن أن تتم إلا ضمن نطاق المجتمع كما هو كائن. مثال ذلك أن من لا يملك أي شيء من المنتوجات المادية الضرورية للحياة مضطر، ماديا، للعمل من أجل الآخرين، خاضعا ليسيطرة الاخرين و هكذا ليس الاستغلال ((فكرة)) و إنما هوً واقع موضوعي يؤثر في الإنتاج.
ولا يؤثر الناس في الإنتاج على الطبيعة فقط، بل يؤثر أيضاً كل منهم في الآخر. فهم لا ينتجون إلا بالتعاون بصورة معينة، متبادلين نشاط كل منهم فيما بينهم. فهم يقيمون في سبيل الإنتاج، علاقات معينة بعضهم مع بعض، ويتحدد تأثيرهم في الطبيعة، أي الإنتاج، في حدود هذه العلاقات الاجتماعية .
لا يمكن، إذن، فصل قوى الإنتاج عن طابع علاقات الإنتاج، لأن قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج "مظهران" لا ينفصلان عن طريقة الإنتاج التي " تجسد" حسب تعبير ستالين، وحدتهما الجدلية في عملية إنتاج منتوجات المادية.
وإنه لمن الخطأ الأساسي أن نجعل من دراسة الإنتاج دراسة قوى الإنتاج فقط. ولقد ارتكب هذا الخطأ، مع ذلك، الذين يعتقدون أن الماركسية تقوم على تفسير تطور المجتمعات بواسطة تطور قوى الإنتاج فقط، ويتغاضون عن طبيعة علاقات إنتاج. ولهذا فإن تفسير العالم الحديث بواسطة آلة البخار وإهمال تحليل علاقات الإنتاج الرأسمالية لا يدل على إيمان بالمادية بل هو تشويه لها. كما أن تعليم أطفال المدارس التقدم التاريخي للوسائل التقنية والتغاضي عن تعليمهم ما هية الاستغلال الرأسمالي خداع لهم وتقرير الماضي والحاضر والمستقبل تقريراً خاطئاً لهم.
ويرتكب نفس الخطأ أولئك الذين ينسون التقدم الاجتماعي وتقدم علاقات الإنتاج فلا يرون في "التقدم" سوى التقدم التقني. ذلك كان وهم البرجوازية في القرن التاسع عشر.وبهذا نشأت خيبة أمل مريرة لأن التقدم التقني العلمي يمكن أن يخدم أعمال السلام كما يخدم أعمال الحرب، إذ أن الآلة يمكنها أما أن تقضي على العامل أو تحرره، حتى إذا ما أخذت الرأسمالية بالانحطاط، في عصر الاستعمار، وكشفت عن جروحها المزمنة من فقر واضطهاد وحرب، مستخدمة أحدث الوسائل في التقتيل، أعلن الخياليون من أنصار "التقنية" بإفلاس التقدم وحملوا الآلة مسؤولية المصائب التي يولدها رأس المال! ويكرس بعض علماء الاجتماع البرجوازيين أنفسهم لمثل هذه السفسطة ألا وهم دعاء "علم الاجتماع الصناعي" ولا سيما زعيمهم جورج فريدمان فيتبنون وجهة نظر "أصحاب العمل" ويتظاهرون بالبحث عن سبب موقف العامل "السلبي" في بلاد الرأسمالية، أمام العمل، فإذا به النزعة الآلية، بينما السبب الحقيقي هو استخدام الآلات الرأسمالي من أجل الإنتاج الرأسمالي وزيادة الاستغلال. يقول ماركس أن قوى الإنتاج لا تؤثر ألا في حدود علاقات الإنتاج. ولهذا فإن استخدام الآلة، في الاتحاد السوفياتي حيث زالت علاقات الاستغلال، لا يمكن أن يكون له سوى نتائج طيبة بالنسبة للعامل.
لا تختصر الآلات، في روسيا، العمل فقط، بل هي تسهل في نفس الوقت، العمل للعمال. ولهذا يستخدم العمال الآلات عن طيبة خاطر في عملهم لأنهم يعيشون في ظروف اقتصاد اشتراكي، على عكس ما يجري في ظروف الرأسمالية
تنظر النزعة المادية التاريخية إلى طريقة الإنتاج في مجموعها وفي وحدتها: علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج. ولما كانت قوى الإنتاج لا تؤثر إلا في حدود علاقات الإنتاج فإننا نسمي، عادة مختلف طرق الإنتاج بطابع علاقات الإنتاج التي تسيطر عليها، حين نتحدث عن طريقة الإنتاج نريد بذلك القول بأن علاقات الإنتاج الإقطاعية كانت مسيطرة عليها، وكانت تطبع الحياة الاجتماعية بطابعها. ولا نعني بالضرورة القول بأنها كانت العلاقات الوحيدة. كما أنه ليس من العلم في شيء أن تسمى عصراً تاريخياً بالنسبة لحالة قوى الإنتاج كقولنا العصر الحجري والعصر المعدني وعصر الآلة البخارية أو العصر الذري.
3 – ملكية وسائل الإنتاج
رأينا، حين درسنا قوى الإنتاج (المسألة الثانية أ) أن وسائل الإنتاج هي العنصر الأساسي فيها. وذلك لأن طبيعة وسائل الإنتاج هي التي تحدد، في الحقيقة، مستوى قوى الإنتاج.
فلننظر الآن ما هو الأهم في علاقات الإنتاج. وما هو العنصر الذي يحدد طابعها؟
تلك هي خاصية وسائل الإنتاج.
من الواضح أن من يفتقد إلى هذه الوسائل لا يمكنه أن يعيش إلا إذا قبل سيطرة من يمتلكها.
ولا يجب أن نخاط بين وسائل الإنتاج وبين منتوجات الاستهلاك (كالأثاث، ومنازل السكن، والسيارة العائلة) ونعني بوسائل الإنتاج كل ما هو ضروري للإنتاج.
فما هي، مثلا، وسائل الإنتاج في المجتمع الحديث؟ أولا الخيرات الطبيعية (كالأرض والغابات والمياه وباطن الأرض، والمواد الأولية) ثم وسائل الإنتاج التي تساعد على تحويل هذه الخيرات الطبيعية، ثم المنشآت الضرورية للإنتاج كأبنية المصانع ومنشآت المناجم، ووسائل النقل والاتصال. يضاف إلى ذلك وسائل التبادل بين أعضاء المجتمع، كالمنشآت الضرورية للتوزيع وللتجارة (المستودعات. مخازن البيع) ومؤسسات القروض 0كالمصارف).
والسؤال الذي نسأله اذا ما أردنا تحديد طابع علاقات الانتاج هو السؤال التالي: من يملك وسائل الإنتاج؟ هل هو المجتمع بأكمله؟ أم الأفراد أو الفئات التي تستخدمها لاستغلال أفراد آخرين وفئات أخرى؟والاجابة على ذلك هي توضيح حالة علاقات الإنتاج وحالة العلاقات الاقتصادية والاجتماعية بين الناس.
ندرك إذن أنه إذا كانت وسائل الإنتاج ملكا للمجتمع بأكمله يمكن أن تكون العلاقات بين الناس علاقات تعاون وتعاضد.
وأما الذين لا يملكون أية وسيلة للإنتاج فلن يستطيعوا العيش إلا إذا وضعوا أنفسهم في خدمة من يملكها. فيشتغل البعض ويستغل الآخرون هذا العمل. لأن التعاون لا يوجد إلا بين الذين يقومون بنفس الدور في الإنتاج فيكون تعاونا طبقياً.
ينقسم المجتمع، إذن إلى طبقات اجتماعية متناقضة.فتكون الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج.
ونعني بالطبقة الاجتماعية مجموعة من الناس يقومون في الإنتاج بدور مماثل، وتجمعهم علاقات مماثلة بالنسبة للآخرين (لينين) .
ليس لتعبير "الطبقة الاجتماعية" أي معنى إلا على مستوى علاقات الإنتاج إذ تتحدد هذه الفكرة بنموذج الملكية أو بانعدام الملكية. ولا يجب أن نخلط هذه الفكرة بالمقولات الاجتماعية، التي تتحدد بواسطة التقنيات، والمهن وأوجه النشاط الاجتماعي الضرورية لحياة المجتمع. مثال ذلك عامل المعدن، وعامل المنجم أو عامل القطار. أن يكون المرء "فلاحا" هو أن ينتهي لمقولة اجتماعية، غير أن هذا لا يحدد الطبقة التي ينتهي إليها. إذ يمكن أن يكون المرء ملاكا للأرض كبيرا رأسمالياً ("فلاح ذو أياد بيضاء") أو ملاكا مستغلا بمساعدة عمال زراعيين. أو ملاكا لاستغلال عائلي، أو عاملا زراعياالخ.
وكذلك ليس "صاحب العمل" في المصنع هو المدير أو المهندس بل هو الرأسمالي أو جماعي الرأسماليين ("الشركة") الذين يملكون وسائل الإنتاج.
حين تمتلك طبقة اجتماعية وسائل الإنتاج فإنها تتشخص فيها علاقات الإنتاج المناسبة لها، ولهذا فسوف نتحدث عن علاقات الإنتاج "الرأسمالية" أو علاقات الإنتاج "البرجوازية" حتى إذا ما سيطرت علاقات الإنتاج هذه فإن نفس التعابير تستعمل للدلالة أيضاً على طريقة الإنتاج. فنقول: الطبقة "الإقطاعية" وعلاقات الإنتاج "الإقطاعية"، طريقة الإنتاج "الإقطاعية" لأن البرجوازية ليست حينئذ الطبقة المسيطرة. يمكننا الآن أن نحدد فكرة علاقات الإنتاج.
تضم هذه العلاقات:
صور ملكية وسائل الإنتاج،
وضع مختلف الفئات الاجتماعية في الإنتاج وعلاقاتهم المتبادلة أو "تبادل أوجه نشاطهم" التي تتولد عن هذه الصور حسب قول ماركس،
ج) صور توزيع المنتوجات التي تتعلق بها. كل هذا يكون موضوع الاقتصاد السياسي.
صور الملكية إذن هي التي تكون العنصر الأساسي في علاقات الإنتاج. ومن البديهي أن الطبقة المستغلة تتخذ جميع الاحتياطات المفيدة من أجل حماية صور الملكية التي تضمن لها إمتيازاتها. وتكون علاقات الإنتاج، التي تحمل طابع نظام ملكية وسائل الإنتاج، الأساس الاقتصادي للنظام الاجتماعي بأكمله.
نملك الآن جميع الأفكار الضرورية لندرك أن طريقة الإنتاج تكون القوة الرئيسية في التطور الاجتماعي.
4 – تغير طريقة الإنتاج مفتاح تاريخ المجتمعات
يمتاز الإنتاج بهذه الخاصية وهي أنه دائم التحول والتحول والتطور، وأنه لا يقف فترة طويلة في نفس الوقت، بينما تظل البيئة الجغرافية في مجملها على ما هي عليه. لأن الناس يحاولون باستمرار الاستفادة، إلى أقصى حد، مما تقدمه الطبيعة لهم، كما يحاولون إتقان الإنتاج الذي يتطور دائما.
لو أن الإنسان لم يحاول دائماً أشباع حاجاته المادية بصورة أفضل، لما كان إنساناً واعياًن بل حيواناً خاضعاً للضرورة العمياء. غير أن الإنسان يجد في الإنتاج الوسيلة لاستخدام الضرورة الطبيعية لخدمته، ولهذا لا يتوقف الإنتاج فترة طويلة في نفس الوقت.
تكون هذه الحقيقة، بالنسبة للمثالي، موضوعاً للتشهير، فهو يرى فيها عطشا لا يرتوي نحو الخيرات المادية، كما ترى فيها المسيحية عملا من أعمال الشيطان والشر. ولكننا نعلم، أيضاً، أن هذه الموضوعات مخصصة للجماهير الكادحة، فتلقن الصيام والطهارة بينما تنعم الطبقات المستغلة بفيض من المنتوجات المادية. لأن ازدياد الإنتاج هو ضرورة موضوعية للمجتمعات الإنسانية. واستغلال الإنسان للإنسان هو الذي يحول دون أن يكون لهذه الضرورة نتائجها الطبيعية الخيرة.
وتغيير طريقة الإنتاج وحده يستطيع تفسير كيف أن نظاما اجتماعية يحل محل نظام آخر، ولماذا تتغير الأفكار الاجتماعية والآراء والمؤسسات السياسية، ولماذا تتغير الأفكار الاجتماعية و الأراء و المؤسسات السياسسةو لماذا تمس الضرورة، في بعض الأحيان، لاعادة صهر النظام الاجتماعي والسياسي بأكمله.
ولقد بأن لأرسطو، منذ أمد بعيد، الصلة بين الرق و مستوى قوى الإنتاج.
يقول أرسطو، وهو أعظم فيلسوف قديم،: "لو أن كل آلة تستطيع القيام بوظيفتها بعد أمرها القيام بذلك، أو من تلقاء نفسها، كروافع ديدال التي تتحرك من نفسها أو مقاعد آلة النار والمعدن فولكين التي تتحرك أيضاً من تلقاء نفسها لتقوم بعملها المقدس، لو أن مكاكيك الحائكين كانت تحوك من نفسها لما احتاج صاحب المصنع لمساعدين أو رئيس للعبيد. ولقد بررت الميتافيزيقية المسيحية، في القرون الوسطى، وجود النقابات المهنية التي تحد من انطلاق قوى الإنتاج وتساعد على استقرار النظام الإقطاعي. ولكن إذا كان هذا النظام يهدف في الأصل لضمان المجتمع ضد الفقر فقد ظهر على مر الأيام أن هذا الخوف من الحركة والتغير ليس سوى خوف الإقطاعيين أمام موجة البرجوازية الصاعدة حتى إذا ما استولت هذه على زمان الحكم أزالت القيود المفروضة على الإنتاج ومنعت النقابات المهنية.
وهكذا كان السلطان السياسي ضروريا لفرض القانون الجديد الذي هو انعكاس لطريقة الإنتاج الجديدة. كما كانت الأفكار الجديدة ضرورية لتبرير هذا السلطان الجديد وذاك القانون الجديد. فكانت الفلسفة سلاحاً فكريا ضد نظام الأشياء القديم. وضمنت البرجوازية المنتصرة حق الملكية البرجوازي في إعلان حقوق الإنسان، كما أقامت منظمات برلمانية برجوازية، ودعت لأخلاقها وأوجدت نظاماًً جديدا للتعليم حذفت منه فلسفة القرون الوسطى كما حرمت الجمعيات العمالية لتحمي نفسها ضد نضال البروليتاريا المستغلة.
وهكذا فرضت على الأمة بأجمعها "نوع الحياة" البرجوازية والأفكار الخاصة بها لأن "لكل نوع من الحياة نوعا من الفكر"
ولنقرأ من جديد صفحات القسم الأول من بيان الحزب الشيوعي الخالدة.
"لقد داست البرجوازية في كل مكان استولت فيه على السلطان، العلاقات الإقطاعية والبطريركية والغرامية بالأقدام. فحطمت بدون شفقة جميع الصلات المعقدة المتنوعة التي توحد بين الإنسان ورؤسائه الطبيعيين في عصر الإقطاع، ولم تبق إلا على علاقة الربح بين الإنسان والإنسان ومتطلبات الدفع نقداً القاسية. فإذا بها تغرق رعشات النشوة الدينية المقدسة والحماس الفردوسي والعاطفة البرجوازية في مياه الحساب الأناني المتجمدة. وجعلت من كرامة الإنسان قيمة بسيطة للتعامل، فأحلت محل الحريات العديدة حرية التجارة الوحيدة أي أنها أحلت محل الاستغلال الذي تخفيه الأوهام الدينية والسياسية استغلالا مفضوحاً مباشراً. جردت البرجوازية جميع ألوان النشاط، التي كان ينظر إليها على أنها مقدسة توجب الاحترام من هذه الهالة التي كانت تحيط بها. فجعلت من الطبيب والمشروع والكاهن والشاعر والعالم عمالا مأجورين.
كما مزقت البرجوازية ستار العاطفية الذي يخيم على العلاقات العائلية وحولتها إلى مجرد علاقات مالية.
ولهذا فإن عدم ادراك، أن البرجوازية ارادت أن تقوي بجميع الوسائل طريقة الإنتاج التي هي نفسها ثمرة لها، يمنعنا من إدراك الحوادث التاريخية التي وقعت، مثلا، فيما بين1789 – 1815.
يميز المؤرخون البرجوازيون أنفسهم بين عصر بدائي هو العصر القديم، والعصور الوسطى ثم الأزمنة الحديثة. فما هو الفرق بين هذه العصور؟الفرق الاساسي هو أنه كان يوجد في القديم الملكية المشتركة، ثم نشأت، عند فجر التاريخ والمدينة، طريقة الإنتاج التي تقوم على الرق، وقد سيطرت في العصر القديم، بينما سيطرة، في القرون الوسطى، الملكية الإقطاعية للأرض، وشاهدت العصور الحديثة نمو الملكية البرجوازية التجارية ثم انتصار البرجوازية الرأسمالية وأفول نجمها. ويقول المؤرخون المناهضون للماركسية أن هناك صفات مشتركة بين العصر القديم والقرون الوسطى والأزمنة الحديثة. ولهذا فليس تفكير أفلاطون أو أحاديث شيشرون، مثلا، غريبة علينا. وهذا صحيح. وهاك تفسير هذه الصفات المشتركة، ولا سيما فيما يتعلق بالمؤسسات والأفكار.
1 – تمتاز نزعات الرق والقطاع والرأسمالية بصفة واحدة مشتركة، مهما شتد الخلاف بينها، وهي أنها جميعا تمثل علاقات إنتاج تقوم على استغلال طبقة على يد طبقة أخرى، كما تعتمد على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. النضال الطبقي إذن موجود في هذه النماذج الثلاثة للمجتمعات، وكل ما ينتج عنها على مستوى المؤسسات والأفكار.
2 – يوجد إلى جانب هذه الطرق الثلاث للإنتاج، طبقات عديدة للبرجوازية الصغيرة، (كالبرجوازية التجارية، والصناعية اليدوية، والزراعية، والفكرية).
يؤدي هذا الواقع التاريخي المستمر إلى تكوين سيكولوجية الإنسان المتوسط" وتغذيها، وهو إنسان فردي يتعلق بالملكية الخاصة، مليء بالتناقض، لأنه يقف موقفاً سلبياً من النضال الطبقي ويستسلم دائماً للطبقة الحاكمة المستغلة.
وبالرغم من أن هذه النظم الثلاثة تتشابه، فإنها في نفس الوقت تختلف نوعياً في أساسها الاقتصادي، فهي تؤلف أبنية اجتماعية مختلفة. وموضوع العلم التاريخي هو دراسة أوجه الاختلاف والتشابه فيما بينها.
5 – الخلاصة
النزعة المادية التاريخية هي النظرية العامة لطرق الإنتاج والاقتصاد السياسي هو العلم الخاص بالقوانين الموضوعية التي تسيطر على علاقات الإنتاج بين الناس.
وموضوع علم التاريخ هو العلاقات المتبادلة بين الطبقات التي تتمثل فيها هذه العلاقات للإنتاج ولا سيما علاقاتها السياسية.
وليس هناك من علم تاريخي إذا لم نتساءل في كل لحظة عن طابع علاقات الإنتاج، وطابع الملكية، والطبقات الاجتماعية والربح الطبقي.
ولهذا لا يمكن أن يقتصر علم التاريخ الحقيقي على دراسة أعمال الملوك وقواد الجيوش والغزاة لأن التاريخ هو تاريخ الشعوب.
إن تاريخ التطور الاجتماعي ... هو تاريخ منتجي المواد المادية، تاريخ الجماهير الكادحة التي تكون القوى الأساسية في عملية الإنتاج والتي تنتج المواد المادية الضرورية لوجود المجتمع.
والواقع أن قانون التاريخ هو الصلة الضرورية بين علاقات الإنتاج وبين قوى الإنتاج: ويعبر هذا القانون عن مصالح جماهير الإنسانية الحيوية.
ولهذا كانت الماركسية، حسب قول ستالين. "علم ثورة الجماهير المضطهدة المستغلة".
ولكن إذا كان الناس يصنعون تاريخهم بأنفسهم، فإنهم يصنعونه "في ظروف معينة تحدد هؤلاء الناس"(ماركس) فلايجب البحث عن مفتاح التاريخ في أدمغة الناس وآرائهم وأفكارهم، بل في علاقات الإنتاج والقوانين الاقتصادية والموضوعية التي تعمل مستقلة عن إرادة الناس، متى ما أنتج هؤلاء بصورة اجتماعية، الذين يتعلقون بصورة ملكية وسائل الإنتاج، أي بالأساس الاقتصادي.
لا يمكن لعلم التاريخ أن يستغنى عن معرفة هذه القوانين، ولهذا لا يجب على حزب البروليتاريا، إذا أراد أن يسير بالطبقة العمالية لتحقيق رسالتها التاريخية,أن يدعو هذه الطبقة للعمل من أجل مصالحها فقط بل يجب عليه أيضاً أن يقيم برنامجه ونشاطه العملي على معرفة قوانين النمو الاقتصادي
الدرس السادس عشر
قانون الترابط الضروري بين علاقات الإنتاج
وطابع قوى في الإنتاج


رأينا في الدرس السابق أن طرق الإنتاج تتغير عبر التاريخ فهي ككل واقع تمر بتغيرات كمينة هي عبارة عن تطور يتبعه تغيرات كيفية يمكن أن تتخذ صورة ثورية حينما تعترض الطبقات الزائلة المفضلة سبيل التغيرات الضرورية.
ويدفع إلى هذه التغيرات، ككل واقع، تناقض داخلي فما هو التناقض النوعي لطرق الإنتاج عامة؟ التناقض بين الإنتاج وطابع قوى الإنتاج. وهذا هو موضوع هذا الدرس.

1 – قوى الإنتاج هي أكثر العناصر ثورة في الإنتاج
قلنا أن الإنتاج في تغير دائم. ولكن ما هو المظهر الذي يتغير أولاً؟ من البديهي أنه بينما يستمر الأساس الاقتصادي لبناء اجتماعي، يحدث أثناء ذلك تطور في التقنية. قوى الإنتاج، إذن، هي التي تتغير أولاً قبل تغير آلات الإنتاج. تلك هي الميزة الثانية للإنتاج.
وهاك مثالا بسيطاً جدا: كلنا نعلم الطريقة التي تقوم على وضع قطعة ضخمة من الحجار، إذا ما أردنا نقلها، على قطار من الجذوع. وكلما إزداد استعمالنا لهذه الجذوع كلما ازداد صقلها من جراء هذا الاستعمال نفسه، فتصبح اسطوانات مستديرة تامة قبل أن ترد أية فكرة هندسية عن الأسطوانة على ذهن الناس. كما أن النقل يصبح أسرع وأسهل فيوحي للإنسان بفكرة تحقيق هذا الصقل بنفسه بوسائط معينة. وإذا بخيال الإنسان، بمساعدة الحاجة، يعمل ويكتشف أن العمل سيزداد سهولة إذا كانت الإسطوانات، مع دورانها حول نفسها، حسب محورها، متصلة بقطعة الحجر أثناء النقل. فلا تمس الضرورة لوضعها من جديد أمام قطعة الحجر. حتى إذا ما مضت عشرة أو مئة أو ألف سنة طلع علينا (المحور) والدولاب والعربة.
وهكذا لا تظل قوى الإنتاج في مكانها، بل تكتمل فتسبق إرادة الإنسان وتدفعها معها. كما تنمو، في نفس الوقت، حاجات الإنسان، لأن الإنسان متى ما عرف العربة لن يكتفي قط بالإسطوانات كلما عرض له نقل حمل ثقل.وتتغير علاقات الإنتاج بدورها تبعا لتغير قوى الإنتاج. فهي وثيقة الصلة بطابع قوى الإنتاج.
ولنضرب على ذلك مثالا. يوجد، في فترة انحطاط مجتمع الرق، قوى للإنتاج جديدة مرت بتطور طويل في العصر السابق. كاتقان صنع الحديد الصب (la fonte) والحديد واستعمال مغزل اليد، وشيوع استخدام العربة، وتقدم الزراعة والبستنة وإنتاج الخمر والزيت والعسل، واكتشاف مطحنة الماء (340م)، ولكن هذه التقنيات الجديدة، التي كان الرومان يلاحظونها عند الشعوب التي كانوا يسمونها بالبربرية ويحاولون استخدامها، كانت تتعارض مع نظام الرق! إذ ليس للرقيق أية فائدة من العمل، فهو مهما عمل فسوف يعامل كما كان في السابق. ولهذا لا يشتر بأي ميل للعمل كما أن إنتاجه قليل. ولم يعد الأمر الآن القيام بأعمال ضخمة على يد قطعان الأرقاء تحت ضرب السياط. بل أن قوى الإنتاج الجديدة تتطلب من العامل أن يظهر بعض الاهتمام لعمله وإلا ذهبت هذه القوى سدى.
ويدرك السيد ذلك، لا سيما وأن الأرقاء، وهم غالباً من البربر الأسرى، يقومون بالثورات ويهجرون أماكن العمل ويصبحون (قراصنة) فيتقنون صناعة الأسلحة والملاحة.
تتطلب، إذن، قوى الإنتاج الجديدة علاقات للإنتاج جديدة. ولهذا فإن مالك وسائل الإنتاج، الذي يتخلى عن رقيق ضعيف الإنتاج، يفضل الحصول على قين. لأن القين يملك ما يستغله لنفسه كما، يملك وسائل الإنتاج. فهو إذن مهتم اهتماما شخصيا بالعمل، وإن كان مرتبطا بأرض سيده. وهذا الاهتمام ضروري كي يزيد من إنتاجية في جميع الأعمال الزراعية، ويدفع قدراً من محصوله للإقطاعي. ولهذا فإن السيد، بدلا من إعالة رفيق لا يعمل شيئاً، ولو تحت سياط وكلائه فإن سيطلب نصيبه من المحصول من قين حر يعمل كما يريد، شريطة أن يطحن قمحه في مطحنة السيد ويخبز خبزه في فرنه وهكذا ولد نمو قوى الانتاج الجديد، ضمن علاقات الإنتاج في نظام الرقيق علاقات جديدة للإنتاج هي العلاقات الإقطاعية.
إن العلاقات الاجتماعية وثيقة الصلة بقوى الإنتاج. لأن الناس يغيرون طريقتهم في الإنتاج، وبتغييرهم لطريقة الإنتاج وطريقة كسب معاشهم، يغيرون جميع العلاقات الاجتماعية.وهكذا تؤدي مطحنة السيد لظهور السيد الإقطاعي بينما تؤدي مطحنة البخار لظهور مجتمع الرأسمالي الصناعي.

2- تأثير علاقات الإنتاج على قوى الإنتاج
إذا اقتصرنا على ملاحظة أن قوى الإنتاج هي أكثر العناصر حركة وثورة في الإنتاج، فإننا نقع في الميتافيزيقية وفي النزعة الميكانيكية. لأن طريقة الإنتاج تمثل وحدة قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج الجدلية. وكل من هذين النقيضين يعمل ضد نقضيه في هذا التناقض الداخلي ولو أن أحدهما يتغير أولا. يجب علينا إذن أن ندرس تأثير علاقات الإنتاج المقابل على قوى الإنتاج.
لو عدنا إلى مثال الانتقال من مجتمع الأرقاء إلى المجتمع الإقطاعي لرأينا أن علاقات الإنتاج الإقطاعية قد عملت، بعد ظهورها، على نمو قوى الإنتاج التي كانت تقف في وجهها علاقات الإنتاج القديمة، لأن القين يهمه، بالرغم من أنه مستغل، أنه يعمل أكثر من الرقيق. وهكذا زال بالتدريج ما خلفته العصور القديمة، والقرون الوسطي الأولى من بؤس وشقاء.
وهناك مثال آخر رأيناه في الدرس السابق (2، أ) أن تقدم صنع المعادن والفخار أدى إلى تقسيم العمل بين الزراعة والحرف (metirs). وقد أفضى هذا التقسيم، في ظروف ملكية وسائل الإنتاج الفردية التي يتطلبها العمل اليدوي واستخدام الأرقاء، إلى بيع المنتوجات اليدوية والزراعية وشرائها في السوق، أي إلى ظهور السلعة. كما ولدت، في نفس الوقت، طبقة جديدة هي طبقة التجار المتخصصين في نقل السلع وتوزيعها.
ولما كانت مصلحة هذه الطبقة الخاصة في التجارة فقد أدى بها الأمر إلى تشجيع الإنتاج التجاري، وتوسيع هذه التجارة. وكان هذا أصل المستعمرات الفينيقية الأغريقية، مراكز التجارة حوض المتوسط. ومن البديهي أن الإنتاج التجاري قد عمل على نمو قوى الإنتاج، والتقنيات والفنون، وكذلك الملاحة فكانت المصنوعات الخزفية الاثينية تباع في جميع أنحاء المتوسط، كما وجدت في أثينا مصانع أسلحة يعمل فيها أكثر من مئة رقيق.
مثال آخر: كانت ثروة الإقطاعيين الأرض وما يقدمه لهم الإقنان من محصول الأرض، أما ثروة البرجوازيين، التي تقوم على التجارة والإنتاج الرأسمالي الحديث فهي تتكون من المال. ولهذا فإن الإقطاعي، الذي يريد أن يحصل على المنتوجات التجارية، سعيا وراء الأبهة ومنافسة لأغنياء البرجوازيين، يخسر ثروته بسرعة ولم يكن يحميه سوى الامتيازات الإقطاعية وازدياد حقوق الإقطاعيين. ولهذا كان نمو الإنتاج التجاري يهدد قوته الاقتصادية. فكان يحاول تنظيم هذا النمو بواسطة نظام النقابات.
وهكذا كان النظام الإقطاعي يعيق نمو قوى الإنتاج الجديدة. غير أن هذه القوى كانت تتطلب تعميم علاقات الإنتاج الجديدة (الرأسمالية).
ولهذا يجب علينا أن لا ننسى ما يلي: أن قوى الإنتاج، التي تتغير أولا، ليست مستقلة عن علاقات الإنتاج. وأن علاقات الإنتاج التي يتعلق نموها بنمو قوى الإنتاج تؤثر بدورها على نمو هذه القوى. فهي أما أن تعيقها أو تزيد من نموها. وتصبح علاقات الإنتاج عائقا لنمو قوى الإنتاج حينما لا تساير ازدهار قوى الإنتاج.
وهي تصبح، على العكس، دافعا لهذا النمو فإن علاقات الإنتاج الجديدة هي القوة الأساسية التي تدفع بها نحو التطور.
ومن الخطأ القول بأن علاقات الإنتاج، في تاريخ المجتمع تقوم بدور العائق الذي يشل نمو قوى الإنتاج. وحينما يقوم الماركسيون بأن علاقات الإنتاج تقوم بدور العائق فإنهم لا يقصدون أي نوع من علاقات الإنتاج بل يقصدون علاقات الإنتاج القديمة التي لم تعد تتفق وتطور قوى الإنتاج فتعيقها عن النمو. ويوجد، إلى جانب علاقات الإنتاج القديمة، علاقات جديدة تحل محل العلاقات القديمة. فهل يمكن القول بأن دور علاقات الإنتاج الجديدة يقتصر على إعاقة الإنتاج؟ كلا. لأن علاقات الإنتاج الجديدة هي، على العكس، القوة الرئيسية التي تحدد نمو قوى الإنتاج في المستقبل وإلا كتب على قوى الإنتاج أن تظل بدون تأثير.

3 – قانون الترابط الضروري
ندرك، الآن، الجدلية الداخلية لعالم الإنتاج. تتقدم قوى الإنتاج تقدما محسوسا على أنها أساس اقتصادي، لفترة معينة من الزمن، وتصبح علاقات الإنتاج، التي كانت جديدة، في مطلع تاريخ هذه الطريقة في الإنتاج، قديمة. بعد أن كانت في أول الأمر القوة الرئيسية التي تحدد نمو قوى الإنتاج. حتى إذا لم تعد تتفق وازدهار هذه القوى أخذت تعيق هذا الازدهار.
ولا شك أن علاقات الإنتاج الجديدة لا يمكن أن تظل جديدة إلى الأبد، بل تأخذ بالقدم والتناقض مع نمو قوى الإنتاج اللاحق، فتفقد بالتدريج دورها كمحرك رئيسي لقوى الإنتاج وتصبح عائقا لهذه القوى.
فما هو موقف الرأسمالية، مثلا، تجاه التقنية الحديثة؟ يدعى الرأسماليون أنهم أنصار التقدم التقني، ودعاة ثورة في هذا الميدان. ولا شك أأن الرأسمالية قد عملت على تقدم التقنية. لأن التقنية الجديدة تنقص زمن العمل الضروري للإنتاج، وتساعد على زيادة فائض القيمة أي زيادة الربح.
ونعلم أيضا أن الرأسمالية فيها ظواهر ركود تقنية، فيظهر الرأسماليون في صورة رجعيين في الميدان التقني، فلا يريدون القيام بأي تحسين جديد، ويلجأون إلى العمل اليدوي أو العمل المنزلي. ذلك لأن إقامة المنشآت الجديدة يفضي إلى تجميد رؤوس الأموال، وازدياد الرأسمال المجد ينقص من نسبة الربح فلا يساعد على الحصول على الربح الأقصى في الرأسمالية في زمن زال فيه استقرار الأسواق الرأسمالية النسبي.
يفسر لنا، إذن، ظاهرة الركود قانون الرأسمالية الأساسي، ألا وهو تحقيق أقصى الأرباح، أي طابع علاقات الإنتاج القديمة.
تقف الرأسمالية إلى جانب التقنية الجديدة، متى لوحت لها بأعظم الأرباح. كما أنها تقف في وجه هذه التقنية الجديدة وتدعو للعودة إلى العمل اليدوي إذا لم تلوح لها التقنية الجديدة بأرباح أعظم.
ومع ذلك فإن تأخر علاقات الإنتاج عن اللحاق بتقدم قوى الإنتاج لا يمكن أن يستمر طويلا. وذلك لأنه مهما كانت الإجراءات التي تتخذها الطبقات التي تمثل علاقات الإنتاج القديمة التي قضى عليها التاريخ بالزوال، لإطالة أمد الأساس الاقتصادي، فإن هذه الإجراءات لا يمكنها أن تعيد التاريخ القهقرى. ذلك لأن نمو الإنتاج ضرورة مادية للإنسانية. لا يمكن "للذهن" أن يقاومها طويلا. يجب إذن أن تزول علاقات الإنتاج القديمة. ولا يمكن للاجراءات التي اتخذتها الطبقات الرجعية إلا أن تفضي، في النهاية، إلى القضاء على طريقة الإنتاج بأجمعها.
مهما كان إذن تأخر علاقات الإنتاج فإنه يجب عليها، إن آجلا أو عاجلا، أن تتلاءم مع طابع قوى الإنتاج الجديد. فكيف يتم هذا الانسجام بقلب صور ملكية وسائل الإنتاج التي تكون، كما رأينا، العنصر الأساسي في علاقات الإنتاج. ولهذا فإن إقامة نظام جديد للملكية يساوي إقامة علاقات جديدة للإنتاج.
من الواضح إن استخدام الطاقة الذرية السلمي لخدمة المصلحة الوطنية، لا يمكن يتحقق على يد رأسماليين، لأنهم لا يستطعون الحصول على الربح الأقصى في حالة تقنية باهظة كطلبات الدولة الحربية. وكذلك شأن استخدام الطاقة الهيدرو كهربائية وكهربة العمل الزراعي.
أما الملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج فإنها تستطيع تحقيق ذلك لأنها لا تخضع لقانون الربح. وهكذا يمكن القول إن قوى الإنتاج تولد علاقات الإنتاج التي تحتاجها لتحقيق نموها في المستقبل.
وبهذا تكون قوى الإنتاج العنصر الفاصل في نمو الإنتاج ذلك هو قانون الترابط الضروري بين علاقات الإنتاج وبين طابع قوى الإنتاج. فكما تكون قوى الإنتاج يجب أن تكون علاقات الإنتاج.
تحل محل علاقات الإنتاج القديمة علاقات جديدة للإنتاج تكون المحرك الرئيسي لنمو قوى الإنتاج في المستقبل.
ويضيف ستالين إلى ذلك قوله:
تكون هذه الخاصية لنمو قوى الإنتاج – وهي كونها أولا عائقا لقوى الإنتاج ثم صيرورتها المحرك الرئيسي الذي يدفع هذه القوى إلى الأمام. ثم انتقالها من كونها المحرك الرئيسي إلى صيرورتها عائقاً لقوى الإنتاج – أحد العناصر الرئيسية للجدلية المادية الماركسية. وهذا ما يعرفه اليوم كل الشيوعيين المبتدئين.
يضاف إلى ذلك أن هذا القانون شامل، أي أنه يصح على جميع طرق الإنتاج مهما كانت قوانينها الاقتصادية الخاصة، فهو أساس كل تطور للمجتمعات الإنسانية.
4 – تأثير عمل الإنسان
قانون الترابط الضروري هو قانون موضوعي. إذ لا يختار أي إنسان طريقة الإنتاج التي يعيش فيها. فنحن لم نختر بأنفسنا أن نواد في عصر الصناعة الضخمة ولا عصر الرأسمالية الاستعمارية. ويفرض الإنتاج نفسه على الناس في جدلية متطلباته الداخلية. إذ لا يمكن لقوى الإنتاج أن تتقدم إلا في حدود بعض علاقات الإنتاج، وهذا الترابط الضروري هو نتيجة طبيعة قوى الإنتاج نفسها، وليس نتيجة لإرادة الناس. ولا يدلنا في ذلك. وليس هناك من رأسمالي يستطيع القضاء على هذا الواقع الموضوعي، وهو أن الرأسمالية الحاضرة تؤدي إلى توقف نمو قوى الإنتاج. وليس هناك أي إنسان يقف في وجه هذا الواقع وهو أن الاشتراكية تستطيع إقامة هذا الترابط الضروري.
لا يعني هذا أن عمل الناس لا يمكن أن يقوم، أو لا يقوم بأي دور في النمو الاجتماعي. ويظهر هذا العمل في شعورهم أو معرفتهم الصحيحة لضرورات الإنتاج الموضوعية، ولقانون الترابط الضروري. وإذا استشهدنا بمثال ذكرناه سابقاً فإن السيد الإقطاعي الذي يفضل أن يتعامل مع قين بدلا من التعامل مع الرقيق، لأن ذلك أفضل للإنتاج، يشعر بقانون الترابط ويعتمد عليه لمصلحته الطبقية حين يجعل من الرقيق قينا. فهل يعني عمل الإنسان هذا أنه ليس هناك قانون موضوعي كلا. بل يفترض، على العكس، موضوعية القانون. والدليل على ذلك أنه بقراره هذا يبلغ النتائج التي توخاها. فهو يستخدم القانون لمصلحته.
كما يشعر الرأسمالي، الذي يرى أن تقدم التقنية يهدد الربح الأقصى، فيتخذ لهذا الإجراءات ضد نمو قوى الإنتاج وضد العلم، يشعر بقانون الترابط الضروري. فهو يحس بالخوف من نمو قوى الإنتاج الذي يؤدي بالملكية الخاصة ووسائل الإنتاج. وهو كي يبعد هذه الإمكانية، لا يمكنه سوى محاولة القضاء على قوى الإنتاج التي تقلب أوضاع الإنتاج. على قانون الترابط الضروري، لخدمة مصلحته الطبقية، محاولا إزالة نتائجه الموضوعية فيعيق عمل هذا القانون.
يبدو إذن عمل الإرادة الإنسانية في معرفة الناس لهذا القانون معرفة صحيحة. فإذا ما عرفوا هذا القانون حاولوا الحيلولة دون عمله وتأخير الوقت الذي يعمل فيه. كما أنهم يستطيعون تشجيع هذا العمل وتقريب ذلك الوقت واتخاذ الإجراءات الملائمة للضرورات الموضوعية والتوفيق بين علاقات الإنتاج وطابع قوى الإنتاج.
ندرك إذن أن طابع قانون الترابط الضروري الموضوعي لا يقضي على مسؤولية الإنسان. إذ يمكن للإنسان أن يوجد، بواسطة عمله الواعي، الظروف التي تعيق عمل هذا القانون أو تساعده. فإذا ما استمر، الزعماء الأميركان، مثلا، في سياسة الحرب فليس ذلك بدون وعي منهم بل هم يريدون إعادة علاقات الإنتاج الرأسمالية حيثما حلت محلها علاقات اشتراكية، كما أنهم يريدون، بقضائهم على قوى الإنتاج إعاقة ازدهار هذه القوى لأنه يضر بمصالحهم.
ولكنه من المفهوم أيضاً أن إرادة الناس لا يمكن أن تعمل إلا في حدود عصرهم الموضوعية. فهم لا يستطيعون إعادة قوى الإنتاج إلى مستوى عصر القوافل، بالرغم من القول الرجعي الذي يدعي: "أن الناس ربما لم يكونوا فيه أسوأ حالا". كما أن القدرة الفعلية على تغيير علاقات الإنتاج لا توجد دائما بل هي تتعلق بحالة قوى الإنتاج وطبيعتها. ويردد الرأسماليون أن بناء الاشتراكية مستحيل وأن هذه التجربة ستفضي إلى الجوع، الخ.. ربما صح ذلك في عام 1848، ولكن ذلك لا يصح متى ما أصبح باستطاعة المجتمع أن يقيم قوى الطاقة الهائلة في القرن العشرين.
ولقد برهنت التجربة على ذلك فإذا بالرجفة تعتري الرأسماليين حين رأوا أنه يمكن منذ الآن بناء الاشتراكية، وأخيراً تتعلق قدرة الناس بطابع علاقات الإنتاج أيضاً: وذلك لأن عمل الطبقات، في مجتمع منقسم إلى طبقات متعادية، تهمها الملائمة بين علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج، يصطدم بالعديد من العراقيل، وليس الحال كذلك حينما يخلو المجتمع من طبقة زائلة يمكنها تنظيم المقاومة.
لا يمكن لإرادة الناس، وهي العنصر الذاتي، أن تكون مجدية إلا إذا كان هدفها تسهيل تطبيق القانون الموضوعي. فالإرادة التي تأبى الاعتماد على الواقع الموضوعي هي عكس الإرادة. وليست الإرادة سوى مجرد كلمة إذا ما تجاهلت قدرتها.
ويلح ستالين على أهمية عمل الناس فيقول:
"استخدمت البرجوازية، في عصر الثورة البرجوازية، في فرنسا، مثلا، ضد الإقطاعية قانون الترابط الضروري بين علاقات الإنتاج وطابع قوى الإنتاج، فقلبت علاقات الإنتاج الإقطاعية، وأوجدت علاقات إنتاج جديدة برجوازية، وجعلتها تتلاءم مع طابع قوى الإنتاج، التي نمت داخل النظام الإقطاعي. ولم تفعل البرجوازية ذلك بسبب مشاكلها الخاصة بل لأنها كانت ترى في ذلك مصلحة لها. وعارض الإقطاعيون ذلك لا عن غباء بل لأنه كانت تهمهم الحيلولة دون تطبيق هذا الئقانون.
ويلاحظ ستالين، في مكان آخر، أنه إذا كان السوفيات قد وقفوا ببناء الاشتراكية فليس ذلك لأنهم قضوا على القوانين الاقتصادية الموجود "وأوجدوا بدلا منها قوانين جديدة" بل لأنهم اعتمدوا على قانون الترابط الضروري الاقتصادي بين علاقات الإنتاج وطابع قوى الإنتاج.
وإذا كانت البرجوازية قد استخدمت جميع الوسائل لمقاومة تطبيق هذا القانون فلأنه كان يهمها عدم تطبيق هذا القانون.
نخلص إلى القول إذن أن عمل الإنسان، الذي يستخدم القوانين الاقتصادية لمصلحة النمو الاجتماعي، يجري في جميع التشكيلات الاقتصادية حسب الظروف . ولكن النتائج تكون أسرع حينما يكون هذا الاستخدام علميا، ولا يلقى مقاومة أية طبقة. وهذا ما يحدث في النظام الاشتراكي.
ونلاحظ أيضاً أن استخدام القوانين الاقتصادية، في مجتمع طبقي، له دائما دوافع طبقية، وأن طبقة الطليعة هي التي تدعو دائما إلى استخدام القوانين الاقتصادية لخدمة النمو الاجتماعي بينما تعارض الطبقات الزائلة ذلك، مهما كانت نتائج ذلك بالنسبة لسائر المجتمع، فتصبح بذلك عدوة المجتمع وتنطوي على كبريائها الطبقي.
ومما يميز البروليتاريا عن بقية الطبقات التي قلبت في الماضي علاقات الإنتاج أنه لا يمكنها بطبيعتها تطبيق قانون الترابط الضروري، دون أن تقضي على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج أي على كل صورة للاستغلال. تتفق إذن مصالحها الطبقية مع مصلحة الإنسانية الكادحة ومع مصلحة جميع المستغلين والمضطهدين.
نستخلص من دراستنا فكرة ماركسية رئيسية من أجل عملنا وهي أن الناس يصنعون تاريخهم بأنفسهم ضمن ظروف معينة تحدد عملهم ولهذا يجب تقديرها. وهذا حقيقة أبدية. لأن صنع التاريخ هو التغلب على مقاومة الطبقات الرجعية التي تعارض التغيرات الضرورية في عالم الإنتاج. ولهذا فإن صنع التاريخ مهمة المستغلين والمضطهدين لأن التاريخ هو تاريخ منتجي المواد المادية، والجماهير المضطهدة المستغلة هي التي تصنع التاريخ، فالشعب هو الخالق الحقيقي للتاريخ. وتتضح هذه الحقيقة الأبدية في ظل الرأسمالية. ذلك لأن الرأسمالية بامتدادها إلى أنحاء العالم أجمع واستغلالها لأغلبية سكان بلد من البلدان، واستعبادها شعوب البلاد الأخرى، قد حركت، في مرحلتها الأخيرة. جماهير من الشعب أوسع من الجماهير التي حركتها النظم السابقة. وإن عصر الثورة البروليتارية وتحرير الشعوب المستعمرة هو عصر تظهر فيه الجماهير العالمية على مسرح التاريخ. وعمل الجماهير وحدة هو الذي يستطيع القضاء على مقاومة الرأسماليين. فلقد انتصرت هذه الجماهير عام 1917 في نانكين وشنغاي . ولا يخشى الماركسي، على عكس الرجعيين الذين يقدمون "العقل" و "التفكير" على عمل الجماهير. بل هو يسير على العكس، في مقدمتها، لأن الاشتراكية البروليتارية ليست مجرد عقيدة فلسفية، بل هي حسب قول ستالين: عقيدة الجماهير البروليتارية، و " شعارها"، فهو يثق ثقة لا تتزعزع بالجماهير وفعلها لأنه يعلم أنها متى تحركت أسرع التاريخ في سيره، كما يعلم نضال الطبقات هو محرك التاريخ.


26 راجع ستالين: نفس المرجع، 3 ص 20.


الدرس السابع عشر

نضال الطبقات قبل الرأسمالية


عرضنا لقانون الترابط الضروري بين علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج. ونعلم من جهة ثانية أن علاقات الإنتاج، حين تعتمد على الملكية الخاصة، تمتاز بالاستغلال الطبقي، أي بالنضال الطبقي. على هذا الشكل يظهر عمل الناس في التاريخ بصورة تلقائية.
ويجب الآن أن نبتعد عن خطأين: الاعتماد أنه، لما كان هناك قانون ضروري مشترك بين جميع المجتمعات، فإن عمل الناس لا فائدة منه ولا تأثير له في التاريخ، وفي تغير الأساس الاقتصادي للمجتمعات – أو الاعتقاد، عكس ذلك، أن النضال الطبقي يمكن أن يقوم بكل شيء وفي كل زمان.
تريد الطبقات المستغلة أن تقضي على الاستغلال. ولا يمكن هذا إلا في مستوى معين لنمو قوى الإنتاج. ولهذا لم يفض نضال الطبقات المضطهدة، حتى عهد الثورة البروليتارية، إلا إلى تغيير نظام الملكية الخاصة، وإحلال صورة للاستغلال محل صورة أخرى. يعكس نضال الطبقات التناقض الأساسي الموجود في علاقات الإنتاج بين المستغلين و المستغلين، ولكن لا يمكن لهذه النتائج أن تتخطى ما يسمح به قانون الترابط الضروري بين علاقات الإنتاج وبين قوى الإنتاج في وقت معين.
غير أن نضال الطبقات يتخذ أهمية كبرى حين يوجد الاستغلال كمنهج لتطبيق قانون الترابط الضروري. وبهذا المعنى فقط يصبح محرك التاريخ.
وسوف ندرس في هذا الدرس هذه الجدلية في مراحل نمو المجتمعات الكبرى.

1 – أصول المجتمع
ليس هناك ما هو أشد اختلاطاً واضطرابا من تفاسير المثاليين فيما يتعلق بالتقنيات الاجتماعية الأولية. وإذا ما ضربنا صحفاً على أسطورة آدم وحواء فإن أكثر النظريات شيوعاً تلك التي تعتبر العائلة كأنها خلية بدائية للمجتمع. بينما العائلة في الحقيقة، هي مؤسسة اجتماعية يتعلق نموذجها بعلاقات الإنتاج السائدة، أما علماء الاجتماع البرجوازيون فهم لا يهتمون بسوى التقنيات والمعتقدات البدائية فإذا بهم موزعون بين النزعة المادية الميكانيكية وبين النزعة المثالية. يضاف إلى ذلك أنهم ينظرون للنمو الاجتماعي من خلال امتداد "حجم"المجتمع. فهم يرون في ذلك انتقالاً "من القبائل إلى الإمبراطوريات".
والماركسية وحدها تعطينا تعريفاً علمياً للمجتمعات البدائية حين تدلل على أن لها أساساً ككل مجتمع.
فلقد كانت قوى الإنتاج، في ذلك العصر، ضعيفة في نموها. ولم تكن الآلات الحجرية والوتر والقوس، التي ظهرت فيها بعد وأصبحت السلاح القاطع، قوية بالقدر الذي يسمح للإنسان بالنضال لوحدة ضد قوى الطبيعة والحيوانات المفترسة فحاول الناس. إذن، مجابهة هذا الوضع بتوحيد قواهم..
كان على الناس. كي يجنوا الثمار في الغابات، ويصطادوا السمك. ويبنوا المسكن أن يعملوا سوية، إذا لم يريدوا الموت جوعاً، أو أن يصبحوا فريسة للحيوانات المفترسة أو القبائل المجاورة.
وكانت نتيجة هذه الحالة أن أصبحت ملكية وسائل الإنتاج وأراضي الصيد، مثلا، وكذلك ملكية المنتوجات، مشتركة أيضاً بين جميع أفراد المجتمع، ولم يبق سوى بعض آلات الإنتاج، التي هي في نفس الوقت أسلحة للدفاع ضد الحيوانات المفترسة، ملكية فردية للذين صنعوها.
وهكذا تتعلق ملكية وسائل الإنتاج الجماعية بطابع قوى الإنتاج وتكون الأساس الاقتصادي لهذا البناء الاجتماعي الذي يسمى بالكومون البدائي.
يؤكد هذا الأساس الاقتصادي بدوره خواص فكرية مهمة: فإن الشعور بالملكية الفردية بها لم يوجدا بعد. كما أن الحقد الطبقي غير موجود لعد وجود الطبقات والاستغلال الطبقي، نرى، إذن، أنه على عكس ما يقوله المثاليون فأن الشعور عواطف أبدية خالدة في طبيعة الإنسانية، بل هي منتوجات تاريخية تتولد من الملكية الخاصة. ويمتاز الإنسان البدائي بالأخلاص لمصالح القبيلة، والوفاء والثقة نحو سائر أعضاء القبيلة، ومن عنا نشأت خرافة "الفردوس المفقود". ولكن هذه "الفضائل" لم تكن نتيجة للطبيعة" الغزيرة على نفس روسو بل كانت تعكس الأساس الاقتصادي، كما كانت شرطاً ضروريا للانتصار على القوى المعادية التي كانت تجاور القبيلة. وكان الإنسان البدائي يعيش، في نفس الوقت، فريسة الرعب والجهل لهذه القوى المعادية، ولهذا كان يعيش في جو من الخرافات.
ومن خصائص الشيوعية الأولية اعترافها بدور المرآة الكبيرة، ولم يكن عدم المساواة بين الرجل والمرآة ألا في تقسيم العمل بينهما، ولم يكن يعترف ألا بنسل المرآة لوحدها. فكانت المرآة تشرف على التربية كما كانت نصائح الجدة نافذة. ذلك كان عهد سيطرة الأم.

2 – ظهور الطبقات
فما الذي أدى إلى انحطاط الكومون البدائي، وظهور الطبقات؟ ليست هي طبيعة الإنسان الشرير كما تدعي النزعة المثالية بل هو نمو قوى الإنتاج كما تقول الماركسية.
الواقع أنه يجب على المجتمع أن يمتلك من الخيرات المادية أكثر مما كانت الكومون البدائية تمتلك من مصادر ضئيلة كي يستطيع الإنسان الحصول على هذه الخيرات بصورة خاصة فلقد كانت المصادر الضئيلة لا تكاد تسمح للمجتمع بالعيش. ولهذا كان الاحتكار، في مثل هذه الظروف، حكماً على الآخرين بالموت. لم يكن ذلك في مصلحة أحد لأن النضال المشترك وحده يساعد على مواجهة الأخطار المتعددة. ولكي توجد إمكانية الاحتكار فأنه يجب أن يكون لدى أعضاء المجتمع ما يقتاتون منه وأن يوجد لديهم فائض، أي أن تكون قوى الإنتاج قد تقدمت.
ولقد تم تقدم قوى الإنتاج (راجع الدرس الخامس عشر). (المسألة 2، أ) داخل الكومون البدائية، التي كانت تسهل آنذاك، إلى أقصى حد، النضال ضد الطبيعة. وكانت المراحل الأساسية هي: تأليف الحيوانات بفضل القوس والسهام وتقسيم العمل بين الرعاة والصيادين البدائيين، ثم الانتقال إلى الزراعة بفضل الآلات المعدنية كفأس الحديد وسكة المحراث ثم التفريق بين المهن والزراعة، يضاف إلى ذلك أن صناعة الخزف كانت تساعد على الاحتفاظ بالمؤن.
كان لهذا التقدم نتائج عظيمة. فلقد وفرت تربية الحيوانات والزراعة مصادر أكثر انتظاماً وغزارة مما يوفره الصيد البري، كما أن تأليف الحيوانان جعل للإنسان وضعاً اقتصادياً مفضلاً. فاستطاع أن يقلب القانون الوراثي وأن يقيم النسب الأبوي.
كان قانون سيطرة الأم أكبر انهزام تاريخي للجنس الأنثوي. فاستولى الرجل على السلطة حتى في البيت، وتخلت المرآة عن مكانتها واستعبدت حتى أصبحت أسيرة الرجل ومجرد وسيلة للتناسل. هذا الوضع الشائن للمرأة كما يظهر لا سيما عند اليونان في عصر البطولة وفي العصر الكلاسيكي، بالرغم من جميع المحاولات لاخفائه أو التقليل من حدته، لم يقض عليه قط.
ولقد حفظت لنا خرافة الأما زون ذكرى ألوان من النضال البطولي قامت به قبائل تخضع لسيطرة الأم وقد نجحت في كبت الجماح ضد قبائل يسيطر عليها الرجال.
ولم يعد العمل، بعد ظهور تربية الحيوانات والزراعة، للحاجة المباشرة بل أصبح ينتج فائضاً: فيصبح التبادل ضرورياً وممكنا كما تتوفر إمكانية تجميع الثروات.
يملك الناس الآن بدلا من الآلات الحجرية، آلات معدنية، وأخيراً نرى ظهور تربية الحيوانات والزراعة، والمهن، وتقسيم العمل بين مختلف فروع الإنتاج عوضاً عن اقتصاد لا يتعدى الصيد البري البدائي، ولا يعرف تربية الحيوانات أو الزراعة. كما ظهرت إمكانية تبادل المنتوجات بين الأفراد والجماعات وإمكانية تجميع الثروات في أيدي فئة قليلة.
أصبح العمل الإنساني فائضاً عن الاستهلاك الأدنى، ولهذا أصبح من المصلحة ضم قوى جديدة للعمل. كان أسرى الحرب، في العصر السابق، أفواها غير مجدية، لأن العمل لم يكن يكاد يوفر قوت صاحبه. ولهذا لم يكن من المصلحة الاستيلاء على أسرى حرب بل القضاء على القضاء على القبيلة المعادية التي تحتل أرض الصيد. أما الآن فإن عمل الأسير يمكنه أن يوفر فائضاً، فكان من الطبيعي استخدامه، فأصبح الأسير رقيقاً.
جعل نمو الإنتاج، في جميع الفروع – كتربية المواشي، والزراعة، والصناعة البيتية – لقوة العمل الإنسانية المقدرة على إنتاج أكثر مما يلزم لمعيشتها، كما أنه زاد، في نفس الوقت، مقدار العمل اليومي الواجب على كل عضو من العائلة البطريركية أو الجماعة البيتية أو العائلة الزواجية. ولهذا أصبح من المستحسن الإستعانة بقوى جديدة للإنتاج. وجاءت الحرب بهذه القوى الجديدة: إذ تحول أسرى الحرب إلى أرقاء.
ولقد أدى التقسيم الأول الكبير للعمل، في ظروف التاريخية، بزيادته لإنتاج العمل، أي للثروة، وتوسيعه لميدان الإنتاج، إلى الرق حتما. فنشأ عن التقسيم الأول الكبير للمجتمع إلى طبقتين: الأسياد والعبيد، المستغلين والمستغلين.
وصلنا الآن إلى عتبة المدينة... لم يكن الناس، في الدرج الأسفل، ينتجون إلا مباشرة من أجل حاجاتهم الشخصية.وكان التبادل، الذي يجري بالمناسبة، منعزلا ولا يتعلق إلا بالفائض الذي يزيد صدفة.
وقد أصبح إنتاج الفائض، من ثم منظما. وأصبح بعض الأرقاء ملكا جماعياً للذين أسروهم، كما أصبح بعضهم ملكا خاصاً. ولم يكن الأرقاء على كل حال، يملكون شيئاً: فظهرت الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، ومن ثم إنقسهم المجتمع إلى طبقات، وزالت الشيوعية البدائية، كما تغير أساس المجتمع الاقتصادي، تم كل ذلك حسب متطلبات قوى الإنتاج الجديدة، وتحسين التقنيات داخل الكومون البدائية بدون إرادة الناس.
حينما أخذ بعض أعضاء الكومون البدائية بالانتقال تدريجياً من الآلات الحجرية إلى الآلات الحديدية، كانوا يجهلون النتائج الاجتماعية التي يفضي إليها هذا التجديد. ولم يكونوا يفكرون بذلك.
ولم يعوا ذلك، ولم يكونوا يدركون أن استعمال الآلات المعدنية يعني ثورة في الإنتاج، وأنه سيؤدي بالنهاية إلى نظام الرق. لم يكونوا يريدون سوى مجرد جعل عملهم أسهل، وأن يحصلوا على فائدة مباشرة محسوسة، فكان نشاطهم الواعي ضمن نطاق هذه الفائدة الشخصية اليومية الضيق
تركت نهاية العصر البدائي ومطلع عصر الرق آثاراً عميقة في مخيلة الناس. ولما كانوا لا يدركون ضرورتها الموضوعية، رأوا فيها انتقاما إلهيا، وفقداناً "للبراءة" الولية، وثمرة "للشر" و "الكبرياء"، والشيطان. وهكذا صيغت "الفضائل" القديمة في أفكار، تولد عنها العديد من الموضوعات الأخلاقية. فاستمرت ذكرى وجود المرآة القديم في أسطورة سيبيل آلهة الخصب. كما نعى الإنجيل "سقوط" الإنسان، وتغني الشعراء القدامى أمثال هزيود وأوفيد "بالجيل الذهبي"الذي تنبأ المأثور بعودته المحتومة.
وذا كان العصر البدائي لم يعرف ضروب النضال الطبقي، التي مزقت المجتمع في العصر التالي، فلقد عرف حالة الإنسانية البائسة، التي كانت فريسة للأخطار الطبيعية المتعددة. وأنه لمن السخرية أن لا نعترف بأن الرق، الذي ظهر على أساس نمو قوى الإنتاج، قد انتزع القبائل المتأخرة من الحالة التي كانت تتخبط فيها، فكان بذلك خطوة إلى الأمام.
يجب، إذن أن لا نجعل من العصر البدائي العصر المثالي. لأنه كان لا بد من ظهور الطبقات الذي يجعل نمو الإنتاج ممكنا. ومع ذلك لا يجب أن ننسى أنه يفتتح هذا العصر الفريد من تاريخ الإنسانية حيث نجد، حسب قول انجلز، أن كل خطوة إلى الأمام ينتج عنها خطوة إلى الوراء. لأن كل ازدياد في الإنتاج والرفاهية والمدينة عند فريق من المجتمع يشترط ازدياد استغلال سائر أعضاء المجتمع وازدياد شقانهم.
ولقد غير مجتمع الطبقات نفسية الإنسان تغييرا قويا، ولهذا لم يكن روسو مخطئا حينما جعل "المجتمع مسؤولا" عن "فساد الطبيعة الإنسانية" إذ أن نتيجة استغلال الإنسان للإنسان حرمان المستغل من الحصول على ثمرة عمله. وهكذا يفصل الإنسان عن عمله. ويحرمه المستغل من عمله ويستولي على هذا العمل. فإذا ما فصل الإنسان عن عمله، فصل بذلك عن نفسه، لأن النشاط الإنتاجي والمبادرة المبدعة أنما هما من خصائص الإنسان التي تجعله إنساناً وتميزه عن الحيوان. وبينما يحرم المستغل مما أنتجه يستولي المستغل على ما لم ينتجه. وهكذا ينفصل الوعي نفسه، لأنه يمكنه تحقيق غاياته بحرية، كما أن وعي المستغل ينفصل عن نفسه، لأن الكذب قد حل فيه، ولأنه لا يمكنه الاعتراف بغاياته بحرية. وكل من هذين الوعيين يعكس الاستغلال بطريقته. هذا الانقسام في الوعي على نفسه، هو ما يسمى بفقد "البراءة البدائية"أو ما سماه هيجل:"مصيبة الوعي".وهكذا ينعكس ظهور الطبقات، والاستغلال، وانقسام الإنسانية إلى جماعات متناقضة، في هذا الانقسام العميق الأساسي للوعي الإنساني الذي يتوزع من تلقاء نفسه إلى نزعات تتناقض بشدة وبدلا من أن يكون الإنسان نفسه غاية نشاطه المنتج، فإننا نجد على العكس أن الغاية و الوسيلة منفصل كل منهما عن الأخر و ذلك لأن الفئة التي تكون وسيلة الإنتاج (و هي الأكثرية)ليست غايةهذا الإنتاج بل إن غايةهذا الإنتاج (وهي الأقلية)ليست وسيلة.
يفسر هذا تناقض انحطاط الطبقات المستغلة الأخلاقي متى ما لم يعد نظامها الاستغلالي يتفق وحاجات نمو قوى الإنتاج وكلما ازداد الاستغلال زاد التفسخ في عالم المستغلين. فيظهر عندئذ، بوضوح أشد، طابع مجتمع الطبقات المفسد وضرورة الإصلاح.
ومثال ذلك أن الفلاسفة، في نهاية النظام القديم – وليس روسو وحده – قد قابلوا بمجموعهم " الفضيلة" بعيون الأستقراطية الزائلة. وصرح روبسبيير أنه يستعمل الرعب في سبيل خدمة الفضيلة. كما توخى كوندرسيه وغيره من الثورة تجديد الجنس البشري. فلم يعتم النظام الإداري أولا (Le Directoire ) ومن بعده النظام البرجوازي، أن خيبا الأمل مما ساعد على ظهور نزعة فورييه الخيالية.
وكان على ماركس وحده أن يدلل على أن الأحياء لا يمكن أن يأتي من الدعاية الأخلاقية أو فلسفة، ولا من تشريع اسبارطيء ولا من ثورة عامة، بل من إزالة الاستغلال الطبقي. ذلك لأن نهاية النضال الطبقي، وانقسام الإنسانية على نفسها، يستطيع إعادة الانسجام إلى الإنسان وحلول عهد الوعي السعيد. غير إن إزالةالنضال الطبقي لا يمكن أن تتم إلا بالاستمرار في النضال الطبقي حتى النهاية. ذلك لأن الثورة البروليتارية، ولا شيء غيرها، هي التي تعيد إلى الإنسانية وحدتها التي تتمثل في البروليتاريا والجماهير الشعبية، إذ يستعيد البروليتاريون وحلفاؤهم، في نضالهم الظافر ضد ظلم الطبقات المستغلة وانحطاطها، الإنسانية من أجلهم، ويحققون بذلك غاية الإنسان. و هكذا تصبح الوسيلة مماثلة للغاية . يمكن الأمل في عمل الجماهير الشعبية للأحياء لأن النضال وحده هو الذي يحول المناضلين.
ولهذا فإنا ثورة الاشتراكية هي فجر الإنسانية الحقة، لأنها من عمل رجال جعلهم النضال الثوري يبلغون ذروة الإنسانية. أما التعارض الميتافيزيقي، الذي يحاول المفكرون البرجوازيون إقامتة غاية الثورة ووسائلها، فهو مجرد سفسطة. لأن عملية تحويل. المجتمع الثوري هي عملية واحدة في جميع مراحلها. وتنمحي، في ظروف نضال الجماهير الثوري معالم سلب الإنسان (alienation) ومعالم الوعي الموزع، والإنسانية المفسودة، كما تتأكد في، ظروف هذا النضال، معالم إنسان المستقبل، الذي تظهر من عيوب مجتمع الطبقات والدليل الحي على ذلك تضحية الثوريين.
3 – مجتمعات الرقيق والإقطاع
دللنا، في درسنا لأصل استغلال الإنسان، بصورة بديهية، على طبيعة هذا الاستغلال: أن يستولي صاحب وسائل الإنتاج على الفائض، الذي يمكن أن تنتجه قوى الإنتاج، بالنسبة للحد الأدنى الفردي لحياة العامل، الذي حرم من ملكية وسائل الإنتاج متى بلغت قوى الإنتاج مستوى معيناً في نموها:
يعرف التاريخ ثلاث صورة لاستغلال الإنسان للإنسان: استغلال الرقيق الاستغلال الإقطاعي والاستغلال الرأسمالي. وسوف نتحدث بسرعة عن خصائص الضربين الأولين. وسنخصص الدرس المقبل للحديث عن خصائص الضرب الثالث.
التناقض الخاص بعلاقات الإنتاج في استغلال الرقيق هو التناقض بين طبقة الأسياد، مالكي الرقيق، وبين طبقة الأرقاء. وليس نظام الرق، الذي أوجده النضال والحرب، من أجل حصول على الأرقاء، سوى تسخير أسرى الحرب، ولهذا كان هذا النظام، منذ بدايته حتى النهاية، مسرح نضال طبقي مرير.
وملكية سيد الأرقاء لوسائل الإنتاج وللعمل هي أساس علاقات الإنتاج، وهي تتفق مع حالة قوى الإنتاج. إذ يمكن للرقيق، وهو أسير الحرب القديم، أن يشتري ويباع ويقتل كالحيوان، فتتكدس وسائل الإنتاج بين يدي أقلية ضئيلة. انتهى بذلك عهد العمل المشترك الحر، ولم يبق سوى تسخير الأرقاء من جهة، وبطالة الأسياد الذين لا يهتمون بالإنتاج ولا يرون وسيلة لزيادة الإنتاج إلا في زيادة عدد الأرقاء. فسيد الأرقاء هو المالك الأول الرئيسي والمالك المطلق.
يشعر الرقيق بالاستغلال شعوراً قوياً: فهو يرى أن كل ثمرة عمليه يستولي عليها سيده، فلا يبقى له سوى جزء ضئيل يناله في صورة غذائه. غير أن صور نضال الأرقاء بدائية: كالسلبية أمام التسخير، وهجر مكان السيد، وتنظيم عصابات قطاع الطرق وأخيراً الثروات الجماعية.
وقد نشأت داخل مجتمع الرقيق طبقات أخرى. فقد ظهرت طبقة العمال اليدويين حينما انفصلت المهن عن الزراعة، ثم ولد ازدياد التبادل تبادل السلع.
ومن هنا نشأت تناقضات جديدة. ولما كانت طبقة التجار وسيطاً لا غنى عنه بين منتجين، فقد جمعت بسرعة ثروات ضخمة، وأصبح لها تأثير اجتماعي يناسب هذه الثروات. وأخذت تنافس الملاكين لتوجيه السياسة حسب مصالحها الطبقية (كنضال "الديمقراطيين" ضد "الأرستقراطيين" في اليونان (ونضال (plebeins) ضد (patriciens) في روما).
غير أن هذه التناقضات الثانوية لا يجب أن تخفي التناقض الأساسي: ذلك لأن الرق يساعد على زيادة الثروات، والإنتاج الذي تعيش منه التجارة. وتزيد زيادة الإنتاج قيمة قوة العمل الإنساني فيصبح من الصعب الاستغناء عن الرق الذي يصبح عنصراً أساسياً في النظام الاجتماعي.
لم يكن تناقض المصالح بين الأسياد والأرقاء ليهدد نظام الرق طالما أن تقدم التقنيات فيه يجعل له أفضلية على القبائل المتأخرة التي كان يردها إلى الرق. ولقد أصبحت علاقات الإنتاج في نظام الرق، بعد أن كانت القوة الرئيسية لنمو قوى الإنتاج، عوائق لقوى الإنتاج. مثال ذلك أن هيرون السكندري إكتشف في القرن الثاني بعد المسيح، مبدأ الآلة البخارية. ولكن لم يكن لهذا الاكتشاف نتائج عملية لأنه كان من الأفضل الحصول على أرقاء جدد بدلا من إدخال التقنيات الجديدة التي يجعلها عمل السخرة لا فائدة منها. وأخيراً حل محل الأفضلية التقنية جمود التقنيات وتقهقرها.
كما أن الحصول على الأرقاء كان يتطلب الحرب الدائمة، وإلا كان لا بد من تربية أطفال الأرقاء للحصول على أقاء جدد وأخيراً انهارت دولة الرق القديم والإمبراطورية الرومانية، تحت ضربات البرابرة، بعد فترة طويلة من النزع، تشابكت فيها التناقضات الموضوعية وضروب النضال الديني والسياسي. إنهارت الإمبراطورية في الوقت الذي لم يعد نقصها التقني وتناقضاتها الداخلية من اقتصادية و سياسية يسمحان لها بالإنتصار على البرابرة، والحصول بذلك على أرقاء جدد. لأن نضال البرابرة ضد الدولة الرومانية لم يكن سوى نضال ضد استعبادهم. ولهذا كانت الإمبراطورية الرومانية بفعل منطق نظامها، تحتل مركز المعتدي الدائم.
وهكذا أفضى تناقض نظام الرق بهذا النظام إلى الدمار، حينما أصبح هذا النظام نفسه مناقضاً لطابع قوى الإنتاج. فكان لابد من علاقات إنتاج جديدة لبناء الاقتصاد من جديد: فنمت هذه العلاقات الجديدة على أنقاض عهد الرق، وكان النظام الإقطاعي.
يمثل النظام الإقطاعي تطوراً في الملكية الخاصة. وأساسه الاقتصادي هو ملكية السيد القطاعي لوسائل الإنتاج، وكذلك ملكيته المحدوة للعامل القين لم يعد بامكان الاقطاعي أن يقتله و إن كان يمكنه أن يبيعه أو يشتريه. ولا يملك القين، سواء كان فلاحاً أو عاملاً يدوياً، شخصياً ألا آلاته وما اقتصده على أساسي العمل الشخصي، وهكذا يمكنه أن يكون عائلة، ولهذا فإن الحصول على الاقيان يتم بوراثة الرق. وتتفق علاقات الإنتاج هذه مع حالة قوى الإنتاج.
يقوم جوهر الاستغلال هنا أيضاً على أن السيد الإقطاعي يستولى بصفة خاصة على فائض إنتاج القين. كأن يعمل اليقين، مثلا، ثلاثة أيام لنفسه و ثلاثة أيام للسيد.و لا يكاد الإستغلال يقل بالنسبة لعصر الرق، كما أن كلمة "قين"نفسها مشتقة من لفظ لا تيني يعني "الرقيق" ويتمتع السيد بجميع الحقوق. لأن السيد ينهب قيونه طالباً إليهم تقديم تضحيات ضخمة، زاعماً أنه "يحميهم" من غزو الأسياد المجاورين. وتظل صور نضال القيون بدائية: كالهرب من منطقة السيد، وتنظيم العصابات في الغابات، والقيام بالثورات لمحاولة القضاء على السجلات التي سجل عليها السيد ما يتوجب عليه.
وينزل الاضطهاد بالقيون، ويستمر النضال الطبقي بين الملاك الإقطاعيين والقيون – وهو انعكاس للتناقض الخاص بعلاقات الإنتاج القطاعية – من بداية النظام حتى نهايته. يضاف إلى ذلك أن هذا التناقض ينمو في صورة جديدة تكون بداية منازعات جديدة: إذ تولد فئة القيون التي مارست الصناعة اليدوية ومن ثم التجارة، طبقة جديدة. ويزداد تناقض المصالح بين هؤلاء "البرجوازيين" إذ يجب على هذه البرجوازية الفتية أن تنمي قوى الإنتاج، وأن تكون قوة اقتصادية جديدة. وتصبح علاقات الإنتاج، الإقطاعية، التي كانت في البدء مطابقة لطابع قوى الإنتاج، عامل تأخر، فتتحول إلى عوائق لهذه القوى. ويبدو التناقض بين البرجوازية والأقطاعية، بعد أن كان ثانويا، قد تولد عن نمو قوى الإنتاج داخل نظام الرق، فيظهر على المسرح ليقوم في النهاية بالدور الرئيسي.
ذلك لأن نضال القيون القرويين يفضي إلى بعض التحسن في مصيرهم لخوف الأقطاعيين من أن تجد البرجوازية فيهم حلفاء لها. ولكن هذا النضال لا يستطيع بنفسه أن يؤدي إلى تصفية علاقات الإنتاج، لأن قوى الإنتاج الجديدة لم تكن تنمو في القرية بل في المدينة. ولقد قضت الثورة الديمقراطية البرجوازية على نظام القين. ولم يختف التناقض الخاص بعلاقات الإنتاج الإقطاعية إلا متى تناقضت هذه العلاقات نفسها تناقضاً شديداً مع طابع قوى الإنتاج الجديد. ذلك لأن النمو الاقتصادي الجديد بحاجة لعلاقات إنتاج جديدة، فإرتفع بناء الرأسمالية على أنقاض النظام الإقطاعي.

4 – تطور البرجوازية
نستطيع أن نلاحظ بأن قوى الإنتاج الجديدة، التي ستؤدي إلى علاقات إنتاج إنتاج جديدة، لا تظهر خارج النظام القديم بعد زواله بل هي تظهر، على العكس، داخل هذا النظام. إذ يعمل كل جيل في الواقع، لتحسين التقنيات الموجودة التي تفيده مباشرة، وذلك لأنه يجب عليه أن يتلاءم مع ظروف الإنتاج الموجودة التي أبدعها عمل الأجيال السابقة. يضاف إلى ذلك أن كل جيل لا يعي النتائج الاجتماعية التي يمكن أن يؤدي إليها تحسين قوى الإنتاج على مر الأيام، فهو لا يفكر إلا بمصالحه اليومية. ولا تدرك الطبقات الحاكمة الخطر إلا بعد مضي فترة من زمن، فتوقف تقدم قوى الإنتاج. وهكذا يندفع كل جيل في سلسلة من الأسباب والنتائج التي لا يسيطر عليها. وليست علاقات الإنتاج الجديدة نتيجة عمل واع يقوم به الناس بل هي تنبعث على العكس من تلقاء نفسها مستقلة عن وعي الناس وإرادتهم. وهي ليست اعتباطية، بل تنبعث ضرورتها من ظروف النظام القديمة التقنية والاقتصادية. وتلك خاصية مهمة لجدلية طرق الإنتاج. إذ أن ما يحدد طريقة الإنتاج إنما هي علاقات الإنتاج المسيطرة. ولنمعن النظر في تطور البرجوازية التي عاشت سبعة قرون داخل نظام الإقطاعي.
كان الإنتاج، في البداية، ضعيفاً، وكان يستهلك محلياً وكان التبادل قليلاً، وكنا نشعر بسيطرة القرية على المدينة الخاضعة للإقطاعيين، ثم ظهرت في المدن، حوالي القرن الثاني عشر، بفضل تقدم المهن الذي يسره نظام القين نفسه، ظواهر جديدة: إذ ظهر فائض الإنتاج في السوق. ومن هنا نشأت السواق، ونشأت معها طبقة تخصصت في بيع السلع وشرائها: وهؤلاء هم التجار طلائع البرجوازية.
وكان انطلاق البرجوازية هذا مصدر الحركة المسماة بـ "الكومونال"، وهي أول صورة لنضال البرجوازية الطبقي ضد الإقطاعيين. فقد كان السيد يطلب بدلا من عتق القين حقوقاً تدفع عيناً، وكذلك اشترى البرجوازيون، بنفس الطريقة، حقوقاً سياسية مختلفة كبناء الأسوار حول مدنهم، أو سك العملة، أو بناء السجون أو تكوين مليشيا حربية، وانتداب ممثلين منتجين، أو إقامة مركز بلدية مع برج محصن. وكان الملك يقف إلى جانبهم ضد الأسياد أعدائه مقابل قرضه المال الضروري لتقوية الدولة الإقطاعية وتسيير شؤونها.
وقامت الحرب الصليبية بتنمية البرجوازية التجارية بفتحها طريق المتوسط. كما نمت في نفس الوقت طبقة أصحاب المصارف (في فلورنسا).
ولقد دلت حرب المئة عام على عجز الإقطاعيين الحربي كما دلت على نهضة البرجوازية الإنجليزية والبلجيكية على يد بائع الأقمشة ارتيفلد وزميله أتيين مارسيل ولقد انحط التقدم التقني الحربي بالأسياد إذ بلغ من غلاء الأسلحة النارية أن الملك وحده يستطيع شراءها بأموال التجار التي كان يقترضها.
حدثت الاكتشافات الكبرى، في نهاية القرن الخامس عشر وكانت تهدف للاستيلاء على الذهب . كما كان لتدفق الذهب على السوق الأوروبي نتائج مدهشة: إذ تكونت سريعاً ثروات ضخمة، وارتفعت السعار، وأفلس الأسياد. وأصبحت العائلات البرجوازية الكبيرة كعائلة المدتشي ملوك العصر الحقيقيين الذين يملكون سلطة يحسب حسابها وقد منحت الملكية البرجوازية مقابل المساعدة المالية التي كانت تتلقاها منها بعض الاحتكارات.
أصبح من الممكن عندئذ ظهور المصانع لوجود رؤوس الأموال التي تكدست في العصر السابق، ولأن ازدهار التجارة قد بلغ حداً أصبح معه الإنتاج اليدوي، الذي يمتاز به عهد الإقطاع، لا يكفي. وهكذا تم الانتقال من الصناعة اليدوية إلى التجارة ومن التجارة إلى المصانع، فتتحققت بذلك خطوة جديدة قامت بها قوى الإنتاج. وأصبحت المراكز التجارية مراكز للمصانع مثال ذلك صناعة الحرير في ليون.
ويقوم المصانع على تجزئة صنع منتوج إلى مهمات جزئية يقوم بها عمال مختلفون. يعني ذلك إمكانية زيادة الإنتاج من أجل التجارة رأس المال. فأصبحت التجارة غاية توجد لنفسها وسائل جديدة بعد أن كانت وسيلة وهكذا ظهرت البرجوازية الصناعية وسط المجتمع الإقطاعي كما ظهرت معها طلائع البروليتاريا. فحلت "العصور الحديثة" محل "القرون الوسطى " فكان ذلك بداية علاقات جديدة للإنتاج تمتاز باستغلال الرأسمال لبروليتاريا مأجورة. وقد تكونت هذه البروليتاريا من الفلاحين المفلسين، بعد أن طردوا من أراضيهم، ومن الصناع اليدويين الذين قضت عليهم المضاربة، ومن مرتزقة الإقطاعيين، الذين لا عمل لهم، ومن جميع الذين يفرون من الاضطهاد الإقطاعي، فقد كانوا أحراراً ولكنهم جميعاً لا يملكون وسائل الإنتاج، فاضطروا كي لا يموتوا من جوع، إلى بيع قوتهم العملية إلى البرجوازي لأن البرجوازي،الذي ولد نفسه من الإنتاج التجاري، يعتقد أن كل شيء يشتري ويباع.
تتطلب قوى الإنتاج الجديدة من العمال أن يكونوا أشد ثقافة وذكاء من القيون الجاهلين، وأن يكونوا قادرين على فهم الآلة، وأن يعرفوا كيفية إدارتها كما يجب. ولهذا يفضل الرأسمالية التعامل مع عمال مأجورين متحررين من قيود القينونة ذوي ثقافة كافة لإدارة الآلات كما يجب.
فقد ساعدت علاقات الإنتاج الجديدة على نمو قوى الإنتاج التي تزيد الربح. وتم الانتقال من الصناعة اليدوية إلى الصناعة الآلية، ومن ثم إلى نظام الآلات بواسطة الآلة البخارية، وبد ذلك إلى الصناعة الآلية الضخمة الحديثة. وفي القرن الثامن عشر وقعت الثورة الصناعة" التي وصفها ماركس بقوة في الجزء الأول من "بيان الحزب الشيوعي".
كان من نتيجة ظهور هذه العلاقات الجديدة للإنتاج أن بدأ النضال الطيقي ضد الإقطاعيين. ولقد عرف هذا النضال تطورا طويلا منذ المعارك الأولى من أجل العتق.
وقد عبرت النهضة عن ذلك. فتصدت البرجوازية للكنيسة وهي حليف الإقطاعية الروحي، معتمدة على النظريات الفكرية في العصر القديم. وأخذت تمجد الطبيعة، والعلم، والفعل، وقوة التفكير الإنساني على يد ليونار دي فنشي واراسم ورابليه ومونتيني، كما انتقدت تربية القرون الوسطى على يد رابلية ومونتيني. وقد عبرت الحروب الدينية عن هذا النضال صورة صوفية.
واشتد النضال في القرن الثامن عشر فاتجه ضد الدولة الإقطاعية التي تعيق نمو قوى الإنتاج وازدياد التبادل، وذلك بواسطة القوانين وتجزئة الأرض والإمتيازات والضرائب ولاشتداد النضال هذا مغزى كبير: إذ أخذت البرجوازية تدرك أنه يتحتم عليها، كي تزدهر، أن تصفي علاقات الإنتاج القديمة، وأن تؤمن للعلاقات الجديدة سيطرة تامة. فأصبح بذلك النضال سياسياً.
وهاك ما رأيناه حتى الآن: وجدت وسائل الإنتاج والتبادل التي قامت على أساسها البرجوازية داخل المجتمع الإقطاعي إذ لم تعد وسائل الإنتاج والتبادل هذه – بعد أن بلغت درجة معينة من النمو، كما لم تعد الظروف التي ينتج فيها المجتمع الإقطاعي ويتبادل، والتنظيم الإقطاعي للزراعة والصناعة اليدوية، أي النظام الإقطاعي للملكية – تتفق مع قوى الإنتاج في ذروة نموها، فأعاقت الإنتاج بدلا من العمل على تقدمه، فتحولت بذلك إلى قيود كان لا بد من تحطيمها فحطمت.
وحلت محلها المضاربة الحرة ضمن دستور اجتماعي وسياسي خاص وسيطرت الطبقة البرجوازية اقتصادياً وسياسياً.
ولا شك أن هذا الإدراك لم يتم بين عشية وضحاحا,
حينما أخذت البرجوازية الفتية، في أوروبا، في النظام الإقطاعي، ببناء المصانع الكبيرة إلى جانب مصانع العمال اليدويين الصغيرة، فساعدت بذلك على تقدم قوى الإنتاج في المجتمع، كانت تجهل حتما الاجتماعية التي يؤدي إليها هذا التجديد، ولم تكن تفكر بهذه النتائج كما أنها لم تكن تعي ولم تكن تفهم أن هذا التجديد "الصغير" سيؤدي إلى تجمع جديد للقوى الاجتماعية، وسوف ينتهي بثورة ضد السلطة الملكية، وضد طبقة النبلاء التي كان يحلم أفضل ممثلي البرجوازية بالانضمام إليها، وكانت تهدف إلى تقليل تكاليف إنتاج السلع وزيادة كمياتها في أسواق أسيا وأميركا التي كانت قد اكتشفت حديثاً، والحصول على أرباح أعظم، وهكذا كان نشاطها الواعي لا يتعدى نطاق مصالحها العملية اليومية الضيق.
لم تكن البرجوازية تهدف، في أول الأمر، إلا لضمان مكان لها في المجتمع الإقطاعي. والنضال الطبقي هو الانعكاس الاجتماعي السياسي الفكري للمصالح الحقيقة المادية الاقتصادية وهذا واقع موضوعي، لأن البرجوازية نفسها تدخل ضمن نطاق التاريخ الموضوعي، فهي ثمرة القوانين الاقتصادية للإنتاج التجاري، كما أنها ثمرة للملكية الخاصة التي جاءت عناصرها الأولية للطبقة المستغلة عن طريق مؤسسة القينونة نفسها.
ثم جاء زمن أصبحت فيه الملكية الإقطاعية، كما أصبح النظام الإقطاعي كله عائقاً مباشرا التقدم قوى الإنتاج بعد أن أمسى التناقض بين علاقات الإنتاج القديمة وبين قوى الإنتاج الجديدة لا يحتمل. وذلك لأن الطبقة الصاعدة هي تلك التي تستطيع تنمية قوى الإنتاج الجديدة.
وازداد وعي النضال. كما أصبح نضالا منهجيا، بعد أن كان تلقائياً، فجعل من الطبقة ثورية. وأصبحت الوسيلة التي لا يمكن تطبيق قانون الترابط الضروري بدونها.وأصبح هدفها، منذ الآن ليس تهيئة مكان للبرجوازية في النظام القطاعي بل القضاء على هذا النظام.
ولهذا اشتد نضال القطاعيين واحتدم أيضاً، أولئك الذين لم يكونوا مهددين فقط بزوال سطوتهم الاقتصادية النسبية بل اصبحوا مهددين في وجودهم كطبقة، ولهذا ازدادت رجعيتهم.
نفهم الآن قول ماركس: نضال الطبقات محرك التاريخ أي الوسيلة السياسية التي تنحل بواسطتها تناقضات الإنتاج، كما أنه الوسيلة التي تقدم بفضلها قوى الإنتاج والمجتمع بأكمله. ولكن إذا كان النضال يحل التناقض فليس هو الذي أوجده. إذ ليس وعي الناس هو الذي يلهو بإيجاد التناقضات. لأن هذا المحرك لا يدور في الهواء. بل هناك الإنتاج وقانون الترابط الضروري. فهو يساعد هذا القانون على الظهور تماما، كما أن المحرك يساعد طاقة المحروق على أن تظهر كل فعاليتها. حتى إذا ما أصبح الإنتاج يولد الطبقات المتناقضة حتى زوالها، فإن نمو المجتمع يتم بواسطة نضال الطبقات: نضال بين الطبقات المعادية، من جهة، لترابط علاقات الإنتاج الضروري مع قوى الإنتاج، وبين الطبقات المؤيدة، من جهة ثانية، لهذا الترابط، ولنلاحظ بهذا الصدد، أن الطبقة الثورية يمكن أن تكون في نفس الوقت مستغلة وأن الطبقة المغلوبة "كطبقة البرجوازية في عهد الإقطاع" ليست بالضرورة طبقة مستغلة.
تصبح الطبقة الصاعدة واعية لرسالتها التاريخية بمساعدة العلم الاقتصادي أو على الأقل بمساعدة التجربة الاقتصادية، وكلما تحدد هذا الوعي كلما ازدادت فعالية النضال الثوري، لأن هذا النضال يعتمد على معرفة قانون الترابط الضروري الموضوعي.
نخلص إلى القول إذن: إن الإنتاج الاقتصادي والنظام الاجتماعي الذي ينتج عنه حتما يكونان، في كل عصر تاريخي، أساس التاريخ السياسي والفكري لهذا العصر،.. ولهذا فقد كان التاريخ "بعد زوال ملكية الأرض المشتركة في العصور البدائية" تاريخ نضال طبقي بين طبقات مستغلة وطبقات مستغلة، بين طبقات محكومة وطبقات حاكمة، في مختلف مراحل تطورها الاجتماعي.















الدرس الثامن عشر

تناقض المجتمع الرأسمالي






1 – علاقات الإنتاج الرأسمالية: تناقضها النوعي
كتب ستالين يقول، في وصفه المجتمع الرأسمالي الذي يتلو المجتمع الإقطاعي:
تكون، في النظام الرأسمالي، ملكية وسائل الإنتاج الرأسمالية أساس علاقات الإنتاج، بعد أن زالت ملكية المنتجين والعمال فلم يعد الرأسمالية يملك حق قتلهم أو بيعهم، لأنهم تحرروا من كل ارتباط شخصي معه، بيد أنهم محرومون من وسائل الإنتاج، ولهذا فهم مضطرون، كي لا يموتوا جوعا إلى بيع قوتهم على العمل إلى الرأسمالي، والتردي في نير الاستغلاليعني هذا أن العلاقات الرأسمالية تحتوي على تناقض أساسي بين مصلحة الطبقة المستغلة "البرجوازية الرأسمالية" ومصلحة الطبقة المستغلة "البروليتاريا". وهذا التناقض خاص بالرأسمالية. وذلك لأن وجود البرجوازية الرأسمالية ورخاءها لا يتوفران إلا بعمل البروليتاريا.
وهكذا ندرك، إذن، أن نضال الطبقات ملازم للرأسمالية، فهو يعبر عن فهو يعبر عن التناقض الداخلي في علاقات الإنتاج الرأسمالية،واستغلال الإنسان الرأسمالي لأخيه الإنسان، حتى إذا ما نشأت علاقات الإنتاج الرأسمالية – داخل المجتمع الإقطاعي نفسه – ظهر النضالى الطبقي الموضوعي بين البرجوازيين والبروليتاريين ويستمر ذلك النضال على يدى تاريخ البرجوازية.
وسوف يتيح لنا تحليل علاقات الإنتاج الرأسمالية تحديد طبيعة تناقضها النوعي الذي يؤدي بالضرورة إلى نضال الطبقات.
كان الصانع اليدوي يبيع مصنوعاته اليدوية ليشتري لنفسه حاجات مادية ضرورية، والرأسمالي يشتري المواد الأولية لبيع منتوجات مصنوعة. هدف الإنتاج اليدوي هو الاستهلاك، بينما غاية الإنتاج الرأسمالي هي الفائدة. وهكذا
يصبح الانتقال من الشكل الأول لدوران المال إلى شكل دوران الرأسمال ممكنا، كما وجدت الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. وهذا ما يحدث في النظام القطاعي خاصة، كما يفسر لنا نشأة الرأسمالية في هذا النظام.
يتحول المال إلى رأسمال، في هذا النوع الجديد من دوران المال، وذلك لأن توظيف المال هو لزيادة إنتاج المال.
بيد أنه يجب، كي يتحقق الربح من هذه العملية، أن يجد الرأسمالي في السوق بضاعة لها ميزة خاصة، ألا وهي إنتاج قيمة أكثر من القيمة الضرورية لتجديدها، وأن يملك الرأسمالي لوحده فائض القيمة هذه.
فما هي هذه البضاعة المفيدة للرأسمالي؟ إنها ولا شك قوة العامل على العمل، لأن العمل وحده يمكنه إن ينتج القيمة.
ويجب أن نفهم من القوة على العمل مجموع الصفات الحية التي يستخدمها لإنتاج أشياء مفيدة.
ماذا يجب كي يمتلك الرأسمالي القيمة المنتجة؟ ويملك جميع وسائل الإنتاج؟
ماذا يجب كي تصبح قوة العمل الإنسانية بضاعة؟ ويضطر الناس إلى بأنفسهم في الأسواق؟
يجب أولا: أن يملكوا هذه القوة تماما، أي أن يتحرروا من قيود الرق. ثانياً: يجب وجود الأسواق: حيث يوجد الشراء والبيع والإنتاج التجاري. ثالثا: أن لا يكون لدى الناس للبيع سوى قوتهم على العمل، أي أنهم لا يملكون هم أنفسهم أي وسيلة للإنتاج.
يوجد مثل هؤلاء الناس البروليتاريين وذلك أما بسبب ازدهار النظام القطاعي اقتصاديا، أو بسبب المضاربة التي تسيطر في الإنتاج التجاري وتقضي على صغار الصناع اليدويين، وصغار التجار.
هذا من جهة ومن جهة ثانية فإن الرأسمالي، الذي يهمه استخدام العمال الأحرار الذين هم أرقى من الرقيق الجهلة، ويعرفون كيف يستخدمون الآلات الجديدة، يشجع بكل الوسائل نضال الرقيق من أجل تحريرهم.
ندرك الآن مصدر "الحرية" التي نادت بها الرأسمالية، وطبيعة هذه الحرية، هذه الحرية هي حرية التجارة والأعمال بالنسبة للرأسمالي، وحرية العمل عند الرأسمالي بالنسبة للبروليتاري.
وهذا ليس سوى قوة البروليتاري على العمل. ولكن كيف سيدفع أجر هذه القوة؟ كما يدفع ثمن كل سلعة، إذ تتحدد قيمتها بكمية العمل الضرورية لإنتاجها. وقيمة المنتوجات الضرورية لاستمرارها وتجددها، كي يعيش البروليتاري ويشب أطفاله فيحلوا محله. ولما كانت هذه القيمة ستحسم من القيمة التي ينتجها العامل خلال عمله اليومي، فإن الزائد، وهو فائض القيمة، سيزيد من رأس المال: "يكون القسم الأول الأجر بينما يتولد عن القسم الثاني الربح".
ولهذا كانت مصلحة الرأسمالي في تمديد العمل اليومي، كما أن مصلحة البروليتاريا، في تقصيره. فإذا وجب ثلاث ساعات لإنتاج قيمة تساوي ما تتطلبه تغذية قوة العمل عند العامل، وإذا كان هذا العامل يبدأ عمله في الساعة السادسة صباحا، فإنه منذ الساعة التاسعة يعمل لمصلحة الرأسمالي. فإذا عمل بدون انقطاع وانتهى من عمله الساعة 14 فإنه يكون قد عمل خمس ساعات لمصلحة الرأسمالي. وإذا انتهى الساعة 19 "نفرض عملا متواصلا" فإنه يكون قد عمل عشر ساعات لمصلحة الرأسمالي.
وهكذا يتضاعف ربح الرأسمالي ما بين ثماني ساعات عمل يوميا وثلاثة عشر ساعة: "وكان هذا شائعا في مطلع الرأسمالية" بينما أجر العامل لم يتغير: فهو محدد بالقيمة لتغذية قوة العمل، وهي قيمة تكفي ثلاث ساعات لإنتاجها.
يخفي، طبعا، الرأسمالي، هذا الأمر حين يدفع أجر العامل، في نهاية اليوم، بعد انتهاء العمل المطلوب.
ولهذا يضطر البروليتاري، كي لا يموت من الجوع إلى العمل طيلة الوقت المحدد كي ينال أجره.
ويعني هذا أن الرأسمالي، مقابل أجر يمثل تماما ما يساوي أقل حاجات البروليتاري المادية، يستولي على منتوجات عمل البروليتاري. وهكذا ينقسم العمل اليومي إلى عمل يومي ضروري وعمل يومي بالمجان.
يوجد إذن، في عهد الرأسمالية، كما وجد في عهد الإقطاع وعهد الرق، تملك خاص للعمل غير المأجور. غير أن البروليتاري لا يكتشف رأسا سر هذا الاستغلال، لأنه يخيل إليه أنه قد دفع إليه أجرة كل عمله عند نهاية اليوم. كان الرقيق يملك منتوجات اقتصاده الخاص، وكان يعرف أنه يعمل عددا من الأيام بالمجان في خدمة سيده.
أما البروليتاري العصري، فهو، كالعبد، لا يملك شيئا سوى "حريته"، أي قدرته على بيع قوته على العمل. وكان العبد ينال غذاءه من سيده، أما الرأسمالي فهو يعطي البروليتاري. في صورة أجر الضروري مما يحتاجه في غذائه، وربما عاد فاستولى على كل هذا الأجر في مستودع الأغذية أو عند دفع أجرة السكن: فالرأسمالية هي إذن العبودية المأجورة.
أتاح لنا هذا التحليل أن نتأكد أننا كنا محقين في قولنا أن مصالح الرأسمالي اقتصادية لا تتفق و مصالح البروليتاري في الاساس، ولا يمكن التوفيق بينها، وإن هناك تناقضا كامنا في الرأسمالية يكون جوهر علاقات الإنتاج الرأسمالية.
ينتج عن ذلك أن فكرة تعاون الطبقات والشراكة بين رأس المال والعمل هي سلاح لخدمة الرأسمالي. فهي تهدف إلى أبعاد البروليتاري عن النضال من أجل الدفاع عن مصالحه. ليس الاستغلال الرأسمالي نتيجة "استغلال رؤساء العمل الفاسدين". كما تدعي منشورات البابا، لأنه لا يوجد رأسمالية "صالحة" إذ أن كل رأسمالية مستغلة بطبيعتها ولهذا فأن القول بالقضاء على البروليتاريا، والقضاء على الاستغلال الرأسمالي مع المحافظة على الرأسمالية والملكية الفردية لوسائل الإنتاج إنما هو سخرية بعقول الناس، إذ يجب القضاء على الرأسمالية كي نقضي على البروليتاريا.
وتصح هذه الملاحظات بصدد "الاشتراكية" البرجوازية عند برودون التي لا تهتم بالقضاء على الرأسمالية بواسطة عمل الطبقات الثوري، بل "بتحسين مصير الطبقة العاملة".ضمن نطاق الرأسمالية بعد تعديلها.
وهناك نتيجة أخرى لتحليلنا، وهي أن نضال الطبقات ليس من اختراع كارل ماركس. فهو موجود مستقلا عن إرادة الناس. ولهذا لا يستطيع البروليتاريون توفير أسباب عيشهم ألا بالنضال ضد المستغل، حتى إذا ما كفت البروليتاريا عن النضال، من أجل الأجور، انتهت بما الرأسمالية إلى حالة قريبة من حالة الحيوان.
غير أنه يجب أن نلاحظ أن التناقض بين الرأسمال والعمل ليس هو التناقض الوحيد الذي وجد منذ مطلع الرأسمالية. ولكن تناقض المصالح بين الرأسماليين المتنافسين ليس أساسيا بل يتبع التناقض النوعي للرأسمالية، وهو التناقض بين الرأسمالي المستغل وبين العامل المستغل: ولولا هذا التناقض لما كان هناك رأسمالية. وهكذا يكون قانون سيطرة الإنتاج في النظام الرأسمالي تابعا لقانون فائض القيمة الأساسي.

2 – قانون الترابط الضروري في المجتمع الرأسمالي
درسنا فيما سبق علاقات الإنتاج الرأسمالية: وذلك بتحليل تناقضها الداخلي ذلك التناقض الخاص بالرأسمالية.
وسوف تسمح لنا هذه الدراسة أن ندرك مصير قانون المجتمعات الأساسي، في المجتمع الرأسمالي، وهو قانون الترابط الضروري بين علاقات الإنتاج وطابع قوى الإنتاج. وسوف نرى، في المرحلة الأولى، كيف أوجد تناقض الرأسمالية الخاص ظروفاً مواتية لعمل قانون الترابط الضروري، أي لازدهار قوى الإنتاج.
ثم سوف نرى، في مرحلة ثانية، أن تناقض الرأسمالية الخاص يوجد ظروفا مواتية لعمل قانون الترابط الضروري: ومن ثم ينشأ النزاع بين علاقات الإنتاج وبين قوى الإنتاج. فيعين ذلك نمو قوى الإنتاج.

ا – الترابط بين علاقات الإنتاج الرأسمالية وطابع قوى الإنتاج
رأينا في الدرس الرابع "المسالة 4" أن طبقة البرجوازية تكونت وسط المجتمع الإقطاعي. ولما كانت مصالح الطبقة البرجوازية مرتبطة بازدهار قوى الإنتاج الجديدة( كالصناعات اليدوية، المصانع) فإنها لم تستطيع النمو إلا عن طريق النضال ضد علاقات الإنتاج الإقطاعية التي لم تنسجم مع قوى الإنتاج الجديدة. فكانت بذلك حجر عثرة في وجه قانون الترابط الضروري.
كانت مهمة الثورة الديمقراطية البرجوازية تصفية الإقطاع، فسيطرت علاقات الإنتاج الرأسمالية بفضل انتصار البرجوازية.
وهكذا أقبلت مرحلة تاريخية كانت فيها طريقة الإنتاج الجديدة تتفق تماماً مع متطلبات نمو الإنتاج. واستعاد قانون الترابط الضروري، الذي كان المجتمع الإقطاعي يعيق عمله، كل قوته في المجتمع الرأسمالي.
ويجب أن نلاحظ أن العلاقات الرأسمالية لا تتفق مع أية صورة أخرى لعلاقات الإنتاج. لماذا؟ تقوم الرأسمالية على الربح "راجع المسألة 1 من هذا الدرس" ولهذا كانت مصلحة الرأسمالية في زيادة الإنتاج باستمرار وبأسعار أقل. ولهذا تحتاج الرأسمالية إلى ضم قوى جديدة للإنتاج تقلل من الوقت اللازم للإنتاج، كما تحتاج إلى الحصول، بمختلف الوسائل، على أسواق جديدة. غير أن هذا الربح لا يمكن أن يأتي بربح أكبر إلا إذا استخدام في مشاريع صناعة، أو تجارية، أو زراعية جديدة. ولهذا كان على الملكية الرأسمالية أن تمتد إلى جميع وسائل الإنتاج بدون استثناء. وهكذا لا تستطيع الرأسمالية أن تسمح بوجود أية أخرى للملكية إلى جانبها. بل عليها أن تشمل الأمة بأجمعها، ومن ثم ما هو خارج من الأمة، فسعى منذ بدايتها إلى سيطرة عامة شاملة.
لا يمكن للبرجوازية أن توجد إلا بتطوير وسائل الإنتاج باستمرار، وهذا يعني تطوير ظروف الإنتاج وجميع العلاقات الاجتماعية. بينما كانت المحافظة على طريقة الإنتاج القديمة بدون أي تغيير، على العكس، الشرط الأول لوجود الطبقات الصناعة السابقة. ولهذا يتميز عهد البرجوازية، عن جميع العهود السابقة، بهذا التطوير الدائم للإنتاج الذي يؤدي إلى زعزعة مستمرة للنظام الاجتماعي بأكمله، وإلى اضطراب وعدم اطمئنان لا ينقطعان، فتزول جميع العلاقات الاجتماعية التقليدية مع ما يرافقها من نظريات وأفكار قديمة. وإذا بالشيخوخة تعتري العلاقات التي تحل محلها قبل أن يشتد ساعاها، فكل ما هو صلب دائم يصبح دخانا تذروه الرياح، كما يدنس كل ما هو مقدس، ولهذا يضطر الناس إلى النظر لأحوالهم المعيشية ولعلاقاتهم المتبادلة نظرة تنم على الخيبة واليأس.
ومع ذلك يعم قوى الإنتاج ازدهار عظيم. إذ تعتقد الرأسمالية، في هذه المرحلة، أن عليها أن تنمي قوى الإنتاج بصورة غير محددة.ومن هنا كان الإعتقاد "بالتقدم"اللانهائي داخل البرجوازية، وخلود الرأسمالية التي تبدو على أنها الصورة النهائية الكاملة للمدينة، فيعتقد، حينئذ، الاقتصاديون الرأسماليون أن الإنتاج الرأسمال ينمو بيسر، بعيداً عن التناقضات، فإذا بهذا العصر عصر "الانسجام الاقتصادي"
يخيل للرأسماليين عندئذ أنهم يخدمون مصالح المجتمع، ويزيدون من حجم السلع المستهلكة،و يوفرون العمل للجميع.
أما مشاغلهم "الاجتماعية" فهي، بالنسبة لفريق منهم، الأمل بعلاج الأمراض الاجتماعية، عن طريق تنمية الإنتاج، وبذلك تتوطد أركان النظام الرأسمالي والمجتمع البرجوازية. ويصبح مثل المصلحين البرجوازيين الأعلى، آنئذ، أن يجعلوا من جميع الناس ملاكين، لتكون البرجوازية بدون البروليتاريا. وقد ولد هذا الضرب من الإحسان المحافظ الجمعيات الخيرية المتعددة.
تعكس لنا هذه الأفكار أن الملكية الخاصة الرأسمالية لوسائل الإنتاج، في هذه الفترة، تساعد الإنتاج مساعدة قصوى.
لا شك أن العصر الذي تلى الثورة البرجوازية، حين قضت البرجوازية على علاقات الإنتاج الإقطاعية، وأحلت مكانها علاقات الإنتاج البرجوازية، قد مر بفترات كانت فيها علاقات الإنتاج البرجوازية حسب طابع قوى الإنتاج ، وإلا لما استطاعت الرأسمالية أن تنمو بسرعة، كما فعلت بعد الثورة البرجوازية.
وكانت علاقات الإنتاج الرأسمالية القوة الرئيسية التي تعمل على نمو قوى الإنتاج. بيد أننا قد برهنا في المسألة "1" من هذا الدرس أن العلاقات الرأسمالية هي علاقات استغلال، فإذا كانت قوى الإنتاج استطاعت أن تنمو في النظام الرأسمالي فما ذلك ألا نتيجة للاستغلال! لأن ازدهار الإنتاج كان بسبب وجود فائض القيمة الذي يولده العمل الإنساني، فاستولت البرجوازية على هذا الفائض. وهكذا يكون استغلال البروليتاريين هو الذي عمل على نمو الرأسمالية. فالبروليتاريون العصريون هم الذين أوجدوا روائع المدنية الحديثة، وعانوا البؤس المخيف الذي فتك بالرجال والنساء والأطفال، وكان من جرئه نمو قوى الإنتاج الرائع الذي أقامت عليه البرجوازية الرأسمالية بذخها وسلطانهايعني هذا أن الإنتاج في المجتمع الرأسمالي تابع للربح الرأسمالي، وهو يقوم على استغلال الطبقة العاملة.
يحق لنا القول، إذن، أن التناقض الخاص بالرأسمالية – وهو التناقض بين الطبقة المستغلة والطبقة المستغلة – أوجد ظروفاً مواتية لعمل قانون الترابط الضروري، وإن هذه الظروف مواتية أيضاً لازدهار قوى الإنتاج.
ولسوف نرى الآن كيف كان لنفس التناقض، في مرحلة ثانية (تبدأ نحو عام 1840) أثر معاكس لهذا الأثر.
ب – النزاع بين علاقات الإنتاج الرأسمالية وطابع قوى الإنتاج
كان الرأسماليون، في عصر ازدهار الرأسمالية، يعتقدون أنه يمكنهم تطوير وسائل الإنتاج بصورة غير محدودة، كما كانوا يعتقدون أن الصناعة سوف تخفف الآلام، وتحل جميع المشاكل. ولم يتراء لهم أن تطوير هذه الوسائل يمكن أن يقف في وجهه أحدألا و هو الرأسمالية نفسها . وذلك بنفس الطريقة التي يصبح فيها تكبير حبات العدس محدوداً في الميكروسكوب، فتحدث عندئذ ظواهر ضوئية جديدة تمنع الرؤية، وتحول دون أي تقدم في الميكروسكوب القديم. كما أن ازدياد سرعة الطائرات يحدث ظواهر جديدة حين تبلغ سرعة الصوت، وكذلك يجب على نمو قوى الإنتاج – الذي يسرته الرأسمالية – أن يضر بالرأسمالية نفسها لأن تلك هي الجدلية في الطبيعة والمجتمع. فلقد اصطدمت الرأسمالية نفسها "بجدار الصوت" فكانت الأزمات الاقتصادية. فما هو أساس هذه الأزمات؟
تستطيع الرأسمالية، بواسطة تطوير قوى الإنتاج أن تعرض في الأسواق كميات متزايدة من السلع بأسعار أرخص، فتزداد حمى المضاربة، وتقضي الرأسمالية بذلك على طبقة صغار الملاكين ومتوسطيهم. بينما تتجمع الثروة في أيدي آفة قليلة من الرأسماليين "المحتكرين". ويعم الفقر الأغلبية الساحقة "الطبقة المتوسطة، والفلاحين". وتزداد أهمية جميع هذه الطبقات، كلما تجمع رأس المال بين أيدي أقلية من المستغلين، كما تضعف قوتهم الشرائية، فإذا بالبيع في السوق يخف، وإذا بالكساد يحل، لأن أكثرية السكان تقتصر في استهلاكها على الضروري فقط. فيظهر الخلل عندئذ أكثر فأكثر بين الإنتاج والاستهلاك. وهذا ما يسميه الرأسماليون "فائض الإنتاج"، فتحدث حينئذ الأزمة.
وهكذا يولد الجري وراء الربح، وهو هدف الرأسمالية، عكسية: وهو توقف الربح. فإذا بغالبية المجتمع تتردى في البؤس، لأنها انتجث وسائل للعيش لا تستطيع شراءها.
فإذا بها تعاني الفقر بسبب كثرة الإنتاج!
يظهر التحليل الاقتصادي الماركسي أن التوازن بين الإنتاج والاستهلاك، ونمو الإنتاج الاجتماعي بهدوء وانسجام لا يمكن أن يتحققا إلا إذا اعتبرنا مجموع حاجات المجتمع، سواء كانت سلع الاستهلاك أو وسائل الإنتاج. ولكن أنى للرأسمالي أن يعتبر هذه المتطلبات، بينما هدفه الوحيد هو مصلحته الخاصة وربحه الذي تحدده أحوال السوق؟
وليس الإنتاج، في النظام الرأسمالي، تابعا لحاجات الجميع بل هو تابع لأرباح الأقلية الرأسمالية. ولهذا لا يمكن تنمية الإنتاج، في الرأسمالية، بصورة منسجمة إذ ينقسم هذا الإنتاج بطابع استبدادي.
وهكذا نجد أن أساس الأزمات الاقتصادي، هو، النهاية، التناقض الذي نشأ بين مصالح الرأسماليين الخاصة بين متطلبات الإنتاج الاجتماعي، فلقد قضيت الرأسمالية، بتنميتها لقوى الإنتاج، على تجزئة الإنتاج الخاصة بالصناعة اليدوية، كما أدرت المضاربة القاسية بين الرأسماليين، في مطلع القرن العشرين، إلى التهام الأقوياء للضعفاء. فتكونت الاحتكارات، وهي أشبه بإقطاعيات اقتصادية هائلة تمتد حبالها خارج حدود بلادها "كالاحتكار الأميركي المؤلف من شركة (standard oil) تحت إشراف روكفلر ملك البترول".
لا تفرق الرأسمالية، في هذه المرحلة، بين الصناعات المختلفة من استخراج المواد الأولية حتى المصنوعات. وتقوم الاحتكارات الضخمة بالإشراف على مجموع اقتصاد بلد أو عدة بلدان من صناعة وتجارة وزراعة، فتسيطر على الاقتصاد أوليجارشية (oligaarchie) اقتصادية تملك رؤوس الأموال الضخمة اللازمة لسير الإنتاج.
وهكذا حمل تطور الرأسمالية الرأسمالية نفسها على التسرب إلى جميع مظاهر الحياة الاجتماعية. فإذا بالمصارف والاحتكارات تربط مختلف فروع الإنتاج بروابط متينة.
وإذا بعملية الإنتاج تتخذ طابعاً اجتماعياً.
ولكن من يستفيد من كل ذلك؟ حفنة من الرأسماليين تملك وسائل الإنتاج الكبرى، ويصبح الإنتاج اجتماعياً أكثر فأكثر، ولكنه لفائدة أقلية طفيلية.
وتبحث الاحتكارات المتعادية، التي تكون هذه الأقلية عن الربح الأكبر، مستغلة الطبقات الكادحة وصغار الرأسماليين. وذلك لأن الحصول على الربح الأكبر إنما هو. بالنسبة إليهم، ضرورة موضوعية يحتمها اتساع أعمالهم، ذلك هو القانون الأساسي للرأسمالية الحالية.
ويمكن صياغة معالم قانون الرأسمالية الاقتصادي الأساسي ومتطلباته بما يلي: تأمين الربح الرأسمالي الأكبر باستغلال غالبية سكان بلد معين وتدميرها وإفقارها، وكذلك باستعباد شعوب البلاد الأخرى ونهبها بصورة منظمة، ولا سيما البلاد المتأخرة، وأخيراً تسخير الاقتصاد القومي، بواسطة الحروب، للتسلح لاستخدامها في تأمين أكبر الأرباح.
يؤدي الجري، إذن وراء الربح الرأسمالي إلى نتيجة حتمية وهي بؤس الطبقات الكادحة المتزايد، واندلاع نيران الحروب. فلقد أعلنت الحرب الكورية على يد زعماء الرأسمالية الأميركية: لأن هؤلاء الرأسماليين، وقد تملكهم الذعر من شبح الأزمة الاقتصادية، لا يستنكفون عن السعى بواسطة الحروب، عن طلبات تعود عليهم بالربح الوفير ولهذا صرح الرئيس ايزنهاور بقوله "رخاؤنا هو رخاء حرب".
تقف الرأسمالية، في المراحل الحالية، موقف المعتدي الدائم على الشعوب. وهذا هو الاستعمار.
غير أنه بوسع الرأسماليين إزالة التناقض الكامن في الرأسمالية، وهو التناقض بين مصالح الطبقة المستغلة ومصالح المجتمع بمجموعه. وبالرغم من إدراك البرجوازية لهذا التناقض فإنها لا تستطيع تضحية مصالحها الطبقية والنكوص عن أربحها. ولهذا تعمل على الحد من قوى الإنتاج حسب مصالحها. فتحمي بذلك علاقات الإنتاج الرأسمالية ضد تقدم قوى الإنتاج التي تهددها.
ويمكننا تعداد الأمثلة الكثيرة التي تظهر أن الرأسمالية، وقد تملكها الخوف من الأزمة الاقتصادية، تعيق تطور قوى الإنتاج، فتعود إلى العمل اليدوي، وتنتج سلعا سيئة، وتهمل المخترعات الجديدة، وتقلل أو تلغي الإعتمادات الضرورية للمختبرات الخ... يفسر لنا كل ذلك ركود الإنتاج الرأسمالي في مجتمع الميادين.
كتب ستالين يقول في وصف حال الرأسمالية:
تردت الرأسمالية في تنافضات يصب عليها حلها، لأنها نمت قوى الإنتاج بصورة هائلة. فهي، بإنتاجها كميات متزايدة من السلع وتخفيضها للأسعار، تزيد من خطورة المضاربة، وتقضي على طبقة صغار الملاكين ومتوسطيهم فتجعل منهم بروليتاريين، كما تنقص من قدرتهم على الشراء فتكون نتيجة ذلك استحالة تصريف السلع المصنوعة. وتجعل الرأسمالية، بتوسيعها للإنتاج وتجميعها لملايين العمال في مصانع ضخمة، لعملية الإنتاج طابعا اجتماعيا، كما أنها في نفس الوقت تهدم أساسها، لأن طابع عملية الإنتاج الاجتماعي يستدعي ملكية وسائل الإنتاج الإجتماعية ، غير أن ملكية وسائل الإنتاج تظل ملكية فردية رأسمالية لا تتفق وطابع عملية الإنتاج الاجتماعي.
تظهر هذه التناقضات المتنافرة بين طابع قوى الإنتاج وبين علاقات الإنتاج في أزمات فائض الإنتاج المستمرة.فيضطر الرأسماليون، لانعدام الشراء، بسبب القضاء على الطبقات التي كانوا هم السبب في إفقارها، إلى حرق الحبوب وإفساد السلع الجاهزة وإيقاف الإنتاج، وتحطيم قوى الإنتاج بينما ملايين الناس يعانون البطالة والجوع، وليس ذلك بسبب فقدان السلع، ولكن بسبب كثرة هذه السلع.
يعني هذا أن علاقات الإنتاج الرأسمالية لا تتفق وحالة قوى الإنتاج في المجتمع فنشأ التناقض بينهما.
التناقض إذن بين علاقات الإنتاج الرأسمالية وبين طابع قوى الإنتاج الاجتماعي هو أساس الأزمات التي تعتري الرأسمالية.
غير أن هذا التناقض نفسه قد تولد من التناقض الخاص بتكوين الرأسمالية "الذي درسناه في المسألة (1) من هذا الدرس".
وإذا ما أردنا أن نختصر المسألة (2) فماذا نجد؟
كان التناقض الخاص بالرأسمالية "حيث تقف البرجوازية المستغلة ضد البروليتاريا المستغلة" مواتياً أولاً لعمل قانون الترابط الضروري: وكان قانون فائض القيمة، وهو مصدر الربح الرأسمالي، يعمل على ازدهار قوى الإنتاج، تلك كانت مصلحة الطبقة البرجوازية.
ثم أدى نفس التناقض إلى نتيجة عكسية، إذ أصبحت المصلحة الطبقية حجر عثرة في وجه الإنتاج. لأن قانون فائض القيمة، الذي يتمثل اليوم في قانون الربح الأكبر، قد عمل على فشل قانون الترابط الضروري بين علاقات الإنتاج وطابع قوى الإنتاج، غير أن قانون الترابط الضروري كما نعلم , هو القانون العام للمجتمعات الإنسانية الذي يشمل جميع صور الإنتاج. فلا، يمكن للمجتمعات أن تتقدم إلا في ظل هذا القانون.
وهكذا يعمل القانون الخاص بالرأسمالية" وهو قانون فائض القيمة الذي لا ينفصل عن الاستغلال البرجوازي" على فشل قانون المجتمعات الإنسانية العام. وهذا النزاع هو مصدر انحطاط الرأسمالية. ويعني هذا أنه قد نمت، داخل النظام الرأسمالي قوى إنتاجية لم يعد يستطيع كبح جماحها. كما يعني أن علاقات للإنتاج جديدة، وهي العلاقات الاجتماعيةsosyalist üretim. أصبحت ضرورية، موضوعيا، لأنها الوحيدة التي تلائم قوى الإنتاج الحديثة.
تحمل الرأسمالية في أحشائها ثورة، وعلى هذه الثورة أن تحل محل ملكية وسائل الإنتاج الرأسمالية الحالية الملكية الاشتراكية.
وسوف نلاحظ أن الرأسمالية، بتنميتها لحصر وسائل الإنتاج. قد عملت. بالرغم عنها، ضد مصلحتها. لأن مجموع الإنتاج يتخذ طابعا اجتماعيا في مرحلة الاحتكارات ويصبح التناقض بين الطابع الاجتماعي للإنتاج وبين التملك الفردي الرأسمالي حاداً لا يطاق. كلما ازدادت سطوة الاحتكارات. فتكون البرجوازية قد حفرت بنفسها قبرها في عملها على ازدهار قوى الإنتاج. خدمة لمصلحتها الطبقية وحصرها لقوى الإنتاج أكثر فأكثر للحصول منها على الربح الأكبر. أما حفار القبور فهي الطبقة التي أتاح عملها وبؤسها للرأسمالية أيامها السعيدة: ألا وهي طبقة البروليتاريا.

3 – نضال طبقة البروليتاريا منهج لحل التناقض بين علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج.
أظهر لنا التحليل الجدلي للرأسمالية:
وجود تناقض في علاقات الإنتاج يعمل على تعارض البروليتاريا المستغلة والبرجوازية المستغلة. وقد تبينا، من درسنا لهذا التناقض في المسألة "1" من هذا الدرس، أنه يدوم دوام الرأسمالية نفسها، لأنه التناقض الخاص بالرأسمالية.
وجود تناقض بين علاقات الإنتاج الرأسمالية وبين طابع قوى الإنتاج. وهو لا يظهر إلا حين تبلغ قوى الإنتاج، التي تنميها الرأسمالية، مستوى معينا (نحو عام 1840)- وقد درسنا هذا التناقض في المسألة "2" من هذا الدرس.
فما هو أساس تغير طريقة الإنتاج وما هو سبب الثورة الاشتراكية؟ رأينا أسباب ذلك هو التناقض الثاني. غير أن التناقض الأول هو الذي يولد التناقض الثاني، لأن الاستغلال الرأسمالي، استغلال البروليتاريا على يد البرجوازية، هو الذي ساعد على ازدهار قوى الإنتاج. وهو ازدهار --- الطبقة المستغلة حتى اليوم الذي أصبحت فيه قوى الإنتاج هائلة بالنسبة للرأسمالية.
نستطيع الآن أدراك مهمة نضال البروليتاريا الطبقي التاريخية. وسنرى بأن هذه المهمة هي حل التناقض "ب" الذي ظهر بين علاقات الإنتاج الرأسمالية وبين قوى الإنتاج.
كانت البرجوازية تنمي البروليتاريا، في نفس الوقت الذي كانت تنمي فيه قوى جديدة للإنتاج، حسبما تقتضيه طبيعة علاقات الإنتاج الرأسمالية "راجع المسألة 1". وطبقة البروليتاريا هي الطبقة المستغلة، أي المناقضة للبرجوازية المستغلة. وكلما تجمعت وسائل الإنتاج بين يدي البرجوازية كلما ازداد عدد البروليتاريا وقوتها. وهكذا جمعت البرجوازية، من أجل الاستغلال الرأسمالي، عشرات الآلاف من العمال. ثم الملايين في مصانع واسعة أقامتها في المناطق الصناعية، كما أنها جمعت عشرات الآلاف من العمال الزراعيين لاستغلالهم.
غير أنه لا يمكن للعمال البروليتاريين أن يؤمنوا معيشتهم، كما نعلم، إلا بالنضال المستمر ضد الطبقة التي تستغلهم. وهكذا ولدت البرجوازية، بتوليدها نقيضها "البروليتاريا المستغلة"، جيشاً من الأعداء يقومون بنضال طبقي ضد المستغلين.
ولقد وصف كارل ماركس، في بيان الحزب الشيوعي مراحل هذا النضال الرئيسية، فنرجو من القارىء أن يعود إلى قراءة ما كتب. سدد العمال، في مطلع الرأسمالية، ضرباتهم إلى الآلات التي كانت نذير البطالة، وذلك لجهلهم طبيعة النظام الذي يعانونه. فهم لا يميزون بين الآلة وبين كيفية استخدام البرجوازية لهذه الآلة، وهم يناضلون ضد قوى الإنتاج بدلا من النضال ضد الاستغلال.
ثم إذا بهم يكتشفون شيئاً فشيئاً أن عدوهم الحقيقي ليس الآلة بل هو الرأسمالية. وذلك لأن الرأسمالية، باستعمالها للآلات، تخفض تكاليف الإنتاج فتنخفض قيمة قوة الإنتاج وتنخفض بذلك الأجور. ولهذا يقوم البروليتاريون بالنضال للدفاع عن أجورهم. حتى إذا رأوا أن الرأسمالي يحاول إثارة العمال بعضهم على الآخر (إذ يرضى البائسون منهم بأجور منخفضة جدا فيضطر من هم أتعس منهم إلى قبول أجور منخفضة أكثر من الأجور الأولى) أدركوا مصالحهم المشتركة فيتحدون عندئذ للنضال ضد عدوهم المشترك ألا وهو الرأسمالي.
هذه الصورة الأولى للنضال هي الإضراب الذي يهدف إلى الإبقاء على الأجر. وتقصير العمل اليومي". وكان الإضراب يعني. وهو السلاح الأول للبروليتاريا، وعي البروليتاريا الطبقي بأن مصالح العمال الفردية لا يمكن الدفاع عنها ألا بالتضامن الطبقي والنضال المشترك.
ذلك لأن الصناعة الكبرى تجمع في مكان واحد جمهوراً من الناس يجهل بعضهم بعضاً. فتفصل المضاربة بين مصالحهم. ولكن البقاء على الأجر، وهو مصلحة مشترك ضد رب العمل. يوحدهم في المقاومة والتحالف.
وهكذا تسعى المحالفة إلى هدف مزدوج: وهو إزالة المضاربة فيما بينهم للقيام بمضاربة عامة ضد الرأسمالي.
يؤدي التحالف العابر، من أجل الإضراب، إلى تحالف مستمر للوقوف في وجه الاضطهاد الرأسمالي وتلك هي النقابة.
التحالف العابر للإضراب والتحالف المستمر "للنقابة" هما صورتا النضال والتنظيم التلقائيين عند البروليتاريا، وهي تصل إليهما بدون مساعدة أية نظرية علمية عن طريق تجربتها الخاصة. وهكذا انتزعت الطبقة العاملة من الرأسماليين بعض الانتصارات الكبرى، كتحديد العمل اليومي بثماني ساعات.
غير أن البرجوازية الرأسمالية تسعى، بتأثير قانون الربح الصارم، إلى استعادة كل ما تنازلت عنه. فإذا ما تحدث الرأسماليون ورجالهم السياسيون، بحرارة، عن "تحسين مصير الطبقة العاملة" فلا يجب الانخداع بذلك، إذ أن هذه التحسينات قد كسبها العمال المنظمون بعد نضال مرير. ولهذا تشن البرجوازية حربا ضارية على النقابات العمالية، فهي تتهم هذه النقابات بتكوين "إقطاعيات جديدة" كي تثير الطبقات المتوسطة والفلاحين المخلصين لذكرى 1789 ضد البروليتاريا المنظمة وهذا اتهام سخيف يتردد على أفواه "إقطاعيي" رأس المال الذين يلتهمون جميع ثروات المجتمع "ثروة صغار البرجوازيين والفلاحين".
حتى إذا ما تسرب علم المجتمعات، الذي أسسه ماركس وانجلز، بين صفوف البروليتاريا ارتفع مستوى النضال الطبقي بفضل الحزب الثوري . لأن مهمة هذا الحزب الذي يضم تحت لوائه عناصر البروليتاريا الناهضة، أن يدخل الوعي الاشتراكي في الطبقة العاملة، وأن يقودها، هي وجميع الطبقات الكادحة المتضامنة معها، إلى دك صرح الرأس مالية فهو يناضل من أجل مطالب العمال العاجلة غير أنه لا يكتفي بذلك، بل يشرح لهم، بصورة عملية، مصدر الاستغلال، كما يظهر لهم أنهم لا يستطيعون التخلص من هذا الاستغلال إلا بالقضاء على المجتمع الرأسمالي والدولة البرجوازية التي تحميه، ويستعيض عن هذا المجتمع، بواسطة دكتاتورية البروليتاريا، بمجتمع لا يستغل فيه الإنسان أخاه الإنسان، ألا وهو المجتمع الاشتراكي. مثل هذا النضال يستحق وحده اسم النضال الثوري.
يهم البروليتاريا أن تقود هذا النضال حتى النهاية، وأن تقضي على علاقات الإنتاج الرأسمالية. ولقد رأينا أن البروليتاريا، نظرا لارتباطها بأحدث قوى الإنتاج، هي نتيجة ضرورية للاستغلال الرأسمالي. فهي لا تستطيع إذن التحرر من الاستغلال الطبقي إلا بالاستيلاء على وسائل الإنتاج من البرجوازية، الطبقة المستغلة، لتجعل من هذه الوسائل ملكا للجميع، في مجتمع لا يعرف المستغلين و لا المستغلين و بينما تسعى الطبقات المتوسطة "كصغار الصناع، وبائعي المفرق، والعمال اليدويين، والفلاحين الفقراء والمتوسطين" للعيش كطبقات من صغار الملاكين داخل الرأسمالية، فليس للبروليتاريا، وهي التي لا تملك سوى قوتها على العمل، من هدف سوى القضاء على الاستغلال الذي هي موضوعه، أي القضاء على نفسها كطبقة مستغلة لتبني المجتمع الذي لا يعرف الطبقات.
وكما تضامن الإقطاعيون القدماء في جميع بلدان أوروبا، ضد البرجوازية الغازية، تتضامن اليوم البرجوازية في مختلف البلاد الرأسمالية، ضد البروليتاريا الثورية. واشتد هذا الوضع، الذي استمرت معه التناقضات بين الرأسماليين الألداء، بصورة غربية، مع ظهور الاحتكارات.لأن الرأسمالية الكبرى عالمية. غير أن البروليتاريا تضامنت بدورها في جميع البلاد كطبقة ثورية مرددة النداء الذي يختم بيان الحزب الشيوعي: اتحدوا أيها العمال في جميع إنحاء العالم".
وهكذا نجد أن النزعة العالمية للبروليتاريا هي نتيجة وضع العمال الموضوعي مهما كانت جنسياتهم. لأن المستغلين في جميع البلاد لهم عدو مشترك هو الطبقة المستغلة مهما كانت جنسيتها.
ذلك هو النضال الثوري ضد الاستغلال.
ومع ذلك لن يفوز هذا النضال بالنصر، طالما أن علاقات الإنتاج الرأسمالية تتفق موضوعياً مع مستوى قوى الإنتاج، أي طالما أن الرأسمالية تنمو حسبما يقرر قانون الترابط الضروري، ولا يعني ذلك أن نضال البروليتاريا غير مجد حينئذ، لأن البروليتاريا، بفضل هذا النضال، تعي قواها فتعمل على جمعها وتنظيمها، كما أن هذا النضال يربيها ويهذبها. ولا يستطيع نضال البروليتاريا، في هذه المرحلة، إزالة الاستغلال الرأسمالي بل يحد من تأثيره.
حتى إذا لم تعد علاقات الإنتاج الرأسمالية مناسبة لقوى الإنتاج، بسبب إزدهار هذه القوى، أي حين تدخل الرأسمالية في نزاع مع قانون الترابط الضروري بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، تتوفر حينئذ الشروط الموضوعية الجديدة لنضال البروليتاريا.
ويسعى نضال البروليتاريا، من أجل تأميم وسائل الإنتاج، إلى تهيئة ظروف مواتية لعمل قانون الترابط الضروري الذي لم تعد الرأسمالية تحترمه. وهكذا يسير نضال البروليتاريا الثوري في اتجاه التاريخ، ولهذا كان واثقا من المستقبل لأن هذا النضال يسير حسب قانون المجتمعات الأساسي.
غير أن البرجوازية الحريصة على أرباحها كطبقة مستغلة. نستخدم كل وسيلة لتقف في وجه قانون الترابط الضروري، فينتج عن ذلك، كما رأينا أعظم الآلام للمجتمع.وليس هناك سوى قوة اجتماعية واحدة تستطيع التغلب على مقاومة البرجوازية لقانون الترابط الضروري، فما هي هذه القوة؟ خيل للخياليين من المفكرين أنهم يستطيعون تغيير المجتمع بواسطة قوة الأفكار. ويعود الفضل إلى ماركس وانجلز بأنهما اكتشفا أن الوسيلة الوحيدة التي تستطيع حل التناقض بين طابع قوى الإنتاج الاجتماعي وبين الملكية الخاصة "التناقض ب" (راجع ما سبق) هو نضال الطبقة العاملة الثوري معتمدة على تأييد ضحايا الاستغلال الأخرى. وذلك لأن البروليتاريا ليست وحيدة في نضالها، لأن نمو الرأسمالية – وانتقالها من المضاربة إلى الاحتكار – يؤدي إلى إفقار مختلف طبقات المجتمع. إذ لا تستطيع البرجوازية الكبرى أن تزدهر ألا بتعميم البؤس حولها. فيقف في وجهها لا محالة – عدا البروليتاريا الثورية عدوها الطبيعي - الطبقات المتوسطة التي افتقرت، والفلاحون العمال، والصناع اليدويون، وأصحاب الدكاكين، الخ.. وجميع الطبقات التي قضت عليها، فتجمع البروليتاريا جميع طبقاتها، بقيادة الحزب الماركسي اللينيني، وتؤلف جبهة واحدة للنضال ضد العدو المشترك، ألا وهو البرجوازية الكبرى المستغلة. وهكذا تقوم قوة اجتماعية جبارة لتحطيم العلاقات الرأسمالية وإقامة علاقات جديدة للإنتاج، ألا وهي العلاقات الاشتراكية المواتية لمستوى قوى الإنتاج الحديثة.
أما قدرة البروليتاريا على جمع أكبر الجموع للنضال ضد الأقلية المستغلة فهي تظهر بوضوح مهمتها القومية، وهكذا تقف الطبقة العاملة، كما أشار إليه كل من ماركس وانجل، في نضال الثوري، في مقدمة الأمة، بينما تنفصل عنها أوليجارشية رأس المال الكبير نظرا لمصلحتها الطبقية. وكلنا يعرف، اليوم في فرنسا، كيف انتقلت هذه الاليجارشية إلى الخيانة المفضوحة للمصلحة القومية. وهي مستعدة لارتكاب كل شيء حباً بالبقاء، ولهذا سلمت البلاد إلى الاستعمار الأجنبي. وهذا وضع يشبه وضع الإقطاعيين عام 1789، حين تحالفوا مع إقطاعيي البلاد الأخرى ضد شعبهم أملا في استعادة السلطة في البلاد.
بينما تتفق، على العكس، مصالح البروليتاريا الثورية مع مصالح الأمة ضد البرجوازية الكبرى المستغلة التي لا تعرف لها وطنا.
وهكذا تصبح النزعة الوطنية البروليتاريا والنزعة العالمية البروليتارية مظهرين لا ينفصلان لنفس النضال الذي تقوم به الطبقة العاملة ضد البرجوازية الرجعية التي تضحي حياة الشعوب في سبيل الربح الأكبر.

4 – الخلاصة
تؤدي بنا دراسة تناقضات المجتمع الرأسمالي ونموها إلى عتبة مجتمع جديد لا استغلال فيه. وقبل أن نستمر في البحث يجدر بنا أن نمعن الفكر في بعض النتائج الفكرية للاستغلال الرأسمالي.
هناك نزعة إنسانية Humanisme برجوازية. إذا ما قلنا "إنسانية" عنينا الثقة بالإنسان، وحب الإنسان.
كانت البرجوازية الثورية، ولا سيما في فرنسا، تفخر باعتقادها بالأخوة الشاملة. لماذا؟ لأنها كانت تناضل موضوعياً لتعيد لقانون الترابط الضروري تأثيره الذي وقفت في وجهه الأقطاعية، وهكذا كان عملها يسير باتجاه التاريخ.
ولكن ماذا بقي اليوم من كل ذلك؟ أصبحت اليوم البرجوازية، نظراً مصلحتها الطبقية، حجر عثر في وجه عمل قانون الترابط الضروري بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج وذلك هو الأساس الموضوعي! " اللا أنسانية البرجوازية" Inhumanisme (التي تقوم على احتقار فاشيستي للإنسان وتكون موضوعاً للانحطاط.)
أن عقلية البرجوازية العالمية هي عقلية عصابة قطعت كل علاقة لها بالجنس البشري. أما فلسفتها الفكرية، التي تدعى حرمان كل معرض من ابسط حقوقه، فهي فلسفية فكرية تقوم على البطش والموت، كما أنها تبرر الجرائم المرعبة التي ترتكبها طبقتها من أجل خلاصها (كحرب كوريا مثلا).
بينما تكون الطبقة العاملة، التي تناضل لتعيد إلى قانون الترابط الضروري حقوقه، طليعة الإنسانية. ولما كانت الطبقة العاملة طبقة ثورية، فهي تقيم علاقات حية بين ماضي المجتمعات ومستقبلها. بين الماضي، لأنها تحتضن كل العوامل التي عملت على تقدم المجتمعات (ولهذا فهي تحيي النزعة الإنسانية البرجوازية بالرغم من معارضة البرجوازية الرجعية). وبين المستقبل لأنها تضع هذا المستقبل في نضالها الطبقي.
وهكذا تناضل الطبقة العمالية من أجل جميع الناس ولهذا كان نصرها الأول – ثورة تشرين الأول "أكتوبر"- أعظم حادث في تاريخ الإنسانية.
الدرس التاسع عشر
البناء الفوقي


1 – ما هو البناء الفوقي
درسنا في الدرس الثاني عشر والثالث عشر مصدر الأفكار ومهمتها في الحياة الاجتماعية: ولقد رأينا أن حياة المجتمع الفكرية انعكاس لحياته المادية. فهل من الصواب إذن أن نطلق كلمة البناء الفوقي (Superstructure) على جميع الأفكار والمؤسسات التي توجد في مجتمع معين؟
نستطيع الإجابة على هذا السؤال بدقة الآن، وقد عرفنا نظريات المادية التاريخية الأساسية.
يوجد في كل مرحلة من مراحل التاريخ، في جميع المجتمعات، جنبا إلى جنب، أفكار مختلفة متناقضة لأنها انعكاس لتناقضات المجتمع الموضوعية. ومع ذلك فلا تتساوى هذه الأفكار في القيمة. منها ما يصبو إلى الإبقاء على المجتمع في أوضاعه القديمة، ومنها ما يسعى إلى تجديد هذا المجتمع، وتكون حركة الأفكار المتعارضة انعكاساً لنضال الطبقات في المجتمعات التي يوجد فيها نضال الطبقات المتعارضة. كما يمكن لنزاع الأفكار أن يتخذ شكلا قاسياً زجريا. وتخلو الاشتراكية من تعارض الطبقات، غير أن النضال بين القديم والحديث موجود وهو ينعكس في النزاع الفكري.
يدرك الناس المشاكل التي تنشأ في زمنهم من خلال نزاع الأفكار الذي يفتح الطريق لاكتشاف حلول يعرضها الواقع نفسه. ولهذا يعتقد المثاليون، كهيجل، أن جدلية الفكرة هي التي تولد الحركة التاريخية.
ولهذا من الخطأ القول بأنه وجدت عصور مباركة، لم تعرف نزاع الأفكار، وحل فيها الانسجام بين الأفكار والقلوب، كما اعتاد بعض المؤرخين تصوير الماضي بصورة ميتافيزيقية. فلقد وجدت أفكار معارضة قضت عليها الطبقات المسيطرة ولم يذكرها التاريخ الرسمي، فلقد هاجم العصر الوسيط، بعنف، الأكليروس والإقطاعيين في مؤلفاته الشعبية اللاذعة سواء كانت خرافات أم أغاني.
أما اضطهاد الأفكار الجديدة، ونزاع الطبقة المسيطرة الفكري المنظم، فهما من ميزات المجتمعات التي يوجد فيها استغلال الإنسان على يد أخيه الإنسان.
ولقد خيل للبرجوازية أنها تشتهر إذا ما أعلنت عن حرية النزاع الفكري، أما الواقع فهو أن الأمر لم يتعد حرية الرأي، ضمن نطاق الفلسفة الفكرية البرجوازية. وهذه حقيقة ستزداد وضوحا مع انحطاط هذه الطبقة.
ولا تستطيع سوى الطبقة القادرة على إزالة التناقضات الطبقية أن تكون رائدة النزاع الفكري الحر. ولهذا يستحيل، في المجتمع الذي يسرع في تقدمه، أي في الاشتراكية، أن لا ينمو النزاع الفكري بشدة.
والمادية التاريخية هي الوحيدة التي تعلم المناضل، كما تعلم العالم أن لا يضيع في معركة الأفكار، وأن يساوي بينها في القيمة، وأن يميز المصالح الطبقية التي تخفيها.
لا شك أن سلطات النظام الرأسمالي تقدم فكرة على أخرى عن طريق الصحافة مثلا. فإذا ما قرأنا في صحيفة أن عدد صغار التجار الكبير هو سبب الصعوبات الاقتصادية، يجب علينا أن نكتشف وراء هذه "النظرية" مصلحة رأس المال الكبير، فهو يسعى، مدفوعا بقانون الربح الأكبر، ميزة الرأسمالية الحالية، إلى تخفيض نصيب بائعي المفرق من فائض القيمة إلى أقصى حد. وإذا ما قرأنا أن أفضل نظام للضرائب هي الضرائب الغير المباشرة، لأن جميع الناس يدفعونها، فأن هذا القول يخفي أيضاً المصالح الرأسمالية، لأن الضريبة الغير المباشرة، التي تفرض على الاستهلاك، تمس أصحاب الأجور والفلاحين والطبقات المتوسطة بصورة اشد مما تمس الرأسمالي.
غير أن هذه الأفكار لا تكتفي بفلسفة النظام الموجود. بل هي وسائل للنضال، فيسعى رأس المال بإذاعتها إلى المحافظة على الوضع المواتي له، كما أنه يهيء الأذهان لتقبل المقررات الجديدة من قوانين وإجراءات سياسية توطد أركان الرأسمالية.
وهكذا تعكس هذه الأفكار، التي تنشرها الطبقة المسيطرة، مصالحها كما أنها تخدم هذه المصالح. ابتدأنا ندرك ما نعنيه بالبناء الفوقي (Superstucture)
وما يصح على فكرة معينة تنشرها الصحافة يوميا، يصح أيضاً على النظريات الفلسفية.كتب انجلز يقول بصدد نظرية كلفن عن القضاء والقدر كانت العقيدة الكلفانية تتفق وحاجات البرجوازية في ذلك العصر. فقد كانت عقيدة القضاء والقدر تعبيرا دينيا إذ كان النجاح والفشل، في عالم المضاربة التجاري لا يتعلقان بنشاط الإنسان أو مهارته بل بظروف خارجة عن أرادته. لم تكن هذه الظروف تتعلق بإرادة الإنسان أو بعمله، بل هي تخضع لقوى اقتصادية عليا مجهولة.
وكان هذا حقا، لا سيما في عصر ثورة اقتصادية حل فيه محل مراكز التجارة القديمة والطرق مراكز وطرق أخرى، كما فتحت الهند وأميركا أبوابها للعالم، بينما أخذت أكثر سلع الثقة الاقتصادية احتراما، بسبب قدمها – كقيمة كل من الذهب والفضة - تنهار.
وهكذا أصبحت مجرد ظاهرة اقتصادية عمل الحكمة الإلهية التي تكتنفها الأسرار. ولقد عانت البرجوازية تجربة المضاربة، غير أن روح العصر الديني كان يخفي عنهم طبيعتها الاقتصادية الصرفة، كما أن فكرة "القضاء" نقلت إلى مستوى النظرة إلى العالم، وأخذت تتسرب إلى الديانة. وأخذ التجار يشكون من آثار المضاربة، وإن عاشوا بفضلها وأثروا. إذ كانوا يريدون المضاربة بدون أثارها. ولكنهم تعزوا عنها بالفكرة القائلة أن الناس يجب أن يعانوا قضاء مقدار عليهم من قبل.
وهكذا وطدت فكرة "القضاء والقدر" الإنتاج التجاري، بعملها على قبول أثار المضاربة في الفئة التي تعيش منها.
كان من الطبيعي أن لا يرضى الإقطاعيون، الذين كانت التجارة البرجوازية تحمل الخراب إليهم، بهذه العقيدة، ولهذا حرمتها الكنيسة الكاثوليكية، سيف الإقطاعية الروحي. غير أن الاقتصاد التجاري، بتنميته لقوى الإنتاج، كان تقدماً على الاقتصاد الاقطاعي. ولهذا قامت النظرية الكلفانية بدور تقدمي بالنسبة إلى عقيدة القرون الوسطى. بينما أصبحت هذه العقيدة، في أيامنا هذه، بالية، لأن نزعتها للإيمان بالقضاء والقدر تتعارض مع الفكرة الثورية القائلة بأن الإنسان سيد مصيره. ولما كانت فكرة كبار أصحاب المصارف البروتستنت فهي لا تسعى إلا لقبول "القضاء والقدر" في الأزمات الاقتصادية والاضطرابات الاقتصادية في الرأسمالية.
يظهر هذه المثال، بصورة بديهية، أنه يمكن لنفس الفكرة أن تحتل، حسب الظروف الاقتصادية، موضعين مختلفين: فهي تستطيع الإساءة، إلى صورة الاقتصادي السائد، وذلك شأن عقيدة "القضاء والقدر" في النظام الأقطاعي، كما تستطيع خدمة علاقات الإنتاج السائدة، وهذا شأن نفس العقيدة في النظام الرأسمالي، ولا نقول عن هذه العقيدة بأنها عنصر من عناصر البناء الفوقي (Ia Superstructure) إلا في الحالة الثانية. وهكذا لا ينطبق لفظ البناء الفوقي على أية فكرة أو مؤسسة، بل هو يتحدد بالنسبة إلى أساس المجتمع الاقتصادي. وهكذا يشمل البناء الفوقي الأفكار والمؤسسات التي تعكس علاقات الإنتاج السائدة فتسود هي أيضاً.
الأساس هو نظام المجتمع الاقتصادي في مرحلة معينة من نموه. أما البناء الفوقي فهو النظرات السياسية والقانونية، والمؤسسات السياسية والقانونية، وغيرها التي تتعلق بهذا النظام.
ولكل أساس البناء الفوقي، الذي يتعلق به ولهذا كان للنظام الرأسمالي بناءه الفوقي ونظراته السياسية والقانونية وغيرها مع المؤسسات المتعلقة به، كما كان للأساس الرأسمالي البناء الفوقي الخاص به، وكذلك للأساس الاشتراكي بناؤه الفوقي الخاص به. حتى إذا ما تغير الأساس أو زال تغير معه البناء الفوقي أو زال، وإذا تولد أساس جديد تولد على أثره بناء فوقي يناسبه.
ولنلاحظ أن المؤسسات السياسية، أي الدولة. هي جزء من البناء الفوقي. وذلك لأن الدولة "تتعلق"، حسب قول ستالين، بالنظرات السياسية والأفكار السياسية السائدة، وهي تنظم حسب المبادىء التي تعكس المصانع الطبقية. الدولة هي صورة تنظيم لسلطة الطبقة الأقوى، تلك التي تشخص علاقات الإنتاج السائدة. فالأساس الاقتصادي هو الأولى ثم تأتي الدولة. وهكذا يتولد التنظيم السياسي عن الأفكار السياسية وهي القوة المنظمة. وليست قوى الدولة، في آخر الأمر، سوى قوة الأفكار التي هي بدورها انعكاس لحيوية الأساس الاقتصادي. وتكمن القوة السياسية في السند الطبقي الذي توفره الأفكار السائدة الدولة، ويمكن تبرير هذا السند الطبقي أو لا يمكن: إذ يمكن للجماهير أن تخدع إلى حد ما من التطور التاريخي، فتكمن قوة سلطة الطبقات المستغلة في الكذب، حتى إذا ما ضعف هذا السند الطبقي ضعفت الدولة: وأصبح استخدام القوة الصريحة على يد الطبقة الحاكمة الدليل على ضعفها ونهايتها القريبة. لأن الأفكار التي تتملك الجماهير هي العامل الفعال

2 – يتولد البناء الفوقي بواسطة الأساس
يتولد البناء الفوقي عن الأساس. ويزول معه ويكون مصيره مصيره. إذ تتولد الأفكار السائدة، في مجتمع معين من نموذج ملكية وسائل الإنتاج، التي تسيطر فيه. ليس البناء الفوقي، إذن، مجرد تراكم أفكار سياسية، تشريعية، فلسفية، دينية، الخ.. ذلك لأن لهذه الأفكار رابطاً داخلياً: فهي تعكس نفس الأساس. وهكذا يكون الأساس والبناء الفوقي كلا عضوياً. ولهذا فأن البناء الفوقي الأقطاعي مرتبط ارتباطاً وثيقاً في جميع أجزائه بالأساس الإقطاعي. وتكون وحدة الأساس والبناء الفوقي الجدلية محتوى المفهوم الماركسي لتكوين الاجتماعي.
وهكذا يكون البناء الفوقي كلا.وليس هذا الكل أبديا ولكنه كل حي، يولد مع أساسه ينمو معه ويزول أثره.
يطبع وجود الدولة, في المجتمعات الطبقية. جميع حياة البناء الفوقي بطابع خاص. فهو عنصرها المنظم، فهو، مثلا، الذي ينظم التعليم الطبقي.
ويزول البناء الفوقي، ككل عضوي بعد زوال نظام اقتصادي معين. لا يجب إذن أن نخلط بين البناء الفوقي، كفكرة أساسية للمادية التاريخية، وبين أية فكرة أو مؤسسة في نفسها مفصولة عن بناء فوقي معين. لأن كل فكرة حين تدخل في نطاق بناء فوقي جديد، تتحول بعمق، ويصبح لها معنى جديد من الكل الذي أصبحت جزءاً منه. ونسيان ذلك يؤدي بنا إلى النزعة الشكلية (formalisme)
نجد مثالاً ذا مغزى على ذلك في المدرسة الطائفية. زالت عن مسرح التاريخ مدرسة القرون الوسطى، في الوقت الذي زال فيه البناء الفوقي الإقطاعي، على يد البرجوازية الثورية، بعد زوال الأساس الاقتصادي الإقطاعي.
ومن ثم شجعت البرجوازية الفرنسية، في القرن التاسع عشر، المدرسة الطائفية، خوفاً من تقدم البروليتاريا الثوري، ولأنها لم تعد تخشى عودة الإقطاعية، وذلك كي تستخدم هذه المدرسة في أغراضها المناوئة للديمقراطية. غير أنها أعادت إليها الحياة، كعنصر من البناء الفوقي البرجوازي ولهذا حولتها لتجعلها ملائمة لظروف المجتمع البرجوازي.
لا يعني هذا قط أن البناء الفوقي الإقطاعي قد استمر بعد زوال أساسه، بل أن البناء الفوقي الإقطاعي البرجوازي قد تحول باتجاه رجعي، في زمن كانت فيه علاقات الإنتاج الرأسمالية تقدمية فأصبحت رجعية. ولهذا كانت المدرسة العلمانية، التي ورثت السنة الديمقراطية البرجوازية، في مثل هذه الظروف، أحد العناصر التي يمكنها أن تناضل الاتجاه الجديد لهذا البناء الفوقي. وعلى البروليتاريا أن تساندها في هذا النضال.
وهكذا لا يبدو الترابط بين البناء الفوقي وأساسه، في عصور انقلاب طريقة الإنتاج فقط، بل خلال مختلف مراحل النمو ودرجاته في فئة اجتماعية واحدة.
ترتبط الأفكار "التحررية" في السياسة والديمقراطية البرلمانية البرجوازية ) Iiberales) في نظام الرأسمالي، بمرحلة التنافس الحر، بينما ترتبط الرجعية على طول الخط، بمرحلة الاحتكار: فتعلن البرجوازية المحتكرة ضرورة "الدولة القوية" كما تعتدي على شرعيتها الخاصة، وتلقى بالحريات الديموقراطية البرجوازية جانباً. ويلاحظ, في الميدان الثقافي، حركة مزدوجة تتعلق جوانبها المتناقضة بمرحلتي الازدهار والانحطاط في الرأسمالية. إذ نرى في المرحلة الأولى – منذ عصر النهضة حتى أواسط القرن التاسع عشر – الثقافة البرجوازية تنمو وتزداد غنى، بواسطة تمثل نقدي لكل تراث الفكر الإنساني ولا سيما الثقافة القديمة.
كما أنها تصبو لاتخاذ طابع الثقافة الشاملة النهائية. ونرى في المرحلة الثانية الثقافة البرجوازية تلفظ، شيئاً فشيئاً، جميع العناصر التقدمية العقلانية الإنسانية التي كانت تحتوي عليها، ثم تأخذ بالتحلل سريعا. فلا تعود تستطيع احترام ماضيها الخاص. يتلو إذن عملية التمثل النقدي عملية لفظ كل ما تمثلته (discrimination) فتتخلى عن مطامحها في الشمول وعن تراثها الخاص. وتخرج ديدرو من بين الفلاسفة، كما تخرج ميشليه من صفوف المؤرخين، وفيكتور هوجو من زمرة الشعراء "المحض".
نخلص إلى القول في هذا الصدد، أنه لا يجب ، كي نفهم بصورة صحيحة فكرة أو مؤسسة، نعرض لها في ذاتها مجرد عن بنائها الفوقي الذي تنتسب إليه والذي يعكس أساسا معينا. وهذا ضروري، ولا سيما، فيما يتعلق بالدولة، ولهذا كانت فكرة الاشتراكية الديمقراطية المثالية عن الدولة "الوسيط" التي "تعلو الطبقات"، وتجسد "الصالح العام" أكذوبة. كما يصور الديمقراطيون المسيحيون الدولة على أنها تجسيد " للخير المشترك". بينما تظل الدول في الحقيقة – وهي ظاهرة ضرورية تاريخيا، ظهرت مع تقسيم المجتمع إلى طبقات متناحرة – في أصلها وطبيعتها دولة طبقة من الطبقات. ولهذا لا نستطيع التكلم عن ديمقراطية" على العموم وبصورة مجردة، دون أن نتردى في النزعة الشكلية، وهي خطأ علمي. ولهذا كان من الضروري أن نطرح هذا السؤال: ديمقراطية من أجل من؟ من أجل الرأسماليين أم من أجل الشعب؟
ملاحظة: الفوضوية (I’anarchisme) التي لا تزال تؤثر بعض التأثير في الحركة العمالية الفرنسية – هي عقيدة مثالية تجهل طبيعة البناء الفوقي ومهمته. فهي بهذا تجهل أصل الدولة الطبقي وعلاقتها الموضوعية مع الأساس الاقتصادي. بل هي ترى في الدولة ثمرة " لغريزة" السيطرة والقوة التي تكمن في أعماق الإنسان، بينما هي في الواقع ثمرة نضال الطبقات. ولهذا تنكر الفوضوية، في الميدان العملي، ضرورة عمل الطبقات السياسي والفكري لأنها لا ترى أن قوة الدولة الحقيقة هي دعم الشعب لها. وهكذا تؤدي الفوضوية، بتشجيعها عمل الفرد والأقليات، إلى المقامرة، وتصبح أداة للتحدي.

3 – البناء الفوقي قوة فعالة
يتولد البناء الفوقي عن الأساس. ولا يعني هذا أنه يكتفي بعكس هذا الأساس، وأنه سلبي محايد، لا يهمه مصير الأساس، ومصير الطبقات، وطابع النظام الذي يوجد فيه. بل هو، على العكس، لا يكاد يظهر إلى الوجود حتى يصبح قوة هائلة نشيطة، تساعد أساسها على التبلور والتوطد، فتتخذ جميع الإجراءات لمساعدة النظام الجديد للقضاء على الأساس القديم، والطبقات القديمة وتصفيتها.
ولا يمكن أن يكون الأمر غير ذلك. ذلك لأن البناء الفوقي يتولد عن الأساس لكي يقوم بخدمة هذا الأساس ومساعدته بنشاط كي يتبلور ويتوطد،و يناضل من أجل تصفية الأساس القديم البالي وبناءه الفوقي القديم. ويكفي أن يمتنع البناء الفوقي عن أن يقوم بدور الاداة, كما يكفي أن ينتقل من موقف الدفاع النشيط عن أساسه ليتخذ موقف اللامبالي بإزائه، كما يتخذ موقفا مماثلا نحو الطبقات حتى يفقد ميزته فلا يعود بناء فوقيا.
نعلم الآن أن الأفكار هي قوى نشيطة عاملة. غير أن ستالين يلح هنا على القول بأن البناء الفوقي يتولد كي يخدم أساسه ويدافع عنه. حتى إذا ما كف عن خدمة أساسه فقد صفته كبناء فوقي.
البناء الفوقي هو أداة، وثمرة مخطط، ونشاط واع تقوم به الطبقة السائدة. لا تبدع هذه الطبقة الأفكار من العدم. بالأفكار هي انعكاسات.
غير أن كل طبقة تستخدم، عن قصد، الأفكار التي تفيدها.
وصفنا البناء الفوقي ككل منسجم. فما الذي يحدد انتماء فكرة أو مؤسسة إلى هذا الكل؟ فائدتها الطبقية ودورها في خدمة الأساس.
ليس هناك من صدفة في حياة البناء الفوقي، وفي نضال الأفكار، وفي تطور المؤسسات. إذ تنظم البرجوازية بناءها الفوقي حسب مخطط. وهاك مثالا: خطاب الكونت مونتلمبير Montalembert من على منصة المجلس إثناء مناقشة قانون فللو (Falloux) بعد مضي بضعة أشهر على حزيران 1848 قال:
"سأضيف كلمة واحدة كملاك يتحدث إلى ملاكين بصراحة تامة، لأننا اجتمعنا ها هنا، كما اعتقد، كي يقول كل منا الحقيقة للأخر بدون تورية.
ما هي المشكلة اليوم؟ أنها مشكلة بعث احترام الملكية في نفوس الذين ليسوا ملاكين. وأنا لاأعرف إلا علاجاً لبعث هذا الاحترام، وجعل الذين ليسوا ملاكين يؤمنون بالملكية. ألا وهو جعلهم يعتقدون بالله! وليس هذا الإيمان باله مبهم كما تقول النزعة التلفيقية (électisme) أو أي مذهب آخر، بل الإيمان باله كتاب الصلوات (catéchisme)، الآله الذي أوحى بالتوراة، والذي يعاقب السارقين إلى الابد. تلك هي العقيدة الشعبية حقاً التي يمكنها أن تحمي بشكل فعال الملكية.."
ندرك هنا، على الفور، تكوين البناء الفوقي الواعي، وإضطرار البرجوازية إلى أن تضم مؤسسة قديمة إلى بنائها الفوقي الذي يزداد رجعية.
لم تحرم الكنيسة الكاثوليكية الرق. ولذلك وجد رقيق في أوروبا في القرن الوسيط، في المستعمرات حتى عام 1848، وفي الولايات المتحدة حتى عام 1864.
ولقد علمت الكنيسة الأرقاء أن يطيعوا سيدهم.واضطرت الأسياد المحاربين، حقا، إلى احترام "هدنة الله" وهددنهم بالنار الأبدية. ولكنها باتخاذها هذا الأجراء قد إنقذت. قبل كل شيء، المزروعات الضرورية لحياة المجتمع، كما حفظت الإنتاج وأمنت تفشي المجاعة، واندلاع نار الثورة. وهكذا تحمي، في النهاية، الإقطاعية ضد تصرفات الإقطاعيين "المغالية"، غير أن مطران ريمس كان ينادي قائلا:
"أيها الأرقاء! أطيعوا، في كل وقت، أسيادكم . ولا تحتجوا بقسوتهم أو بخلهم. أطيعوا، ليس فقط الصالحين المعتدلين، بل الذين لا يعرفون الصلاح أو الاعتدال".
تقول تعليم الكنيسة بلغة أولئك الذين يدفعون الرقيق إلى العصيان, ولا سيما أولئك الذين يعلمونهن المقاومة الصريحة.
يضاف إلى ذلك أن الكنيسة حاولت، بواسطة النشرات (Eneyclique) التي أصدرتها في نهاية القرن التاسع عشر، أن تحمي الرأسمالية من "مغالاة" الرأسماليين كانت في الماضي تدعو إلى ضرورة وجود الأسياد والأرقاء في المجتمع، فأصبحت اليوم تنادي بضرورة وجود الرأسماليين والبروليتاريا.
وهكذا لا يكون وجود الكنيسة، في عهد الرأسمالية، أثرا باقيا، بل يعني ذلك أن النظام البرجوازي المستغل المضطهد يستفيد من أفكار ومن مؤسسة تتعلق بتكوين اجتماعي أقدم منها كان يسوده الاستغلال والاضطهاد.
ولهذا رأينا البرجوازية، حينما شعرت بالتهديد، أعادت الدين عن قصد وتبنته، بعد أن سخرته لخدمة حاجاتها فقوته ودعمته وجعلته جزءاً لا يتجزأ من البناء الفوقي الرأسمالي ثم أعلنت أن التعليم الديني والتعليم العلماني يتمم كل منهما الآخر. إذ تنص التعليمات الرسمية عام 1887، فيما يتعلق بالمدرسة الابتدائية، على ما يلي:
يتميز التعليم العلماني عن الدين دون أن يناقضه فلا يحل المدرس محل الراهب، بل يضيف جهوده إلى جهوده ليجعل من كل طفل إنسانا شريفا.
فإذا كانت البرجوازية لا تضع جميع بوضعها في نفس السلة فأنها، مع ذلك، تعرف كيف توفق بين كما ناتها!
يجب الإشارة هنا إلى ملاحظة أبداها ستالين: في الوقت الذي يستنكف فيه البناء الفوقي عن القيام بدور الأداة يفقد صفته فلا يعود بناء فوقيا. ولهذا حينما يستنكف أساتذة التعليم العام عن مقاومة أهداف البرجوازية الاستعمارية، تطرد هذه البرجوازية المدرسين الديمقراطيين. وحين لا نعود الشرعية البرجوازية تنطبق على متطلبات الاحتكارات السياسية ولا تعود أداة صالحة بين أيديها لتحقيق مصالحها، تسعى البرجوازية إلى التخلي عن الحريات الديمقراطية البرجوازية ولهذا كان على البروليتاري, عندئذ, أن يحمل لواء الحريات البرجوازية , وأن يتقدم به, لأنه يجد في الديموقراطية البرجوازية أفضل الظروف الممكنة، في النظام الرأسمالي, لنشر أراءه السياسية في الأمة ،.
لا يجب إذن أن نقدر المؤسسات والأفكار بصورة ميتافيزيقية، وإذا كان حقاً أن أصل هذه الأفكار والمؤسسات يحدد طابعها، فأن تغير الظروف التاريخية يحول دورها، بل يجب البحث دائما، بصورة جدلية: في خدمة أية طبقة يمكن لهذه الأفكار والمؤسسات أن تستخدم في وقت معين بسبب تغير الظروف الموضوعية؟
تبدو قوة البناء الفوقي الفعالة، ولا سيما قو ة الدولة، في مرحلة الرمق الأخير للرأسمالية. إذ لا تعود علاقات الإنتاج، في هذه المرحلة، تتفق وطابع قوى الإنتاج. فتقوم الدولة الرأسمالية باتخاذ جميع الإجراءات المفيدة لتثبيتها والوقوف في وجه تطبيق قانون الترابط الضروري بين علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج، ولمحاولة أطالة أمد وجود الرأسمالية إلى ما لا نهاية، تصبح الدولة البرجوازية، تساندها الأفكار المناسبة،العثرة الرئيسية لتقدم المجتمع.
ولا يمكن إزالة هذه العثرة من الطريق ألا بنشاط القوى الجديدة الواعي. نعلم من الدرس السابق "الدرس الثاني عشر. المسألة 3" أن هذه القوى الاجتماعية والسياسية تتكون بتحالف البروليتاريا مع الطبقات الكادحة في القرية والمدينة. ونرى الآن أن مثل هذا النضال يهدف إلى تحطيم هذه العثرة، وهي الدولة البرجوازية وإقامة سلطة جديدة سياسية، هي سلطة البروليتاريا التي سيعمل دورها الفعال على تصفية الأساس القديم، والبناء الفوقي القديم. وإيجاد أساس جديد، وبناء فوقي جديد.
وهكذا تقوم الأفكار والمؤسسات، في بعض الظروف التاريخية، بدور فعال. تؤدي المادية الساذجة إلى "النظرية"الخاطئة القائلة بنمو المجتمع الآلي، "التلقائي"
وهي بذلك تبرر، عملياً، السلبية أمام العمل الذي تقوم به الدولة الرأسمالية لتمديد أجل أساسها. بينما الماركسية، على العكس، لا تهمل قط الدور الرئيسي الذي تقوم به مبادرة الجماهير الثورية، والواعي الاشتراكي. كما أنها لا تهمل قط النضال لتنمية النشاط السياسي ورفع مستوى الجماهير الفكري.

4 – ليس البناء الفوقي مرتبطاً مباشرة بالإنتاج
ليس البناء الفوقي مرتبطا مباشرة بالإنتاج ونشاط الإنسان الإنتاجي. فهو لا يرتبط بالإنتاج إلا بصورة غير مباشرة بواسطة الأساس. ولهذا لا يعكس البناء الفوقي التغيرات التي تحدث على مستوى نمو قوى الإنتاج بصورة مباشرة، بل أثر تغيرات الأساس، وبعد انعكاس تغيرات الإنتاج في تغيرات الأساس. يعني ذلك أن دائرة عمل البناء الفوقي ضيقة محدودة.
تحذرنا هذه الفرضية الماركسية من جميع الذين يهملون علاقات الإنتاج ونضال الطبقات، ويدعون أن "تطور التقنيات" يؤدي رأساً إلى تقدم الأفكار والمؤسسات.
ولقد اعتاد الفكر البرجوازي على ترديد القول بأن تقدم" المدينة الحديثة" المادي يجب أن يتبعه تقدم في الميدان الثقافي والفكري والأخلاقي. ويتيح التكذيب المستمر، الذي يقدمه الاستعمار، لهذا القول، الفرصة لشكوى المثاليين الذين ينتهزون الفرصة لمهاجمة تقدم التقنيات والعلوم.
أن ما يحدد المستوى الثقافي والفكري و الأخلاقي لمجتمع ما هو أساسه الاقتصادي. ولا يستطيع تقدم المعارف التقنية والعلمية أن يغير شيئاً في هذا الأمر. فهو لا ينعكس في البناء الفوقي ألا بواسطة الأساس. وكما أن قوى الإنتاج تنمو في حدود علاقات الإنتاج الكائنة فكذلك يقدر التقدم التقني والعلمي حسب معايير النظرية الفكرية التي تعكس هذا الأساس، فتقدره كل طبقة حسب مصلحتها الطبقية.
مر زمن أعلنت فيه البرجوازية الصناعية أن تقدم العلوم يفضي إلى التقدم المادي والثقافي للإنسانية. وهي في هذا الإعلان إنما تعبر عن إمكانيات نمو الرأسمالية الصناعية في هذه الفترة. غير أن هذه الفرضية – التي كانت فرضية النزعة الموضوعية – في ذاتها خاطئة.
ليس العلم والتقدم التقني، في عهد الرأسمالية المنحطة في خدمة الحاجات الاجتماعية قط، لأنهما في خدمة الربح الرأسمالي، بل أن الأفكار العلمية لا يمكنها أيضاً أن تتسرب كفاية إلى الجماهير فتعمل على رفع مستواها الثقافي، فتسيطر الأفكار البرجوازية الرجعية على الجماهير، كما يحدد البناء الفوقي مستواها الثقافي، فيظل هذا المستوى. حتما، متأخرا عن تقدم المعرفة العلمية. ولهذا كانت نظرية "أ. كومت" التي تعتقد بأن تقدم المجتمع والمؤسسات يتعلق فقط بنشر المعرفة بين الجماهير، نظرية خيالية جاءت بها البرجوازية التقدمية: ولقد دلل تطور الرأسمالية فيما بعد على هلهلتها.
تدلل الماركسية، على عكس النزعة الموضوعية، على أن نضال الطبقات وتغير الأساس الاقتصادي هما اللذان يتيحان للبناء الفوقي الجديد عكس التقدم التقني والعلمي. والطريق الوحيد لرفع مستوى المجتمع الثقافي والفكري والسير نحو تقدم الأفكار والمؤسسات هو نضال الطبقات والثورة الاشتراكية. إذ ليس للإلة ولا للعلم، في ذاتهما، القدرة على الانحطاط بالإنسان، كما أنهما لا يستطيعان الارتفاع به. وهما لا يكفيان لتحديد "المدينة" ولهذا فأن التقدم التقني في الولايات المتحدة لا يمنع من أن تكون الأفكار السائدة، في هذه البلاد، بدلا من أن تعبر عن درجة عالية من المدينة فإنها تقدم كل الدلائل على البربرية الرأسمالية.
إما الاشتراكية، فهي ليست "مدنية تقنية"، ولا هي انتصار النزعة العلمية المغالية. وما سموها الأخلاقي إلا انعكاس للأساس الاشتراكية الذي يولد نزعة إنسانية سامية.ولا يحرم الإنسان الحق النضال الطبقي، بل هو يشارك فيه لأنه يعلم أن هذا النضال هو الوحيد الذي يؤدي إلى نظام اقتصادي واجتماعي يمكن أن تطبق فيه الانتصارات الجريئة التي فاز بها العمل والذهن والإنساني.
5 – الخلاصة
لا يمكن لمجتمع يمزقه تناحر الطبقات أن يعرف حقاً الوحدة الأخلاقية والثقافية. يمكن للطبق السائدة، ولا شك، أن تفرض أفكارها، وأن تتوصل إلى كتم أصوات المضطهدين. وتنعم "بالسلام" ولكنه سلام القبور الذي يضع حداً للحرب بعد أن يكون أحد الفريقين المتحاربين قد فني وزال! فالمجتمع الوحيدة الخالي من تناحر الطبقات هو الذي يعرف حقاً الوحدة الأخلاقية والروحية، فهو لا ينكر قط نضال الأفكار الضروري لتقدم المعرفة.
يوجد في مجتمع كمجتمعنا نوعان فقط من الأفكار متناحران: الأفكار التي تخدم مصالح البرجوازية، وهي جزء لا يتجزأ من البناء الفوقي، ومن جهة ثانية أفكار البروليتاريا التي لا تجد التعبير العلمي عنها إلا في الماركسية.
لا يمكن أن يضاف إلى هذين الضربين ضرب من "الأفكار المحايدة".
غير أن هناك أفكاراً برجوازية متأخرة عن متطلبات الاستعمار الأثيم الفكرية، ذلك الاستعمار، عدو الشعب، والأمم، والإنسان، تلك هي الأفكار البرجوازية العقلانية، المعادية للفاشية، ذات النزعة الإنسانية. حتى إذا ما تناقضت هذه الأفكار مع متطلبات الاستعمار، أعلنت البرجوازية الحرب عليها. فيتضح عندئذ أنه على الطبقة العاملة والقوى التقدمية، أن تحتضنها، وأن تبعث فيه القوة والنشاط، وأن تدفع بها إلى الأمام بتنمية محتواها الديمقراطي.
وهكذا ليس هذان النوعان من الأفكار جامدين ثابتين. بل أحدهما في طريق الإنحطاط، يزداد رجعية يوماً بعد يوم وهو أقل شمولا. بينما يقوى الآخر في نضاله من أجل نزعة إنسانية جديدة.
تقتبس البروليتاريا من الثقافة القومية في الماضي، حسب مصلحتها الطبقية التي لا تنفصل من المصلحة القومية، العناصر التقدمية التي تعكس بصدق الحياة وتكون تراثا من الفن لا يفنى. كما تصد البرجوازية، حسب مصلحتها الطبقية التي تعارض مصلحة الأمة، عن التراث القومي، وعن تراثها الديمقراطي وعن الإنسان نفسه. وليس هناك، ولا يمكن أن يكون، نظرية فكرية محايدة، بل هناك أفكار صنعتها البرجوازية خلال تاريخها الطويل، والأفكار التي تنتج عن النقد العلمي للأفكار الأولى والتي تدفع بها الماركسية إلى الأمام وتتبناها البروليتاريا. إما أن تستطيع هذه الفكرة أو تلك الانتقال من معسكر إلى آخر حسب تطورات نضال الطبقات التاريخي، فأن هذا يدل على أنها ليست محايدة، بل لها محتوى معين ولهذا ترفضها البرجوازية حين تتحول مصلحتها.
أما المهمة التي تقع على عاتق قوى الطليعة، في المجتمع، فهي إعادة تقييم كل التراث الفكري والثقافي. لأن الماركسية هي، في الأساس، نقد لا يترك حجرا على حجر في بناء الماركسية الفكرية. ولهذا لا يمكن أن يكون ماركسيا حقا من لم يتمثل، بصورة نقدية، حضارة الماضي.
الدرس العشرون
الاشتراكية




1– التوزيع والإنتاج
ما فتيء الناس، منذ ظهور الطبقات، يحلمون بنظام اجتماعي مثالي يخلو من استغلال الإنسان للإنسان ومن نضال الطبقات.
وهكذا نجد تاريخ الطبقات المضطهدة تجتاحه المطامح الشعبية، منذ الاعتقاد بعودة العصر الذهبي. ولم يتسرب اليأس قط إلى الشعب من مستقبل الإنسانية، فلقد قام الشراء والمفكرون، في جميع العصور، بترقب فجر العصور الحديثة والاحتفال به. كما فعل توماس كمبانيلا، الذي كتب في نهاية القرن السادس عشر "مدينة الشمس" وأمضي سبعاً وعشرين سنة. ولقد عملت الديانة المسيحية، خلال ألفي سنة، على ترديد القول إلى المضطهدين " ليس هذا الملكوت في هذا العالم". ولكن هذا لم يقض على أمل جماهير الشعب بالسعادة الأرضية، ولهذا جعل بتهوفن من "سمفونيته التاسعة" نشيد العصور المقبلة.
ومع ذلك لم تخرج الأفكار حول " المدينة المثالية"، قبل الماركسية، عن نطاق "الايتوبيا" الخيالية. فلقد رأى الفلاسفة الاجتماعيون أن الشر الأساسي يكمن في عدم المساواة في توزيع الخيرات بين الأفراد، لحرمانهم من معرفة القوانين الاقتصادية، فدعوا إلى المساواة في توزيع الخيرات، أو إلى الاشتراكية فيها، غير أنهم كانوا يجهلون تحليل الإنتاج بسبب جهلهم لقانون المجتمعات، وإظهار عملية الاستغلال الطبقي ولهذا نظر إليهم كفلاسفة حالمين، واستقر في ذهن البرجوازية الصغيرة والكبيرة رأي خاطيء يقول بأي الاشتراكية والشيوعية يستحيل تحقيقهما.
ولقد أدرك الاشتراكيون الخياليون، في القرن التاسع عشر، أنه يجب معالجة المشكلة من الطرف الأخر، أي ليس عن طريق الاستهلاك وإنما عن طريق الإنتاج، وأنه لا يمكن أن نطلب ازدياد السلع قبل أن نزيد الإنتاج. وهذا ما تساعد عليه الصناعة الآلية الحديثة. غير أنهم لم يروا بوضوح، ذلك بسبب افتقارهم إلى تحليل علمي لقوانين الإنتاج والاقتصاد، أن المسألة الفاصلة التي يجب حلها، إذا أردنا حقا زيادة الإنتاج، هي مسألة القضاء على ملكية وسائل الإنتاج الخاصة الرأسمالية. وليس هناك من مسألة غيرها لأن هذه الملكية هي التي تؤدي إلى جعل "زيادة الإنتاج" مصيبة اقتصادية. ولما كانوا يجهلون قوانين الرأسمالية، فقد خيل إليهم أن الإرادة الطيبة تكفي لوضع جهاز الصناعة الرأسمالية في خدمة حاجات المجتمع. ولقد رأينا أن الأمر لا يمكن أن يكون كذلك، لأن ملكية وسائل الإنتاج الخاصة تقف في وجه ما يمكن أن تحققه الصناعة والعلم الحديثين.
ومع ذلك فقد استطاع الاشتراكيون الخياليون أن يوضحوا هذه الفكرة الثورية القائلة بأنه يجب استخدام قوى الإنتاج الهائلة التي حررها العلم والصناعة الحديثان لخدمة حاجات المجتمع المادية، وليس لتوفير الربح لفئة صغيرة من المستغلين. وذلك "بالاستعاضة عن استغلال الإنسان لأخيه الإنسان باستغلال العالم على يد أناس متحدين، والاستعاضة عن حكم الناس بإدارة الأشياء". تلك كانت أهداف الاشتراكية حسب رأي سان سيمون.
ولقد أجابت الماركسية وحدها بصورة علمية على المشاكل التي أثارها تحقيق هذه الأهداف فأظهرت:
1 – أن العنصر الأساسي في علاقات الإنتاج هو ملكية وسائل الإنتاج.
2 – أنه لا يمكن القيام بتغيير وسائل الإنتاج إذا لم تعتمد على الجدلية الداخلية لنمو طريقة الإنتاج.
3 – أن القوة الوحيدة التي يمكنها التغلب على مقاومة الطبقات التي يضرها هذا التغيير هي نضال البروليتاريا وحلفائها نضالا طبقياً.
وهكذا تتيح لنا الماركسية تحديد:
أساس الاشتراكية.
الشروط الموضوعية التي يتطلبها حدوثها.
"الذاتية لبنائها بصور علمية.
2 – أساس الاشتراكية الاقتصادي
دلت الماركسية، بإظهارها أن العنصر الأساسي في علاقات الإنتاج، في أي مجتمع، هو صورة ملكية وسائل الإنتاج، على أن الاشتراكية لا يمكن أن تقوم على اشتراكية" "الخيرات" (biens) عامة ولا تقسيم هذه "الخيرات" ولا على اشتراك رؤوس الأموال الخاصة، ولا على تركيز الرأسمالية وتنظيمها. لأن أساس الاشتراكية هو ملكية وسائل الإنتاج الاجتماعية، وهذا يعني حرمان الملاك الخصوصيين، ولا سيما ملاك وسائل الإنتاج الكبرى الحديثة التي يمكن أن تستعمل لخدمة الحاجات الاجتماعية. ولقد برهنت الماركسية على أنه يمكن تحقيق هذا الهدف، كما أنها دلت على الطرق المؤدية إليه. والبروليتاريا هي التي تستطيع موضوعيا تحقيق هذا التحويل التاريخي لطريقة الإنتاج، لأنها الضحية المباشرة للملكية الخاصة, كما أن ملكية وسائل الانتاج الاجتماعية تتفق ومصالحها كطبقة مستغلة. ولما كان الرأسماليون، خلال قرون طويلة، قد استولوا على ثمرة عمل الجماهير المعدمة، فأنهم بذلك قد سلبوها ما تملك، ولهذا تعمل الاشتراكية على استعادة ما سلبوا.
تؤدي ملكية وسائل الإنتاج الاجتماعية إلى القضاء على الأجور، وذلك لأن فائض القيمة الذي تتمكن قوى الإنتاج الحديثة من إنتاجه، في يوم، بالنسبة إلى القيمة الضرورية للقيام بحاجات قوة العامل على العمل، لا يعود الآن، إلى الرأسمالي، بل على الجماهير عامة، ثم يوزع بين أعضائها حسب عمل كل عضو، كما يوزع في صورة فوائد اجتماعية متعددة. وهكذا تفقد أفكار فائض القيمة، والأجر، كثمن لقوة العمل، والربح، والرأسمال، والعمل الضروري، والعمل المجاني، معانيها.
ولهذا كتب ستالين يقول: "أن الحديث عن قوة العمل كسلعة، وعن "أجور" العمال عبث في نظامنا. وذلك كما لو أن الطبقة العاملة, التي تملك وسائل الانتاج, تدفع الاجور لنفسها وتبيع إلى نفسها قوتها على العمل. وكذلك لا يقل غرابة الحديث عن العمل "الضروري" و "فائض العمل" كما لو أن عمل العمال الذي يؤدونه للمجتمع، من أجل توسيع الإنتاج، تنمية التعليم، والمحافظة على الصحة العامة، وتنظيم الدفاع القومي، الخ.. ليس ضروريا للطبقة العاملة، وقد أصبحت اليوم في الحكم، ضرورة العمل الذي يؤدي لتأمين حاجات العامل وحاجات عائلته الشخصية.
الاشتراكية، كما تحددها الماركسية علميا، هي القضاء على استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، والقضاء، في نفس الوقت، على طبقات المجتمع المتناحرة. وهكذا ينتهي أيضاً تناحر الطبقات على المستوى الاقتصادي بين المستغلين والمستغلين.
كما تؤدي ملكية وسائل الإنتاج الاجتماعية إلى القضاء على كل إمكانية في نشوء الأزمة الاقتصادية. وذلك لأن المضاربة بين المنتجين، من أجل الربح، تزول، ويزول معها استبداد الإنتاج الرأسمالي. كما أن قانون التراكم الرأسمالي، الذي يقوم على أن نمو قوى الإنتاج الهائلة يعتمد على شقاء جماهير العمال بسبب استملاك ثمرة العمل الاجتماعية بصورة فردية، يصبح بالياً. ينتج عن ذلك:
1 – يمكن التوفيق بين نمو إنتاج وسائل الإنتاج وبين نمو إنتاج وسائل الاستهلاك حسب قواعد الإنتاج التي وضعها العلم الاقتصادي الماركسي، وهكذا يحل محل استبداد الإنتاج قانون النمو الاقتصادي بصورة منسجمة.
2 – لا يمكن أن يؤدي ازدياد الإنتاج المتواصلة إلى "أزمة فائض الإنتاج" لأن ذلك يصحبه بالضرورة ارتفاع قوة الشراء عند جميع العمال الذين يزيدون من استهلاكهم، إذ يأخذ كل منهم أجرا يناسب عمله. وهكذا لا يقع التنافر بين الإنتاج والاستهلاك، وما يصحبه من بطالة، وتدمير لقوى الإنتاج.
تعني الاشتراكية إذن انعدام الأزمات الاقتصادية، والقضاء على الاستعمار وزوال أسباب الحرب.
ولقد كتب ستالين يقول مختصرا ميزات الاشتراكية الأساسية:
تكون ملكية وسائل الإنتاج الاجتماعية أساس علاقات الإنتاج، في النظام الاشتراكي الذي لم يتحقق حتى الآن إلا في الاتحاد السوفياتي، إذ لم يعد يوجد في هذا النظام, مستغلون ومستغلون. بل توزع المنتوجات حسب عمل كل شخص، وحسب المبدأ القائل: "من لا يعمل لا يأكل". أما علاقات الناس في عملية الإنتاج فهي علاقات تعاون أخوي وتعاضد اشتراكي يقوم به عمال تحرروا من نير الاستغلال.
فكيف يمكن تحقيق ملكية وسائل الإنتاج الاجتماعية؟ إذا اتخذنا مثال الاتحاد السوفياتي فأننا نرى:
انتزعت ملكية وسائل الإنتاج في الصناعة وأعيدت إلى الشعب بأجمعه.
ضم صغار المنتجين الفرديين ومتوسطيهم بصورة تدريجية في تعاونيات للإنتاج، أي في مؤسسات زراعية كبرى هي الكولخوزات.
ظل الإنتاج التجاري "التبادل بواسطة الشراء والبيع" لفترة، محافظة على التحالف الاقتصادي بين المدينة والقرية وبين الصناعة والزراعة، على أنه الصورة الوحيدة المقبولة من الفلاحين للعلاقات الاقتصادية مع المدينة، كما نمت تجارة الدولة والتجارة التعاونية الكولخوزية بالقضاء على جميع أنواع الرأسماليين في السوق التجاري.
ينتج عن ذلك أنه يوجد في الاتحاد السوفياتي صورتان الملكية وسائل الإنتاج الاجتماعية:
ترتدي الملكية الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي إما صورة ملكية الدولة، وإما صورة ملكية تعاونية كولخوزية "وهي ملكية كل كولخوز، وملكية الاتحادات التعاونية".
(المادة5 من دستور الاتحاد السوفياتي).
فالأرض، وباطن الأرض، والغابات، والمصانع والفبارك، ومناجم الفحم والحديد، وطرق السكك الحديدية، ووسائل النقل المائية والجوية، والمصارف، والبرق والبريد" والمنشآت الكبرى الزراعية التي تنظمها الدولة "كالكولخوز ومحطات الآلات والتراكتورات، الخ.) وكذلك المنشآت البلدية، وبيوت السكن في المدن والمناطق الصناعية كل هذا ملك للدولة أي هو ملك الشعب بأجمعه (المادة 6).
والمؤسسات المشتركة في الكولخوز وفي التنظيمات التعاونية وما تملك من حيوان (cheptel) حيا أو ميتا وكذلك إنتاج الكولخوز والتنظيمات التعاونية ومبانيها المشتركة تكون ملكية مشتركة اشتراكية للكولخوزات والتنظيمات التعاونية (المادية 7).
وهكذا نجد أن التعاونيات الزراعية، في "الاتحاد السوفياتي" تعمل في أرض أعطيت لها، وهي تتمتع بخيراتها مجانا إلى الأبد، وهي ملك للشعب بأجمعه. كما أن الدولة تمد هذه التعاونيات بالتراكتورات والآلات الأخرى التي هي ملك للدولة، أما ما يملكه الكولخوز، عدا مؤسساته وأبنيته، فهو ثمرة الإنتاج الكولخوزي الذي هو مصدر دخله.
لكل عائلة كولخوزية، عدا دخل الاقتصاد الكولخوزي المشترك الأساسي، الحق بالتمتع بقطعة أرض صغيرة تملك عليها اقتصادا خاصا بها كبيت السكن والأغنام المنتجة والطيور ووسائل الزراعة البسيطة.
يسمح القانون، إذن، باقتصاديات صغيرة للفلاحين والصناع اليدويين ويمنع استغلال عمل الآخرين.
أما فيما يتعلق بوسائل الاستهلاك فللمواطنين الحق بالملكية الشخصية لما كسبوه وأدخروه بعملهم، وملكية بيت سكنهم واقتصادهم العائلي المساعد، وأدوات البيت للاستعمال اليومي، أو الاستعمال الشخصي (كالسيارة مثلا)، كما لهم الحق في وراثة الملكية الشخصية.
يحتوي المجتمع الاشتراكي، إذن، على طبقتين: طبقة العمال. وطبقة الفلاحين العمال الكولخوزيين، وهؤلاء لا يوجد بينهم أي تعارض لأن مصالحهم واحدة.
ويوجد أيضاً طبقة اجتماعية من رجال الفكر وهم رجال التقنية والمهندسون، ورجال التنظيم الاقتصادي، والعمال المفكرون، ورجال التعليم والفنانون، والكتاب. وهم يمتازون بميزة لا يعرفها المجتمع البرجوازي وهي أنهم ينتمون لجميع أصناف العمال. وقد لاحظ ستالين عام 1936 أن تكوين رجال الفكر قد تغير عما كان عليه في النظام القديم، وأن 80% - 90% منهم ينتمون لطبقة العمال والفلاحين الكادحة. ويقوم هؤلاء المفكرون بخدمة الشعب بأجمعه وليس بخدمة الطبقة المختارة.
ولهذا كان طابع التكوين الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي الأساسي هو أنه، بفضل القضاء على الاستغلال، أصبحت الفئات الاجتماعية المختلفة متحالفة متحابة تعمل لبناء مجتمع لا يعرف الطبقات، وجميعهم من العمال.وتوطد هذا الحلف في النضال: مثال ذلك أن العمال ساعدوا الفلاحين في نضالهم ضد طبقة الفلاحين الملاكين المستغلين (الكولاك)، فأرسلوا إليهم الآلات، بينما قام الفلاحون العمال بتأمين تموين مراكز العمال الذين أراد الكولاك تجويعهم.
وكذلك تغيرت العلاقات بين رجال الفكر والعمال في الإنتاج.
ولم يعد الآن العمال اليدويون ورجال الإدارة أعداء بل أصبحوا رفاقا وأصدقاء وأعضاء في جماعة واحدة من المنتجين الذين يهمهم جدا تقدم الإنتاج وتحسينه. ولم يبق شيء من العداء القديم.
ومع زوال استغلال الإنسان لأخيه الانسان زال أيضا التناحر بين القرية المدينة – تلك القرية التي خربها برجوازيو المدينة الرأسماليون واستولوا عليها. وكان هذا التناحر بين العمال اليدويين وبين العمال المفكرين، صنائع البرجوازية المستغلة – سبب كره العمال اليدويين للعمال المفكرين واحتقار هؤلاء لأولئك.
يضاف إلى ذلك أن الإنتاج، في المجتمع الاشتراكي، يشرف عليه العمال ومنظماتهم، أشرافا ديمقراطيا، وهكذا نجد عمل المدير (الذي تسميه الدولة) يخضع لنقد جميع العمال. وكذلك تنتخب الإدارة، في الكولخوزات التي يشرف عليها جميع أعضاء الكولخوزات، بصورة ديمقراطية.
وأخيرا زال، بزوال استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، استعباد المرآة، ووضعت أسس المساواة بين الرجل والمرآة. كما توفرت، بفضل الاشتراكية في وسائل الإنتاج وزوال استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، الظروف المواتية، لظهور، قانون اقتصادي أساسي جديد خاص بعلاقات الإنتاج الاشتراكية غير المتناحرة، ويعكس هذا القانون عملية نمو الاقتصاد الاشتراكي، كما يعكس هدف اقتصاد لا يعرف الاستغلال والأزمات ووسائله – ولن يكون لمثل هذا الاقتصاد سوى تأمين إرضاء حاجات الجماهير المادية والثقافية إلى أقصى حد. ولنشر، قبل دراسة هذا القانون الخاص بالاشتراكية، إلى أن الانتقال إلى الاشتراكية يتطلب شروطا موضوعية معينة تطابق قانون المجتمعات الأساسي وهو قانون الترابط بين علاقات الإنتاج وطابع قوى الإنتاج.
3 – الشروط الموضوعية للانتقال إلى الاشتراكية
تحدد الاشتراكية، بتحديدها للاشتراكية بصورة علمية، الشروط المواتية لظهور المجتمع الاشتراكي وبنائه. ولا يمكن تغير طريقة الإنتاج إلا في ظروف موضوعية معينة. فما هو أساس تغيير علاقات الإنتاج؟ الأساس هو الخلاف بين هذه العلاقات وبين طابع قوى الإنتاج، وقد حدث هذا الخلاف في وقت معين.
ليس هدف الثورة الاشتراكية، إذن، هدفا ذاتيا. فهي لا تصدر عن الحسد والطمع كما تزيع البرجوازية التي تنسب هذه العيوب للطبقة العاملة – كما أنها لا تصدر عن طموح بعض المشاغبين الذين قرروا القيام بهذه الكارثة ذات مساء!لأن مهمة الثورة الاشتراكية هي إيجاد الشروط المواتية لنمو قوى الإنتاج نموا غير محدود، وذلك بإزالة العقبة الوحيدة التي تعترض ذلك ألا وهي علاقات الإنتاج الرأسمالية، في الوقت الذي أصبح فيه هذا ممكناً, وذلك لأن الرأسمالية هي التي هيأت الأساس الموضوعي للثورة الاشتراكية، بتنميتها لقوة الإنتاج حتى الحد الذي ناقضت فيه الرأسمالية نفسها. فالقضاء الثوري على الملكية الفردية لوسائل الإنتاج الجديدة والاستغلال الرأسمالي يسمح بإقامة الترابط بين علاقات الإنتاج الجديدة وبين طابع قوى الإنتاج، في الوقت الذي أصبح فيه ذلك ممكنا وضروريا.
إذن تستحيل الاشتراكية بدون شروط موضوعية مرتبطة بمرحلة تاريخية معينة، ففي بلد، لم تنم فيه الصناعة نموا كبيرا كالصين، مثلا، لا تستطيع البروليتاريا، وقد أصبحت في الحكم، أن تفكر بإقامة الاشتراكية قبل إيجاد الأسس التي تقوم عليها، أي أيجاد صناعة قومية كبرى، ولهذا تظل طريقة الإنتاج الرأسمالية، لفترة معينة، جانبا من الاقتصاد.
يعني هذا أنه ليس بمقدور أي شخص أن يزيل قوانين الاقتصاد، إذ لا تنفع إرادة الناس، الذين تقودهم مصلحتهم الطبقية، إلا إذا اعتمدت على القوانين الموضوعية. ولهذا كانت "النزعة الإرادية" فلسفة خاطئة لأنها تعتقد بان إرادة الإنسان، التي تعمل خارج نطاق معرفة قوانين الطبيعة والاقتصاد، مطلقة.
ويذكر ستالين، في حديثه عن بناء الاشتراكية، لأن هذا الأمر كان صعباً معقدا، بالنسبة لسلطة السوفيات، ولكنهم مع ذلك قاموا به خير القيام.
وليس ذلك لأنهم أزالوا القوانين الاقتصادية الموجودة و "كونوا" قوانين جديدة، بل لأنهم اعتمدوا على قانون اقتصادي، هو قانون الترابط الضروري بين علاقات الإنتاج وبين طابع قوى الإنتاج، وإلا لما استطاع السوفيات تحقيق هذه المهمة بدون هذا القانون والاعتماد عليه.
ثم يشير، فيما بعد، إلى أن المصلحة الطبقية هي التي كانت تشرف على استخدام هذا القانون استخدمت الطبقة العاملة قانون الترابط الضروري بين علاقات الإنتاج وبين طابع قوى الإنتاج فقلبت أوضاع علاقات الإنتاج البرجوازية، وأوجدت علاقات إنتاج جديدة اشتراكية وعملت على التوفيق بينها وبين طابع قوى الإنتاج ولم تستطيع القيام بهذا، بفضل مواهبها الخاصة، بل لأن ذلك كان مهما جدا، بالنسبة إليها.



4 – قانون الاشتراكية الأساسي
لا تستطيع الثورة الاشتراكية، مع ذلك، الاكتفاء باستخدام قوى الإنتاج التي تركتها الرأسمالية استخداما حقا. إذ يجب أن تقدر أنه مهما كانت قوى الإنتاج التي نمتها الرأسمالية، فهي لا تكفي لسد حاجات المجتمع الاشتراكي، وذلك لأن الرأسمالية، في مرحلتها النهائية، مهما كانت متقدمة تقنيا، تهدم قوى الإنتاج، كما أن نمو قوى الإنتاج في النظام الرأسمالي استبدادي تماما، وأخيرا فأن استهلاك جماهير الشعب ضعيف جداً في النظام الرأسمالي، فلا تستطيع سوى طائفة ضئيلة من المستغلين التمتع برغد العيش، وهكذا لا يمكن المقارنة بين كمية المنتوجات التي يستهلكها المجتمع الرأسمالي وبين حاجات الجماهير الحقيقة التي يسعى المجتمع الاشتراكي لسدها إلى أقصى حد، وذلك لأن الاشتراكية ليست تعميم البؤس بل هي تعميم الرخاء.
لا اشتراكية، إذن، بدون زيادة الإنتاج بصورة هائلة لا يمكن تخيلها في النظام الرأسمالي, وهذه ضرورة موضوعية, بيد أنه كي نستطيع إنتاج سلع للاستهلاك، بكميات كبيرة وزيادة حجمها باستمرار، لا بد من البدء بإنتاج وسائل الإنتاج بكميات كافية. والعمل على تبديلها وازديادها، ولهذا وجب أن يبدأ ارتفاع الإنتاج بازدياد إنتاج وسائل الإنتاج. وهذا يعني أن أحد شروط الاشتراكية الموضوعية هو إيجاد صناعة ثقيلة قوية تستطيع، مثلا، أن تمد الزراعة بكميات كبيرة من التركتورات. ونمو هذه الصناعة. وليس ازدهار قوى الإنتاج القوي ظاهرة أمكنت بزوال الملكية الخاصة فقط، بل هي أيضاً، كما رأينا، ضرورة موضوعية تتطلبها قوى الإنتاج الاشتراكية الجديدة.
يعني هذا أن علاقات الإنتاج الجديدة قد أصبحت القوة الرئيسية التي تعمل على تنشيط نمو قوى الإنتاج إلى أقصى حد. وكانت قوى الإنتاج، تتطلب، قبل الثورة الاشتراكية، تغيير علاقات الإنتاج، فأصبحت علاقات الإنتاج الجديدة تتطلب، بعد الثورة الاشتراكية، نمو قوى الإنتاج.
غير أن نمو قوى الإنتاج لا يمكن أن ينحصر في زيادة معدات الطبقة العاملة أو زيادة كميات الإنتاج وآلاته. لأن ازدياد حاجات السكان، الذين لا يكفون عن التضخم، يتطلب ارتفاع إنتاجية العمل، بيد أن هذه الإنتاجية تتعارض مع أهداف الاشتراكية إذا كانت نتيجة لإرهاق العامل، "فيعمل كالعبد" كما لمح إلى ذلك ليون بلوم. ولا يمكن زيادة إنتاجية العمل وتخفيض وقت العمل وتعب العمال ألا بتقدم آلات الإنتاج نوعيا، وذلك باستخدام تقنية الطليعة، واستعمال الآلة في الأعمال الشاقة، الخ.. ومن ثم تعمل الاشتراكية، نتيجة لهذه القوانين الموضوعية، على تنمية العلم لا محالة، من علم الآلة (mécanique) حتى علم الحمضيات (agronomie) بمقادير لم تعرفها البلاد الرأسمالية، وكذلك تتطلب الاشتراكية ارتفاع صفة العامل بحيث يتسرب الفكر، شيئاً فشيئاً، إلى العمل اليدوي في اتصاله بتقنية عليا. تلك هي العناصر الضرورية لنمو المجتمع الاشتراكي. وينتج عن ذلك وجود قانون اقتصادي أساسي للاشتراكية، وهو قانون موضوعي مستقل عن إرادة الناس.
يمكن صياغة صفات القانون الاقتصادي الأساسي للاشتراكية ومتطلباته بما يلي تقريباً:
تأمين سد حاجات المجتمع المادية والثقافية، المتزايدة باستمرار، إلى أقصى حد، وذلك بتنمية الإنتاج الاشتراكي، وتحسينه باستمرار على أساس تقنية عليا.
ولهذا، فبدلا من تأمين أقصى الأرباح، نؤمن سد حاجات المجتمع المادية والثقافية إلى أقصى حد، وبدلا من تنمية الإنتاج مع فترات توقف – من الازدهار إلى الأزمة على الازدهار – نزيد، بدون توقف، الإنتاج، وبدلا من توقف التقدم التقني في فترات معينة، مع ما يصحب ذلك من تخريب قوى المجتمع الإنتاجية، يستمر تحسين الإنتاج على أساس تقنية عليا.
من المهم أن ندرك جيداً أن التقدم الرائع في الصناعة والزراعة، الذي نشهده في المجتمع الاشتراكية، ليس هدفا في ذاته، فالتقدم التقني هو أساس نمو الإنتاج، كما أن هذا النمو مرتبط بضرورة موضوعية أساسية في الاشتراكية، ألا وهي سد حاجات جميع أفراد المجتمع المتزايدة باستمرار إلى أقصى حد. وهذه ضرورة موضوعية، لأن زوال استغلال الإنسان لأخيه الإنسان يعني أن العمال يعملون من أجل أنفسهم. فهدف الإنتاج إذن، بالضرورة، هو سد حاجات المجتمع إلى أقصى حد، وذلك في أفضل ظروف للعمل. فما هي هذه الحاجات؟ الحاجات المادية، والحاجات الثقافية. هدف الإنتاج الاشتراكية، إذن، هو الإنسان وسد جميع حاجاته". وهكذا ليست الاشتراكية "مدنية تقنية" تتلهف للقيام بأعمال مادية رائعة، دون أن تعبأ بالإنسان، كما يدعي المفكرون البرجوازيون. ذلك لأن الإنسان في تمام تفتحه هو مركز الاشتراكية، وليس لجميع الأعمال المادية من هدف سوى سد حاجات على أفضل وجه: كحاجته إلى المعرفة والثقافة، وحاجته إلى العيش الكريم، أي العناصر المختلفة لحياة سعيدة.فالاشتراكية هي تحقيق النزعة الإنسانية.
5 – الشروط الذاتية للانتقال إلى الاشتراكية ولنموها
لا تجعلنا الماركسية نعرف علميا فقط الشروط الموضوعية للاشتراكية ونموها بل هي تعرفنا أيضاً على الشروط الذاتية التي تتعلق بتأثير الناس في التاريخ تأثير واعياً.
فنحن نعلم أن الطبقة الرأسمالية تعترض بكل الوسائل فعل قانون الترابط الضروري، وأنها تحاول إنقاذ طريقتها في الإنتاج بفصل عمل الدولة، وأنه لا يمكن إزالة هذا السد، الذي تقيمه أمام التقدم، ألا بعمل البروليتاريا الواعي وحلفائها الذين يؤلفون القوة الاجتماعية الضرورية للتغلب على مقاومة الرأسماليين " راجع الدرس التاسع عشر، المسألة 2".
أول شرط ذاتي لبناء الاشتراكية هو أن تكون البرليتاريا لنفسها حزبا ثورياً حقاً بعد أن اتحدت مصالحها مع مصلحة الأمة.
فالأم يجب أن يؤدي هذا العمل الجماهيري الثوري؟ إلى تحطيم الحاجز الوحيد الذي يختبيء وراءه الرأسماليون، الذين حكم عليهم التاريخ بالموت، ألا وهو الدولة البرجوازية، وتنظيم سلطة جديدة للدولة تستطيع القضاء على ملكية وسائل الانتاج الخاصة. هذه السلطة الجديدة للدولة هي ديكتاتورية البروليتاريا.
وديكتاتورية البروليتاريا هي الوسيلة التي لا يتم تغيير علاقات الإنتاج بدونها. فكل منا يدرك أنه يستحيل أن تقوم نقابات العمال فجأة بالأستيلاء على ممتلكات الرأسماليين، وتنظيم الإنتاج الاشتراكي، إنتاج العمال الذين اتحدوا في المنظمات وتقاسموا ثمرة عملهم ! لأنها لو فعلت ذلك لا خطأت في تقدير عمل الدولة البرجوازية السياسي العنيف، حامية الرأسمالية.
ولقد عبر ماركس عن مهمة دكتاتورية البروليتاريا الأساسية بوضوح فقال:
تستخدم البروليتاريا تفوقها السياسي لتنتزع، شيئاً فشيئاً، كل الرأسمال من البرجوازية، ولجعل وسائل لإنتاج بين يدي الدولة، أي بين يدي البروليتاريا، وقد تنظمت في طبقة مسيطرة، وزيادة قوى الإنتاج بأسرع ما يمكن.
والمرحلة التاريخية التي تقوم فيها دكتاتورية البروليتاريا هي مرحلة يبلغ فيها النضال الطبقي أقصاه. إذ يستمر النضال ضد بقايا الطبقات الزائلة وضد محاولات البرجوازية لإعادة الرأسمالية بعد مضي زمن طويل على قضاء الاشتراكية على التناقضات الاقتصادية، حتى تنتصر الشيوعية في معظم أجزاء الكرة الأرضية.
وليست دكتاتورية البروليتاريا غاية نضال الطبقات بل هي استمرار له في صور جديدة. لأن دكتاتورية البروليتاريا هي نضال البروليتاريا المنتصرة الطبقي بعد أن استولت على الحكم السياسي، ضد البرجوازية المغلوبة على أمرها وأن لم تفن وتختف ولم تكف عن المقاومة بل زادت من هذه المقاومة.
وقد كتب لينين يقول:
من يعترف فقط بنضال الطبقات لم يصبح بعد ماركسيا، إذ يمكن أن يكون لم يخرج بعد من نطاق التفكير البرجوازي والسياسة البرجوازية. ولهذا فأن قصر الماركسية على عقيدة نضال الطبقات تشوية لها وجعلها مقبولة من البرجوازية، والماركسي هو الذي يعترف بنضال الطبقات كما يعترف بدكتاتورية البروليتاريا.
كما كتب يقول:
أن السبب الأساسي لعدم فهم الاشتراكيين لدكتاتورية البروليتاريا هو أنهم يذهبون حتى النهاية مع فكرة النضال الطبقي.
دكتاتورية البروليتاريا هي سيطرة طبقية. سيطرة على من؟ على الرأسماليين ومختلف فئات المستغلين، والمهربين والمقامرين الذين يعيشون على فساد الرأسمالية ويدعمون سلطتها كدولة.
وهكذا تكون دكتاتورية البروليتاريا سلطة دولة من نوع جديد تماما. فلقد كانت جميع السلطات السياسية التي عرفها التاريخ سابقا تمثل سيطرة طبقات مستغلة وسيطرة الأقلية على الأكثرية. أما دكتاتورية البروليتاريا فهي تمثل، لأول مرة، سيطرة المستغلين على المستغلين. ولهذا تحظى بعطف سائر الطبقات الاجتماعية الكادحة، المستغلة، المضطهدة، وتأييدها. فهي إذن تمثل سيطرة الأكثرية على الأقلية، وحكم العمال.
ولا يمكن لهذه السيطرة أن تقوم وتستمر وتتوطد ألا بفضل عمل الجماهير الكادحة الواعي المنظم، وبفضل نشاطها السياسي ومبادرتها المبدعة.
ولا تشعر هذه السيطرة بالقلق والحيرة بصدد "الشرعية" البرجوازية التي هي التعلة الفكرية للعهد السياسي والنظام الاقتصادي اللذين يجب القضاء عليهما وأزالتهما. ولهذا توجد الجماهير المتحركة شرعية جديدة تتفق ومصالح الأمة فتنمو بذلك الحريات الديمقراطية بشكل واسع.
ولا يمكن لهذه السيطرة أن تستخدم آلة الدولة البيروقراطية البرجوازية التي أقيمت بكل تفاصيلها لاضطهاد الأكثرية. ولهذا تحطم الجماهير المتحركة النزعة البيروقراطية التي فرضت عليها من عل وتقيم مكانها إدارة من نوع جديد تشرف عليها بنفسها وتعمل تحت أنظار الشعب.
ليست دكتاتورية البروليتاريا وسيلة فقط للسيطرة بل هي أيضاً وسيلة للتحالف بين البروليتاريا والفلاحين العمال والطبقات الوسطى. فهي ضرورية لتوجيه حلفائها في الطريق الذي يتفق والمصلحة القومية. ولما كانت دكتاتورية البروليتاريا هي سيطرة الأكثرية على الأقلية، فهي الديمقراطية بالنسبة للعمال والجماهير، لأنها نهاية النير السياسي الذي تفرضه البرجوازية على الجماهير، ولهذا فأن دكتاتورية البروليتاريا هي تحرير سياسي يقوم على الضغط السياسي للقضاء على الأعيب البرجوازية. وهكذا يتمتع الشعب، لأول مرة، بديمقراطية هي ديمقراطيته، وتقبل ملايين الناس لأول مرة على حياة إنسانية، فيرفع الفلاحون، في الصين، مثلا، رؤوسهم، في أقصى الد ساكر، بعد أن كانوا يعاملون كالبهائم، ويشعرون بأنهم مواطنون، وأنهم مسؤولون عن الممتلكات العامة. ذلك هو فضل دكتاتورية البروليتاريا العميم. فهي تهب حياة واعية نشيطة لهذه الجماهير الشعبية التي سدت في وجهها جميع السبل، ولما كانت دكتاتورية البروليتاريا، لأول مرة، ديمقراطية من أجل الشعب، فهي بذلك أسمى صورة للديمقراطية، هي تمثل مرحلة انتقال، إنتقال من الديمقراطية البرجوازية، ودكتاتورية رأس المال، إلى ديمقراطية بروليتارية أو شعبية، من ديمقراطية المضطهدين إلى ديمقراطية الطبقات المضطهدة. وأصبحت الدولة، التي كانت حتى ذلك الحين القوة المخصصة لاضطهاد الأكثرية، التعبير عن قوة أغلبية الشعب العامة، وقوة العمال والفلاحين حلفائهم ضد المضطهدين.
إذ لا يمكن أن تتوفر "الحريات" الحقة للمستغلين ومشاركة البروليتاريين والفلاحين في إدارة البلاد مشاركة حقيقية، إلا في ظل دكتاتورية البروليتاريا.
ولما كانت الدولة، التي تقوم بوظيفة دكتاتورية البروليتاريا، لا تعتمد فقط على قوة خاصة للضغط، بل على قوة غالبية الشعب العامة، فقد تغير بهذا طابعها. فهي دولة من نوع جديد. ولهذا فأن تقوية هذه الدولة المستمر، الذي لا مفر منه طالما أن البرجوازية لم تقهر ولم يقض عليها كطبقة في العالم اجمع، يعني، قبل كل شيء، تقوية نشاط الشعب السياسي الواعي. إما "تقوية" الدول البرجوازية، فهي، على العكس، لا تعني سوى زيادة قوتها البوليسية، ومحاولة كتم نشاط الشعب السياسي. وهكذا نرى أن تقوية دكتاتورية البروليتاريا هي نقيض "تقوية" دول الطبقات المستغلة، ولهذا كانت تقوية دكتاتورية البروليتاريا هي، في نفس الوقت، اضمحلال حقيقي لعالم "الدولة" التقليدية، لأن مسلك الشرطة الشعبية، وعلاقاتها مع جماهير الشعب ، لا تقارن بمسلك وعلاقات شرطة الدولة البرجوازية إذا كان لنا أن نتحدث، في هذه الحالة الأخيرة، عن علاقات مع جماهير الشعب! كما لا يشبه مسلك جيش شعبي مسلك جيش استعماري: ولقد لاحظ ذلك العالم بأجمعه عند تحرير الصين. ولا توضع سياسة الدولة الجديدة في أوساط "المختصين"الضيقة المغلقة. بل هي تتكون وسط جماهير الشعب وطليعتها:فيظل النائب الكولخوزي عاملا في كولخوزه.
وتتنوع الصور التاريخية التي تتخذها ممارسة دكتاتورية البروليتاريا. وكانت أول صورة هي صورة كومون باريس (La Commune de paris). والديمقراطية الشعبية صورة أخرى لها.وأما الصورة التقليدية فهي سلطة السوفيات.
ظهرت سوفيات "أو مجالس" نواب العمال " في روسيا، أثناء ثورة 1905. ولقد أوجدت جماهير الشعب المتحركة هذه الصورة للسلطة السياسية، جعلت ثورة تشرين الأول سنة 1917 "كل السلطة للسوفيات". والسوفيات هي أوسع منظمة شعبية للبروليتاريا وجميع المستغلين" وهي المنظمة المباشرة لجماهير الشعب فهي تقرر، وتنفذ، وتراقب بنفسها تنفيذ قراراتها. وهي تملك، على عكس المجالس النيابية البرجوازية "القومية والمحلية" كل السلطة التنفيذية والتشريعية، فهي منظمات سلطة الدولة، المحلية والمركزية، ولما كانت أكثر أنواع الديمقراطية تقدما في العالم فأنه يمكن للناخبين تنحية أعضائها في كل لحظة.
ولقد كرس دستور ستالين، وهو انعكاس للأساس الاقتصادي الجديد، هذا الوضع، بقوله:
تنتمي كل السلطة في الاتحاد السوفياتي إلى عمال المدينة أو القرية، وذلك في شخص سوفيات نواب العمال "المادة 3".
ولهذا فليس في الاتحاد السوفياتي شخص يسمح له بالخروج على القانون. وإن كان هذا لا يسر المفكرين البرجوازيين الذين يجعلون من الاشتراكية مثيلا للفاشية. ذلك لأن الدكتاتورية الفاشية، التي أقامتها أكثر عناصر رأس المال الكبير رجعية، لا سلاح بين يديها سوى سلاح الاضطهاد والإرهاب، فهي تدرس بأرجلها الشرعية البرجوازية نفسها.بينما تستمد الديمقراطية الاشتراكية، على العكس، قوتها من تأييد العمال، فهي لا توجد إذن إلا إذا ضمنت لهم ممارسة حقوقهم الخاصة والعامة. وعلى الحكومة السوفياتية، كأي مواطن، أن تحترم الدستور وأن تلتزم بنصوص القوانين. وهي لا يمكنها أن تتصرف بصورة أخرى دون أن تفقد كل سلطتها.
وهكذا يكون مثل روسو الأعلى – الديمقراطية كتعبير عن الإرادة العامة – قد تحقق تماما بواسطة دكتاتورية البروليتاريا، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بإلغاء تعارض الطبقات الاقتصادي.
مهمة الدولة السوفياتية، التي تعتمد على نشاط جماهير الشعب الواعي، ضخمة في بناء الاشتراكية. والسلطة الجديدة شرط ذاتي ضروري لظهور علاقات إنتاج جديدة، وذلك لأن سلطة البروليتاريا لها ميزة خاصة بها، وهي أنها تسبق، تاريخيا أساسها الاقتصادي، ولهذا كان عليها أن توجد أساسها الخاص بها. بينما كان على السلطة البرجوازية، أن توفق بين سيطرة البرجوازية السياسية والاقتصادية البرجوازية الموجود سابقاً. يضاف إلى ذلك أنه كان على الثورات السابقة على الثورة البروليتاريا أن تحل صورة من الاستغلال "البرجوازية" محل صورة أخرى من الاستغلال "الإقطاعي" بينما تقضي الثورة البروليتارية على كل استغلال، وهذا يزيد في أهمية الدولة.حتى إذا ما وجد الأساس الاقتصادي الاشتراكي، كانت الدولة السوفياتية انعكاسا لأساسها الاقتصادي، وأمكن التعبير عن حقيقة الوقائع في صورة جديدة ألا وهي الدستور الستاليني لعام 1936.
ويمتاز الدستور السوفياتي بميزة خاصة به وهي أنه بدلا من إعلان حقوق مجردة مرجئاً إلى ما بعد إيجاد الظروف المادية التي تسمح بممارسة هذه الحقوق – كما تفعل الدساتير البرجوازية – فقد كرس وجود حقوق واقعية وجدت أسسها المادية، مثال:
للمواطنين في الاتحاد السوفياتي حق العمل، أي حق الفوز بعمل مضمون مأجور حسب كميته ونوعه.
وحق العمل مضمون بتنظيم الاقتصاد القومي الاشتراكي،ونمو قوى الإنتاج المستمر في المجتمع السوفياتي، وإزالة إمكانية الأزمات الاقتصادية والقضاء على البطالة "المادة 118"
فهل يعني هذا أن الدولة السوفياتية تكتفي بعكس أساسها الاقتصادي بصورة سلبي؟ كلا! فهي لا تكف، في أي وقت، عن أن تكون قوة فعالة تسرع في تنمية الاقتصاد الاشتراكي وتخطيطه بصورة مناسبة، معتمدة في ذلك على معرفتها بقوانين الاقتصاد الموضوعية.
هناك شيئان ضروريان للدولة السوفياتية للقيام بمهمتها وهما:
1 – معرفة قوانين الطبيعة والمجتمع، أي العلم.
2 – تأييد الجماهير الواعية بعد أن تمثلت الأفكار الجديدة. فيزداد من جراء ذلك الدور الضخم الذي تقوم به الاشتراكية العلمية أثناء قيام سلطة البروليتاريا السياسية. ولهذا فأن النضال الواعي ضد الأفكار البرجوازية، ونشر الماركسية اللينينية بين جماهير الشعب، وإيجاد ثقافة جديدة، قومية في صورتها، اشتراكية في محتواها، كل ذلك شروط ذاتية ضرورية لبناء الاشتراكية.
كلما تقدم بناء الاشتراكية كلما أزداد الدور التربوي والثقافي الذي تقوم به الدولة السوفياتية، وهي دولة من نوع جديد. ولا يعني ازدياد دور الدولة بازدياد "الضغط الاستبدادي" الذي يتحدث عنه أعداء الماركسية. هذا الدور الجديد للدولة لا تجهله تقريبا الدول البرجوازية أو الرأسمالية، التي لا يستطيع رفع مستوى الجماهير الثقافي والفكري بدون المخاطرة بمصير الطبقة المسيطرة! ولهذا تهتم الدولة الرأسمالية بصورة رئيسية، بمتطلبات الاضطهاد. بينما تصبح دولة العمال، على العكس، مع معرفتها كيفية الدفاع عن وجودها، المركز الموجه، شيئاً فشيئاً، لعمل الجماهير الخلاق، سواء في الميدان الاقتصادي أم الميدان الثقافي. فهي منظم الجماهير ومربيها، وليست عدواً لها ولهذا يعني ازدياد الدولة السوفياتية، هنا أيضاً اضمحلال صفات الدولة التقليدية"!
ولهذا تهتم الدولة نفسها بالثورة الثقافية، وإذاعة الأفكار والعلم التقدمي بين الشعب، وانتصار الأفكار الاشتراكية على الأفكار البرجوازية، وذلك حسب تعاليم المادية الجدلية حول مهمة الأفكار في الحياة الاجتماعية. بينما أوجد تحول علاقات الإنتاج الظروف لظهور وعي جديد في الجماهير، وذلك بإزالة الأسس الموضوعية للأفكار البرجوازية: وهي ملكية وسائل الإنتاج الخاصة. ولهذا لم يوجد الوعي الجديد الاشتراكي من العدم. ومهمة الدولة هي التوفيق, بقدر الامكان, بين وعي الجماهير وبين الظروف الجديدة الموضوعية، الاشتراكية، وأن تسرع في العملية التي تساعد على ظهور صورة جديدة من الوعي تتفق والمحتوى الجديد. وكذلك يجب دفع الوعي الاشتراكي، إلى الأمام، في نفس الوقت، وذلك بفضل معرفة قوانين المجتمع. حتى تستطيع معرفة سير النمو والتعجيل في النمو الاقتصادي وذلك بتأثيرها بدورها في الشروط الموضوعية. وهكذا نرى أن الشروط الموضوعية والشروط الذاتية، في المجتمع الاشتراكية، لا تتناقض بل تؤثر تأثيرا متبادلا وتدعم كل منها الأخرى. ولهذا يمكن للمجتمع الاشتراكي أن ينمو ماديا وثقافيا بشكل لا يعرفه المجتمع البرجوازي. كما كان التنافس الاشتراكي مثالا على أهمية وعي الجماهير الجديد بالنسبة لنمو الإنتاج الاشتراكي. وعلى الأدب والفن أن يقوم بدور مهم في هذا التحويل للوعي: فيصبح الفنانون، حسب قول ستالين "مهندسي النفوس".
يتضح أخيرا أن جميع المهمات الملقاة على عاتق الدولة الاشتراكية لم يمكن تحقيقها – منذ الفوز بديكتاتورية البروليتارياحتى الثورة الثقافية – لو ـ أن الطبقة العاملة وحلفاءها لم يكن على رأسها جماعة واعية منظمه، أي حزب سياسي، مرتبط بالجماهير، ومسلح بالنظرية الماركسية اللينينية عن المجتمعات وهو الحزب الشيوعي. يزداد دور هذه الطليعة، التي تضيء طريق المجتمع الاشتراكي وتوحد النظرية مع التطبيق، كلما ظهرت متطلبات جديدة، مادية أو ثقافية، وكلما أزداد دور الدولة السوفياتية.

6 – الخلاصة
القانون الاقتصادي السياسي للاشتراكية هو قانون موضوعي، وذلك لأن سد رغبات الجماهير المادية والثقافية إلى أقصى حد ليس ثمرة "الاختيار الحر" الحكومة، ولا يمكن أن يكون كذلك، بل هو النتيجة الضرورية لاشتراكية وسائل الإنتاج. ولا تستطيع سوى سلطة الطبقة العاملة أن تعطي للجماهير ما تعدهم به لأنها جعلت وسائل الإنتاج اشتراكية، ولأنها تعتمد على القانون الموضوعي الذي يميز علاقات الإنتاج الجديدة. ومما يميز النظرية الماركسية للاشتراكية عن النظرات الخيالية "الأوتوبية" (utopiques ) أنها تجعل مطلب الجماهير الذاتي منذ آلاف السنين يتفق ومتطلبات القانون الاقتصادي الأساسي لنوع من الإنتاج قد حدد بصورة علمية. وهذا ما يفسر نجاح بناء الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي بقيادة الحزب الشيوعي، وليس بسبب "اختيار حر" أو حظا سعيد بل لأنه كان ملماً بعلم المجتمعات".
ويرد أعداء الاشتراكية , وهي البرجوازية الرأسمالية بأن نجاح بناء الاشتراكية لا يمكن تحقيقه ألا باستعباد الفرد. فيزعمون أن الاشتراكية تقضي على الشخصية الانسانية كما تقضي على الطاقة الشخصية والمبادرة الشخصية، وكذلك تقضي على طاقات الأفراد ومواهبهم وحقوقهم وحرياتهم، وأنها تسوي بين الحاجات والأذواق. والحقيقة هي أن الرأسمالية باستغلالها وتشويهها للعمال جسديا وفكريا تقضي على عالم من المصالح الروحية والمطامح والطاقات الإنسانية وتجعل من العامل تبعاً للإلة، وتشوهه في فرديته الجسدية والأخلاقية وتستعبده في العمل، تحت ظل نظام يقوم على الاضطهاد والمجاعة والبطالة، يبعث القلق في حياته ويجعل من الناس آلات متحركة (Robots). يقف الإنسان وحيدا أعزل أمام الرأسمالية، وليس هناك من وسيلة لتحريره سوى إتحاد المستغلين المضطهدين، والنضال الثوري. ولقد قال ستالين عام 1906: "الشعب هو حجر الزاوية في الماركسية" لأنه بدون تحرير جماهير الشعب لا يمكن تحرير الفرد: فهو الشرط الأساسي لتحرير الفرد.
ويؤكد أنصار الرأسمالية أن كل إنسان، في ظل الرأسمالية، ذي عزيمة وجرأة، يستطيع ولو كان معدما، أن "يخط طريقة" ويحتل مكانة تناسب كفاءاته. ويذكرون بأمثلة موفقة" عن ماسحي أحذية أصبحوا من أصحاب الملايين. ولكنهم لا يكشفون عن أن "نجاح" البعض أنما يدفع ثمنه آلاف العمال المستغلين. وتدل ضرورة "خط الطريق" في النظام الرأسمالي إن وضع الناس في المجتمع البرجوازي يحدده مدى الملكية الخاصة. ولا يحتل مراكز الإدارة إلا ممثلو الطبقات "العليا" وهكذا يتحدد وضع الناس حسب ثروتهم أو طبقتهم أو ملتهم أو أصلهم القومي، أو جنسهم، أو طائفتهم، أو محالفاتهم أو من يلوذون بهم، الخ.ذلك هو ((الوضع)) الذي يعتبره((مفكرو)) الرأسماليين (( أخلاقيوها)) خالدا" و "منطقيا" معقولا يمكن تصوره .. فيمتدحون "الطاقات الخلاقة" عند آل كروب، وستين، ومورجان، وروتشيلد، وروكفلر، وفارد، يبوساك للتدليل على أن لهم الحق في احتلال مركز رئيسي، غير أن كل واحد منا يعلم أن "الطاقات الخلاقة" عند الرأسماليين إنما ترجع لبراعتهم في سلب فائض القيمة من العمال المأجورين، وإن مقدار رأسمالهم فقط هو الذي يحدد وضعهم المسيطر. وهذا ما يحدد "قيمة" الإنسان في النظام الرأسمالي.
إما في الاشتراكية فأن ارتفاع قيمة الفرد، ونمو طاقاته ومواهبه الخلاقة يشترط ارتفاع طاقات جماهير الشعب الخلاقة، نفسها. ولقد برهن لنا قانون الاشتراكية الاقتصادي الأساسي على مهمة التقنية التقدمية، كما أشارت دراسة شروط الاشتراكية الذاتية إلى أهمية الوعي الاشتراكي الذي هو قوة هائلة نشيطة للمجتمع الجديد.
ويجب أن ندرك من هذه الدراسة المزدوجة أن الاشتراكية تنمي شخصية العامل في جميع جوانبها: فتجعل منه عاملا تقنيا (Technicien) مثقفا، كما تجعل منه إنساناً اجتماعيا يملك معرفة واسعة عميقة لمشاكل المجتمع، فهو بناء واع لحياة جديدة. وبدلا من أن يبقى نمو الفردية الإنسانية المتعدد، ونمو الطاقات الشخصية، ظاهرة وحيدة، كما هو الحال في الرأسمالية، يصبح ذلك في الاشتراكية ظاهرة شعبية منتشرة فالتنافس الاشتراكي دليل حي على الإمكانات التي تتاح للمبادرة الشخصية والذكاء الخلاق عند الجميع. ولهذا يعد في الاتحاد السوفياتي بالملايين، المجددون، والمخترعون والعمال المختصون، والمجربون في الزراعة، ومنظمو الإنتاج والاقتصاد، والمفكرون الذين انحدروا من الشعب، والرجال والنساء الذين يمارسون نشاطا اجتماعيا وسياسيا، والعمال الذين يمكنهم الاشتراك في نقاش علمي، أو مسابقة أدبية أو فنية، والعديد من أبطال العمل الاشتراكي، والفائزون بجائزة مالية، ولا يحتل الإنسان حقا مكانة تليق بمواهبه، بدون اعتبار للأصل أو الجنس أو الثروة، إلا في المجتمع الاشتراكي.
الاشتراكية هي حقا حكم الجماهير الشعبية،وملايين الناس الذين كانوا ضحايا الاضطهاد وحرموا، بواسطة الاستغلال، من كل نمو إنساني. هذه الجماهير الشعبية هي التي تصنع التاريخ، لأنها الوحيدة التي تستطيع القضاء على سلطة رأس المال. حتى إذا ما تحررت من نير الاستغلال أقامت لنفسها حياة جديدة، وهي، بازالتها لاستغلال الإنسان لأخيه الإنسان، قد وفقت بين الفرد والمجتمع ووضعت في يد كل إنسان الوسائل كي يتفتح تماما.
الدرس الواحد والعشرون
من الاشتراكية إلى الشيوعية


رأينا أن هدف الاقتصاد الاشتراكي، حسب قانون الاشتراكية الأساسي، هو سد حاجات المجتمع المادية والثقافية إلى أقصى حد. ولا يمكن أن يكون الأمر غير ذلك طالما أن الملكية الخاصة قد زالت.
ولا يعني هذا، مع ذلك، أنه يمكن لكل عضو في المجتمع أن ينال ما يحتاجه بصورة غير محدودة. إذ أن كل فرد، في المجتمع الاشتراكي، ينال حسب العمل الذي يؤديه، ولهذا يجب التمييز بين مرحلتين في نمو المجتمع القائم على الملكية الاجتماعية، مرحلة أولى وتسمى "الاشتراكية" ومرحلة عليا تسمى "الشيوعية". وقد أقام ماركس هذا التمييز بصورة علمية.
1 – مرحلة المجتمع الشيوعي الأولى
ليست الاشتراكية، التي درسناها – إذا نظرنا إليها بالنسبة للمجتمع الشيوعي الذي أتم نموه، سوى مرحلة أولى، وهي تقوم على المبدأ التالي: "على كل فرد أن يؤدي حسب طاقاته، وأن ينال حسب عمله". غير أن مبدأ الشيوعية هو "على كل فرد أن يؤدي حسب طاقاته، وأن ينال حسب حاجاته". ولا شك أن العثرة الرئيسية التي تحول دون أن ينال كل فرد حسب حاجاته، في العالم الحديث، هي الاستغلال الرأسمالي الذي يبذر ثروات العمل الإنساني، والنتيجة الأولى لإزالة استغلال الإنسان لأخيه الإنسان هي أن العامل يستطيع أن ينال حسب عمله الذي يؤديه دون أن يسلب جزءا من الثروة التي أنتجها، أما أن ينال كل فرد حسب أرادته وحاجاته فيجب أن يصل المجتمع إلى إنتاج كمية كافية من وسائل الاستهلاك. تحقيق هدف الشيوعية، إذن، هو السبب في الأجراءات الأولى التي تتخذها السلطة الجديدة،وهي تسعى لزيادة الإنتاج. غير أن حاجات الفرد اللامحدودة ليست هي التي يمكنها أن تمدنا، في هذه المرحلة، بمبدأ التوزيع. وذلك لأن كل زيادة للإنتاج، إذا أريد لها أن تعيش وتستمر، يجب أن تبدأ بزيادة إنتاج وسائل الإنتاج، إذ يجب، قبل سد حاجات الاستهلاك الفردي، أن نسد حاجات المجتمع المادية إلى وسائل الإنتاج، ولقد رأينا "راجع الدرس العشرين، المسألة 4" أن المجتمع الرأسمالي، في الغالب، يترك للاشتراكية وضعا سيئا جدا لا يتفق فيه إنتاج وسائل الإنتاج مع وسائل الاستهلاك. فلقد نمت الرأسمالية في تشيكوسلوفاكيا مثلا، صناعة خفيفة وفرت للبرجوازية في هذه البلادالتي سميت بالمصنعة" مستوى عالياً للمعيشة.غير أن هذه الصناعة الخفيفة كانت تعتمد في مجملها على الصناعة الثقيلة في البلاد الرأسمالية الكبرى.
يتفق قول الاشتراكية إذن: "على كل فرد أن يؤدي حسب طاقاته وأن ينال حسب عمله" مع الواقع، وهو أنه، في المرحلة الأولى، للمجتمع الشيوعي يجب إيجاد مقياس للاستهلاك.
فأين نجد هذا المقياس؟ في العمل طبعاً. وذلك لأن كمية العمل الذي يؤديه كل فرد ونوعه هما اللذان يحددان القدر الذي يناله من الإنتاج الاجتماعي، وهذه هي الطريقة الوحيدة العادلة لتقدير حقه في الاستهلاك. يضاف إلى ذاك أن العمل هو الشرط الأساسي لازدهار قوى الإنتاج، أي ظهور الشيوعية فيما بعد. وهكذا يهيىء الأجر الذي يناله الفرد على عمله لمرحلة يصبح فيها هذا الأجر غير ضروري لتقدير استهلاكه الفردي!
ومع ذلك فأن مبدأ الاشتراكية " على كل فرد إن يؤدي حسب طاقاته وأن ينال حسب عمله" يكون خطوة كبرى إلى الأمام بالنسبة إلى الرأسمالية المستغلة، حيث لا ينال العامل قط حسب عمله.
يجب على الأفراد، إذن، في المجتمع الاشتراكي، أن يحصلوا بواسطة الشراء على السلع الضرورية لمعيشتهم وهذا الشراء هو الصورة الوحيدة الممكنة لتوزيع سلع الاستهلاك. وبالاضافة إلى ذلك فأن حاجات الجماهير المادية والثقافية تسد إلى الحد الأقصى بواسطة الخدمات الاجتماعية – كمجانية العناية الطبية مثلا – والمؤسسات الثقافية التي لا تعرفها الرأسمالية.
ويجب كذلك أن نعرف لأنه لا يمكن ازدياد الإنتاج، الذي يسمح بتوزيع سلع الاستهلاك حسب حاجات كل فرد، بدون نمو التقنية الهائل. ويتطلب مثل هذا النمو التقني أن يبلغ تخصص العمال وثقافتهم درجة أسمى من الدرجة التي بلغوها في الرأسمالية، التي تحرم الجماهير من الثقافة والعلم. غير أنه طالما أن العمل لم يصبح بالنسبة للفرد حاجة طبيعية كحاجته إلى التنفس والمشي، فالوسيلة لتشجيع التقدم وتخصص العمال هي أن ينال كل فرد حسب نوع العمل الذي يؤديه.
ولهذا تصبح وعود الرأسمالية الخلابة، التي تريد أن تقنع العمال بأنها تستطيع رفع مستوى معيشتهم إذا حسنوا نوعية عملهم، حقيقة، في الاشتراكية، بسبب زوال الاستغلال.
ولهذا يجب، كي نفهم المرحلة الأولى للمجتمع الشيوعي، أن لا ننسى واجب المجتمع الشيوعي في تصفية تركة الرأسمالية الثقيلة في جميع المبادىء.
ولهذا يقول ماركس وانجلز: "نحن هنا أمام مجتمع شيوعي لم ينم حسب الأسس الخاص به، بل على العكس، كما ولد في المجتمع الرأسمالي، وهو مجتمع يحمل لذلك في الميادين الاقتصادية والأخلاقية والفكرية سمات المجتمع القديم الذي خرج من صلبه.
ونحن حين نقول بأن المجتمع الاشتراكي يعطي لكل فرد حسب عمله، لا نعني بذلك أن كل فرد يأخذ فرديا ومباشرة نتيجة عمله كاملة – لأن ذلك وهم البرجوازية الصغيرة، وذلك لأننا إذا نظرنا إلى مجموع إنتاج العمل الاجتماعي يتضح لنا أنه يجب أن نحتفظ بقسم منه من أجل تنمية الإنتاج وبقسم أخر لتجديد الآلات البالية، الخ... وإذا نظرنا لوسائل الاستهلاك رأينا أنه يجب أن نحتفظ بقسم منها لتغطية مصاريف الإدارة، وبقسم آخر من أجل المدارس والمستوصفات وملاجيء الكهول، الخ...
يساعدنا كل ما سبق على فهم أهمية المادة 12 من الدستور السوفياتي.
العمل بالنسبة لكل مواطن كفء للعمل فرض ومسألة شرف حسب المبدأ القائل: "كل من لا يعمل لا يأكل".
ولهذا كانت المساواة، في المجتمع الاشتراكي، هي في أن تعطي كل فرد حسب عمله، أي بصورة غير متساوية بين الأفراد، بعد أن يؤمن لكل فرد أسباب معيشته "بفضل إزالة الاستغلال". ولهذا لا يجب مساواة الاشتراكية بنزعة خيالية للمساواة بين الناس.
كتب موريس توريز يقول: "أما فيما يتعلق بنزعة المساواة التي تقوم على قياس الناس بنفس المقياس فهي استحالة اجتماعية لأن هناك تفاوتا طبيعيا بين الناس، سببه كفاءاتهم البيولوجية والنفسية. أما التفاوت، الذي يسعى الشيوعيون لإزالته، فهو التفاوت الذي ينشأ عن وجود الطبقات، إذ أن الأفراد في المجتمع الرأسمالي، لا يتمتعون بفرصة متساوية لنمو شخصياتهم، فالمليونير والعامل الذي يقاسي البطالة متساويان أمام القانون وكلاهما حر. غير أن هذه الحرية تؤدي بأحدهما إلى فنادق الريفيرا الفخمة بينما تؤدي بالآخر إلى المبيت تحت الجسور. لن يكون رجل المستقبل "إنسانا آليا" (Robot) بل شخصية حرة قوية، تتفتح طاقاتها وقواها تفتحا واسعا.
يقوم "التفاوت" في المجتمع الاشتراكي على أن الأفراد الذين تتشابه حاجاتهم، وتتفاوت كفاءاتهم، ينال كل منهم حسب عمله، ما يؤديه للمجتمع، أي بصورة غير متساوية، فالعامل الستاخانوفي (Stakthanoviste) ينال أكثر من غير الستاخانوفي، وليس ذلك تمييزا له عن غيره "لأنه لا يوجد تمييز في مجتمع خال من الطبقة المستغلة" بل لأنه عامل ممتاز مجدد، يؤدي أكثر من غيره للمجتمع أي لكل فرد من أعضاء هذا المجتمع.
وإما التفاوت فهو، على العكس، يقوم في المجتمع الشيوعي على أن الأفراد الذين يختلفون في كفاءاتهم ويؤدون بسبب ذلك، للمجتمع عملا يتفاوت "في الكمية والنوعية" ينالون بصورة متساوية، كل حسب حاجاته القصوى. لماذا؟ لأن ارتفاع الإنتاج بصورة كافية يسمح بذلك.
يوجد في المجتمع الاشتراكية، إذن، مراقبة شديدة لمقدار العمل ومقدار الاستهلاك. فالعمل واجب، وكل فرد ينال حسب العمل الذي يؤدي. ولهذا لم يعد هناك محظوظون ولا مستغلون، بل العمل يصبح هو سيد الجميع.
لا يزال، في المجتمع الاشتراكية، شيء من التفاوت في الممتلكات، غير أنه لا يوجد في المجتمع الاشتراكي قط بطالة ولا استغلال ولا اضطهاد للقوميات. وعلى كل فرد، في المجتمع الاشتراكي، أن يعمل، وأن كان لا ينال بعد على عمله، حسب حاجاته بل حسب كمية العمل الذي يؤدي ونوعه، ولهذا لا يزال يوجد أجر متفاوت ومختلف. ولن نستطيع القول بإتمام بناء المجتمع الشيوعي إلا متى نجحنا في إيجاد نظام ينال فيه الناس من المجتمع على عملهم حسب حاجاتهم، وليس حسب كمية عملهم ونوعه.

2 – مرحلة المجتمع الشيوعي العليا
حين يبلغ المجتمع الشيوعي مرحلته العليا، وتزول تبعية الأفراد الذليلة لتقسيم العمل، كما يزول التعارض بين العمل الفكري والعمل اليدوي، فلا يعود العمل وسيلة للحياة فقط، بل يصبح الحاجة الأولى الحياتية, وتزداد قوى الإنتاج مع نمو الأفراد وتفيض مصادر الثروة الجماعية، يمكن حينئذ تخطي حدود القانون البرجوازية الضيقة، ويستطيع المجتمع أن يعلن عاليا: "على كل فرد أن يؤدي حسب طاقاته وأن ينال حسب حاجاته.
"حجة" البرجوازية الرئيسية فيما يتعلق بما تدعيه من "استحالة تحقيق" الشيوعية أن المجتمع لن يستطيع أن يقدم لكل فرد "حسب حاجاته" أي مجاناً دون يحاول كل فرد، عندئذ، أن يعمل "أقل ما يمكن" وهكذا يأتني الفقر بسرعة! تعتقد البرجوازية أن الإنسان، وهو فريسة الخطيئة الأصلية"، كسول، بطبيعته، لا يعمل إلا إذا أجبر على العمل وحمل عليه، فيحاول الاستفادة إلى أقصى حد من عمل غيره. تعكس البرجوازية، بهذا الاعتقاد، نظرتها الخاصة "للعمل"! أما العقلية التي تكتفي "بحدود القانون البرجوازية الضيقة" وتحسب كما فعل شيلوك فتقول: "لا يجب أن أعمل نصف ساعة زيادة عما عمل غيري، ولا أنال أجراً أقل منه" فهي ليست سوى نتيجة لشروط الاستغلال الرأسمالي. ولهذا يمكن فهمها تماماً.
ذلك لأن شروط استغلال الإنسان لأخيه الإنسان أوجدت، منذ آلاف السنين، كراهية العمل الشديد المرهق. ولهذا جعل نمو قوى الإنتاج الضعيف، حتى وقت متأخر في عهد الرأسمالية، وعدم الاهتمام بتخفيف مهمة العمال بواسطة تقنية خاصة، كل ذلك جعل من العمل مهمة شاقة – كما كرس تقسيم العمل، الذي كان في البدء شرطاً لتقدم قوى الإنتاج, كل إنسان في عمل يزاوله مدى الحياة – ولا سيما في الصناعة الحديثة حيث أصبح كل إنسان أسير عمل جزئي بقوم به، يضاف إلى ذلك أن تقسيم العمل إلى فكرية ويدوي قد حرم العامل اليدوي من كل نشاط خلاق، وجرد العامل اليدوي من كل إمتاع. لهذه الأسباب جميعا أصبح العمل شاقا.
غير أن هذا الوضع ليس أبديا. فهو وليد ظروف مادية معينة ولهذا يزول بواسطة ظروف مادية أخرى. فقد كان هلفتيوس يعتقد أن النشاط المنتج المتعدل السليم ضروري، بصورة حياتية، للإنسان وسعادته إذ أن الشرور، في نظره، لا يمكن أن تأتي إلا عن الكسل والعمل المرهق. كما حيا فورييه "العمل المغري" الذي يتفق وميول العمال وكفاءاتهم ومواهبهم على أنه من نصيب المجتمع المقبل. ويعطينا النشاط العلمي والفني، في المجتمع المنقسم إلى طبقات، صورة عما يمكن أن يكون عليه عمل كل إنسان في المجتمع الشيوعي, فهو ليس شاقا بل متعة وتفتحا. كما أنه يجب أن نلاحظ أن المقارنة ناقصة لأن الفنانين والعلماء في المجتمع الرأسمالي ليسوا دائماً في منجى من العوز والفاقة، فإذا بهم يجدون جهدهم الخلاق محدوداً بنظام الاستغلال.
تمزج التقنية التقدمية، في المجتمع الشيوعي، العمل اليدوي بالعمل الفكري، كما أنها تسمح بتخفيض ساعات العمل، فتتيح للعامل الفراغ لتحسين تخصصه إذ تمكنه من أن لا يكون طيلة حياته أسير نفس المهمة، ولهذا فلن يشوه العمل شخصية الإنسان بل سوف يكون أسمى تعبير عن هذه الشخصية. إذ به ينمي كل منا مواهبه، ويصبح العمل، بعد تحرره من الاستغلال، الحاجة الأساسية لكل فرد.
وسوف يعطي كل منا حسب طاقاته. وتعجز العقلية البرجوازية" هنا أيضا، عن أن تدرك ذلك لأنها تعتقد أن الدافع لكل نشاط إنساني هي المصلحة الخاصة التي تعارض المصلحة العامة. غير أنه كلما تقدم المجتمع الشيوعي كلما توطد الوعي الاشتراكي الذي يعتقد أن المصلحة الشخصية والمصلحة العامة صنوان. ويصبح إدراك مصلحة المجتمع بأكملها عادة "طبيعية" كحساب شيلوك الدقيق في الرأسمالية وكما أن الملكية الخاصة قد تسربت الآن إلى العادات، فكذلك تتسرب الاشتراكية والشيوعية. وسوف يعتاد الناس على مراقبة قواعد الحياة الاجتماعية الأساسية ويعملون بإرادتهم وضميرهم حسب طاقاتهم ويأخذون بحرية من وسائل الاستهلاك حسب حاجاتهم.
ليست الثورة الاشتراكية، كما نرى، سوى بداية تحول طويل للمجتمع والناس.
ويهمنا أن نرى إلى أي حد تكذب الفكرة البرجوازية السائدة، التي تقول بان الاشتراكية شيء ميت جامد لا يتطور، مع أن الحقيقة هي أن الاشتراكية بداية حركة تقدم سريع حقيقية في مجتمع ميادين الحياة الاجتماعية والخاصة" حركة شعبية حقا تشترك فيها الأغلبية في أول الأمر ثم تعم جميع السكان.
غير أن الشيوعية تفترض زوال "برجوازي اليوم الصغير، القادر... على تبذير" "الثروات العامة والمطالبة بالمستحيل بدون طائل". ولا شك أن هذا البرجوازي الصغير يعتقد أنه خالد. فهو واثق بغباء أن أنانيته وضيق تفكيره ينحتان وجه الإنسان الخالد. فإذا ما قال الماركسيون أن الإنسان يتحول وسوف يتحول مع المجتمعات، هز كتفيه ساخراً وعدّ ذلك القول وهما وخيالا. والخيال في الحقيقة هو الاعتقاد أن أفكار البرجوازي الصغير سوف تستمر إلى ما لا نهاية بعد زوال الظروف الاجتماعية للمعيشة.
ومع ذلك فأن "نظام المصنع" الذي سوف تخضع له البروليتاريا الظافرة المجتمع بأكمله ليس المثل الأعلى ولا هو الغاية النهائية بل هو "خطوة ضرورية لتخليص المجتمع من أوزار الاستغلال الرأسمالي، وضمان السير إلى الأمام في المستقبل.
ولقد عدد ستالين، مستخلصا تعاليم كتب ماركس وانجلز ولينين، ميزات المجتمع الشيوعي كما يلي:
لن يكون هناك ملكية خاصة لآلات الإنتاج ووسائله بل ستكون ملكية اجتماعية جماعية.
لن يكون هناك طبقات ولا سلطة دولة، بل سيكون هناك عمال في الصناعة والزراعة يديرون أنفسهم بأنفسهم اقتصاديا كجمعية حرة للعمال.
ج) سيعتمد الاقتصاد القومي، المنظم حسب مخطط موضوع، على تقنية عليا سواء في ميدان الصناعة أو ميدان الزراعة.
د) لن يوجد فرق بين المدينة والقرية، بين الصناعة والزراعة.
هـ) ستوزع المنتوجات حسب مبدأ الشيوعيين الفرنسيين القدماء، وعلى فرد أن يؤدي حسب طاقاته وأن ينال حسب حاجاته".
و) سيستفيد العلم والفنون من ظروف مواتية كفاية لبلوغ تفتحهما الكامل.
ز) سيصبح الفرد حراً حقاً بعد أن تخلص من هم خبزه اليومي، ولن يحاول إرضاء "جباري هذا العالم".
ويضيف ستالين إلى ذلك قوله: "الخ" ولقد عرض ستالين، في آخر سنة من حياته، بصورة رائعة، الأفكار التي بسطها ماركس وانجلز ولينين، متعمدا على التجربة التاريخية لبناء الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي، كما حدد شروط الانتقال من الاشتراكية إلى الشيوعية.

3– قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج في الاشتراكية
بين الاشتراكية والشيوعية قرابة قوية: وهي ملكية وسائل الإنتاج الاجتماعية الجماعية. ويدلل قانون الاشتراكية الأساسي تماما على هذه الصلة المستمرة بين مرحلتي الشيوعية إذ أن هدف الإنتاج، في المرحلة الأولى، هو سد الحاجات إلى أقصى حد، ليس هناك سد "كجدار الصين" بين المرحلتين. ومع ذلك تتخذ الملكية الإجتماعية أشكالاً متعددة , فقد رأينا أنه يوجد، في الاشتراكية كما تحققت في الاتحاد السوفياتي صورتان للملكية الاجتماعية. ولا يمتاز المجتمع الشيوعي فقط بعدم وجود التعارض بين الطبقات، بل يمتاز أيضاً بزوال هذه الطبقات تماما. فليس هناك، إذن، سوى صورة واحد للملكية الاجتماعية، وهي ملكية الشعب الجماعية بأكمله، نرى أنه يوجد اختلاف بين مرحلتي الشيوعية، ليس في المبدأ الذي يشرف على توزيع المنتوجات فقط , بل في علاقات الإنتاج التي يجب عليها أن تساعد على نمو قوى الإنتاج بشكل يمكن من نشر الرخاء بين كل الناس. غير أنه، كي تتغير علاقات الإنتاج، يجب أن تكون قد تغيرت قوى الإنتاج أولا. وهذا ما نعلمه.
فهل تجري الأمور هكذا بالنسبة للاشتراكية؟ أجل! لأن قانون الترابط الضروري بين علاقات الإنتاج وطابع قوى الإنتاج هو قانون شامل يصح في جميع طرق الإنتاج بدون استثناء. ولهذا فأن الفعل المتبادل بين علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج هو الأساس الموضوعي للانتقال من الاشتراكية إلى الشيوعية. ولا يمكن لأي شيوعي أن يعتقد غير هذا فيقول بان المجتمع الاشتراكي ينتقل إلى الشيوعية في أية لحظة ! نعلم أن علاقات الإنتاج الجديدة ,وهي علاقات نعلم أن علاقات الإنتاج الجديدة، وهي علاقات اشتراكية، هي الواقع للأساسي لنمو قوى الإنتاج. غير أن علاقات الإنتاج، فيما يتعلق بالاتحاد السوفياتي، تمتاز بأنه يوجد. إلى جانب ملكية الدولة،. وهي ملكية الشعب بأكمله، الملكية الاشتراكية الكولخوزية: إذ يملك الكولخوز منشآته ومبانيه وإنتاجه.
الصورة الأولى للملكية تتفق تماما وطابع قوى الإنتاج، إذ تستطيع الدولة الاشتراكية، كما يشهد الواقع، أن تقوم بالأعمال الهائلة كري الصحاري وتحويل مناخ المناطق القاحلة! بينما الصورة الثانية للملكية لا تستطيع القيام بذلك تماما: فلنفرض أن كولخوزا يريد كهربة الأعمال الزراعية كالتراكتورات والآت جز صوف الأغنام وحلب الأبقار، الخ... لا شك أن المصلحة تقتضي بناء مركز كبير لتوزيع الكهرباء يمد أربعة أو خمسة كولخوزات بالكهرباء بدلا من بناء مركز صغير لا يمد سوى كولخوز واحد يكلفه مصاريف باهظة. فإذا لم يقم الكولخوز بالانضمام إلى الكولخوزات المجاورة، كان ذلك سبباً في عدم بناء المركز الكهربائي. يعني هذا أنه لا يمكن استخدام التقنية سواء كان في العلم الحياة الزراعية أو في الآلات الزراعية، لمصلحة الكولخوزات الصغيرة. وأن كانت هذه التقنية قد نمت وتطورت بفضل علاقات الإنتاج الاشتراكية. ولقد علمنا ماركس أن قوى الإنتاج لا تنمو إلا في حدود علاقات الإنتاج. وليست الشيوعية عبارة عن تنظيم لقوى الإنتاج. بل هي تتطلب منا دراسة علاقات الإنتاج، أي دراسة الاقتصاد. غير أن الملكية الاجتماعية الكولخوزية التي أتاحت نمواً هائلاً للزراعة الاشتراكية تبدو كأنها عائق في وجه نمو قوى الإنتاج في القرية فيما بعد. وازدهار الزراعة وتربية المواشي ضروريان لازدياد سلع الاستهلاك، أي لبناء الشيوعية. يجب إذن أن تتسع الملكية الاشتراكية الجماعة، وأن تجتمع لكولخوزات من جديد لتكون كولخوزات أكبر. وألا تعيق علاقات الإنتاج – أي الكولخوز – التي ساعدت قوى الإنتاج حتى الآن ازدهارها ويبدأ النزاع بينهما. وهكذا تبقى علاقات الإنتاج مطابقة لطابع قوى الإنتاج.
وليس هذا كل ما في الأمر. فطالما أستمر تنقل السلع – بواسطة الشراء والبيع – بين القرية والمدينة، أمكن للكولخوزات أن تبيع إنتاجها. وأن تتصرف كما تشاء بدخل هذا الإنتاج. ليس من السهل إذن التنبؤ بعملياتها. ولهذا يستحيل تعيين نسبة دقيقة بين إنتاج وسائل الإنتاج ووسائل الاستهلاك، في الوقت الذي يزداد فيه إنتاج وسائل الاستهلاك، ووضع مخطط كامل للإنتاج حسب إحصاء لمجموع الحاجات.غير أن هذا الإحصاء أساسي إذا أردنا الانتقال إلى الوفر في المنتوجات. ولهذا فأن تنقل السلع "البيع والشراء" ربما أصبح عائقا لنمو قوى الإنتاج حسب المخطط الموضوع لها. وعلى العكس فإن وجود نظام للتبادل بواسطة العقود بين الدولة والكولخوزات يساعد على هذا التخطيط ويعود بالفائدة على الكولخوزيين الذين يتلقون من الدولة المنتوجات التي هم بحاجة إليها بكميات أكبر وبأسعار ارخص.
وهكذا يكون الفعل المتبادل بين علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج، أي الجدلية الداخلية لطريقة الإنتاج، أساس التغييرات التي تحدث. غير أن قانون الترابط الضروري، في المجتمع الاشتراكي، يمكن أن يشق طريقه دون أن تعمل الطبقات الرجعية للوقوف في وجه خدمة لمصلحتها. فليس هناك تعارض بين الطبقات. مصلحة العمال والكولخوزيين الطبقية إذن هي في نمو قوى الإنتاج، وزيادة الإنتاج، والإنتقال إلى الشيوعية والرخاء. ولهذا يمكن ألا يؤدي الخلاف- النسبي – بين علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج إلى نزاع، كما يمكن للتناقضات أن لا تتطور إلى تعارضات شريطة أن تتبع سياسة عادلة قائمة على علم التناقضات.
ولا ينتهي الأمر، في النظام الاشتراكي، عادة إلى النزاع بين علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج، لأنه يمكن للمجتمع أن يوفق في الوقت المناسب، بين علاقات الإنتاج المتأخرة وبين طابع قوى الإنتاج. يمكن للمجتمع الاشتراكي أن يفعل ذلك لأنه لا يضم، في داخله، طبقات في طريق الزوال يمكن أن تقف في وجه ذلك، لا شك أنه سيوجد في المجتمع الاشتراكي أيضاً قوى متأخرة لا تدرك ضرورة تحويل علاقات الإنتاج، غير أنه من السهل القضاء عليها دون أن يؤدي الأمر إلى النزاع.
أما الدولة السوفياتية فهي بدلا من أن تكون عائقا لتحول علاقات الإنتاج كالدولة الرأسمالية، لأنها تعكس مصالح العمال والفلاحين المتحدين، فتقف في وجه تأثير قانون الترابط الضروري، فأنها تتخذ جميع الإجراءات المفيدة لتشق أمامه الطريق وتسرع في تحول علاقات الإنتاج. وهنا يظهر دورها الضخم في انتقال الاشتراكية إلى الشيوعية. "فالشيوعية، كما يقول لينين ,هي سلطة السوفيات مع كهربة جميع البلاد" إذا كانت الدولة ليست عائقا في وجه التغييرات الضرورية بل تشجعها فأن الانتقال من الاشتراكية إلى الشيوعية – على عكس الانتقال من الرأسمالية إلى الإشتراكية – لا يحدث بصورة مباغتة. ومع ذلك فهو تغيير نوعي في علاقات الإنتاج، لأننا سننتقل بواسطته من صورتي الملكية إلى صورة واحدة، ومن مجتمع ذي طبقتين إلى مجتمع لا يعرف الطبقات. غير أنه انتقال نوعي بالتدريج بتراكم الجديد وزوال القديم تدريجيا.
يجب أن نقول للرفاق الذين يتحمسون للانفجاريات أن القانون الذي يسيطر على الانتقال من النوعية القديمة إلى نوعية جديدة بواسطة الانفجارات لا يمكن تطبيقه دائما فقط على تاريخ نمو اللغة بل كذلك لا يمكن تطبيقه دائما على ظواهر أخرى اجتماعية تتعلق بالأساس... فهو ضروري لمجتمع منقسم إلى طبقات متناحرة. وليس هو ضروريا فقط لمجتمع لا يضم طبقات متناحرة.
لا يشترط الانتقال من الاشتراكية إلى الشيوعية قلب حكم طبقة على يد طبقة معارضة، والانتقال من الغد إلى القطب المعارض، بل يشترط زوال الفروق بين طبقتين بالتدريج، فليس هناك أي داع لأن يحدث ذلك بالانفجار. فحيث لا يوجد تعارض بين الطبقات لا يعود نضال الطبقات محرك التاريخ.
ليس هناك إذن محرك قط، ومن الخطأ الاعتقاد بذلك.
أن مصلحة العمال هي في الانتقال إلى الشيوعية بالاعتماد على قوانين الاقتصاد. هناك إذن فئة واعية من المجتمع تمثل قوى الطليعة الجديدة، بينما هناك عناصر رجعية، بسبب العادة أو أي عامل آخر، لا تدرك ضرورة تغيير علاقات الإنتاج فتعيق بذلك التغير وتمثيل القوى القديمة، محرك التاريخ هنا أيضاً هو إذن النضال: النضال بين قوى التقدم هذه والقوى المحافظة، بين الجديد والقديم.
ليس الانتقال من الاشتراكية إلى الشيوعية قصة غرامية. ولهذا كان النقد والنقد الذاتي القوتين الحقيقيتين اللتين تدفعان بالمجتمع السوفياتي: نقد من أجل الوصول إلى تغييرات حقيقية، موضوعية، مباشرة، ونقد ذاتي لأن النضال بين القديم والجديد يجري أيضاً داخل الفرد نفسه، ولأنه يجب استئصال آثار الرأسمالية الباقية في وعي الناس.
لا يجري النضال في مجتمعنا السوفياتي، حيث زالت الطبقات المتعارضة، بين القديم والجديد، ومن ثم، لا يجري التطور من الأسفل إلى الأعلى، بصورة نضال بين طبقات متعارضة أو بصورة هزات كما هو الحال ففي النظام الرأسمالي بل في صورة نقد ونقد ذاتي هو القوة الحقيقية المحركة لنمونا، وهو سلاح قوي بين يدي الحزب. وهذا ضرب جديد من الحركة ونموذج جديد للنمو وقانون جديد جدلي.
ترى أن الظروف الذاتية في الانتقال إلى الشيوعية ليست أقل أهمية منها في بناء الاشتراكية، وأن تأثير الأفكار والوعي الاشتراكي على الظروف المادية عظيم.
يجب على كتابنا ورسامينا أن يحاربوا الرذائل والأخطاء والظواهر السيئة التي توجد في المجتمع، وأن يظهروا في الشخصيات الايجابية رجال من مثال جديد في روعة كرامتهم الإنسانية فيعملوا بذلك على تكوين أخلاق وعادات في أساس مجتمعنا خالية من الجروح والشرور التي ولدتها الرأسمالية... نحن بحاجة إلى أمثال جوجول وشتشدرين سوفياتيين الذين يحرقون بنار هجومهم كل ما في الحياة من سلبي وفاسد وميت، وكل ما يعيق حركة التقدم إلى الأمام. Dip notlara dikkat
إذا ما قدرنا مهمة الدولة السوفياتية ومهمة الأفكار في الانتقال من الاشتراكية إلى الشيوعية، أدركنا أن هذا الانتقال لا يمكن أن يتم بنجاح بدون القيادة السياسية والفكرية التي ينهض بها حزب العمال السوفياتيين، مسلحاً بالنظرية العلمية، يجب على الشيوعيين أن يكونوا أكفاء لتحمل المسؤوليات المتزايدة: هذه الضرورة التاريخية تعكسها القرارات الجديدة التي اتخذها، في تشرين الأول سنة 1952 الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي.

4 – شروط الانتقال من الاشتراكية على الشيوعية
ندرك الآن الشروط الثلاثة الرئيسية الضرورية لتحقيق الانتقال إلى الشيوعية وتهيئة تحقيق الانتقال الحقيقي وليس الانتقال الوهمي، التي حددها ستالين بوضوح في آخر كتاب له. يتعلق الشرط الأول، حسب تعاليم الماركسية، الإنتاج، بيمنا يتعلق الشرط الثاني بالأساس الاقتصادي، ويتعلق الشرط الثالث بتحويل المجتمع الثقافي.
1 – يتعلق الشرط الأول الإنتاج. نعلم أن الماركسية، على عكس النظريات البرجوازية الصغيرة، "كالاقتصاد التوزيعي" أو "شيوعية الاستهلاك" أو "اقتصاد الرخاء"، لا تفصل قط بين الاستهلاك والإنتاج، فإذا أرادنا أن نستطيع سد "حاجات كل فرد"، فإنه لا يكفي أن نتحمس للهدف بل، يجب اتخاذ الوسائل للوصول إليه. لهذا كان من الضروري ليس ضمان "تنظيم عقلاني" أسطوري لقوى الإنتاج، بل ازدياد مستمر لكل الإنتاج الاجتماعي مع أفضلية نمو إنتاج وسائل الإنتاج.
نلاحظ أنه، فيما يتعلق بالإنتاج، من الخطأ تماماً أن نعتبر التنظيم والتخطيط غابة في ذاتها. لأن الهدف هو زيادة الإنتاج. وهذا الهدف متعلق نفسه بهدف أخر إلا وهو سد الحاجات إلى أقصى حد، أي حاجات الإنسان. وليس قانون النمو المنسجم في الاقتصاد، الذي يتيح التخطيط، هو القانون الأساسي في الإقتصاد الإشتراكي,بل أن قانون الإشتراكية الأساسي هو قانون سد الحاجات المادية والثقافية لجميع أفراد المجتمع إلى أقصى حد.
نعلم أن ازدياد الإنتاج يحدث في الاشتراكية على أساس تقنية عليا تتيح رفع إنتاجية العمل بصورة لا تجعل من الممكن فقط زيادة الإنتاج، في نفس مدة العمل، بل تخفيض هذه المدة. يضاف إلى ذلك أن هذه التقنية العليا العلمية تمحو بالتدريج الفروق بين العمل اليدوي والعمل الفكري. وهذه ميزة من ميزات الشيوعية، فالوسيلة هنا أيضاً غاية، ذلك لأن إنسان الشيوعية الذي يكون مع كل حاجاته، الهدف النهائي، هو نفسه موجود في الإنسان الذي يمهد للشيوعية وتنمى كل مواهبه. ولا نجد مثالا، في أي مكان آخر على الحقيقة الجدلية التي تقول بتماثل الهدف والسائل أفضل، كما أننا لا نرى في مكان أخر، كما نرى هنا، أن الإنسان هو بداية الشيوعيةو نهايتها وأنه "أثمن رأسمال لها".
يعني ازدياد الإنتاج، أيضاً، أنه بعد القضاء على تعارض الطبقات، فأن النضال الذي يحتل مكان الصدارة – وأن كان لا يجري إلا ضمن حدود علاقات الإنتاج، وضمن حدود النضال بين القديم والجديد – هو نضال ضد الطبيعة: إذ يجب تحويل الطبيعة للتمهيد للشيوعية، وتحويل سطح الأرض، والمناخ، وإصلاح الشبكة المائية، والغابات، وتجفيف المستنقعات، وإزالة الصحاري، وإحياء الأراضي، أيجاد أنواع جديدة من الحيوانات، والنبات، ومد وسائل الاتصال، وإدخال الآلة في الأعمال الشاقة، الخ...
وما مشاريع الشيوعية الضخمة ألا دليل على هذا النضال العظيم ضد الطبيعة.
غير أنه، كي نستطيع مواصلة تنمية قوى، يجب تحويل علاقات الإنتاج. ومن هنا كان:
2 – الشرط الثاني يتعلق بالأساس الاقتصادي، ونظام الملكية. لهذا من المهم، بعد كل ما رأيناه، أن نرفع بالملكية الكولخوزية، على مستوى الملكية القومية،و ذلك على مراحل تدريجية، مع توفير الربح للكولخوز أي لجميع المجتمع، وأن نستعيض عن تداول السلع بنظام لتبادل المنتوجات، على مراحل تدريجية أيضاً حتى تستطيع السلطة المركزية، أو أي مركز اجتماعي اقتصادي أخر، التصرف بجميع منتوجات الإنتاج الاجتماعي لمصلحة المجتمع.
يتحقق، بواسطة هذه الوسائل، على أكمل وجه، وفي كل مرحلة من مراحل النمو الاجتماعي، الترابط التام بين علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج، ولهذا انخفض عدد الكولخوزات بين أول تموز 1950 وتشيرين الأول 1952 من 240000 إلى 98000 يمهد إذن تجمع الملكية الكولخوزية بواسطة دمج الكولخوزات – أي بدون سحب ملكيتها – لزوال الفرق الأساسي بين الصناعة والزراعة – وهو فرق يتعلق بطريقة الملكية الاجتماعية – ويبشر بميلاد المجتمع الخالي من الطبقات، حيث لن يسيطر بعد الآن سوى الملكية الإشتراكية للشعب بأكمله,كما أن دائرة تداول السلع – بعد أن ضاقت بالتدريج - قد يحل محلها نظام لتبادل المنتوجات. غير أنه يجب كي نصل إلى هذه المرحلة انتصار وعي جديد على الوعي القديم. ومن هنا كان.
3 – الشرط الثالث يتعلق بالثقافة. لأننا نعلم أن الشيوعية لا يمكن أن توجد إلا أصبح العمل حاجه حياتية وأصبحت القواعد الأساسية لحياة المجتمع عادات. ولهذا وجب الوصول إلى ازدهار ثقافي للمجتمع، يضمن لجميع أعضائه تنمية مواهبهم الجسدية والفكرية، في جميع الميادين، حتى يستطيع أعضاء المجتمع تلقي قدر كاف من ثقافة ليعملوا بنشاط على نمو المجتمع، ويستطيعوا اختيار مهنة لهم بحرية فلا يضطروا، بسبب تقسيم العمل، إلى ممارسة مهنة واحد طيلة حياتهم.
يتفق تحويل كل مواطن إلى عامل نشيط في النمو الاجتماعي تماماً مع النظرة السامية التي تنظرها الماركسية إلى تأثير الأفكار على حياة المجتمع المادية، كما يتفق مع نظرية الماركسية السامية أيضاً إلى تأثير الناس في التاريخ، وإلى حرية الإنسان كمبدع. يتضح أنه – إذا لم يصبح الإنسان عاملا نشيطا، واعيا للنمو الاجتماعي،و إذا لم يكن حرا في اختيار عمله – فأن الملكية الاجتماعية لن تصبح قط عادة ولن يصبح العمل حاجة.
ماذا يجب كي نصل إلى هذه النتيجة؟ يجب "تغييرات جدية في حالة العمل" (ستالين).
تخفيض ساعات العمل اليومي إلى 6 ساعات على الأقل. ثم إلى 5 ساعات. مما يسمح لكل فرد أن يكون لدية متسع من الوقت لتلقي ثقافة شاملة، غير أنه يجب من أجل ذلك:
جعل الثقافة البوليتكنيكية جبرية كما تنبأ بها فورييه وماركس، إذ يجب على كل فرد من المجتمع أن لا يعرف بصورة سطحية بل بصورة علمية "لما كانت النظرية والتطبيق العملي غير منفصلين قط" مبادىء في فروع التقنية الصناعة التقدمية الكبرى، وأن يتمثل العلوم الاجتماعية وأفضل ما في الحضارة الشاملة. وهكذا يستطيع كل فرد أن يختار بحرية مهنة له فلا يظل طيلة حياته يمارس نفس النشاط. ومع ذلك، يجب أيضاً، لتحقيق أفض الظروف للدراسة.
ج) تحسين ظروف السكن بصورة جذرية وأخيرا
د) مضاعفة أجر العمال الحقيقي، وربما زيادته فوق ذلك، وذلك برفع الأجر مباشرة وتخفيض سعر السلع الكثير الاستهلاك مما يمهد للرخاء الشيوعي.
ولنلاحظ أن إنشاء لتعليم البوليتكنيكي، الذي بدأه مشروع الخمس سنوات، يمهد لزوال الفرق الأساسي بين العمل الفكري والعمل اليدوي، العمل الصناعي والعمل الزراعي. فتقف عملية تقسيم العمل القديمة التي تشوه الشخصية الإنسانية.
كتب ستالين، مختصرا الشروط الثلاثة الأساسية، يقول:
متى تحققت فقط جميع هذه الشروط اللأزمة في مجموعها نستطيع أن تأمل في أن يصبح العمل في أعين أفراد المجتمع "حاجة الحياة الأولى" (ماركس) وليس مهمة شاقة، وبدلا من أن يكون العمل عبئاً ثقيلا يصبح غبطة و فرحا" (انجلز)" كما ينظر جميع أعضاء المجتمع إلى الملكية الاجتماعية على أنها الأساس الأول لوجود المجتمع.
متى تحققت جميع هذه الشروط اللأزمة في مجموعها، نستطيع الانتقال من الصيغة الاشتراكية القائلة: "من كل فرد حسب كفاءاته ولكل فرد حسب عمله" إلى الصيغة الشيوعية القائلة: "من كل فرد حسب كفاءاته، ولكل فرد حسب حاجاته".
وسوف يكون ذلك هو الانتقال التام من اقتصاد، هو اقتصاد الاشتراكية، إلى اقتصاد آخر سام هو اقتصاد الشيوعية.

5 – الخلاصة
ليست الشيوعية عصر سيادة تقنية يعترف بها أعداؤها على أنها سامية حقا، ولكنهم يصورونها على أنها لا تأبه بالإنسان بل تعاديه. ليست الشيوعية قط "تنظيمها عقلانيا لقوى الإنتاج" بل هي سيادة الإنسان الذي أصبح أخيراً سيدا لمصيره بفضل معرفة قوانين الطبيعة والمجتمع الموضوعية.
فالإنتاج مرتبط بالإنسان وحاجاته. وليس هدف الشيوعيين توزيع البؤس بالتساوي، بل سد حاجات الجميع.
والتقنية هي لتخفيف تعب الناس وإزالته. وهكذا استخدام، في الاتحاد السوفياتي، خلال ثلاث سنوات، 1600 نموذج جديد من الآلات لتخفيف الجهد الإنساني.
الشيوعية هي الإنسان وقد تحرر من أوصاب الملكية الخاصة ومن عبودية الماضي الروحية. ولما كانت واثقة، من طريق التجربة، بأنها لا تعمل من أجل أقلية من المستغلين، بل من أجل خير المجتمع، فأنها تحقيق أعظم المشاريع.
تولد الشيوعية كنتيجة لعمل ملايين العمال الواعي الخلاق. ولهذا كانت نظرية التلقائية القائمة على إطلاق الحرية laisser – aller غريبة على تكوين الاشتراكية الاقتصادي.
يفوز كل إنسان بواسطة الشيوعية، بالحرية الملموسة، التي هي "قوة ايجابية لتقرير فرديته الحقة" (ماركس – انجلز). ولما كان الإنسان يشترك مع أمثاله في ممارسة الديمقراطية التامة، فإنه يشترك بذلك، بصورة واعية في تكوين مستقبله.
فهو في الوقت الذي يصبح فيه، بواسطة استخدامه للآلة، "سيداً للطبيعة ومالكا لها" – كما يريد ديكارت – فأنه يحول حياته الخاصة ويصبح سيد نفسه ومالكا. فيعكس كل فرد أجمل معالم الإنسانية الكاملة.
يجعل أعداء الاشتراكية، وعملاؤهم من كل نوع من الاشتراكية نظاما يقضي على الفرد. وليس هناك من نظرة أكثر بدائية ولا أكثر سذاجة من هذه النظرة، فلقد أصبح واضحا أن النظام الاشتراكي قد ضمن تحرير الشخصية الإنسانية، وتفتح الإبداع الفردي والجماعي، وأنه أوجد الظروف المواتية لنمو المواهب التي تملكها الجماهير الشعبية في كل الميادين.
هذه الفكرة هي التي أوحت لأليوار هذه الأبيات:
نلقي بحطب الظلمات في النار ونحطم أفعال الظلم الصدئة فسوف يقبل الناس لا يخافون أنفسهم لأنهم واثقون من جميع البشر فلقد زال العدو في صورة الإنسان وحسب قول انجلز، الذي أشار إليه موريس توريز في المؤتمر الحادي عشر للحزب الشيوعي الفرنسي، فإن النضال من أجل الحياة الفردية ينتهي بواسطة الاشتراكية والشيوعية. فيخرج الإنسان عندئذ من مملكة الحيوان، ليتجلى عن ظروف الحياة الحيوانية وينعم بظروف إنسانية حقاً.

القسم الخامس
النظرية المادية عن الدولة والأمة



تساعدنا النزعة المادية الجدلية والنزعة المادية التاريخية على توضيح مسائل علوم الطبيعة وعلوم المجتمع. ولا يمكن بحث ذلك في نطاق هذا الكتاب.
ومع ذلك يهم كل واحد منا أن يقف، قبل أن يغلق هذا الكتاب، أمام الحل العلمي لمسالتين قدرنا سابقا أهميتهما "ولا سيما في الدروس الثامن عشرو التاسع عشر والعشرين" ألا وهما مسألة الدولة ومسألة الأمة.
ولهذا رأينا من ضروري أن نخصص لهما الدرس الخاص التي ستقرأها. وإن كان لا يجب قط عن البحث في النزعة المادية التاريخية.

الدرس الثاني والعشرون

الدولة




1 – الدولة و "المصلحة العامة"
تقول عقيدة رجال السياسة البرجوازيين الدائمة عن الدولة بأن الدولة الجمهورية هي لخدمة المصلحة العامة.
غير أن تجربة التاريخية تكذب هذه "النظرية"، إذ يكفي المواطنين أن يذكروا الحكومة بمتطلبات المصلحة العامة، كأن يعترضوا، مثلا، ضد إعادة تسليح النازيين، أو أن يحتفلوا بذكرى الاستيلاء على الباستيل، حتى يصطدموا بصفوف شرطة الدولة الجمهورية. وإذا أراد العمال الدفاع عن قوتهم، سواء كان في الصناعة الخاصة أم المصالح العامة وجدوا قمع الشرطة واستخدام الأسلحة على يد ممثلي الدولة الجمهورية.
تستثني "المصلحة العامة" إذن في التطبيق العملية مصلحة البروليتاريا والطبقات الشعبية. إذ أن لهذه "المصلحة العامة" حدود طبقية!
كما أن الدولة لم تعد قط المدافع عن "الشرعية". فلنفترض أن العمال قد أضربوا احتجاجا على خرق قانون العمل، ولكي يحافظوا على المبدأ الشرعي القائل: "لكل عمل أجرة"، وأنهم طالبوا بمساندة السلطات العمومية لهم، لحماية هذه الوسيلة الدستورية، التي هي الإضراب، ضد خرق الشرعية على يد صاحب العمل. لا حاجة إلى التساؤل عن موقف الشرطة منهم، مع أن السلطات العمومية هي، في المبدأ لخدمة القانون!
كما أن عدم تطبيق قانون الموظفين يدل على أن الدولة تضع نفسها فوق القانون بعد إقراره بالإجماع!
غير أن الدولة، في بعض الظروف التاريخية، تصبح في خدمة المصلحة العامة. وهذا شأن الاتحاد السوفياتي. وهكذا تكون الدولة تارة في خدمة وتارة لا تكون كذلك . يجب إذن أن نخلص على القول بأن المعيار الذي تقاس به المصلحة العامة ليس معيارا علميان فهناك البعض الذين يجدون من مصلحتهم أن يحددوا الدولة بصورة مناقضة للعلم.
وهكذا مر زمن وقامت بلاد كانت فيهما الدولة شيئاً خارقاً للطبيعة: كضرب من القوة يمكن للإنسانية أن تعيش بدونها، تحمل إلى الناس شيئاً لا يصدر عن الإنسان، تلك كانت دولة الحق الإلهي، كما كان الحال أيضاً في البلاد اليابان، في عهد الميكادو المطلق. أما هتلر فكان يقول: ألله معنا". كما أننا نعلم، منذ عهد ترومان وايزنهاور، أن البيت الأبيض يمثل العناية الإلهية على الأرض، وهذا من شأنه أن يسيء إلى العناية الإلهية في نظر المؤمنين!
كانت الدولة، لأمد طويل، كما ستظل بالنسبة لكثير من الناس، موضع "احترام خرافي". ومن هنا نشأ الضيق عند تحديدها. إذ أن مسألة الدولة تخلط في أغلب الأحيان بالمسألة الدينية. حتى أن أوجوست كومت، ذا النزعة الموضوعية نفسه، الذي كان يتبجح بأنه قد نفض يديه من كل ما هو خارق للعادة، قد ربط "السلطة الزمنية"، في المجتمع، "بالسلطة الروحية". إذ أنه حينما تعلم كنيسة من الكنائس أن السلطة هي حق الهي، فإن هذا يدل، عادة، على عبودية تامة أمام الدولة. مثال ذلك إسبانيا في عهد فرنكو. فلقد لقنت الكنائس تابعها احترام الدولة دينيا. ولهذا كانت الصعوبات، التي نلقاها، لنفهم جيداً مسألة الدولة، ترجع أصولها إلى بقايا النزعة المثالية الدينية.
أفلست، في فرنسا مثلا، منذ زمن بعيد، نظرية الحق الإلهي. وهناك كثير من العلمانيين الذين يعتقدون بأنهم في منجى من كل عدوى فكرية من هذه الناحية، فالدولة، بالنسبة إليهم وبالنسبة للرسميين، تجلي المصلحة العامة. وهو تجل غريب! فالدولة فوق الطبقات، والمصالح الخاصة، والأحزاب، كما يقولون، غير أن الدولة إذا كانت فوق النضال الطبقي، أي إذا كانت مؤسسة للتوفيق بين الطبقات، يتضح من ذلك أن الدولة لا يمكن أن تتولد من المجتمع نفسه، بل هي تتولد من مصدر فوق المجتمع، فإذا لم يكن ذلك المصدر هو الله فأنه سيكون الروح! وهكذا ليست فرضية المصلحين سوى صبغ نظرية القرون الوسطى عن الحق الآلهي بصبغة علمانية، تلك هي النزعة المثالية الساذجة، التي هي صورة لبقة عن الديانة.
يجد الاشتراكيون، هنا، وزعما الحركة الجمهورية الشعبية والرجعيون من كل نوع، مجالا للتفاهم: ألا وهي سيطرة "الروح"، والنزعة المثالية عن الدولة، التي ترتكب بأسمها الجرائم الدامية ضد الشعب، كما تنتهك العدالة فيطلق سراح مجرمي الحرب. فإذا كانت الدولة حقا تجسدا "للروح" فأنها تجسد للروح البرجوازية" والأفكار البرجوازية!
أعلن وزير خارجية الدولة الأميركية فوستر دالس، في حديثه عن مخطط الولايات المتحدة الذري، بأنه يتمنى "أن تقوم النزعة المثالية بالأشراف على القوة الهامة الكامنة في المادة". غير أن موقعي نداء ستوكهولم قد زج بهم في السجون في الولايات المتحدة!
كانت مسألة الدولة، خلال تاريخ الفلسفة، ومسألة استغلال الطبقات، من أكثر المسألة تعقيدا. ذلك لأنها كما يقول، لينين، تمس، أكثر من أية مسألة أخرى، مصالح الطبقات السائدة. والماركسية اللينينية هي الوحيدة التي تسمح لنفسها بالموضوعية فيما يتعلق بهذه المسالة.
لهذه المسالة أهمية خاصة بالنسبة للبروليتاريا، في المرحلة التي تتحول فيها الرأسمالية الاحتكارية. إذ يصبح العمال، عندئذ، مضطهدين مباشرة على أنهم منتجون "وليس فقط كمواطنين" على يد الدول التي ترتبط أكثر فأكثر بالفئات الرأسمالية القوية، فتصبح البلاد الرأسمالية، في الاقتصاد
الحربي - منذ وقت السلم – معسكرات حربية للعمال. فتواجه البروليتاريا في نضالها – الاقتصادي – من أجل الخبز، مسألة والمسألة السياسية. بينما تتعلل البرجوازي، على العكس، بالحرب للقضاء على منظمات البروليتاريا للنضال الاقتصادي ألا وهي النقابات كما حدث عام 1939 – 1940.
كتب لينين يقول:
يصبح لمسألة الدولة، في الوقت الذي تنتصر فيه الثورة في بعض البلاد، كما تزداد فيه حدة النضال ضد الرأسمال العالمي، أهمية كبرى وتصبح أشد المسائل خطورة، ومحط جميع المسائل وكل المناقشات السياسية المعاصرة.

2 – الدولة ثمرة تعارضات الطبقات المتنازعة
دلتنا دراسة النزعة المادية، ولا سيما في الدرس الثاني عشر، على أن الدولة لا يمكن أن تأتي من خارج المجتمع، من "الروح" أو من "الله". كما يشير المنهج الجدلي، من ناحية ثانية، إلى أنه يجب دراسة الدولة، في نموها، بصورة تاريخية.
غير أن كل هذا يظل كلاما عاما جدا. كما يدعي علماء الاجتماع الوضعيون البرجوازيون أنهم يعالجون، أيضاً، مسألة الدولة بصورة علمية: فهم يعتقدون أن تعقد الحياة الاجتماعية المستمر، وانتقال فئات صغيرة من الناس المنعزلين إلى مجتمعات أضخم، و "تنوع الوظائف الاجتماعية" مما يجعل الدولة ضرورية. وهكذا تكون الدولة نظام المجتمع العصبي. إذ كلما تعقد الجسم كلما ازداد دور الدماغ. فتؤدي الدولة "مهمة التنظيم" في المجتمع، وسنرى ماذا يجب أن نعتمد بهذا الصدد.
ا-أصل الدولة
أول ما يجب أن ننظر إليه هو أن الدولة لم توجد دائما.
لم يكن يوجد، في عصر المجتمع البدائي، حين كان الناس يعيشون أحياء وقبائل وعائلات يسيطر فيها الأب أو الأم، جهاز خاص لممارسة السلطة بصورة منظمة. ومثل هذا الجهاز هو ما يسمى بالدولة.
لا شك أنه كانت توجد عادات وتقاليد مثل سلطة الرئيس واحترامه واحترام سلطانه، وكذلك احترام سلطة النساء، غير أنه لم يكن يوجد قط رجال همهم الوحيد حكم الآخرين، ولهذا يسيطرون على القوة المسلحة باستمرار.
هل يجب أن نستنتج من ذلك أنه لم يكن يوجد نظام ولا تنظيم في العمل؟ كلا. لأن قوة العادة والتقاليد، وسلطة القدماء أو النساء، والاحترام الطبيعي كان يكفي.
ومع ذلك وجدت الأسلحة. إذ ما كانت توجد الأدوات أي ما كاد الإنسان يظهر، حتى وجدت، طبعا، إمكانية استخدامها كأسلحة. لأن العمل هو "اعتداء" على الطبيعة يتضمن إمكانية الاعتداء على الإنسان. ولم تكن هذه الأسلحة مع ذلك، تمثل أي خطر على المجتمع. إذ أن رجال القبيلة المسلحين لم يكونوا يوجهون أسلحتهم هذه بعضهم ضد البعض. كانت الأفكار السائدة في المجتمع البدائي، الذي تحدثنا عنه بعض الشيء في الدرس السابع عشر، "المسالة"1"، تكفي لتنظيم الحياة الاجتماعية، حتى إذا ما فكر بعض الأفراد في الخروج على القاعدة المتبعة، كانوا يحملون على العودة لاحترام النظام بتأثير عمل الرجال المسلحين الجماعي. ولم يكن هناك أي شخص مختص بهذه المهمة لعدم وجود الدولة.
فلماذا لا يمكن، اليوم، تأمين القيام "بوظيفة التنظيم" الغالية على نفوس علماء الاجتماع، كما حدث في الزمن الغابر، بواسطة تنظيم الشعب التلقائي، فيقوم بتأمين النظام في العمل وفي الحياة الاجتماعية، وبواسطة مركز لتخطيط النشاط الاقتصادي يشرف عليه هذا التنظيم؟
أم هل يكون العصر الذهبي الذي تحدثت عنه الخرافة القديمة قد ولى أثر الخطيئة الأصلية؟
نلاحظ أن الاحترام القديم، لم يعد في وقت من أوقات التاريخ، كافيا للمحافظة على نظام العمل. فأصبح من الضروري الاستعاضة عن قوة العادة والتقاليد وعن السلطة القائمة على التجربة بقوة خاصة طبيعية تمارس الجبر وتوحي بالخوف. ومست الضرورة لإنشاء احتكار للأسلحة واستخدامها لمصلحة فريق من الناس رفعوا إلى مركز خاص أو تميزوا عن سائر الناس. فلماذا فرضت هذه التغييرات نفسها؟
تلك هي المسألة الحقيقية التي يهمل علماء الاجتماع معالجتها. إذ أنه إذا كان الاحترام القديم للسلطة الطبيعية قد زال، وإذا كان تنظيم الشعب التلقائي المسلح قد أصبح خطراً فحرم استخدامه، فما ذلك ألا لأن التعاون في العمل قد انتهى، وحل محل علاقات الإنتاج القائمة على الملكية المشتركة علاقات جديدة للإنتاج قائمة على الملكية الخاصة واستغلال الإنسان للإنسان. فالنزعة المادية التاريخية هي الوحيدة، إذن، التي تستطيع الإجابة علميا على مسألة أصل الدولة.
وهكذا ندرك تماما كيف أن السلطة القديمة القائمة على الاحترام الطبيعي قد انهارت يوم أن بدأ استغلال الإنسان للإنسان، وحلت محلها السلطة القائمة على الخوف. ومنذ ذلك اليوم توقف تنظيم جميع السكان التلقائي بالأسلحة، لأن أسرى الحرب قد جردوا من سلاحهم بعد أن أصبحوا أرقاء. ولم يعد يملك السلاح سوى الأسياد الذين يملكون وسائل الإنتاج. ولهذا نرى في هذه الأيام، في البلاد الخاضعة للاستعمار، في مدغشقر، وتونس، ومراكش، والجزائر الخ. المستعمرين يتسلحون بأنفسهم ضد الرقيق المستعمرين.
ولم تقبل قط القبائل التي تقدس الأب أو الأم، من تلقائها، الرق. ولم يرض العبيد قط أن يساقوا إلى أسواق النخاسة.
ولهذا وجب اكراه الرقيق للحصول على العمل المرجو منهم. يضاف إلى ذلك أنه إذا أراد الأسياد ضمان الاستقرار الضروري لكل إنتاج في النظام الاجتماعي، كان من المناسب إقناع الرقيق أن مثل هذا النظام عادل، وأنه يمثل الاستقرار، كما وجب وضع القواعد التي لا تنتهك لتحديد سلوك الناس في علاقاتهم الاجتماعية، مما يضفي الخلود على علاقات الإنتاج الجديدة. وهكذا تولدت الفكرة الميتافيزيقية عن حق الأسياد المطلق على رقيقهم، تلك الفكرة التي نشأت من حق المنتصر القديم على المقهورين. وأصبح من الضروري – لتمثيل مصلحة طبقة الأسياد كطبقة مستقلة عن إرادة الأفراد الذين يؤلفونها – إقامة القوانين التي تحدد واجبات المستغلين وحقوق المستغلين. وتكون هذه القوانين أساس الاضطهاد، كما تضمن له تحققا غير مشروط، بعيداً عن "أطوار" نضال الطبقات وعدم استقرار القوة المؤقت. وهكذا يمكن التعويض عن ضعف قوة الطبقة السائدة المادي لعابر بالخوف من القوانين.
كما كان يجب أن تحترم هذه القوانين لذاتها. ولقد أشار مفكر قديم هو كريتياس (Critas) إلى أن الناس قد سنوا قوانين لنشر العدالة، لم تبلغ هدفها سوى جزئياً. وكانت هذه القوانين تمنع من ارتكاب الظلم علنا، ولكنها لم تمنع ارتكاب بالخفية. وهنا فكر حكيم مجرب بأن يوحي إلى الناس خشية الآلهة التي تعلم كل شيء. حتى إذا ما أقنعهم أنه حتى أسوأ المشاريع التي تحاك في السر تعلمها الآلهة أيضاً، كف خرق هذه القوانين.
يعكس قول كريتياس حقيقة عميقة: أصبح للآلهة التي كانت المخيلة الإنسانية تفسر بها قوى الطبيعة وتقلب المصير، وظيفة جديدة بظهور الطبقات: إذ أصبحت هذه الآلهة قائمة على حفظ النظام الاجتماعي، والضامنة للفروق الطبقية، والقضاء الذين يحاكمون المضطهدين في الآخرة، وأن كان هؤلاء القضاء شركاء الظالمين المضطهدين. ويقوم هؤلاء المضطهدين بتلقين الشعب الخوف من الآلهة، ويؤكدون الخرافة القائلة بأنهم على اتصال غريب بهذه الآلهة.
وهكذا يتم الحق – القوة ويكرسها، كما أن الذين يتم الحق ويكرسه. فإذا ما نمت طريقة الإنتاج الذي يعتمد على الرقيق وقام مجتمع الرقيق، وحملت الخرافات والأوهام الرقيق على الطاعة فأصبحت لهم بفضل اعتيادهم على العبودية، كما يقول روسو، عقلية الرقيق، قامت شراذم خاصة من رجال المسلحين، فكان منها رجال الشرطة المكلفون بمعاقبة الأرقاء الفارين، وحل هؤلاء الرجال المسلحون محل تسلح الملاك الدائم. ومع ذلك لم يتخل قط الملاك عن حقه في أن يكون له حرسه الخاص المسلح. وهكذا نرى، اليوم، كبار الرأسماليين الأميركان لهم شرطتهم الخاصة في أماكن الاستغلال القطنية والزراعية.
ينتج، إذن، من استعراض الوقائع التاريخية، أن الدولة، في جميع المجتمعات الطبقية المتناحرة، تصبح جهازاً لحكم المستغلين، خرج من المجتمع الإنساني ثم تميز عنه تدريجيا. وهو يفترض وجود فئة خاصة من الناس، وهم رجال السياسة، همهم الوحيد الحكم، ولهذا يستخدمون جهازا وضع "لإخضاع أرادة الآخرين للقوة.". ويحتوي هذا الجهاز على الشرطة والجيش الدائم، والسجون والمحاكم، يضاف إلى ذلك أجهزة الضغط الفكري: وهي التعليم والصحافة والإذاعة، الخ..
ومجمل القول:
1 - لم توجد الدولة دائماً.
2– لا يظهر جهاز الدولة إلا في المكان والزمان اللذين يظهر فيهما، في المجتمع، تقسيم المجتمع إلى طبقات متناحرة، كما يظهر الاستغلال الطبقي.
كتب انجلز يقول:
ليست الدولة، إذن، سلطة فرضت من الخارج على المجتمع، وليست هي "حقيقة الفكرة الأخلاقية"، أو "صورة حقيقة العقل"، كما يدعي هيجل. بل هي ثمرة المجتمع في مرحلة معينة من نموه، وهي الدليل على أن هذا المجتمع يتخبط في تناقض مع نفسه يستعصي على الحل، بعد أن أنقسم إلى أضداد لا يمكن التوفيق بينما ويعجز عن السيطرة عليها، ولهذا مست الحاجة، كي لا تفني الأضداد، وهي الطبقات ذات المصالح الاقتصادية المتعارضة، والتي هي في نضال مجدب مع المجتمع، إلى سلطة، تنمو في الظاهر على المجتمع، لتغطية النزاع وحصره ضمن حدود "النظام"، وهذه السلطة التي ولدت من المجتمع، ولكنها تسمو عليه وتصبح غريبة عنه، هي الدولة.
وقد اختصر لينين في صيغة موجزة النظرة العلمية لأصل الدولة، قال: الدولة هي ثمرة التعارضات الطبقية المتناحرة ومظهرها
يجب إذن، كي ندرك أصل الدولة، أن ننظر في قوانين الإنتاج الموضوعية، التي تولد، في مرحلة من مراحل نمو قوى الإنتاج، الملكية الخاصة واستغلال الإنسان للإنسان، وبالتالي ضرورة توطيد دعائم هذه الملكية الخاصة. الدول، إذن هي نتيجة تاريخية ضرورية لنمو المجتمع الاقتصادي، وهي لا تفسر قط "بالخطيئة الأصلية" و "الأرادة الآلهية" والفكرة الأخلاقية" و "ووظيفة التنظيم".
وهذا ما لا يفهمه الفوضويون، أسرى النزعة المثالية على المستوى النظري. وكما أن أنصار الدولة البرجوازية يدعون بأن الدولة ضرورية لحصر رداءة الإنسان وخبثه الأصليين، وكذلك يرى الفوضويون في الدولة ثمرة قوة شريرة، وغريزة السيطرة". فهم يفصلون الدولة عن أساسها الطبقي، ويعتبرونها قوة مستقلة تعمل لمصلحة الذين يتوصلون إلى السيطرة والاستيلاء عليها. فهم ينكرون أصل الدولة التاريخي وضرورة ظهورها الموضوعية في فترة معينة.
يؤدي ذلك إلى نتيجة مهمة على المستوى العملي: إذ يفصل الفوضويون النضال ضد الدولة البرجوازية عن النضال الطبقي والنضال الشعبي. فهم يقيمون في وجه الدولة – في – ذاتها الفرد، ويدعون إلى طريقة في النضال تقوم الأعمال الفردية. فتكون النتيجة السياسية لذلك أن تصبح الفوضوية سريعاً تعلة سهلة لعملاء البرجوازية المشاغبين في الحركة العمالية. كما تؤدي، من جهة ثانية، المعارضة الفوضوية للدولة – في – ذاتها، أي معارضة الفرد والجماهير، إلى معاداة السلطة الاشتراكية وهي سلطة العمال والفلاحين. فتكون النتيجة السياسية لذلك أن تستخدم الفوضوية كتعلة للإرهاب المناهض للسوفيات. وهكذا تلتقي، بالرغم من الظواهر، "نظريات" المؤرخين البرجوازيين الذين يرون، في حرب 1914، مثلا، نتيجة "لإرادة القوة في الدولة"، والتغني" بالثورة من أجل الثورة في كتاب "كامو" "الإنسان الثائر" المناهض للسوفيات.
ولنشر مع ذلك، إلى أن هذا التقديس الذي يجعل من الدولة قوة قائمة بنفسها، وتجسيدا "للفكرة"، كما تقول الفكرة الخاطئة المثالية، يعتمد على ميزة خاصة أشار إليها انجلز في النص المذكور أعلاه. ولنذكر أن قوة الدولة المادية، لوحدها، لا تكفي. وهذا ما برهنت عليه جميع الثورات الكبرى. فقد أثارت، في وضح النهار، مشكلة العلاقات بين "شراذم الرجال المسلحين الخاصة" وبين تنظيم الشعب بالسلاح من تلقاء نفسه". فدلت على أن نهاية النضال -، في مثل تلك الحال، سريعة وليست في صالح الطبقة المستغلة. إما إذا كانت قوة الدولة، على العكس، يساندها قسم من الشعب، فإن التاريخ يدلنا على الحروب الأهلية التي يحوم الشك حول نهايتها. وهذا يعني أنه إذا اعتبر المستغلون الدولة كما هي، أي أداة لاستبعادهم، فإن هذا يزعزع سيطرة المستغلين بصورة خطيرة. لا يحتاج هؤلاء المستغلون، إذن، لسلطان جهاز الدولة فقط بل إلى أظهار هذا الجهاز على أنه جهاز الدولة الأسمى، وإلى إثارة الخوف منه. يجب أن تضع الدولة نفسها، في الظاهر، فوق المجتمع، وفوق ألوان النضال الاجتماعي. كما يجب أن تبتعد أكثر فأكثر عن المجتمع، وأن تحيط نفسها بهالة من الأسرار، فتبدو كأنها قوة سماوية تحلق فوق جبل من الغيوم والبروق، يركع أمامها كل الناس. وفي كل مرة يحدث فيها مثل ذلك، تقوم الطبقات السائدة بتأييد رئيس الدولة. حتى إذا لم يعد ذلك ممكنا تعللت "بالمصلحة العامة" الغريبة التي لا يدركها عقل عامة الناس! ذلك هو عماد النظريات المثالية عن الدولة. ويدل الحاح الطبقات السائدة على تصوير الدولة كأنها تجسيد قوة عليا، على أن هذه الطبقات تعلم جيداً أن قوة الدولة الحقيقية إنما تقوم على دعم الرأي العام لها وعلى ما لها من رصيد أمام الجماهير وما تتمتع به من ثقة، أي أن قوة الدولة تقوم على أفكار. ولنستمع إلى "لانييل" الرأسمالي ورئيس الحكومة، كيف خاطب المضربين في آب سنة 1953:
"علي أن أخاطبكم الآن بلغة الدولة، لأن الدولة، والدولة وحدها، هي التي يجب أن تحكم في الخصومات بين المصالح الخاصة، في الديمقراطية".
وهكذا تصبح مصالح الرأسمالي "لانييل" الخاصة هي التي تدافع عنها الدولة. وهو يعترف بذلك في دعوته إلى "تحكم" الدولة. أولا تعبر مطالب ملايين العمال المشروعة إلا عن مصالح خاصة، كما لو أن مصلحة الذين يعملون ليست أصدق تعبير عن المصلحة العامة. يبحث "لانييل" في قلبه لعناصر المشكلة، عن مساندة الجماهير له أو قسم منها، لأنه بدون هذه المساندة لا يمكن أن يستمر حكم الطبقة السائدة. ولهذا كان من ضروري أن تدافع الدولة الرأسمالية عن مصالح الرأسماليين الخاصة باسم المصلحة العامة، ولكي تكف الجماهير عن مساندة الدولة البرجوازية يجب شيئان:
1 – أن تدرك هذه الجماهير أن "المصالحة العامة" المزعومة التي تدافع عنها الدولة ليست ألا مصلحة الرأسماليين.
2 – أن تفهم أن مصلحة الرأسماليين لم تعد، منذ أمد طويل، تتفق مع مصلحة الأمة.
ب – مهمة الدولة التاريخية
تحدثنا عن مهمة الدولة في حديثنا عن أصلها. هذا ما تطلبه الجدلية لأن الدولة ولدت، على التحقيق، لمواجهة مشكلة ظهرت في المجتمع، ولكي تقوي سيطرة المستغلين الاجتماعية، ونظام الملكية الذي يضمن لهم امتيازاتهم. الدولة هي انعكاس الأساس الاقتصادي، ولكنه ليس انعكاساً سلبياً، بل هو انعكاس فعال. ولهذا كان من المفيد، كما هو الحال في دراسة الأفكار في الحياة الاجتماعية، أن لا نخلط مهمة الدولة وأصلها دون أن نفصل بينهما. ذلك لأن الدولة، فيما يتعلق بالأصل، مشتقة بالنسبة للاقتصاد، ولكنها فيما بالمهمة، فإن هناك حالات تصبح فيها أهمية الدولة أساسية، لها أثر فعال. ولهذا لا يجب أن يؤدي القول بأن الدولة هي انعكاس للاقتصاد.إلى التقليل من قيمة تأثيره على الإقتصاد.
يقول انجلز أن مهمة الدولة هي "تخفيف النزاع بين الطبقات" وأن تحصر هذا النزاع ضمن "حدود النظام" ولا يعني هذا، كما دلل لينين، أن الدولة هي منظمة للتوفيق بين الطبقات بل هذا العكس!
فلو أن "التوفيق بين الطبقات" كان ممكنا، لم تمسس الحاجة قط إلى الدولة.
ويعني القول: "تخفيف النزاع بين الطبقات" تخفيف حدة هذا النزاع، أي حرمان الطبقات المستغلة من وسائل النضال التي تسمح لها بالتخلص من مستغليها. نحن هنا، إذن، أمام كتم نضال الطبقات المستغلة. وكيف يكون ذلك؟ بترك الميدان أمام عمل المستغلين، وبتوسيع الاضطهاد وتنميته وتقويته، ولا سيما عندما لم تعد علاقات الإنتاج تتفق وحال قو الإنتاج.
ذلك هو مأزق الطبقات الرجعية: ملء السجون "لترتاح" ونزيد من ملء السجون أيضاً حتى تقضي على الخوف الذي نثيره فيها السجون الملأى! ذلك هو "النظام" و "السلام"في نظرها، هو نظام يجعل الاضطهاد شرعياً، وقد أقيم هذا "النظام" لتوطيد الاضطهاد فإذا به يزعزعه. فيؤدي تخفيف النزاع إلى زيادة خطورته.
والخلاصة أن الدولة، حسب رأي ماركس، هي منظمة للسيطرة الطبقية، ولاضطهاد طبقة على يد طبقة أخرى.
تمثل الدولة القوة القائمة المنظمة الشرعية. وهي أداةلا للتوفيق بل للنضال الطبقي.
وهنا يخطر لنا سؤال وهو: من هي الطبقة التي تستطيع في كل مرحلة من مراحل النمو التاريخي، إيجاد هذه الأداة وتغذيتها واستخدامها؟ كل طبقة مستغلة بحاجة للدولة ولكنها لا تستطيع تغذيتها دائماً.
يجيب انجلز على ذلك بقوله أنه لما كانت الدولة قد ولدت من الحاجة إلى لجم تعارضات الطبقات، وكما أنها ولدت وسط نزاع الطبقات، فهي دولة الطبقة الأقوى، تلك التي تسيطر من ناحية الاقتصادية والتي تصبح بفضل هذه السيطرة الاقتصادية الطبقة المسيطرة سياسياً، فتحصل بذلك على وسائل جديد لكبت الطبقة المضطهدة واستغلالها.
على العلم التاريخي، إذن، في كل مرحلة، أن يجيب بجواب محسوس.
مثال: الدولة الحديثة بحاجة إلى مصروفات تنفق على الجيش والشرطة والموظفين.
ولا تستطيع الطبقة السائدة أن تحتفظ بهذه الأداة واستخدمها إلا بقدر ما تسمح علاقات الإنتاج التي تمثلها، والتي تريد إنقاذها، بالصرف عليها، ولهذا كانت الطبقة المسيطرة سياسيا هي الطبقة المسيطرة اقتصاديا. ومن هنا كانت بعض النتائج:
1 – حين تبلغ طبقتان متناحرتان شيئاً من الاتزان من الناحية الاقتصادية، يمكن للدولة أن تتمتع، بعض الوقت، بشبه من الاستقلال نحو هاتين الطبقتين. كانت تبدو ملكية لويس الرابع عشر المطلقة أنها تستطيع أن تكون الحكم بين الإقطاعيين المستغلين للرقيق وبين البرجوازيين، فكان الملك يمكنه القول: "الدولة أنا".
وكان هذا يعني، في الواقع، أنه قد أصبح للبرجوازيين بعض التأثير في الدولة الإقطاعية لأنهم كانوا يصرفون عليها، ولأنهم كانوا يقرضون الملك المال، ولكنهم، مقابل ذلك، لم يكونوا يستطيعون، بدون حماية الدولة الإقطاعية، تنمية التجارة والصناعة اليدوية، و هكذا حصل البرجوازيون, مقابل دعمهم المالي للنظام الإقطاعي، على امتيازات تجارية حملت في أحشائها بذرة نهاية النظام الإقطاعي!و قد اتخذ النضال بين الطبقتين المستغلين، في ذلك الوقت، طابع حاجة كل منهما للأخرى، وكان الحال في سنة 1789، بعد مضي قرن يختلف عن ذلك.فقد أصبحت البرجوازية مسيطرة اقتصاديا فقطعت الأرزاق عن الدولة الاقطاعية، وعملت على إسقاطها. ولا يجب أن ننسى، مع ذلك، أن التفاهم الموقت بين النبلاء والبرجوازيين كان دائما يتم على ظهر الفلاحين وهم الطبقة المستغلة.
2 – الدولة، بين يدي الطبقة المستغلة، هي وسيلة إضافية لاستغلال الطبقات المضطهدة. ولهذا كانت الضرائب، والجزاوات، ومصاريف العدالة، الخ... وسائل لحمل المضطهدين على دفع مصاريف اضطهادهم، في صورة مشاركة في مصاريف المجتمع العامة. ويتضح هذا أكثر في أيامنا حيث نرى ميزانية فرنسا الحربية الضخمة تعني أن الأمة تدفع مصاريف حرب (حرب الفيتنام) وتسلح (ضمن نطاق ميثاق الأطلنطي الإعتدائي) كل ذلك لمصلحة البرجوازية المستعمرة وحدها. كما أن الشعب هو الذي يدفع أجور الشرطة التي تنهال عليه بالعصي باسم المصلحة العامة. وهكذا تضرب الدولة العمال "لمصلحتهم".... وعلى نفقتهم! ومع ذلك لا يمكن لهذا الاستغلال الإضافي أن يكون ألا في دولة الطبقات المستغلة وينتج عن الاستغلال نفسه.
ليس الاستغلال، على عكس ما كان يعتقد بلنكي الضريبة بل هو الاستملاك الخاص للعمل غير المدفوع أجره.
3 – تبدأ الطبقة الحاكمة بالخوف على سيطرتها السياسية متى ما أصبت علاقات الإنتاج التي تمثلها، والتي أصبحت بفضلها مسيطرة اقتصاديا، قديمة، أي حين يظهر الخلاف بين علاقات الإنتاج وطابع قوى الإنتاج. حتى إذا ما تفاقم هذا الخلاف نشأت مشكلة الدولة بصورة حادة. وتظهر عندئذ الإمكانية المادية على سلطة الدولة قد أفلتت من أيدي الطبقة المسيطرة.
ولهذا فنحن حين نتحدث عن الطبقة الأقوى اقتصادياً فلا يجب أن يفهم هذا القول بصورة تخطيطية. فالطبقة "الأقوى" هي الطبقة التي تستطيع أن تدفع بنمو قوى الإنتاج إلى الأمام، والتي تمثل علاقات الإنتاج الجديدة. حتى إذا لم تعد البرجوازية تستطيع تنمية قوى الإنتاج لم يعد بالإمكان القول بأنها "قوية" اقتصادياً، كما لم يعد بالإمكان القول أن اقتصاد الرأسمالي، الذي يسيطر على المجتمع، سليم. بل هو، على العكس، اقتصاد منحط، وهذا يعني أن سيطرة البرجوازية الاقتصادية أو السياسية تقارب نهايتها.
غير أنه يظهر عندئذ، في وضح النهار، تأثير الدولة على الاقتصاد. إذ لا تقف الدولة موقفا سلبيا أمام المصير الذي تردى فيه أساسها بل هي تقف موقفا فعالا فتدافع عنه بشدة.
حين تكون علاقات الإنتاج متفقة مع طابع قوى الإنتاج تسعى سياسة الطبقة الحاكمة، التي تمثل هذه العلاقات، إلى نمو الإنتاج وتوسيع الصناعة، مثال ذلك نضال البروليتاريا من أجل التبادل الحر.
حتى إذا لم تعد علاقات الإنتاج تتفق وطابع قوى الإنتاج، فإن سياسة الطبقات المستغلة الاقتصادية تسعى إلى تعطيل عمل قانون الترابط الضروري، وذلك باتخاذ إجراءات تعيق نمو قوى الإنتاج.
وهكذا حاول رأس المال، في مرحلة انحطاط الرأسمالية، وهو المشرف على الدولة التي لم تكن سوى أداة بين يديه، أن يحل مشكلة الرأسمالية الاقتصادية بصورة تتفق ومصالحة، مضحياً من أجل ذلك بمصالح الأمة. فإذا بالدولة، وهي التابعة للاحتكارات، تحاول أن تسيطر على الحياة الاقتصادية، وليس ذلك لإمكانية تخطيط "الرأسمالية" بل من أجل حماية مصالح الأوليجاوشية المالية، وقد استولت هذه على فوائد ضخمة. فالدولة التي تشرف عليها تضمن لها احتكار إصدار عملة الدولة، كما أن الدولة تكلفها بإعداد التسلح وتقديم العدد الحربية كما تعفيها من الضرائب، وتحدد لمصلحتها أسعار الجملة والمفرق، وتبيعها بثمن بخس منتوجات الصناعة المأممة (الكهرباء والفحم)،
وتتخذ الإجراءات للقضاء على منافسها، وتمدها بالإعانات،و تتلاعب بالعملة، وتفاوض لحسابها مع البلدان الأخرى، وأخيراً تحدد الأجور كما تريد، حتى أن كل بروليتاري يصطدم بالدولة في طريقة خلال نضاله من أجل العيش.
تهتدي الدول، في عصر الاستعمار، في عملها، بضرورة انقاذ الرأسمالية ولا سيما تأخير ساعة الأزمة الاقتصادية. الدولة هي الأداة الرئيسية لخراب غالبية سكان البلاد وإفقارهم واستبعاد البلاد المستعمرة ونهبها بصورة منظمة، ونضال الرأسماليين المحتكرين ضد الرأسماليين غير المحتكرين، وهي أخيرا أداة النضال بين المستعمرين الألداء، ووسيلة للحروب وإخضاع الاقتصاد القومي للتسلح. ولكي تستطيع الدولة القيام بكل هذه الأعباء تظل لاضطهاد البروليتاريا والطبقات العاملة.
وهكذا تصبح الدولة سداً يحمي الطبقة المستغلة، وهي تقوم بدور فعال للدفاع عن طريق الإنتاج البالية. كما تصبح الدولة. التي كانت أداة لسيطرة الطبقة الأقوى اقتصادياً، وسيلة للمحافظة على هذه القوة الاقتصادية. بينما تقوضت هذه القوة في الأساس بتناقضات طريقة الإنتاج. وإذا كانت شروط تغير طريقة الإنتاج متوفرة، فإن عمل الطبقة المستغلة. التي تعارض في تطبيق قانون الترابط الضروري، وعمل الدولة البرجوازية، يصبحان العائق الأساسي للتغيرات الضرورية. ولهذا وجب القضاء على هذا العائق، غير أنه يجب، من أجل ذلك، توفر شروط ذاتية، وهي نضال الطبقة العاملة السياسي لتنظيم سياسياً في حزب طبقي وتنظيم الجماهير الشعبية، وتدافع عن الحريات الديمقراطية وتوسع من نطاقها، وأخيراً كي توجد سلطتها الخاصة كدولة.
ولا تملك هذه الدولة في أول عهدها، أي أساس اقتصادي خاص بها اشتراكية، ولهذا يجب عليها أن توجد أساسها الخاص بها. يضاف إلى ذلك، أنها لا تستطيع أن تقوم إلا بتأييد الجماهير العاملة الواعي. ولهذا يجب على الأفكار السياسية الجديدة، التي تتقدم بها الطبقة العاملة، أن تكون قد سيطرت على غالبية الشعب، أي أن غالبية الأمة لم تعد تؤيد السياسة البرجوازية أو تثق بها. ولهذا تجعل الماركسية، بحق، مسألة الدولة من ضمن الشروط الذاتية لتغير طريقة الإنتاج.
هذا ما تعلمنا لياه الجدلية، وهو أن الدولة، ومع أنها دائما انعكاس لأساس اقتصادي معين، فإن حل مشكلة الدولة والمشكلة السياسية يجب، في حالات معينة، أن يسبق تاريخيا بناء الأساس الاقتصادي الذي سيكون خاصاً بالدولة الجديدة.
وهذا ما لا يمكن أن تدركه النزعة المادية الساذجة: فهي إذ تعتمد على الفكرة القائلة بأن الدولة ثمرة نمو المجتمع الاقتصادي، فأنها تستنتج من ذلك أن التناقضات الاقتصادية يجب أن تكون ميكانيكية، وأن تؤدي، حتما، إلى تغيير طريقة الإنتاج وأن الاشتراكية ستولد تلقائية من "تحلل الرأسمالية". وهي بهذا تنسى أن عمل الناس يمكنه أن يعيق تطبيق القوانين الاقتصادية، وأن البرجوازية يمكن أن تمدد، بتأثيرها السياسي وبما تملكه من وسائل ضخمة تضعها الدولة الحديثة بين يديها، فترة زوال الأساس الاقتصادي، ولهذا فهي بهذا تخدم البرجوازية. ويؤدي التيار الاقتصادي، في الحركة العمالية، إلى نفس النتيجة بإنكاره ضرورة نضال البروليتاريا السياسي ضد الدولة البرجوازية، وهو بهذا يغذي النزعة الانتهازية، ويجعل الطبقة العمالية تبعاً للبرجوازية، كما أنه، في نفس الوقت، يقف في وجه سلطة الطبقة العاملة السياسية ويتردى في النزعة المناهضة للسوفيات. ولهذا يشجع هذا التيار صنائع البرجوازية في الحركة العمالية، وزعماء الاشتراكية الديمقراطية المصلحين.
والخلاصة من كل ذلك هي ضرورة النضال السياسي الماسة. غير أنه لا ننسى، من ناحية ثانية، ما رأيناه سابقاً: وهو أن الدولة لا يمكنها أن تقوم بدورها إلا إذا قبلت الجماهير (وخدام الدولة) الفترة القائلة بأن الدولة فوق الطبقات، وآمنوا بهذا الوهم. تعتمد قوة الدولة المادية في النهاية على عنصر فكري، ألا وهو تقليل الجماهير من شأن قوتها. وقد اعترف نابوليون بأنه يمكننا أن نفعل ما نشاء بالحرب شريطة أن يكون الرأي العام من جانبنا، ومهما كانت وسائل الضغط التي تملكها الدولة البرجوازية، كالرشوة مثلا، فإن التجربة التاريخية قد دلت على أن هذه الوسائل تعجز أمام صمود الجماهير المسلحين فكريا، والشيء الذي يعتد به، أخيرا، هو أن تعي الجماهير بوضوح ألاعيب أعدائها، وأن لا ينجح هؤلاء في خداعها. ولهذا تجعل الماركسية المؤسسات السياسية من بين ظواهر حياة المجتمع الروحية: وليست قوة هذه المؤسسات سوى قوة الأفكار. ويمكن لهذه القوة أن تصبح مادية شريطة أن تتملك هذه الأفكار الجماهير وتسيطر عليها.
وبالنتيجة فأن النضال السياسي يتضمن بالضرورة النضال الفكري، وهو النضال ضد الأفكار التي تؤيد سياسة العدو الطبقي، والنضال من أجل إزالة العراقيل الفكرية التي تمنع الجماهير من الاتحاد في النضال السياسي ضد الدولة البرجوازية.
يبرهن هذا التحليل، مرة ثانية، على أنه يجب أن يقود نضال البروليتاريا الطبقي طليعة واعية منظمة في شكل قوة سياسية مستقلة، هي الحزب السياسي الذي يعتمد على نظرية فكرية طبقية، للنضال الثوري، الذي يعكس بصورة علمية، مصالح الطبقة العاملة الحيوية المباشرة ومصالح المجتمع بأكمله.
3 – محتوى الدولة وصورتها
من بين الوسائل الرئيسية، التي يستخدمها مفكرو الطبقات المسيطرة والمستغلة لتشويش مسألة الدولة، الخلط بين صورة الدولة ومحتواها. فهم، حين يعرفون مختلف نماذج الدولة، يعتمدون دائما على عدد الناس الذين يمارسون امتيازات السلطة: فيميزون بين الدولة الملكية، والدولة الأرستقراطية، والدولة الديمقراطية. فهم يحصرون النقاش بمسائل الصورة، وبطبيعة المنظمات التي تمارس السلطة، كوجود مجلس نواب، مثلا، و "فصل السلطات" و "استقلال القضاء" الخ... فيظهرون بذلك أنه يحرم التعرض لمحتوى الدولة.
أما بالنسبة للماركسية فأن المسألة التي تعلو على كل المسائل الأخرى هي المسألة الثانية: لمصلحة من وضد من تمارس هذه السلطة؟ تمييز الماركسية بين محتوى الدولة الاجتماعية وبين صورتها.
ا – محتوى الدولة الاجتماعي
تكتسب الدولة طابعها بفضل محتواها الاجتماعي الحقيقي، أي محتواها الطبقي. فالدولة أما أن تكون دولة رقيق أو دولة اقطاعية أو برجوازية أو رأسمالية، أو بروليتارية أو اشتراكية – وكل دولة هي دكتاتورية طبقية: ينتج ذلك أصلها ومهمتها. ويمثل المحتوى جوهر الدولة، وهو يسبق صورتها ويحددها. وتختار كل طبقة مسيطرة الصورة التي تناسب دكتاتويتها الطبقية.و لنذكر هنا بعض الأمثلة التاريخية:
هل كانت الدولة القديمة دولة رقيق؟ أجل. مهما كانت صورتها لأن الرقيق لم يكن فيها قط مواطنا.
هل كانت الدولة في القرون الوسطى دولة إقطاعية؟ أجل. ومهما كانت صورتها لأن الرقيق فيها لم يكن له أي حق سياسي. أما البرجوازيون فقد فازوا بحريتهم بنضالهم.
هل الدولة الفرنسية، منذ عام 1789، هي دولة البرجوازية الرأسمالية؟ أجل. ومهما كانت صورتها لأن البروليتاريا فيها لم تتمتع بأي حقوق سياسية سوى الحقوق التي انتزعتها من البرجوازية بالنضال، وهي تفرض احترام هذه الحقوق بنضالها المستمر.
هل الدولة السوفياتية هي دولة العمال والفلاحين؟ أجل. لأن أساس الاتحاد السوفياتي السياسي يتكون من سوفيات نواب العمال الذين ازداد عددهم وتوطدت أركانهم بعد قلب سلطة كبار الملاكين والرأسماليين، وبفضل الاستيلاء على دكتاتورية البروليتاريا (المادة 2 من دستور الاتحاد السوفياتي)
كل السلطة في الاتحاد السوفياتي بين يدي عمال المدين والقرية الممثلين في شخص سوفيات نواب العمال (المادة 3 من دستور الاتحاد السوفياتي).
ولهذا فالسؤال الأول الذي يجب طرحه لتقدير طابع دولة من الدول في أيامنا هو هذا السؤال: هل نحن أمام دولة برجوازية رأسمالية أم أمام دولة اشتراكية للعمال والفلاحين؟ ولا يمكن أن يطرح السؤال بصورة أخرى، إذ لا يمكن للدولة أن تكون دولة رجل، أو حزب. بل هي دائماً دولة طبقة.ولقد رأينا أن الدولة لا يمكن أن تستقر بدون أساس اقتصادي ونعلم أن الأساس الاقتصادي يمتاز بملكية وسائل الإنتاج.والقوة الاجتماعية التي تمثل الملكية وتمتلكها وتستخدمها ليست رجلا أو حزبا بل هي دائما، وفي كل مكان، طبقة، فهي هنا طبقة البرجوازيين الرأسماليين وهناك طبقة العمال المتحالفين مع طبقة الفلاحين العمال.
نعرف إذن محتوى الدولة الاجتماعي بالجواب على هذا السؤال التالي: هذه الدولة في خدمة أية علاقات إنتاج، وأية صورة للملكية (خاصة أو اجتماعية) وأية طبقة؟
يجب طرح هذا السؤال بصدد كل الأفكار السياسية.
سطر لينين بسرعة، مثلا، بصدد الحرية، الملاحظات التالية "الحرية" حرية مالك السلع.
حرية العمال المأجورين الحقيقية – حرية الفلاحين:
حرية المستغلين.
الحرية من أجل من؟
الحرية بالنسبة لمن وبالنسبة لماذا؟
الحرية في أي شيء؟
كما سطر بصدد المساواة:
"المساواة". انجلز في "ضد دورنج" (وهم إذا أردنا بذلك أكثر من إزالة الطبقات).
مساواة مالكي السلع.
مساواة المستغل والمستغل.
مساواة الجائع والشبعان.
مساواة العامل والفلاح.
مساواة من؟ ومع من؟ وبأي شيء..

وسائل حكم الدولة هي وسائل الطبقة التي تسير الدولة، وبهذا تكون هذه الوسائل ذات مغزى لأنها تدل على محتوى الدولة. هذه الوسائل رأسمالية بالنسبة للدولة الرأسمالية وأولى هذه الوسائل المال.
كتب انجلز بهذا الصدد يقول: لم تعد الجمهورية الديمقراطية تعترف، رسمياً، بفوارق الثروة. إذ أن الغني يؤثر فيها بصورة غير مباشرة ولكنها أكيدة. وذلك بصورة رشوة الموظفين مباشرة، من جهة، ونجد في أميركا مثالا كلاسيكيا على ذلك، وبصورة تحالف بين الحكومة والبورصة من جهة ثانية، ويتم هذا التحالف بسهولة لأن ديون الدولة تزداد باستمرار، كما أن الشركات المساهمة لا تحصر بين يديها وسائل النقل فقط بل الإنتاج نفسه، كما تلتقي هذه الشركات في البورصة.
وليست سيطرة الثورة جميعها، في الجمهورية البرجوازية، في أيامنا هذه، باقل ظهوراً. وبالرغم من أنه لا يوجد أي تشريع قانون يحفظ لأعضاء الأوليغارشية المالية مراكز القيادة في الدولة فان "تبعية جهاز الدولة للاحتكارات" حقيقة واقعة. فمن جهة، تستطيع المئتا عائلة أن تعين بعض أعضائها في جهاز الدولة كموظفين كبار: ومهما كانت القواعد لتعيين هؤلاء الموظفين، فأننا نعلم أن عامل المودة" هو الذي يقرر القبول في دوائر "الدولة الكبرى" كمراقبة الاقتصاد وغيرها. ومن جهة ثانية تنظم الأوليغارشية المالية هجرة منظمة لكبار الموظفين نحو القطاع الخاص مما يسمح لها أن تؤمن تعبئة مستمرة لملاكاتها، وهي تسعى بواسطة الطموح والتلهف على الربح، والرشوة لمراقبة كل نواحي الإدارة. تتضح هذه الرشوة في فضائح الدولة الرأسمالية بين حين واآخر. كما أنها تتخذ طابع توزيع المراكز المباشر في مجالس إدارة الشركات على النواب والممثلين السياسيين واللواءات الخ.....
ولقد رأينا فيما سبق دور الدولة التاريخي في خدمة رأس المال. وهكذا وجدت الدولة الفرنسية نفسها، بواسطة قروض مشروع مارشال، تابعة للاحتكارات الأميركية، وأصبحت بعض دوائرها كوزارة الخارجية مثلا تحت مراقبة عملائها. كما تملك البرجوازية الكبرى أيضاً "الأزمة الاقتصادية" كوسيلة للتأثير على المجلس النيابي. إذ أن ازدياد ديون الدولة عملية سياسية رابحة لها. لأن التهويل المالي، الذي كان وسيلة للضغط على الملوك، يظل نافعاً للتأثير على دولة البرجوازية والدولة الأجنبية التي تتخبط في الصعوبات.
ويبدو دور الثروة السياسي، في الدولة البرجوازية أيضاً، في سلسة من وسائل وهي: ليس محتوى حرية الصحافة سوى أن الرأسماليين الذي يمكنهم ماديا تأسيس جريدة وتمويلها لديهم المجال لخلق هذا المحتوى؟ - ليس محتوى حق الجميع في التعلم سوى أن إمكانية التعلم الحقيقية لا توجد ألا للطبقات الاجتماعية التي تستطيع دفع مصاريف التعليم._ وما تحتوي حرية الرأي والطرق السياسية سوى أن الإمكانية الحقيقية لتقديم مرشحين لا توجد إلا للفئات الرأسمالية التي يمكنها أن تمول معركة انتخابية. ولا ننس أن وجود حزب مستقبل للطبقة العاملة ليس ثمرة النزعة المتحررة البرجوازية بل هو ثمرة تضامن الجماهير الفعال.
وتبدو معالم الدولة الطبقية بوضوح في مسألة العدالة. ولنشر أولا إلى أن العدالة لا تؤدي بل هي تباع على يد البرجوازية: وإذا كانت العدالة نظرياً بالمجان فأن هذه العدالة لا تؤدي ألا لمن يستطيع دفع مصاريف الدعوى، فكيف يمكن لعامل أن ينال التعويض عن حادث وقع له أثناء العمل؟ كيف يمكنه أن يستأنف أمام مجلس الدولة ضد لا شرعية الإدارة؟ وتؤدي العدالة بلغة لا تفهمها الجماهير الشعبية، وهي ترجع إلى مطلع البرجوازية. وأخيراً فأن المباديء التي تهتدي هذه العدالة بهديها هي مباديء الحق البرجوازي الذي يقوم على الدفاع عن الملكية، والدفاع عن رأس المال، وما قمع لصوص الممتلكات الشخصية سوى تعلة لقمع العمال في نضالهم ضد المستغلين، وتتعدد وسائل ضغط الدولة البرجوازية، في القضايا السياسية، على القضاء من التلويح بالترقية حتى للتهديد، الذي يكاد لا يخفى، بواسطة عملاء للاستفزاز، حتى أن النظرية الفكرية البرجوازية تخلتف في تقديرها الجرائم إذا ارتكب هذه الجرائم فقير معدم أو إبن عائلة "محترمة" وأخيراً يجعل فساد البرجوازية المنحطة العدالة عاجزة عملياً أمام المهربين ورجال العصابات التي تلوذ بدوائر المجتمع "العالية".
ينتج محتوى الحق عن وظيفته في تخليد نظام الملكية القائم، والحق ليس تجسيداً لمباديء خالدة ولا "لقوانين طبيعية" أو إرادة "الوعي"، بل هو عنصر مكون للبناء الفوقي، انعكاس لصورة الملكية المسيطرة التي يحاول تخليدها ليجعلها مطلقة، كما يبررها "بمبدأ" مزعوم أبدي، ولهذا كان التفكير التشريعي البرجوازي أفضل مثال على تطبيق المنهج الميتافيزيقي.
ومثال واحد يدلل على محتوى الحق الطبقي. يجبر القانون الأولاد على القيام بأود والديهم، عند الضرورة، كما يجبر الوالدين بتربية أولادهما. أو ليس من الواضح أن هذه القاعدة تعمم في المجتمع واجبا لا معنى له ألا ضمن نطاق العائلة البرجوازية المالكة، وأن هذا التعميم الجائر يعفي المستغلين، أي البرجوازية، من واجبهم نحو عناصر البروليتاريا العاجزة عن العمل: وهم كهول العمال، والمقعدون، والمرضى، وأولاد البروليتاريا؟
وتمتاز الدولة البرجوازية "الديمقراطية" أيضاً بالميزات التالية:
البيروقراطية: يشرف على الإدارة من عل تعاليم البرجوازية الكبيرة الخفية، وهكذا كانت الإدارة العليا غير مسؤولة، عملياً، تراقبها مباشرة الأوليغارشية المالية ويكون كبار الموظفين "جماعات" متخصصة مغلقة، تحتكر "الكفاءات" أي تجربة طبقة البرجوازية القديمة، ولا تخضع هذه الإدارة لمراقبة الجان البرلمانية عن طريق "السر المهني" وتشرف إدارة المحافظة على المجالس المحلية وتجعل قراراتها تابعة لمصالح طبقة البرجوازية الكبيرة .
النزعة العسكرية: تهدف مدة الخدمة العسكرية الطويلة، وهي ثمرة الاستعمار الذي لا يرى في السلم سوى هدنة بين اعتدائين، إلى تنشئة الشباب على خدمة الدولة البرجوازية خدمة عمياء، وقد وضع النظام كطاعة سلبية لا تقبل النقاش، مفروض من عل، لأن البرجوازية لا تستطيع الاعتراف صراحة بأهدافها الطبقية إلى جنودها.
النزعة البرلمانية: نظمت الانتخابات بشكل يجعلها تقرر فقط كل أربع أو خمس سنوات من هو الرجل الذي تثق به البرجوازية سيمثل الشعب في البرلمان ويضطهده، وممثلو الشعب لا يمكن الناخبون تنحيتهم، كما أنهم لا يملكون السلطة التنفيذية والإدارية بفضل المبدأ البرجوازي عن "فصل السلطات"، وتعرف النزعة البرلمانية هي أن المجالس المنتخبة لا تشرف بنفسها على تنفيذ قراراتها وتطبيقها: فهي ليست مجالس فعالة.
وأخيراً نأتي لظاهرة أحدث في فرنسا وهي أن رجال السياسة يختارون مباشرة من بين الرأسماليين أمثال "بيني" و "ماير" و "لانييل"، الذين لا يكتفون بالإشراف على السياسيين، بل يقومون هم أنفسهم بإدارة الحكومة. وهذه الظاهرة أقدم في الولايات المتحدة وأشد اتساعاً. إذ نرى اللواءات والممثلين السياسيين والقضاء، من بين الرأسماليين، يقومون بأنفسهم بهذه الوظائف.
نرى الآن ما معنى أن كل دولة هي دكتاتورية طبقة من الطبقات، ويعني هذا أن حقيقة السلطة في يد طبقة تمارسها لخدمة مصالحها,مستخدمة في ذلك وسائلها الخاصة.يمكن للدولة البرجوازية أن تكون ديمقراطية بالنسبة للرأسماليين، ولكنها دكتاتورية بالنسبة للطبقة العاملة، بينما الدولة الاشتراكية، على العكس، هي ديمقراطية بالنسبة للعمال ولكنها دكتاتورية بالنسبة للطبقات القديمة المستغلة الزائلة. وكان لينين يقول: الدكتاتورية، التي هي نفي للديمقراطية، من أجل من؟.
من الخطأ، إذن تعريف الفاشية بأنها "دكتاتورية حزب. لأن الفاشية هي "دكتاتورية أشد العناصر الرجعية إرهابا واستعمارا في رأس المال" (ديمتروف). وما الحزب الواحد إلا أداة هذه الدكتاتورية الطبقية.
أما ثرثرة الاشتراكيين الديمقراطيين عن "تسرب العناصر البروليتارية" في الدولة الحديثة,التي تجعل لهذه الدولة شبه طابع "وسط" لأنها "ليست بروليتارية تماماً" ولا "برجوازية تماما" فأنها لا يمكنها أن تخفي ما يلي: وهو أنه إذا وجب على البروليتاريا أن تهدم، بمشقة، بعض قلاع الدولة الرأسمالية الأمامية، فهل يمنع ذلك من أن تظل هذه الدولة رأسمالية أو لا يبرهن، على العكس، أنها رأسمالية؟
ب – صورة الدولة
صورة الدولة هي التعبير عن محتواها الاجتماعي الحقيقي، وهي تتحدد بنمو نضال الطبقات.
يميز لينين بين عدة صور للدولة ظهرت منذ القدم:
- الجمهورية كدولة ليس فيها سلطة غير منتخبة.
- الملكية كسلطة فرد واحد.
- الأرستقراطية كسلطة أقلية محدودة نسبيا.
- الديمقراطية كسلطة الشعب.
وتمتزج هذه الصور بعضها مع بعض، فيمكن للجمهورية، مثلا، أن تكون أرستقراطية أو ديمقراطية، تضم في نفس الوقت بقايا الملكية.
ولا تستقر صورة الدولة، غالبا، على حال، فهي تتأخر غالبا، عن المحتوى، وتعبر بطريقتها عن تناقضات المجتمع الداخلية.
كانت جميع صور الدولة، في القدم، لها محتوى يعتمد على الرقيق. ومع ذلك فإن الانتقال من صورة الجمهورية الأرستقراطية إلى الجمهورية الديمقراطية، في روما، مثلا كان يعكس، بالضرورة، مرحلة جديدة من نضال الطبقات بين الملاكين والتجارة.
وقد تنوعت صور الدولة، في عهد الإقطاع. فوجدت جمهوريات أرستقراطية كان الإقطاعيون فيها ينتخبون رئيس الدولة، وهو الإمبراطور، وقد تحول بعضها إلى ملكيات وراثية.فكان شارلمان يجمع,كل سنة برلمانا من البلاد الكارولنجيين, وهو بقايا للعادات "الجمهورية" عند الفرانك. كما كان الكابيتيون الأوائل منتخبين، كما انتخب الإمبراطور في نعض مراحل الإمبراطورية المقدسة على يد كبار الإقطاعيين. ولكن محتوى الدولة، كان في جميع هذه الأحوال، إقطاعيا.
وكانت "المجالس العامة" في عهد القديم مؤسسة ذات طابع "جمهوري" لأنها كانت تتكون من مندوبين منتخبين وهم في نفس الوقت أرستقراطيون لأن الإقطاعيين كانوا يتمتعون فيها بأكثر الثلثين: كما أنها كانت بذلك مؤسسة إقطاعية تخدم مصالح الإقطاعيين!
حتى إذا ما أصبح للبرجوازية تأثير على الدولة الملكية الإقطاعية بواسطة وسائلها المالية وقفت في وجه هذه المؤسسة الإقطاعية، ألا هي مؤسسة المجالس العامة حيث كانت أقلية فيها. ولهذا لم تجتمع المجالس العامة في عهد الملكية "المطلقة" أيام لويس الرابع عشر وكولبير – البرجوازي.
غير أن نزعة الملكية المطلقة، التي كانت، اثر الفروند (Fronde) موجهة ضد الإقطاعيين، قد انقلبت على البرجوازية، في القرن الثامن عشر، بسبب تقدم البرجوازية الذي أخذ يهدد النظام الإقطاعي.
ففكرت البرجوازية، عندئذ، في استخدام المجالس العامة، إذ أن الوضع كان تغير، ويمكن لهذه المجالس، بعد شيء من الإصلاحات، أن تخدم البرجوازية! كانت طبقة النبلاء معزولة في البلاد، وكان الكهنوت منقسما بالنضال الطبقي بين طبقة الكهنوت المنحدر من الشعب، وكانت البرجوازية الطبقة التي تعتمد عليها ثروة الاقتصاد القومي: فقامت بحملة بين الجماهير لمضاعفة عدد نواب الطبقة الثالثة (وكان هذا العدد عادة مساويا لعدد نواب كل من الطبقتين الأخريين)، كما دعت لانتخاب يجري داخل المجالس، على أساس الفرد و ليس على أساس الجماعة. وهكذا تضمن البرجوازية، بمساعدة نواب الكهنوت الشعبي، الأكثرية المطلقة في المجالس العامة! حتى إذا ما اجتمع نواب الطبقة الثالثة، دعوا نواب الكهنوت إلى الانضمام إليهم وأعلنوا أنفسهم مجلسا قوميا.
وهكذا نرى أن البرجوازية عرفت كيف تستخدم، حسب تطورات النضال الطبقي، المؤسسات الملكية في الدولة الإقطاعية، (الملك) تارة، والمؤسسات "الجمهورية" (المجالس العامة) تارة أخرى.
وقد أتاح نمو النضال الطبقي لهذه المؤسسة الإقطاعية محتوى جديدا برجوازيا، ارتدى المحتوى الجديد، لمدة من الزمن، صورة قديمة وحدد تحولاتها. ولنشر أخيرا إلى أن التطور النوعي، وهو ازدياد قوة البرجوازية، في البلاد، قد أفضى جدليا إلى تغير نوعي في صورة المؤسسات، ألا وهو تحول المجالس العامة إلى مجلس قومي، وإلى قلب تام للوضع السياسي العام، إلى الثورة السياسية. كل ذلك حدث على أساس نمو النضال الطبقي.
وقد استخدمت البرجوازية، بدورها، بعد أن أصبحت طبقة مسيطرة، مختلف صور الدولة.
الملكية الدستورية التي لم تخرج عن نطاق جمهورية غير ديمقراطية، لا ينتخب فيها سوى "المواطنين العاملين" الأغنياء الذين يمكنهم دفع ضريبة معينة.
الجمهورية المقصورة على دافعي الضرائب.
الجمهورية الديمقراطية التي تقوم على الانتخاب العام "الشامل".
وتكون الصورة الأولى للدولة حلا وسطا مع النظام القديم في الأوقات التي كان ذلك فيها ضروريا.
ولقد حظيت الصورة الثانية بتفصيل البرجوازية لأنها كانت تتفق تماماً مع الأساس الاقتصادي للعهد فكانت جمهورية الملاك.
وقد أصبحت الصورة الثالثة ضرورية حين نما نضال البروليتاريا الطبقي، ووجب تغطية الدكتاتورية الطبقية "للتخفيف من حدة النضال الطبقي" وتهدئه اندفاع البروليتاريا الثوري.
وكان يهم البرجوازية أن تغرس في العقول الفكرة القائلة بأن الجمهورية الديمقراطية هي صورة الدولة المثالية النهائية، وهي أسمى ما وصل إليه "تقدم الوعي"، والمدينة والنزعة الإنسانية، وأنها تجسيد "الحق الطبيعي" ونهاية التاريخ بمعنى ما. وهكذا كانت تأمل تخليد حكم رأس المال.
غير أن تناقضات الرأسمالية، وتأزم النضال الطبقي، والأزمات الاقتصادية، والاستعداد للقيام بالفتوحات الاستعمارية، وبدء أزمة الرأسمالية العامة، كل ذلك لم يمكنها من ذلك. فاضطرت البرجوازية إلى أن تلقي قناع الديمقراطية، وأن تعتدي على شرعيتها، لتبقى سيطرتها الطبقية. وهي تتأرجح على أساسها الاقتصادي الفاسد، وأن تستعد للحرب، فكشفت عندئذ عن وجه الفاشية الكريه، وعن دكتاتورية رأس المال في وحشيتها المفترسة. ودلت بذلك على أن محتوى الدولة الطبقي أهم من صورة، وأن الجمهورية الديمقراطية كانت صورة تاريخية للدولة، وهي صورة وقتية تابعة لمصالحها الطبقية، وهي ليست مقدسة ولا خالدة. كما برهنت بنفسها على كذب تصريحاتها عن حبها المجرد للحرية والمدينة!

4 – نضال الطبقات والحرية
ا – البرجوازية و "الحرية"
كان لنضال البرجوازية التاريخي من أجل "الحرية" محتوى طبقي.
فإذا كانت البرجوازية، في زمن الثورة البرجوازية قد جعلت من نفسها نصيراً للحرية فذلك:
لأنها كانت بحاجة إلى أن تجد في السوق يداً عاملة حرة قد تحررت من قيود الإقطاع، لا تتعلق بسيد، يمكنها أن تضمها إلى صناعتها أو تنبذها في البطالة حسب حاجات الإنتاج الرأسمالي.
لأن نمو قوى الإنتاج الجديدة يتطلب حرية التجارة وحرية الأعمال، وإزالة قيود الاقتصاد الإقطاعي.
ج) لأن "الحرية الفردية" هي الصورة القانونية السياسية التي تعبر أفضل تعبير عن صورة الملكية الخاصة، التي هي أساس البرجوازية، وهي الثروة قد تمثلت بالمال الذي يزيل كل علاقة شخصية بين أعضاء المجتمع. وأساس فكرة الحرية الفردية هي الملكية الخاصة البرجوازية، وأن كانت البرجوازية تريد أن توهم الناس، على العكس، بأن فكرة الفرد المطلقة هي التي تبرر الملكية الخاصة!
د) لأن البرجوازية بنصرتها للحرية، توجد أساساً فكريا للتحالف السياسي مع طبقات الشعب الأخرى التي تناضل ضد الإقطاعية: كالفلاحين وفئات متعددة من البرجوازية الصغرى، فكانت الثورة الديمقراطية البرجوازية هي الطريقة الوحيدة للنجاح في نضال ضد الإقطاعية.
ولنلاحظ أن هذه البرجوازية التي تعلن عن نفسها بأنها "متحررة" هي نفسها التي ترفض حق الانتخاب "للمواطنين السلبيين"، كما ترفض حق الشراكة للعمال عام 1791!
وهكذا تكون حدود نزعتها المتحررة هي حدود مصالحها الطبقية تماماً.
توجد البرجوازية، المنقسمة على نفسها، بسبب خواص الرأسمالية والمضاربة إلى فئات تختلف مصالحها، صوراً لتنظيم السياسي خاصة: وهي تعدد الأحزاب البرجوازية، والنزعة البرلمانية.
ولما كانت المصالح الخاصة بفئة من البرجوازية يجب أن تظل تابع لمصالح الطبقة العامة الدائمة، فإن البرجوازية تحدد حقوق البرلمان، وتفصل السلطة التنفيذية عن السلطة التشريعية، وتحول دون إشراف البرلمان على إدارة الدولة.
وإذا كانت البرجوازية اتجهت فيما بعد نحو الانتخاب العام الشامل "في أواسط القرن التاسع عشر" ونحو النزعة البرلمانية الديمقراطية، فلهذا أسباب واضحة.
نما النضال الطبقي، وأخذت البروليتاريا تطالب بحقوقها السياسية، وأخذت أهمية الرأي العام تزداد لأنها امتدت إلى طبقات جديدة نشيطة قد نمت بتأثير الصناعة الكبرى، فإذا بالجمهورية الديمقراطية تخفي حينئذ سيطرتها الطبقية، كما أن الأجر المدفوع في نهاية اليوم يخفي الاستغلال الطبقي.يضاف إلى ذلك أن الجمهورية الديمقراطية لم تصبح بعد خطراً على البرجوازية، لأن البروليتاريا لم تكن في هذه الفترة، مستقلة فكريا. فمن السهل إذن الحصول على أصواتها بواسطة دعاة البرجوازية، فتزول نتيجة الانتخاب العام الشامل بطريقة خاص للانتخاب. وهكذا ألا يلزم قدر من الثقافة حتى يصبح المرء نائبا، ولهذا تمتنع البرجوازية "الديمقراطية" عن أن تأتي بأي عمل لتثقيف الجماهير، سياسيا، بصورة ديمقراطية! كما أن مهمة المدرسة الابتدائية الإجبارية هي تنشئة هذه الجماهير على الاحترام البرجوازية.
كما أن السياسيين البرجوازيين يجرون على قاعدة وهي التناقض بين وعودهم وأعمالهم في البرلمان، ويعكس هذا التناقض تعارض المصالح بين الشعب والبرجوازية.
وعلى كل حال فقد كانت فوائد الانتخاب العام، في هذه الفترة، بالنسبة للبرجوازية أكثر من مضاره. فإذا منحته وثقت علاقاتها بالجماهير وأصبحت شعبية عندها فزادت بذلك قوتها السياسية.
ألم يعتد كافور، البرجوازي الكبير المتحرر، على القول:
أسوأ المجالس أفضل من أسمى المجتمعات خارج هذه المجالس"
– La pire des Chambres"
"vaut mieux la meilleuredes anti-chambres
مشيراً بذلك إلى مصلحة البرجوازية في أقامة واجهة برلمانية لتأييد الرأي العام. كما كان يؤكد قائلا:
"لم اشعر قط بضعفي كما كنت أشعر أثناء عطل المجالس ولقد كتب
لينين يقول:
تزداد ثقة الثروة في الجمهورية الديمقراطية كلما كانت لا تتعلق بغطاء سياسي سيء للرأسمالية، وهكذا بعد أن يستولي رأس المال على هذا الغطاء، وهو الأفضل، يقيم سلطته بشكل متين فلا يستطيع أي تغيير للأشخاص، أو المؤسسات أو الأحزاب، في الجمهورية الديمقراطية البرجوازية، أن يزعزع هذه السلطة.
ويعني هذا أن الانتخاب العام في الدولة البرجوازية، يعجز عن أن يعبر تماماً عن إرادة أغلبية العمال، وأن يضمن تحقيق هذه الأرادة. حتى لو أنه أصبح قادراً على ذلك فأن البرجوازية تسرع في القضاء على تأثيره، فتلغي، مثلا، التمثيل النسبي، وتأتي بالانتخاب القائم على الأكثرية أو القائم على"الولاء" وكل هذه أساليب للتزوير برع فيها دي جسبيري في ايطاليا وأيدناور في ألمانيا. إذ كل شيء حسن لمنع الانتخاب العام من التعبير عن إرادة الشعب.
يظهر، في أكثر الدول الرأسمالية ديمقراطية، التناقض باستمرار، بين الشرعية التي تعترف بها القوانين، والشرعية التي تلغيها الوقائع، بين الدساتير، التي تمنح الشعب الحريات الديمقراطية، وبين الفقر الذي يمنعه من استخدمها كاملة، بين الحرية الصورية والتبعية الفعلية.
ولا يعني هذا قط، كما سنرى، أن على البروليتاريا أن لاتأبة لطالع الدولة البرجوازية الديمقراطي، كما أدعى زعماء الاشتراكية الديمقراطية الانتهازيون، صنائع الفاشية.
ب – البروليتاريا والحريات
يشتد اهتمام البرجوازية للقيام بحروب الاعتداء، في فترة أزمة الرأسمالية العامة، حين تزداد تناقضات الاستعمار عمقاً. يضاف إلى الاستعداد للحرب، بين الدول الرأسمالية، تهيئة الحرب ضد الاتحاد السوفياتي، وضد البلاد التي قامت فيها سلطة الطبقة العاملة. ولا يمكن للرأسماليين ألا أن يريدوا الحرب، على أن لا تتعرض فيها الرأسمالية إلا لأقل الأخطار طبعاً، وذلك كوسيلة لإنقاذ الرأسمالية، وكحل للأزمة وتناقضات النظام الرأسمالي. ولكن إذا كان صحيحاً أن الاستعمار هو السبب الموضوعي للحروب، فأن القيام باعتداء يتطلب شروطاً ذاتية. ولهذا كان على البرجوازية أن تهيء جنود المستقبل للاعتداء، وأن تستميل، إلى جانب قضية الاستعمار، أغلبية الأمة. فكان من الضروري أن تسكت القسم الواعي، في الطبقة العاملة، التي تناضل من أجل السلم، وتقف في وجه الاستعمار، وتدافع عن بلد الاشتراكية. ولا يمكن لأية برجوازية، في تلك المرحلة، أن تندفع في الحرب بدون أن تضمن مؤخرتها، وأن تلجم طبقتها العاملة والشعوب المستمرة التي تضطهدها وتعتمد عليها كمعين لها. وما الفاشية ألا نتيجة لهذا الضرورة.
فهي، بالإضافة إلى ذلك توفر وسائل سياسة اقتصادية تقوم على محاولة أنقاذ الرأسمالية بالتعجيل في التجمع الرأسمالي، فتقع على كاهل البرجوازية المتوسطة نتائج الأزمة الاقتصادية وتمنعها بقسوة من استخدام أية وسيلة للتعبير السياسي ويغذي القضاء على البرجوازية المتوسطة دعاية اجتماعية غوغائية، إذ تدعى الفاشية، أمام الطبقة العاملة أنها ثورية تناهض الرأسمالية، ولكنها تقدم للطبقات المتوسطة التي هدمتها، تعويضاً، بواسطة الحرب، والتوسع الاستعماري و"المجال الحيوي"، كما تقدم الدعاية القومية الغوغائية.
ولهذا تدعي الفاشية، في جميعها لهاتين الدعايتين، أنها قومية اشتراكية، وما النزعة المناهضة للسامية سوى رحيق هاتين الدعايتين، لأنها تمزج الدعاية الغوغائية المناهضة للرأسمالية بالكراهية القومية والعنصرية.
تمثل الفاشية حكم الأولغارشية المالية غير المنازع. و "دكتاتورية أشد عناصرها رجعية وتعصباً واستعماراً، وهي دكتاتورية إرهابية واضحة". ولا يفرض هؤلاء أوامرهم على الطبقة العاملة فقط، بل على كل الاقتصاد الرأسمالي. والبرجوازية، حين تفتتح هذه الصورة للدولة أنما تسعى لتمديد أجل الرأسمالية في نزعها الأخير، وذلك بفضل تأثير الدولة على الاقتصاد. ويبدو هذا التأثير، بصورة أساسية في الحرب الوحشية التي تهدم قوى الإنتاج. الفاشية هي تهيئة الحرب، وهي الحرب ذاتها. الفاشية هي تصفية الديمقراطية البرجوازية منذ فترة الاستعداد للحرب. والدولة الفاشية هي الحاجز "الذي لا يقهر" الذي تود البرجوازية أقامته في وجه قوى المجتمع الصاعدة، حتى تفرض عليها قبول الحرب، أمام أمرين لا بد منهما في آخر مراحل الرأسمالية: أما الانتقال إلى الاشتراكية أو معناة الحرب الاستعمارية الدورية.
ولقد قال موريس توريز: طأن الفاشية هي الإرهاب الدامي ضد الطبقة العاملة، والقضاء على المنظمات العمالية، وحل النقابات الطبقية، ومنع الأحزاب الشيوعية، وتوقيف المناضلين العمال الثوريين، وتعذيب أفضل أبناء الطبقة العاملة واغتيالهم. الفاشية هي اندفاع الحيوانية، والعودة مظاهرات القرون الوسطى المعادية لليهود, والقضاء على كل ثقافة، وسيطرة الجهل والهمجية،هي الحرب الكريهة.
والاستعانة بالفاشية دليل على أن البرجوازية تشعر أنها ستفقد الأكثرية بين الجماهير، وهي شرط لا تستطيع بدونه إعلان الحرب. ولهذا كانت الاستعانة بالفاشية دليلاً على ضعف البرجوازية، وأنها بدلا من تعتمد على رصيد مغتصب، أصبحت لا تملك سوى الإرهاب. غير أن انتصار الفاشية يعني أن البرجوازية قد توصلت إلى عزل الطبقة العاملة، وأنها نجحت في مناورتها السياسية، وأنها نظمت إرهابها الطبقي، وأنها سوف تستطيع إعلان الحرب. وتأخير ساعة سقوطها سنوات طويلة.
للدولة الديمقراطية البرجوازية والدولة الفاشية نفس المحتوى الطبقي، غير أنهما ترتبطان بمراحل مختلفة من نمو تناقضات الرأسمالية ونضال الطبقات. ولهذا تحاول الفاشية، كي تستميل إليها الجماهير، أن تتقنع بقناع الثورة القومية الاجتماعية. فكان موسوليني يقول: "الاشتراكية البروليتارية أسطورة قديمة، والفاشية أسطورة جديدة" وإذا كانت البرجوازية تلجأ إلى الفاشية، فلأنها في ضعفها تجد في الفاشية أفضل وسيلة لإنقاذ نظامها. ولهذا كان لدور الدولة الفاشية أهمية رئيسية بالنسبة لها. وكما كان على الطبقة العاملة أن لا تمكنها من اصطناع هذه الأداة لاستعبادها ولهذا لا يمكن للطبقة العاملة أن لا تهتم بصورة الدولة البرجوازية. "ويحاول زعماء الاشتراكية الديمقراطية معتمدين على نزعة مادية ساذجة، أن يذيعو الفكرة القائلة بأن صورة سيطرة الطبقة لا تهم الطبقة العاملة ألا قليلا، لأنها "على كل حال" مسيطر عليها. غير أن الطبقة العاملة يهمها أن تنتهي من هذه السيطرة في أسرع وقت. ويحاول وزعماء الاشتراكية الديمقراطية بحججهم الواهية، أن يضعفو الطبقة العاملة، أمام الفاشية المعتدية، فهم يعملون لحساب البرجوازية.
كان موريس توريز هو الذي وقف، في فرنسا، في وجه التقليل من أهمية الصور التي ترتديها دكتاتورية البرجوازية فلقد أظهر، في الخطاب الذي ألقاه في المؤتمر السابع للعالمية الشيوعية، أهمية الديمقراطية البرجوازية، بالنسبة للطبقة العاملة، بالرغم من طابعها الضيق:
الديمقراطية البرجوازية هي أقل ما يمكن من الحريات التي لا تنفك البرجوازية الحاكمة من تضييقها، ولكن هذه الحريات تمكن، مع ذلك، الطبقة العاملة والفئات الكادحة من أن تعبيء نفسها وتنظمها ضد الرأسمالية.
ولعله من الخطأ الاعتقاد بأن النضال من أجل الديمقراطية يمكنه أ، يميل بالبروليتاريا عن رسالتها التاريخية. ولقد أشار لينين إلى أن الجمهورية الديمقراطية بالرغم من أنها لا تقضى قط على سيطرة الرأسمالي ولا على اضطهاد الجماهير ونضال الطبقات، فأنها تؤدي حتما إلى امتداد النضال واندفاعه ونموه وتازمه فتتضح عندئذ إمكانية تحقيق مصالح الطبقات المحرومة الأساسية، ولا بد من أن تتحقق هذه الإمكانية في دكتاتورية البروليتاريا حتما.
وهذا مثال رائع على الجدلية، يدل على حالة "تتحول فيها الكمية إلى كيفية" وقد تحققت تماماً وبصورة منهجية فأصبحت الديمقراطية بروليتارية بعد أن كانت برجوازية.
ولهذا كانت "الرسالة حول الوضع السياسي ومهمات الحزب الشيوعي الفرنسي" التي أقرها المؤتمر الثلث عشر للحزب تذكر في المسألة 15 تعاليم لينين:
لا يمكن للبروليتاريا أن تستعد لقهر البرجوازية، دون أن تقوم بالنضال في جميع الميادين، نضال ثوري من أجل الديمقراطية.
ويجب أن ننتبه، في أيامنا هذه، لجميع الصور التي ترتديها تصفية شرعية البرجوازية. ولما كانت البرجوازية مضطرة، بتأثير الجماهير، إلى الإبقاء على الصورة الديمقراطية فأنها تهتم بحرمانها من نتائجها. وهذا ما يسمى بصبغ الدولة بالفاشية.
هذا السهم موجه ضد الطبقة العاملة ولما كانت البرجوازية ترغب في أن تتجنب حكم الرأي العام فأنها تتآمر. حتى إذا حلت الانتخابات قامت بتنظيم محكم لكبح الطبقة العاملة. وتتعدد صور هذا الكبح التاريخية من مثل: فرض الضريبة، أو اعتماد انتخاب الدورتين، أو انتخاب اللائحة بالأكثرية أو انتخاب الفرد بالأكثرية، أو البالوتاج، أو التنازل، أو الانتخاب بالولاء، أو تعديل المناطق الانتخابية، أو تزوير اللوائح الانتخابية، أو زيادة مصطنعة للأصوات، أو تدخل المحافظ، أو منع الجرائد الديمقراطية، أو اتهام المرشحين، الخ...
ونحن لا نزال نذكر الحجج الواهية لتأجيل دعوة المجلس الوطني عام1954 حين طلب العمال المناضلون ذلك. وقد أصبحت دعوته واجبة دستوريا بعد طلب ثلثي نواب المجلس:
أ – قرر رئيس المجلس، منذ تقلى طلب الفريق الشيوعي، بأن هذا الطلب لا قيمة له أنه يجب التقدم بطلبات فردية.
ب _ قررت أغلبية مكتب المجلس، في 21 آب بعد أن وصلها 229 طلبا، الطلبات المرسلة باللاسلكي ملغاة (لم يكن المحافظون يعتبرون أوامر القمع المرسلة لاسلكيا من الوزارة ملغاة).
ج – وصل في 24 آب 211 طلباً فرفضت أغلبية المكتب اعتبار أربعة امضاءات مما جعل عدد الطلبات أقل من 209 وهو العدد المطلوب.
د – جمع في 5 أيلول 219 طلباً جديداً، فأكتشف المكتب عندئذ فجأة أن أعمال الترميم في المجلس تضطره إلى تأجيل دعوة المجلس شهراً، أي إلى صبيحة عودة المجلس العادية. وهناك أمثلة أخرى: منع الطلبة من التقدم لامتحان دخول مدرسة الإدارة الوطنية بسب ميولهم أو أصلهم الجزائري. بينما تقرر مقدمة الدستور قائلة: "لا يمكن لأي شخص أن يرزء في عمله أو خدمته بسبب أصله أو آرائه أو معتقداته"،
وهذا ما يدلل على فكرة "التسرب" المشهورة في الدولة البرجوازية، تلك الفكرة العزيزة على قلب القادة الاشتراكيين الذين يدعون بأن الطبقة العاملة يمكنها أن "تتسرب"إلى الدولة البرجوازية.
يضرب العمال مستخدمين حقا دستوريا لهم! فترسل الحكومة لهم في زمن السلم أوامر غير شرعية بمصادرتهم، بموجب قانون وضع لزمن الحرب، ولكن الشرع يختلف فيما يتعلق بمصادرة المساكن!
فإذا كانت القوانين تمس مصالح البرجوازية أمتنعت حكومة البرجوازية عن تطبيقها، كما أنها تقف إلى جانب أصحاب العمل الذين لا يطبقونها: وكذلك شأن الأجور والمعاشات وقانون المصلحة العامة، وقوانين التأمين الاجتماعي
تستخدم البرجوازية، في صبغها للدولة بالصبغة الفاشية جميع الوسائل فهي تنظم تزوير الانتخابات، كما تؤجل، لأجل غير محدود، المناقشات البرلمانية، وتحاول وضع جميع الموظفين تحت حماية محافظيها، وتقوم برشوة الشرطة، وتطالب بتعديل الدستور، بصورة رجعية، تحمى نشاط المغامرين، أنصار أعمال القمع العسكرية، وتفتتح نظام مراسيم القوانين.
وأخيراً تنتقل للتآمر ضد الطبقة العاملة ومنظماتها، فتحاول أن تعميق عملها الشرعي، معتمدة على "المبدأ" القائل بأن الضمانات الشرعية لا تطبق على الطبقة العاملة، وهي تلغي تأمين أشخاص المواطنين، وتقوم بالتوقيف الاحتياطي، بدون اتهام، وبدون ملف للقضية، كما تقوم بالتفتيش في غياب من يعنيهم الأمر، كما تسرق أوراق الأشخاص الموقوفين، وتخترع التهم أثناء التحقيق! وفي نفس الوقت تحيط منتخبي الطبقة العاملة بجو من التهديد برفع الحصانة النيابية، وتدعى جر المدنيين أمام المحاكم العسكرية، وتقوم بالتهويل على القضاء، وتحمي مرتكبي الاغتيالات ضد القضاء! كما كان باربوس يقول: "لقد سقطت من يديها وثيقة حقوق الإنسان منذ أمد طويل".
نرى إذن أن نضال الطبقة العاملة، في مثل هذه الظروف، ضد الدولة البرجوازية، ومحاولاتها الفاشية، يتفق مع النضال من أجل الدفاع عن الحريات الديمقراطية البرجوازية، تلك الحريات التي داستها البرجوازية بأقدامها، بينما تملك الطبقة العاملة القوة للعمل على احترامها إذا مااتحدت. مثال ذلك أنه كان يستحيل في 21 آب 1953، على مكتب المجلس أن يعارض في دعوة البرلمان لو أن القادة الاشتراكيين الديمقراطيين للنقابات المنشقة لم يوجهوا، قبل بضع ساعات ضربة قاضية للإضراب فأعلنوا استئناف العمل. حتى إذا ما اتحدت الطبقة العاملة أصبحت لديها القوة لتنمية نشاطها في جميع الميادين، بفضل الشرعية الديمقراطية البرجوازية.
للطبقة العاملة أسباب طبقية مبدأية للدفاع عن الحريات الديمقراطية البرجوازية، ضد الدولة البرجوازية. كحرية إنشاء النقابات التي فازت بها والتي لها أهميتها الرئيسية في نضالها الاقتصادي، وحرية تنظيم نفسها في قوة سياسية مستقلة، تستطيع أن تستمر في سياسة تلائم رسالة البروليتاريا التاريخية.
المشكلة التي تشغل، اليوم، ملايين العمال الذين يعيشون في ظروف الرأسمالية، هي تحديد موقفهم من الصور التي ترتديها سيطرة البرجوازية في مختلف البلدان: نحن لسنا فوضويين، كما أننا لسنا غير مبالين بمشكلة معرفة نوعية النظام السياسي القائم في بلد ما. هل هي دكتاتورية برجوازية في صورة ديمقراطية برجوازية ولو كانت تتمتع بأضيق الحقوق والحريات الديمقراطية، أم هي الدكتاتورية البرجوازية في صورتها الفاشية المفضوحة؟ ولما كنا أنصار الديمقراطية السوفياتية فأننا ندافع عن كل شبر من أرباحنا الديمقراطية التي انتزعتها الطبقة العاملة، خلال سنوات طويلة من النضال العنيد، كما أننا نناضل بعزم لتوسيع هذه الأرباح.
كم من تضحيات تجشمتها الطبقة العاملة في انجلترا قبل أن تنال حق الإضراب، والاعتراف بوجود النقابات شرعياً، وحرية الاجتماع، وحرية الصحافة، وتوسيع حق الانتخاب الخ.. كم من عشرات آلاف العمال بذلوا أرواحهم في المعارك الثورية التي نشبت، في فرنسا في القرن التاسع عشر، لينالوا الحقوق الأولية وإمكانية تنظيم قواهم للنضال ضد المستغلين! لقد بذلت البروليتاريا، في جميع البلدان، الكثير من الدماء لتفوز بالحريات الديمقراطية البرجوازية. ولهذا ندرك عزمها على النضال بكل قواها للمحافظة عليها.
لقد ضمنت البروليتاريا نموها السياسي بفوزها بالحريات الديمقراطية البرجوازية، مع أن البرجوازية قد تصورت هذه الحريات لاستعمالها الخاص.
كتب لينين يقول: أحرزت الجمهورية الديمقراطية، كما أحرز الانتخاب العام تقدما ضخما بالنسبة للرق: فلقد مكنا البروليتاريا من الوصول إلى هذا الاتحاد، وهذا التكاتف اللذين تتمتع بهما الآن، وأن تكون صفوفها المنظمة التي تقوم بنضال منظم ضد رأس المال ولولا النزعة البرلمانية والانتخاب لاستحال نمو الطبقة العاملة بهذا الشكل
لهذا كان قول الزعماء الاشتراكيين الديمقراطيين، بأن الماركسيين اللينينيين ينهجون سياسة الأسوأ، ويفضلون الفاشية على الجمهورية، غيبة ونميمة. لقد رأينا، عدة مرات الأهمية التي تعلقها الماركسية على دور الأفكار التي تتسرب إلى الجماهير، وتصبح قوة مادية، وتسمى عاملا فعالا في التغيرات السياسية الضرورية للتحول الاجتماعي، متى تحققت الظروف الموضوعية. ولكن هل يمكن إذاعة هذه الأفكار الماركسية بين الجماهيرإلا بواسطة الدعاية الصريحة لهذه الأفكار، تلك الدعاية التي تسمح بتعبئة الجماهير وتنظيمها من أجل العمل السياسي؟ أفضل الشروط إذن بالنسبة للبروليتاريين الثوريين هي، في المجتمع الرأسمالي، ظروف الجمهورية الديمقراطية، التي يستطيع بفضلها حزبهم أن يشرح صراحة للجماهير الفقيرة سياسته:
والماديون الساذجون، الذين يجعلون الجدلية، ولا يعرفون دور الأفكار وأهميتها. يمكنهم أن لا يعبأوا، مع الفوضويين بصورة الدولة البرجوازية.
كتب لينين يقول، معلقاً على ملاحظة لانجلز في نقده لمشروع البرنامج الاشتراكي الديمقراطي لعام 1891:
يكرر انجلز هنا، مع توضيحها، الفكرة الآساسية التي تضع خطأ أحمر على جميع مؤلفات ماركس، وهي أن الجمهورية الديمقراطية هي أقصر الطرق المؤدية إلى دكتاتورية البروليتاريا. Dip not yok
يلاحظ ديمتروف، في تتمة النص المذكور آنفاً، أن موقف الطبقة العاملة من الديمقراطية البرجوازية تفرضه أسباب طبقية، وأن هذا الموقف يحدده موقف القوى المناهضة للثورة من الديمقراطية البرجوازية. وهو يلاحظ أن الثورة الفاشية المناوئة هي التي تهاجم، اليوم، الديمقراطية البرجوازية، محاولة إخضاع العمال لنظام الاستغلال والإرهاق البربري.وعلى الجماهير العاملة أن تختار، اليوم، في عدد من البلاد الرأسمالية، ليس بين دكتاتورية البروليتاريا والديمقراطية البرجوازية، بل بين الديمقراطية البرجوازية والفاشية.
ولقد أختصر موريس توريز تعاليم الجدلية الماركسية حول هذه المسألة في عام 1934 في المؤتمر القومي للحزب الشيوعي الفرنسي في الكلمات التالية:
يناضل الشيوعيون ضد جميع صور الدكتاتورية البرجوازية حتى ولو ارتدت هذه الدكتاتورية صورة الديمقراطية البرجوازية. غير أن الشيوعيين لن يهملوا قط الصورة التي يرتديها النظام السياسي للبرجوازية. فهم يكشفون القناع عن عملية انحطاط الديمقراطية البرجوازية الرجعي، ممهدة الطريق أمام الفاشية. لقد دافعوا، ويدافعون، وسوف يدافعون، عن جميع الحريات الديمقراطية التي فازت بها الجماهير نفسها، وأولاها جميع حقوق الطبقة العاملة.
توجد الطبقة العاملة، في نضالها ضد الفاشية للدفاع عن الحريات الديمقراطية البرجوازية، أساساً للتحالف مع الطبقات المتوسطة وطبقة الفلاحين العاملين، تلك الطبقات التي ترتبط بالحريات الديمقراطية وتذهب ضحية دكتاتورية رأس المال الكبير. فهي تعمل على فصل هذه الطبقات عن البرجوازية الكبرى، وعزل البرجوازية، وحرمانها من انصارها بين البرجوازية الصغرى. يدعم النضال ضد الفاشية، إذن، قوة تحالف البروليتاريا، والفلاحين والطبقات المتوسطة، تلك القوة التي بدونها لا يمكن الخلاص من ذلك السد الذي تقيمه القوى الرجعية في وجه التقدم الاجتماعي.
ولا تنسى الطبقة العاملة، في نضالها من أجل الدفاع عن الحريات الديمقراطية، أنها تناضل أيضاً من أجل حرية أسمى، هي حرية العمال، وقد تحرروا من استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، أن يمارسوا سلطة دولة من نوع جديد، فهي التعبير عن أرادة غالبية الأمة العظمى، وأن يجعلوا الدولة تقوم بتطبيق واع لقوانين الطبيعة والمجتمع لمصلحة المجتمع.
تناضل الطبقة العاملة من أجل الدفاع عن الحريات الديمقراطية والبرجوازية وتوسيعها. لهذا النضال، إذن، محتوى اجتماعي يختلف نوعياً عن نضال البرجوازية من أجل "الحرية".
ولا يمكن إيجاد علاقات إنتاج جديدة اشتراكية، تعمي انتقال الإنسان إلى الحرية الفعلية، ألا بازدهار الديمقراطية بأوسع معناها.
ندرك الآن الصلة بين المسألة السياسية لنضال طبقة العمال، من أجل الحرية الديمقراطية، وبين المسألة النظرية لتطبيق قانون الترابط الضروري بين علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج، كما ندرك الصلة بين آخر مؤلف نظري لستالين (مشاكل الاشتراكية الاقتصادية في الاتحاد السوفياتي) وبين هذا المقطع من خطابه، في المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي:
كان للبرجوازية، في الماضي، أن تتظاهر بالنزعة المتحررة، فكانت تدافع عن الحريات الديمقراطية البرجوازية فتوجد هكذا شعبية لها. أما الآن فلم يبق أي أثر للنزعة المتحررة. ولم تعد توجد" الحريات الفردية" المزعومة، ولا يعترف اليوم بحقوق الفرد ألا لأولئك الذين يملكون رأس مال بينما سائر المواطنين يعتبرون مواد إنسانية خام صالحة فقط للاستغلال. لقد ديس بالأقدام مبدأ المساواة في الحقوق بين الناس والأمم، وحل محل المبدأ الذي يعطي كل الحقوق للأقلية المستغلة، وحرم غالبية المواطنين المستغلين من حقوقهم.
لقد القي براية الحريات الديمقراطية البرجوازية.وأعتقد أن عليكم، يا ممثلي الأحزاب الشيوعية والديمقراطية، أن ترفعوا هذه الراية وتحملوها وتتقدموا بها إلى الأمام، إذا أردتم أن تجمعوا حولكم غالبية الشعب. وليس أحد غيركم يستطيع رفع هذه الراية.
الدرس الثالث والعشرون

الأمة (1)



1 – الأمة والطبقة الاجتماعية
ليس هناك من مشكلة تشغل الناس، في الوقت الحاضر أكثر من المشكلة القومية. ويمكن القول سواء كان ذلك بصدد نضال الشعب الفرنسي من أجل استقلاله، ووجوده، أم بصدد نضال شعوب الفيتنام المظفر، أم نضال شعب مراكش أم شعوب الشرق الأوسط، الخ، إن المشكلة القومية ازدادت أهميتها مع الأيام. غير أنها مشكلة صعبة جداً، ولا يمكن التعرض لها وحلها إلا على أساس المادية التاريخية.
كان لينين يقول، وهو يتجول عام 1902 في شوارع لندن، تلك المدينة التي يرجع الفضل في قوتها إلى الرأسماليين "هنا تعيش أمتان" مشيراً إلى الفرق بين شوارع الأحياء البرجوازية الفخمة وبين الأزقة الضيقة البائسة التي تتكدس فيها الطبقة العاملة. وكانت البرجوازية تريد أن توهم الناس أن التاريخ قائم فقط على النضال بين الأمم، محاولة بذلك إخفاء اضطهادها الطبقي، وأن تقنع العمال أن مصالحها هي مصالح جميع الأمة. غير أن المادية التاريخية، باكتشافها أن التاريخ يحركه نضال الطبقات، قد دللت على أن انقسام الناس إلى طبقات متعارضة أشد عمقاً من انقسامهم إلى أمم , بواسطة نضال الطبقات، وبمحتوى الأمم الطبقي.
ولا يعني تفضيل الماركسيين للطبقة الاجتماعية قط أنهم لا يعبأون بالأمة. فالأمة حقيقة تاريخية ظهرت وتنمو على أساس طبقي. كما سنرى. وسوف تزول في المجتمع الخالي من الطبقات. غير أنها. خلال الفترة الطويلة التي توجد فيها، تقوم بدور كبير أهمية الحركات القومية في نظر الماركسيين ولهذا كانت النظرية القائلة بنفي حقيقة القومية مضادة للمادية ويقول بهذه النظرية أعداء الحركة العمالية، وأولهم زعماء الاشتراكية اليمينيون الذين يدعون العمال إلى التخلي عن السيادة القومية لحساب الاستعمار الأميركي، بينما يؤيد الماركسيون الحقيقيون، على العكس، وهم المخلصون للمادية التاريخية، بقوة، حركات التحرر القومي في الشعوب المضطهدة التابعة. ولكنهم لا ينظرون إلى المشكلة القومية في ذاتها: بل هم يربطونها بنضال البروليتاريا الثوري، وبمسألة تحرير البروليتاريا من النير الطبقي.
2 – النظرة العلمية للأمة
ا- ما هي الأمة؟
الأمة هي حقيقة موضوعية. ولقد دفع الهتلريون ثمن عقيدتهم، بأنه يمكنهم إزالة الأمم عن سطح الكرة غالياً وأدركوا أن هذه الحقيقة موجودة، وأنها تتمتع بقوة عظيمة للمقاومة.
فما هي صفاتها؟
1 – وحدة اللغة.
يتكلم أعضاء الأمة الواحد لغة واحدة، هي اللغة القومية ولهذا حاول الغزاة الفاتحون الذين أرادوا، عبر التاريخ، القضاء على قومية ما، أن يفرضوا عليها لغة الدولة المنتصرة. فالتمثل اللغوي، إذن، هو صورة من الاضطهاد القومي. وقد استعمل قياصرة روسيا القديمة هذا التمثل في الشعوب الصغيرة المستعمرة. وكذلك يفعل الاستعماريون الفرنسيون في إفريقيا الشمالية: غير أنه لا يمكننا فرض لغة على شعب ما: لأن اللغة الوحيدة التي يعترف بها هي لغته الأم.
حيث يرشف ويرشف الحروف
التي يتلألأ فيها الوطن ويخفق
نضال الأمم المضطهدة من أجل استقلالها، هو، إذن، أيضاً نضال من أجل لغتها. ذلك هو شأن الشعوب الناطقة باللغة العربية التي استعمرها الاستعماريون الفرنسيون.
اللغة أداة قوية للثقافة القومية.. ولهذا شجعت الحرية التامة التي أعطيت لمختلف اللغات القومية, في الاتحاد السوفياتي، منذ عام 1917، التفتح الثقافي للشعوب التي اضطهدها الاستعمار أيام روسيا القيصرية.
اللغة هي ملك الأمة في مجموعها وليست ملك طبقة معينة. وإلا فكيف يستطيع التفاهم أعضاء الطبقات فيما بينهم؟ يحارب ستالين في كتابة الرائع: حول الماركسية في علم اللغة النظرية المضادة للماركسية التي يقول بها الذين يعتمدون على تعدد الطبقات فينتهون إلى تعدد اللغات في أمة معينة، لا شك أنه يمكن أن يوجد لهجات تستعملها فئات من الطبقة المحظوظة، تلك الفئات التي تريد، بأي ثمن، التميز عن غيرها: (وهكذا كانت الشبيبة الذهبية" أيام ردة الفعل الترميدورية، تتظاهر بأنها لا تتكلم كالشعب) غير أن بعض التعابير، والاستعمالات الغريبة لا تكفي لتكوين لغة. فاللغة هي ثمرة تاريخ شعب، فهي لا تتغير إلا ببطء شديد، ويظل تركيبها ذاته، خلال النظم الاجتماعية المختلفة، وإن كانت الفاظها تزداد غنى شيئاً فشيئاً (بفضل تقدم التقنيات خاصة). ويستعمل كل أعضاء الأمة، مهما كانت طبقتهم، نفس اللغة، وإن كانت كل طبقة تحاول استمال اللغة لصالحها. مثال: ضمنت البرجوازية، بإيجادها للمدرسة الإجبارية، في مطلع الجمهورية الثالثة، انتشاراً واسعاً للغة الفرنسية، لا سيما بين الفلاحين، وكانت تلك مصلحتها الطبقية، لأنه كان على دافع الضرائب أن يعرف قراءة أوراق الضرائب التي فرضتها الدولة البرجوازية، كما كان على الفلاح، إذا ما دعي لحمل السلاح، أن يفهم أوامر رئيسه. غير أن البروليتاريا، التي كانت تتكلم أيضاً اللغة الفرنسية، لغة جميع الأمة، عرفت كيف تستفيد من هذا الانتشار للغة، ليس فقط لأن دراسة اللغة الفرنسية قوت نضالها الطبقي الخاص، بل لأن انتشار اللغة الفرنسية سهل التحالف الثوري مع طبقة الفلاحين العاملة: فهذا الفلاح الفتى الذي كان يتعلم في الصف قراءة اللغة الفرنسية كان يستطيع أن يقرأ أمام العائلة والأصدقاء الجريدة الثورية المطبوعة في المدينة.
ولا تعني أهمية اللغة، كعنصر مكون للأمة في مجموعها، أن اللغة تكفي لتكوين الأمة: إذ يمكن لأمم مختلفة أن تتكلم نفس اللغة: وهكذا يتكلم الإنجليز والأميركيون الشماليون نفس اللغة، ومع ذلك يكونون أمتين مختلفتين وقد نمت هاتان الأمتان على أساس بلدين مختلفتين.
2 – وحدة الأرض
إذا كانت الأمة وحدة لغوية فإنها أيضاً وحدة أرض،إذ أن كل أمة هي ثمرة التاريخ، فهي تستحيل بدون حياة طويلة مشتركة: ولهذا تعتبر الشعوب كل ضم لجزء من أرض الوطن اعتداء على الأمة.
ونلاحظ أن حرب كوريا لا يمكن تقديرها بصورة صحيحة إلا إذا أدركنا أهمية الأرض كعنصر من العناصر المكونة للأمة تكون كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية دولتين، ولكنهما أمة واحدة. ولهذا كانت النظرية، التي دافعت عنها الدبلوماسية الروسية في الأمم المتحدة- داعية "إلى عدم التدخل لأن حرب كوريا قضية داخلية، وحرب أهلية" – عادلة. فقد كانت هذه الحرب داخل أمة واحدة. كما كان إرسال الجيوش الأميركية عملا عدائياً ضد الأمة الكورية في مجموعها.
ويمكننا أن نلاحظ أن وحدة الأرض تجعل مشكلة القومية مسألة حساسة جداً بالنسبة للفلاحين: ففي بعض الحالات تصبح مسألة الفلاحين في مقدمة المشكلة القومية، لأن الفلاحين قد حرموا أرض الأجداد (مثال ذلك الشعوب المستعمرة).
غير أن وحدة الأرض، مهما كانت أهميتها، لا تكتفي لتكوين الأمة. فلقد وجدت، في القرون الوسطى، الظروف الاقتصادية لتكوين ارض قومية، ولكنها كان ينقصها وحدة الحياة الاقتصادية التي ترتبط مختلف الأجزاء. إذ يجب، لتكوين الأمة، هذه الرابطة الاقتصادية الداخلية بين مختلف أجزاء ارض الوطن.
3 – وحدة الحياة الاقتصادية
الأمة سوق
كانت فرنسا الإقطاعية مجموعة من المقاطعات، لكل منها حياتها الاقتصادية الخاصة، وعملتها، ومقاييسها، وأوزانها تفصلها سلسلة من الجمارك التي تعميق التبادل بينما. ولم يكن ليتم توحيد الأمة الفرنسية عام 1789 إلا بإزالة هذه العوائق في وجه الوحدة (ولا سيما الجمارك الداخلية).
وكذلك هيأ توحيد ألمانيا الاقتصادي توحيدها السياسي ذلك لأن السوق يضمن التبادل بين المنتوجات القادمة من مختلف أنحاء أرض. وتزداد قوة الحياة الاقتصادية المشتركة (مع توحيد العملة) بنمو طرق الاتصال ووسائله.
تلك هي الأسس المادية التي بدونها لا يمكن وجود أية أمة. ولهذا جهد الهتلريون , عام 1940 , والبرجوازية الفرنسية الكبرى لاستعباد بلادنا، وتحطيم وحدة حياتها القومية: فقسموا أرض الوطن إلى منطقتين"، وتألبوا على صناعتنا القومية محاولين تحويل فرنسا إلى بلد زراعي فقط، تابع لألمانيا الصناعية.
ويسعى، اليوم، أصحاب مشروع شومان (للفحم والفولاذ) لتحقيق نفس الهدف: فهم يريدون تصفية الصناعة القومية الفرنسية، التي هي أساس استقلال بلادنا، وذلك لمصلحة الاستعمار الأميركي وكبار الصناعيين في الرور.
ولنلاحظ أن ازدهار الديمقراطية الشعبية القومية، كرومانيا، وبلغاريا، مشروط، على العكس، بتقدم صناعتها القومية الهائل.
ملاحظة:
لا يناقض النضال بين الطبقات، داخل أمة من الأمم، قط وحدة الحياة الاقتصادية، لأن وجود الطبقات يعتمد على واقع اقتصادي ممتاز هو الإنتاج.
فطالما وجدت الرأسمالية طالما ظلت البرجوازية والبروليتاريا مرتبطتين معاً بجميع روابط الحياة الاقتصادية، كجزئين مكونين لمجتمع رأسمالي واحد. فلا يستطيع البرجوازيون العيش والإثراء إذا لم يتوفر لهم العمال المأجورون ، كما لا يستطيع البروليتاريون العيش إذا لم يعملوا عند الرأسماليين . ويعني قطع الروابط الإقتصادية بينهما توقف كل إنتاج، وتوقف كل إنتاج يؤدي إلى موت المجتمع، وموت الطبقات نفسها. ولهذا ندرك أن ليس هناك من طبقة تريد الهلاك. ولا يمكن للنضال الطبقي، مهما اشتد، أن يؤدي إلى انحلال المجتمع.
4 – وحدة التكوين النفسي والثقافي
تتيح لنا المادية الجدلية لأن ندرك أن وحدة الظروف الحالية الدائمة تؤدي إلى خواص نفسية مشتركة بين أعضاء أمة من الأمم.
فالأمة هي وحدة تكوين نفسي. فهناك خلق قومي يميز كل أمة عن الأمم الأخرى، وأصل هذا الاختلاف أن كل شعب يحيا، منذ أمد طويل، في ظروف خاصة, كما يجب أن نشير إلى أن وحدة اللغة تولد بالضرورة، مع مرور الزمن، خواص نفسية مشتركة.
ويجب أن لا نخلط بين الأمور الفكرية والأمور النفسية إذ أن الطبقات، التي تناضل فيما بينها، نظريات فكرية متعارضة، ولكنه يوجد مع ذلك، معالم خلقية خاصة بالفرنسيين، في مجموعهم. كحدة الذهن، مثلا، والميل للأفكار الواضحة. كما أن حب الحرية قوي بين الشعب الفرنسي ويفسر هذا بتقاليدهم الثورية القديمة.
تجد وحدة التكوين النفسي أسمى تعبير عنها في وحدة الثقافة. إذ لكل أمة تراث ثقافي يعكس صورتها. ولتوجد هذه الوحدة الثقافية رابطة قوية بين أعضاء الأمة.
تعترف الشعوب بقيمة التراث الثقافي كعنصر من عناصر الوحدة القومية. فانجلترا هي شكسبير، ونيوتن، وكبار الرسامين. وفرنسا هي فولتير، وباستور، والكاتدرائيات، وقصور اللوار. وألمانيا هي جوته، وسمفونيات بتهوفن. وروسيا هي بوشكين، وتولستوي، وبافلوف، وغوركي.
وتدافع كل أمة، في محافظتها على ثقافتها، عن وجودها المادي كأمة بصورة غير مباشرة. وهكذا يقف إشعاع باريس وروما الثقافي حجر عثرة في وجه "الحرب في أوروبا" التي يحلم بها زعماء واشنطن. لأنهم لا يعرفون ولا يحبون سوى الدولار، بينما يتفق ملايين الناس، من مختلف المعتقدات، في جميع أنحاء العالم لمنع حرب تقضي على روائع وما وباريس، ومن هنا ندرك كيف أن البرجوازية الكبرى الرجعية، في إيجادها لظروف مادية تناقض نمو الثقافة الفرنسية، تناضل موضوعياً، ضد وجود الأمة نفسها. يجعلنا هذا نرى أنه لا يمكننا التكلم عن وحدة ثقافية مطلقة، خارج العلاقات الطبقية حتى إذا ما بلغ النضال الطبقي درجة عالية يضطر الطبقة المستغلة إلى التنكر للمصلحة القومية، نجد أن هذه الطبقة تخرج، عندئذ، وحدة الثقافة. ذلك هو الحال في فرنسا. فلقد خاصمت البرجوازية الرجعية أفضل تقاليد بلادنا الثقافية وتنكرت للمصالح القومية. رأينا ذلك بمناسبة الاحتفال بذكرى الشاعر القومي الكبير فكتور هوجو: فلقد سعت إلى حصر نطاق الاحتفالات بهذه الذكرى لأن أثار فكتور هوجو الصخمة الشعبية في خدمة الحرية والأخاء والسلم، تظهر مخازيها. فلقد رأينا في باريس، عند ساحة فكتور هوجو، سيارة فورد تحل محل تمثال الشاعر. والطبقة الثورية، أي طبقة العمال، هي التي تحافظ على التراث الثقافي.
5 - وحدة مستقرة، تكونت تاريخياً
هذه العناصر المتعددة (وحدة اللغة، وحدة الأرض وحدة الحياة الاقتصادية، وحدة التكوين النفسي والثقافي) لم توجد دائماً. بل تكونت على مدى التاريخ. لأن الوحدة القومية هي ثمرة تاريخية. ولهذا كان أعوان هتلر بين سنتي 1940 – 1944 يشوهون تاريخ شعبنا لإضعاف وعيه القومي.فكانوا يدعون، مثلا، إلى كراهية ثورة 1789، التي لا يمكن فهم التاريخ القومي بدونها، كما أن ذكراها رابط قوي بين الفرنسيين.
وسوف نعود، في القسم الثالث من هذا الدرس , للحديث عن تكوين الأمة التاريخي.
يجب، مع ذلك، كي توجد الأمة، يجب أن تكون الوحدة، التي تكونت تاريخياً مستقرة. ولهذا لم تكن امبراطورية نابوليون الأول أمة، بل كانت مجموعة من الجماعات العابرة التي ترتبط فيها بينما برباط واه" (ستالين). وكانت هذه الإمبراطورية تمتد خارج حدود فرنسا فتشمل ألمانيا وايطاليا وإسبانيا، الخ... هذه الإمبراطورية التي قامت بالسيف زالت بالسيف. غير أن الكوارث الحربية التي قضت عليها لم تقضي على الأمة الفرنسية , ولم يكن بإمكانها أن تقضي عليها وكذلك شأن الأمة الألمانية، إذا أن انهيار هتلر لم يكن يعني نهاية هذه الأمة، كما أن مطالبها بالوحدة شرعية. نستطيع الآن أن ندرك تعريف ستالين المشهور للأمة:
الأمة وحدة مستقرة، تكونت تاريخياً، في اللغة، والأرض، والحياة الاقتصادية والتكوين النفسي، تظهر في وحدة الثقافي.
ب – بعض أخطاء يجب تجنبها
(ا) – تتفاعل العناصر المكونة للأمة. وليس هناك من عنصر يكفي وحده، لتكوين الأمة، ولهذا فأن قصر الأمة على أحد جوانبها موقف ميتافيزيقي. كموقف ارنست رينان، مثلا الذي كان يقول: "الأمة نفس" فكان يجهل الأسس المادية التي بدونها تخلو الأمة الحياة الروحية. وهذا أيضاً موقف النظريين الاشتراكيين الديمقراطيين أوتوبور وسبرنجر الذي حاربه ستالين، فهما يدعيان بأن الأمة تنحصر في وحدة الثقافة. فينكران وحدة الأرض واللغة. ولو أن هذه النظرة المثالية سيطرة لأدت إلى إبعاد الناس عن النضال من أجل الأسس المادية لوجودهم.
(ب) – بعض العناصر في تحديد الأمة المادية: الجنس والدولة. ليس الجنس عنصراً مكونا للوحدة القومية.
الجنس هو جماعة مهمة من الناس لهم أخلاق جسدية مشتركة متوارثة (كلون الجلد والعينين وشكل الوجه) فهو إذن عنصر بيولوجي غير أنه ليس هناك من عنصر بيولوجي يستطيع القيام بدور فعال في تطور المجتمعات لا يمكن فهمه إلا بالوقائع الاجتماعية (كالإنتاج ونضال الطبقات، الخ...) ولهذا نرى أن شعوباً مختلفة بيولوجيا (الروس والصينيون) لهم نمو تاريخي مماثل منذ المجتمع البدائي حتى الرأسمالية والاشتراكية.
يكون اليهود جماعة جنسية، ولكنهم مع ذلك ليسوا أمة. إذ يعيش اليهود الفرنسيون، واليهود الألمان، واليهود الأميركان، الخ... فوق أراض مختلفة، ويتكلمون لغات مختلفة، ويشاركون في وحدات اقتصادية وثقافية مختلفة فهم إذن أعضاء في أمم مختلفة. أما دولة إسرائيل، فهي ليست "دولة يهودية" لأنها تضم عدداً كبيراً من العرب.
الأمة الفرنسية مزيج من أجناس متعددة، وقد مثل هذا المزيج عيد "الاتحاد" في14 تموز سنة 1790، فقد اعترفت العناصر الجنسية المختلفة (النورمان، الباسك، التريتون، البرفنسيون) بأنها أعضاء من وحدة قومية هي ثمرة للتاريخ. ولقد قام الإقطاعيون" أعداء الأمة، بالحديث عن الدم ضد الوطن، للمحافظة على امتيازاتهم. ولم يكن لهذه الامتيازات ما يبررها سوى الوراثة. ويمكن القول أن ثورة 1789، في فرنسا، كانت انتصاراً للحقيقة القومية على المبدأ العنصري.
العنصرية هي عدوة الأمم. ولقد دلل على ذلك الهتلريون، الذين كانوا يدعون أنهم شعب مختار" ويدوسون بأرجلهم استقلال الشعوب، بصورة دموية. وسار على غرارهم الأميركيون في كوريا. وتنمي البرجوازية الكبرى الاستعمارية، في البلاد الرأسمالية، الأفكار العنصرية، محاولة تبرير سياستها العدائية، ولكي تؤلب الشعوب كل منها ضد الآخر. وهذا هو شأن الدعايات الاستعمارية: فهي تريد أن توهم العمال الفرنسية، كي تبرر استغلال الشعوب المضطهدة، أن الإفريقيين الشماليين وسكان مدغشقر والفيتناميين، الخ... هم من أقل الأجناس. غير أن العمال الفرنسيين يلاحظون أن أولئك الذي يأبون على المراكشيين أو الجزائريين والفيتناميين استقلالهم هم أنفسهم الذين يضحون باستقلال الأمة الفرنسية من أجل الأميركان الاستعماريين.
وليست الدولة عنصراً مكوناً للأمة، فقد قلنا سابقاً أن إمبراطورية نابوليون (أي دولة نابوليون في الواقع) كانت مجموعة غير مستقرة، عابرة – كما أن وحد الدولة المستقرة لا تكون الحقيقة القومية، فقد كانت دولة القياصرة قوية مستقرة خلال قرون عدة، ولكن الأمم التي كانت تحكمها كانت متعددة، وكانت أكثر استقراراً منها، لأن الدولة القيصرية قد زالت، بينما ظلت هذه الأمم، داخل دولة جديدة، متعددة القوميات، وهي الدولة السوفياتية. يمكن إذن أن توجد دولة مكونة من عدة أمم.
كما يمكن أن توجد دولتان لأمة واحدة: فقد وجد في فرنسا، عام 1871، وجها لوجه، سلطتان للدولة: الكومون، وهي سلطة العمال، ومجلس فرساي، وهو سلطة البرجوازية (ليرجع القاريء إلى الدرس الثاني والعشرين، بصدد محتوى الدولة الطبقي). تدافع الدولة، في مجتمع منقسم إلى طبقات متعارضة، عن مصالح الطبقة السائدة، وأن ادعت أنها تتكلم باسم "المصلحة العامة".
أن إدخال الدولة في تحديد الأمة، يعني حرمان الأمة المضطهدة (أي التي تفتقر إلى دولة مستقلة) من لقب الأمة. (ويفضي بنا هذا إلى تبرير الاضطهاد الذي تذهب ضحيته البلدان التابعة والمستمرة). كما أن إدخال الدولة في تعريف الأمة يعني رفض لقب الأمة لمختلف الأمم التي تكون الاتحاد السوفياتي: فقد أقامت هذه الأمم لنفسها دولة مشتركة دون أن تسيء بشيء إلى أصالتها القومية:
من المهم جداً إذن أن لا نخلط بين الدولة والأمة. فإيجاد "وحدة سياسية أوروبية" لن يستطيع توليد "أمة أوروبية"!
وإذا كانت الدولة ليست عنصراً مكوناً للأمة، فانها مساعد قوى على نمو الأمة، ولهذا تطالب الأمة التي يضطهدها المستعمرون بدولة قومية ضد الدولة الاستعمارية الأجنبية.
3 – البرجوازية والأمة
تتخذ المسألة القومية عدة أوجه حسب الطبقات التي تثيرها والوقت الذي تثيرها فيه. فيجب، كي تفهم هذه الأوجه المتعددة، أن تدرس الأمة كحقيقة تاريخية.
ا – تكوين الأمم البرجوازية
لم تهبط عناصر الأمة – وهي اللغة، الأرض، ووحدة الثقافة – من السماء، بل تكونت شيئاً فشيئاً منذ العصر السابق على الرأسمالية. وقد وجدت هذه العناصر بصورة بدائية، وكانت تكون في أفضل الأحوال، عوامل فعالة كاملة لتكوين الأمة المستقلة، مع توفر بعض الظروف الملائمة. لم تتحول هذه القوة الكامنة إلى حقيقة إلا في عصر الرأسمالية الصاعدة، بأسواقها القومية، ومراكزها الاقتصادية والثقافية.
قامت السوق إذن بدور فعال في نشوء الأمة، وهكذا نجد عند أصل الأمة نمو طريقة الإنتاج الرأسمالية، ووفرة المنتجات المعدة للتبادل، وازديادها، فكان لا بد من توفير الظروف الملائمة للتبادل المستمر، أي كان لابد من إيجاد السوق. كان يهم البرجوازية التاجرة تكوين الوحدة القومية. وهكذا ندرك الرابطة الموضوعية بين الطبقة والأمة. كتب لينين يقول:
لم يكن إيجاد هذه الروابط القومية سوى إيجاد الروابط البرجوازية.
نسمي أمماً برجوازية الأمم التي ولدت في عصر الرأسمالي الصاعدة، ونميزها عن الأمم الاشتراكية التي سوف نتحدث عنها في الدرس الرابع والعشرين.
ترفض المادية التاريخية القول بنظرية علماء الاجتماع البرجوازيين الذين يصورون الروابط القومية على أنها استمرار لعلاقات القبيلة وتعميم لها. إذ ليست القبيلة سوى مجموعة عائلات، وهي تتعلق بمستوى منخفض جداً لقوى الإنتاج. غير أنه وجب ازدياد هائل للإنتاج، لخلق سوق قومي، وقد تطلب ذلك نمواً متزايداً منظماُ للتبادل المناطق المنعزلة بعضها عن الآخر، والتي كانت تستهلك إنتاجها الضعيف لوحدها. ولا يمكن أن يكون هذا السوق إلا من عمل طبقة تعيش من التبادل، وهي البرجوازية التاجرة، تلك الطبقة الجديدة التي ظهرت داخل النظام الإقطاعي القديم.
ولقد دلل كل من كارل ماركس وفردريك انجلز، في القسم الأول من بيان الحزب الشيوعي , كيف أن نمو الإنتاج التجاري (الإنتاج المخصص للسوق) وعلاقات الإنتاج الجديدة داخل المجتمع الإقطاعي القديم، هما أصل الأمم. تجمعت في أمة واحدة مقاطعات مستقلة، متحالفة فيما بينها، لها مصالح وقوانين وحكومات، وتعريفات جمركية مختلفة، فأصبحت لها مصلحة قومية طبقية واحدة كما أصبحت لها جمارك واحدة.
ب – البرجوازية على رأس الأمة
أن تكون الأساس الاقتصادي للأمم البرجوازية هو، في الأساس، عملية تلقائية، غير أن تكون هذه الأمم نفسها ليس تلقائياً. ذلك لأن الطبقة الصاعدة، وهي البرجوازية، هي التي قادت، عن معرفة وعلم، تكون الوحدة القومية، ولم تكن جماهير الفلاحين الواسعة، التي لم تتضامن مع طريقة الإنتاج الجديدةـ تستطيع أن تقوم بدور الرائدة، غير أنها، لما كانت مرتبطة بالأرض، عصب الأمة، فقد ساندت البرجوازية لماذا؟ لأن تكون الوحدة القومية لمصلحة البرجوازية كان يضعف الطبقة الإقطاعية التي كانت تستغل الفلاحين.
قامت البرجوازية، التي تنظمت طليعتها في أحزاب سياسية، بنضال طبقي ضد الإقطاعيين، الذين كانوا يدعون للتجزئة، وكان هذا النضال يهدف إلى قلب الحواجز الجمركية الداخلية في البلاد وإقامة التبادل الحر بين مختلف مناطق البلاد، وتوحيد أرض الوطن وتوسيعها. ولقد وضعت أحزاب البرجوازية كما وضع فلاسفتها، من أجل ذلك، نظرية فكرية تطالب "بوحدة الأمة فوق الملك" مستبدين "بحب الوطن". ولهذا قامت الثورة البرجوازية في فرنسا، ضد علاقات الإنتاج الإقطاعية، وعلا الهتاف "تحيا الأمة". ولما كان النظام الإقطاعي قد أصبح لا يطاق بالنسبة لغالبية الشعب العظمى – من فلاحين، وصغار البرجوازيين والصناع اليدويين، والمثقفين، الخ... – فقد عزلت الإقطاعية وهزمتها، بعد أن عبأت جميع قواها، وأشرفت على توجيهها، فاستطاعت، بعد ذلك، أن توسع بدون عائق، صور الملكية البرجوازية (فتشمل الأرض مثلا) كما بعثت في الاقتصاد البرجوازي انتفاضة كبرى (الإنتاج والتجارة).
كانت البرجوازية الفرنسية تجسد، في هذا العصر، ضد الإقطاعيين الرجعيين، مصالح أغلبية الأمة. ولهذا كانت البرجوازية مخلصة للوطن أمام خيانة الإقطاعيين الذي أعلنوا الحرب على الأمة، آملين باسترجاع سيطرتهم المفقودة (مثال ذلك مهاجرو كوبلانس، والمؤامرة التي حاكها ضد الشعب الفرنسي لويس السادس عشر وماري أنطوانيت بالتحالف مع كبار إقطاعييي أوروبا). ولهذا ندرك أن نشيد الماركسيين (ولد سنة 1793) بمجموعه هو نشيد الثورة (ضد الإقطاعيين في الداخل) كما هو نشيد الاستقلال القومي (ضد استعباد الإقطاعيين البروسيين والنمساويين). كما ندرك أيضاً إعلان البرجوازية الثورية لحق الأمم في أن، تستقل بأمورها. وكان هذا دعوة إلى جميع البرجوازيين، في مختلف البلدان، في تحطيم نير الإقطاع في كل مكان.
غير أنه يجب أن لا ننسى – وهذا هو الشيء الأساسي – أن نضال البرجوازية القومي كان له دائماً أسباب طبقية. بيد أن، الطبقة البرجوازية هي بالضرورة طبقة مستغلة. ينتج عن ذلك أنه إذا كانت البرجوازية الثورية قد استطاعت أن تجسد مجموع مصالح الأمة فإن وطنية البرجوازية لا يمكن أن تكون إلا جانباً موقتاً من نضالها. إذ أن الجانب الرئيسي الدائم لنضال البرجوازية القومي هي النزعة القومية.
وقد أخذت تزداد أهمية هذا الجانب كلما عظمت، في وجه البرجوازية المستغلة، الطبقة المستغلة , ألا وهي البروليتاريا. النزعة القومية البرجوازية تتفق ومصالح الطبقة البرجوازية، إذ أن هذه النزعة لا تهتم بالفروق الطبقية داخل الأمة، وهي تدعو "للاتحاد المقدس" أي ربط مصالح جميع الطبقات بمصالح الطبقة المسيطرة وهي البرجوازية.تهدف إذن إلى فصل البروليتاريا عن نضالها الثوري ضد البرجوازية، ولهذا لا تستطيع البروليتاريا أن تتحرر من الاضطهاد الطبقي إذا لم تحارب النزعة القومية، وإذا تركت الأفكار القومية تنخر صفوفها. لأن البرجوازية، كي تخلد سيطرتها، تفرض على جميع الأمة أفكارها. وعندما يجب القول: "المصلحة البرجوازية" تقول: "المصلحة القومية". ولكن التحليل المادي يكشف عن الحقيقة وراء المظهر.
ج – البرجوازية خائنة للأمة
يؤدي نمو نضال البروليتاريا الطبقي، داخل الأمة بالبرجوازية إلى تحقيق جبهة واحدة مع البرجوازية الأجنبية، ضد البروليتاريا، وهو تحالف جديد مقدس يذكرنا بالتحالف الذي عقدته سابقاً الدول الإقطاعية ضد الثورة البرجوازية.
نجد مثالا نموذجياً على ذلك في سنة 1871 عند البرجوازية الفرنسية. فقد قضت على كومون باريس بالتحالف مع بسمارك، ولكن النزعة القومية البرجوازية تظهر بمظهرها الحقيقي في مرحلة الرأسمالية النهائية، المرحلة الاستعمارية.
بضاعة الأمم البرجوازية الحديثة، فيما يتعلق بالأفكار الاجتماعية السياسية، هي السلم الطبقي، داخل الأمة، باسم "الاتحاد القومي"، وتوسيع أرض قوميتها بواسطة غزو أراضي الأمم الأجنبية، الشك والكراهية نحو الأمم الأخرى، القضاء على الأقليات القومية، وتأليف جبهة موحدة مع الاستعمار.
وتستخدم البرجوازية قوة فكرة الوحدة القومية على التعبئة للقيام بحروب السلب والنهب. وهذا ما حدث عام 1914، مثلا، للبرجوازية الفرنسية والبرجوازية الألمانية، ومن هنا نشأ قول اناتول فونس المشهور: "يعتقد الجندي أنه يموت من أجل الوطن بينما هو يموت من أجل الصناعيين" تستعين البرجوازية الاستعمارية بكل شيء لإثارة عواطف الكره نحو العمال الأجانب والمستعمرين في قلب البروليتاريا التي تستغلها. وهي تحاول بذلك أن تعيق تجمع البروليتاريا كطبقة واحد".
كلما اشتد الاستعمار كلما ازداد البون بين مصلحة برجوازية الاحتكار الكبرى، وبين فئات الشعب، ذلك لأن الاستعمار هو إعلان الحرب على الشعوب.
بعد أن كانت الرأسمالية، في نضالها ضد الإقطاعية، محررة للشعوب، أصبحت الرأسمالية الاستعمارية أكبر مضطهدة للشعوب. وتحولت الرأسمالية من رأسمالية تقدمية إلى رأسمالية رجعية، فقد نمت قوى الإنتاج بشكل لم يبق معه، أمام الإنسانية إلا أن تنتقل إلى الاشتراكية أو أن تقوم، خلال سنوات أو عشرات السنوات، بتجربة نضال "الدولة الكبرى" المسلح للمحافظة على الرأسمالية، بصورة اصطناعية، بواسطة المستعمرات والاحتكارات والإميتازات واضطهاد القوميات في جميع أشكاله.
بلغت أزمة، الرأسمالية العامة، التي بدأت عام 1917 بظهور أول دولة اشتراكية، بمناهضة البرجوازية الاستعمارية للقومية، الذروة، إذ أن دفاعها اليائس عن مصالحها الطبقية أدى بها إلى خيانة مصالح الأمة بصورة مفضوحة مستمرة.
ترزح البرجوازية الفرنسية الكبرى تحت عبء ملف مفعم بالاتهام، فهي بعد أن ساعدت بنشاط، في ألمانيا، على القضاء على القوى الشعبية ونهضة النزعة الحربية من كبوتها" فإنها، في فرنسا، تعارض نضال العمال من أجل الخبز، والحرية، والسلم بشعارها المخزي: "هتلر ولا الجبهة الشعبية!". كما أنها تقوم بتمثيل دور الوطنية وتعمل على خداع الطبقات بدعاية "قومية" ("فرنسا للفرنسيين") وهي تسلم ألمانيا الهتلرية الحديد الفرنسي، والألمنيوم الذي تحرم منه طيراننا. وقد تأكد، في مونيخ عام 1938، تحالفها مع النازيين، ضد الشعب الفرنسي والبلاد الاشتراكي، حليف فرنسا. وبينما تزج في السجون، بمعاونه الزعماء الاشتراكيين بلوم، سورال، الخ... المناضلين الشيوعيين، الذين فضحوا الخيانة الطبقية، سلمت فرنسا إلى الطيران الألماني. وحل رعب الاحتلال وخزي النظام فيشي الفاشي. وقد قضى هذا النظام، الموالي للرأسماليين الألمان والشركات الفرنسية، على الاقتصاد الفرنسي وسخره لخدمة الحرب الهتلرية، وأجبر العمال على العمل، وأعدم المواطنين بالرصاص وجوع السكان.
حتى إذا ما أقبل التحرير، وانتصر الشعب، عملت نفس البرجوازية الكبرى على تخريب نهضة البلاد. ولما كان هتلر قد اندحر، فقد وضعت نفسها في خدمة الحماة الجدد وهم الاقتصاديون الأميركان ووقفت ضد العمال الفرنسيين يحاول الاستعمار الأميركي، طبقاً لقانون الرأسمالية المعاصرة الأساسي، أن يضمن لنفسه أقصى الأرباح بنهب البلاد المقيدة بمشروع مارشال وبواسطة حرب الغزو الاعتداء. وتمد البرجوازية الكبرى "الفرنسية" يد العون لنجاح هذه السياسة.
أما نتائج ذلك، بالنسبة للأمة الفرنسية، فهي خطيرة، وإذا كنا نعرض للعناصر المكونة للحقيقة القومية واحداً واحداً فلكي نلاحظ أن البرجوازية تسعى للقضاء عليها.
الأرض؟ وأصبحت بين يدي الجيش الأميركي، وقد أقيمت مناطق حرة للمحتل. وسلبت ملكية الأرض من الفلاحين، وتتطلب الستراتيجية الأطلنطية تهديم فرنسا في حالة الحرب (فرنسا " ابن العم الذري").
الاقتصاد؟ خرب الاقتصاد القومي لمصلحة صناعات الحرب، وحل الفقر المنظم بالزراعة الفرنسية (مليون مزرعة عائلية مهددة بالزوال)، وذهب السوق الفرنسي ضحية مصالح الشركات الأميركية (مشروع مارشال) والألمانية (مشروع شومان) وأغلق عدد من آبار المناجم في الشمال والوسط، كما تسير أعادة البناء ببطء فاضح، الخ... ولا ننس ما أصاب البحث العلمي والأعداد المهني.
اللغة؟ ظهرت مشاريع ازدواجية اللغة الأميركية والفرنسية، لسد حاجات المحتل الأميركي، واختصار اللغة الفرنسية Besic-Franch ولقد لاحظ السيد الفريد سوفي بحسرة في جريدة الموند (5 آب سنة 1953) قائلاً:
من المؤلم أن نسمع من يقول بأننا لا ندافع بصورة صحيحة من تراثنا وأنا مستعدون للتخلي عنه.
إذ أن كل شيء منظم بشكل يجعل الأجانب المقيمين في فرنسا لا يتعلمون اللغة الفرنسية.
والدليل على ذلك أنه لم تعد تذكر الولايات المتحدة، ولا مختصر إسمها بالفرنسية E , U بل يذكر المختصر باللغة الإنجليزية U , S , A سوف تقول أن هذا شيء بسيط. غير أن الاستعاضة بالمختصر الإنجليزي بدلا من المختصر الفرنسي أليس نتيجة لإغراء الدائن للمدين، والوالي للمولى؟
ويشعر السيد سوفي بالخوف أمام "اتساع" هذا التسرب الواسع. ثم يضيف، بعد ذكر عدد من الأمثلة" قائلاً:
لا تؤدي هذه الأمثلة من الضعفإلى إفساد اللغة الفرنسية، بل تساعد بقوة على زوالها لأن التبعية اللغوية تؤدي إلى التبعية الثقافية.
الثقافة؟ تخريب الجامعة بصورة منتظمة، والمدرسة العمومية. والسينما الفرنسية، الخ..، والتخلي عن قصر فرساي. واحتقار التقاليد الإنسانية الكبرى التي تغنت بفصائل البرجوازية الصاعدة. وكذلك انتشرت أسوأ المجلات القادمة من أميركا أو المستوحاة منها، وعم التمجيد "لطريقة الحياة الأميركية" الخ.. وكانت البرجوازية، إلى جانب ذلك، تغذي حملة تهدف إلى إقناع الفرنسيين بأن بلادهم قد ولت، وأن عهد التاريخ القومي قد انقضى، وأنه قد ذهب الأمل بوجود فرنسا مستقلة:يتم هذا الانتقاص من الحقيقة القومية تبعية الدولة الفرنسية لمطالب ضروب الاستعمار الأجنبية.
فكيف تبرر البرجوازية، في نظر الجماهير، مثل هذه السياسة المناقضة للمصلحة العامة؟ رأينا في مناسبات عدة، كيف أن الطبقة الرجعية تضطر، كي تمد في أجل حكمها، لأن تقيم من الكذب عقيدة لها ومذهباً. وهذا هو الحال هنا: فلكي تبرر استعباد الشعوب، تنشر البرجوازية الكبرى العالمية نظرية فكرية خاصة هي النزعة العالمية (Cosmopolisme)
وتتكون هذه الكلمة من كلمتين يونانيتين تعنيان: "مواطن العالم". في الوقت الذي كانت البرجوازية فيه – ولا سيما في القرن الثامن عشر – ندافع ضد الإقطاعيين، عن حقوق المستقبل الإنساني، وقد حمل بفخر لقب "مواطن العالم" بعض المفكرين. وكان هذا يعبر عن رغبة في تحطيم الأسس الواهية لمجتمع قديم وإيجاد علاقات اجتماعية جديدة في كل مكان. بهذا المعنى يتحدث جان جاك روسو، في نص يرجع لعام 1755، عن هذه النفوس الكبيرة العالمية التي تخطت الحواجز الخيالية التي تفصل الشعوب والتي... تشمل النوع البشري كافة برعايتها..
حتى إذا مازالت علاقات الإنتاج الإقطاعية، عادت البرجوازية إلى موضوعات النزعة العالمية، وليس ذلك لخدمة الآمال الكريمة بل لحساب مصالحها الطبقية المستغلة. وقد فضح كل من ماركس وانجلز، منذ عام 1845، ذلك، وفسرا كيف أن النزعة العالمية أنما تنبع من المضاربة بين البرجوازية في مختلف البلاد وأنها لا تهدف لتفتح جميع الناس بل لاستغلال العمال العالمي، ولهذا كتب ماركس يقول:
أن تسمية الاستغلال في صورته العالمية باسم الإخوة الشاملة فكرة لا يمكن أن تولد إلا في قلب البرجوازية.
ومع ذلك فقد اتسع نضال البروليتاريا الثوري منذ ذلك العهد بشكل هائل وأدرك العمال، شيئاً فشيئاً، بفضل انتشار الاشتراكية العلمية، بأن مصالحهم، في مختلف البلدان متحدة ضد عدو طبقي مشترك. ولما كانت البرجوازية الاستعمارية لا تستطيع القضاء على هذه المعتقدات، فأنها لا يمكنها إلا أن تحاول الإنتقاص منها، وهذه هي مهمة الأفكار العالمية: إقناع العمال أن حكم الاحتكارات العالمية سيحقق آمالهم العالمية! وهكذا تستعير نزعة الشركات العالمية وجه النزعة العالمية البروليتاريا كآخر كذبة تدعيها.
ما هو الطابع الرئيسي، في الظروف الحاضرة، لهذه الأفكار العالمية التي هي تشويه للنزعة العالمية البروليتاريا؟ التأكيد الكاذب بأن سبب الحروب الحديثة هو وجود الأمم. ثم تخلص إلى القول بأنه يجب القضاء بسرعة على الأمم وتحطيم سيادتها، لأن هذه السيادة "رجعية" "بالية". وهكذا يأملون في إقناع العمال بأنهم، إذا أرادوا السلم، فيجب عليهم القضاء بأيديهم، على حقيقة الأمة والتنكر لأوطانهم.
غير أن التحليل المادي للمجتمع المعاصريدل على أن سبب الحروب العالمية ليس وجود الأمم، بل وجود طبقة، البرجوازية الاستعمارية، التي لا تستنكف، في سبيل إنقاذ حكمها المهدد، عن استبعاد الأمم والقضاء على الشعوب.
وهكذا تبدو النزعة العالمية في وضح النهار: فهي بدلا من أن تسعى لتحرير الناس في جميع البلدان، تهدف – في ادعائها جعل كل عامل "مواطنا للعالم" – إلى استغلال تلك الأشباح الإنسانية التائهة المجهولة على نطاق "عالمي" بشكل وحشي معيب.
ندرك المغزى التاريخي للمحاولات الحالية لإيجاد "أوروبا موحدة" إذا اعتمدنا على هذه المعطيات المبدأية، فهي تسعى لتوطيد استغلال مختلف شعوب أوروبا الرأسمالية، برعاية الرأسماليين الأميركان، وأول هذه الشعوب شعبنا.
وسوف يكون من نتيجة توحيد السوق الأوروبي، على أنه الخطوة الأول نحو اقتصاد اشتراكي، تخفيض مستوى معيشة الفرنسيين. كما سيكون من نتيجة إزالة السيادة القومية، على أنها تقدم للديمقراطية، وضع فرنسا تحت رحمة الطيران الألماني، الذي أعيد بناؤه تحت شعار "أوروبي إذ أن إعادة تسليح النازيين سيجعل منهم أدوات طيعة للإضطهاد المناهض للعمال.
ولقد كتب لينين منذ عام 1915 أن الولايات المتحدة الأوروبية، في النظام الرأسمالي، أما مستحيلة وأما رجعية
لما كانت النزعة العالمية تزويراً للنزعة العالمية البروليتارية فهي، إذن، في خدمة الرأسمال العالمي. ولهذا كانت، اليوم، نظرية زعماء الاشتراكية الديمقراطية الفكرية، الذين يأخذون على عاتقهم، أمثال جي موليه،أ، فيليب، لوبالى، خداع العمال. فهم إذن، متضامنون مع قادة الحركة الجمهورية الشعبية، (روبير شومان، جورج بيدو) الذين كانوا دعاة الـ (C. E. D) لأنهم خدام الفاتيكان الموالي للسيطرة الأميركية، وهم يرتدون رداء "الروحية" المسيحية لتجهيز ألد أعداء الجنس البشري بالسلاح، فيما وراء الرين.
ومع ذلك، لا يمكن للاستعمار أن يخلو من التناقضات، بالرغم مما يبذل من جهود. ولهذا كان للنزعة البرجوازية أخ توأم هو النزعة القومية الأوروبية.
وهناك مثالين على ذلك:
تبالغ الشركات الاحتكارية، التي تدعو إلى النزعة العالمية في أوروبا، أمام الشعوب التي تريد استعبادها، بالنزعة القومية في الولايات المتحدة، وتستخدم جميع الوسائل لتردد على مسامع الشعب الأميركي أنه "الشعب المختار" الذي أرسلته "العناية الآلهية" لقيادة العالم.
تتبع البرجوازية الكبرى الفرنسية، التي تعدل من "طبخة" النزعة العالمية لتلائم الأذواق في أوروبا، سياسة نزعة قومية دامية على حساب الشعوب المستعمرة. فهي تأني باسم "المصلحة الفرنسية" لقب الأمة على المراكشيين، والفيتناميين الذي يناضلون من أجل استقلالهم.
فكيف لا نلاحظ الفارق الفظ بين "النزعة العالمية" التي يتزيا بها البرجوازيون الرجعيون وبين نزعتهم القومية الوحشية نحو شعوب الاتحاد السوفياتي التي يحلمون بإعادتها عن طريق الحرب، إلى السوق الرأسمالي.
هذه التناقضات هي أحد مظاهر الضعف في المعسكر الاستعماري.

4 – الطبقة العاملة والأمة
ا – النزعة العالمية البروليتارية
لا يمكن حل المسألة القومية حلا صحيحا إلا كجزء من مجموع ألا وهو النضال الطبقي أو لثورة البروليتارية.
فلقد رأينا أن الحقيقة القومية البرجوازية تقوم، في المرحلة الاستعمارية، على اضطهاد الأمم. فكيف لا تعرض المسألة القومية، من ثم للطبقة المعارضة للبرجوازية وهي طبقة البروليتاريا؟
يرتبط موقف البروليتاريا من المسألة القومية، بمصالحها وما يجب عليها كطبقة ثورية، فهو إذن موقف مبدأي، وقد حدده ماركس وانجلز في بيان الحزب الشيوعي (1848) الذي ينتهي بالشعار المشهور:
"اتحدوا يا بروليتاريي جميع البلاد!"
هذه هي النزعة العالمية البروليتارية. B başlığı yok
ولقد رأينا في الدرس الثالث (د) أن للنزعة القومية البرجوازية أساساً موضوعياً هو مصلحة الطبقة المستغلة. إذ أن البرجوازية الرأسمالية لا تقنع باستغلال بروليتارييها وشعبها الخاص بل هي تجندهم (وتضحي بهم) لاستعباد البروليتاريا وشعوب البلدان الأخرى... باسم "المصلحة القومية". وهذه خدمة تخفي المصلحة البرجوازية. إذ أن مهمة النظرية الفكرية القومية أن تؤلب عمال مختلف بلدان العالم بعضهم على بعض.
غير أن للنزعة العلمية البروليتارية، هي أيضاً، أساساً موضوعياً، كما اشرنا إلى ذلك (في الدرس الثامن عشر) – وهو أساس طبقي. إذ أن للبروليتاريين، في جميع بلاد العالم، نفس المصالح التي تجعلهم يتألبون على الطبقة المستغلة. لأنهم أعضاء في نفس الطبقة المستغلة. وليست النزعة العالمية صفة عابرة للنضال البروليتاري الطبقي. بل هي صفة أساسية. ولهذا كان مبدعا الاشتراكية العالمية، وهما ماركس وانجلز، أيضاً مؤسسي الجمعية العالمية للعمال. (أيلول 1864). كما أن بيان الحزب الشيوعي، الذي يدعو البروليتاريين إلى النضال المنظم ضد المستغلين في كل مكان، كان وسيظل، المشعل الهادي للثورة العالمية.
لاحظنا أن النزعة القومية والنزعة العالمية هما المظهران الفكريان للحرب الطبقية التي تقودها الرأسمالية. وتتيح لنا النزعة البروليتارية أن نتبينهما في كل وقت، كما أنها تحاربهما.
تحارب النزعة القومية البرجوازية لأن العمال، بواسطة النزعة العالمية البروليتارية، يعترفون بتضامنهم الطبقي، ويأبون مد يد المساعدة للمعتدين من برجوازيتهم على البلاد الأخرى. وهذا هو الحال ولا سيما حينما يناضل بروليتاريو البلاد المستعمر لتحرير البلاد المستغمرة القومي.
وتحارب النزعة العالمية البرجوازية لأن عمال جميع البلاد، نظراً لإخلاصهم للنزعة العالمية البروليتارية، يؤلفون جبهة قوية طبقية ضد الاحتكارات، كما أنهم يناضلون، في نفس الوقت، لتحرير وطنهم ووطن إخوانهم المضطهدين. مثال: يساعد العمال الفرنسيون، في نضالهم ضد مشروع مارشال في فرنسا على يد الاستعمار الأميركي، إخوانهم الأميركيين في نضالهم الطبقي ضد الرأسمال الكبير الأميركي الذي يدي بهم على البؤس، والفاشية، والحرب.
وندري أن مصالح العمال، في كل بلد، تتطلب تضامنهم العالمي الطبقي، فكل ما يسيء للنزعة العالمية البروليتارية يسيء في نفس الوقت إلى العمال في كل، بلد كما أن كل تقدم للنزعة العالمية البروليتارية مفيد للبروليتاريين في أي بلد.
ويلبي البروليتاريون الثوريون، نداء بيان الحزب الشيوعي، فيعلنون مساواة العمال في كل البلاد في الحقوق ضد النزعة القومية والنزعة العالمية، ويقومون، من بلد لآخر، بالتضامن الطبقي الأخوي.
نستنتج عدة نتائج من النزعة العالمية البروليتارية كموقف مبدأي لا يتزحزح:
1 – إذا وجد، في دولة أقلية من العمال لها خواصها القومية (مثال: الألزاسيون في فرنسا) فلا يجب أن يوجد ألا حزب بروليتاري يضم جميع العمال، وهكذا يضمن، بالتعاضد الطبقي، الدفاع عن حقوق الأقليات القومية.
2 – لا تستطيع الدولة الاشتراكية ضمان استقلال القوميات التي تضمنها إلا إذا وفرت لها المساواة. وكذلك شأن الدولة السوفياتية.
3 – حجر الزاوية في النزعة العالمية البروليتارية هو تعلق جميع البروليتاريين غير المشروط بالدولة الاشتراكية، وقد وجدت مثل هذه الدولة، وهي الاتحاد للسوفياتي، منذ سبع وثلاثين سنة.
فلماذا هذا التعلق غير المشروط بالاتحاد السوفياتي؟
إن البروليتاريين، في تحقيقهم لحلم رجال الكومون الباريسيين عام 1871، الذين أوجدوا، في تشرين الأول 1917، أول جمهورية اشتراكية، قد بدأوا عهداً جديداً. إذ أن الدولة السوفياتية تكون منذ تشرين الأول 1917 بالنسبة لجميع البروليتاريين في جميع البلدان الندي العام للتعبير عن مطامح الطبقات المضطهدة وإرادتها وتجسيم هذه الأرادة وتلك المطامح.
ذلك لأن الدولة الاشتراكية، لما كانت تختلف كل الاختلاف عن جميع الدول الرأسمالية لأنها تقوم على إزالة الاستغلال الطبقي، تكون الحصن الأمامي، لجميع الطبقة البروليتارية العالمية، وهي مرمى البرجوازية العالمية الدائم. فإذا دافع عنها البروليتاريون فأنهم يدافعون عن طليعتهم، فهم يناضلون، إذاً, من أجل أنفسهم , ومن أجل مستقبلهم ,"من أجل بناء مجتمع مشابه للمجتمع السوفياتي، يهديهم سواء السبيل في عقر وطنهم".
فالتبجح بخدمة البروليتاريا، مع القيام بمحاولة أول دولة أقامتها البروليتاريا لنفسها، هو حمل البروليتاريا العالمية على تضحية أفضل مناضليها وضرب عرض الحائط بالمثل الرائع الذي يقدمونه لها منذ تشرين الأول 1917، ولهذا كانت المطالبة "باستقلال الطبقة العاملة" ضد الاتحاد السوفياتي هي ربط هذه الطبقة بعربة الرأسمالية.
لا يمكن أن نحمل اسم الماركسي، في الظروف الحاضرة، إذا لم نؤيد، علانية وبدون أي تحفظ، أول دكتاتورية بروليتارية في العالم.
ويكفي، كي نقدر أهمية الدولة السوفياتية، كأساس للنزعة العالمية البروليتارية، أن نلاحظ ما يلي:
أ – لم تكف البرجوازية، في جميع البلدان الرأسمالية، منذ تشرين الأول 1917، عن القول ببرنامج مشترك هو النزعة المناهضة للسوفيات.
ب – أن قادة يوغوسلافيا المغامرين، برفضهم لمبدأ الدفاع غير المشروط عن الاتحاد السوفياتي، قد جروا بلادهم على طريق الفاشية، وجعلوا منها دولة تابعة للاستعمار الأميركي وجلبوا الشقاء للعمال اليوغوسلافيين.
ج – إن الزعماء الاشتراكيين، صنائع البرجوازية في الحركة العمالية، كانوا، في كل وقت، أبطال النزعة المناهضة للسوفيات. كما كانوا دعاة النزعة القومية البرجوازية. ولهذا دعا قادة العالمية الثانية عام 1914 بروليتاريي ألمانيا و فرنسا للقتال من أجل "للدفاع عن الوطن" البرجوازي فلا يمكن، إذن، تقدير النزعة العالمية البروليتارية حق قدرها إذا لم نقتلع النظرية الاشتراكية الديمقراطية (القومية والاستعمارية).
د – يضاف إلى الملاحظات السابقة الملاحظة التالية:
أن الناس الذين يحاربون، في كل وقت، الاتحاد السوفياتي، خدمة لمصلحتهم الطبقية، يقومون في كل وقت بتصفية المصلحة القومية التي تدافع عنها الطبقة العاملة. بينما كانت السياسة الخارجية التي اتبعها الاتحاد السوفياتي دائماً، لأنه دولة اشتراكية، مطابقة لمصالح العمال في مختلف البلدان، ولا سيما عمال فرنسا. نرى ذلك في الوقت الحاضر بصدد المسألة الألمانية، التي من مصلحة فرنسا الحياتية حلها حلا سلمياً. والمقترحات السوفياتية مواتية لمثل هذا الحل، بينما السياسة التي تتبعها البرجوازية الفرنسية تحاول أيعاد مثل هذا الحل.
ب – النزعة الوطنية البروليتارية
النزعة العالمية البروليتارية هي التعبير عن المصالح الطبقية المشتركة بين بروليتاريي جميع البلدان.
وليس للثورة الاجتماعية، وهي هدف البروليتاريا، طابع قومي في الأساس، فمحتواها محتوى طبقي. غير أننا رأينا أن الرأسمالية قد نمت في الإطار القومي، ولهذا يرتدي نضال البروليتاريا الثوري ضد البرجوازية طابعاً قومياً. إذ لا يمكن للبروليتاريا، في بلد معين، أن تنتصر على برجوازيتها إلا إذا حاربتها في عقر دارها، وانتزعت منها القيادة السياسية. ولهذا يجب عليها، حسب قول ماركس، "أن تجعل من نفسها طبقة قائدة للأمة، وأن تصبح هي نفسها الأمة".
تعني الوطنية البروليتارية أن البروليتاريين في بلاد مختلفة يناضلون لانتزاع قيادة الأمة من يد البرجوازية في بلدهم وبناء أمة "حرة، قوية، سعيدة" فهو إذن نفس النضال الطبقي ضد نفس العدو العالمي الطبقي. تتخذ النزعة العالمية البروليتارية إذن، طابع الوطنية البروليتارية. ويرجع هذا لوجود الحقيقة القومية الموضوعي، حيث يجري النضال الطبقي وإذا لم يجر مثل هذا النضال على المستوى القومي، أصبحت النزعة العالمية البروليتارية صيغة فارغة، ولم يعد للبرجوازيات المختلفة ما تخشاه من البروليتاريا في بلادها، من عدوها المباشر.
هل تستطيع البروليتاريا أن تقوم بهذا النضال وتنتصر؟ تجيبنا الوقائع على ذلك.
رأينا (في الدرس الثامن عشر) أن البرجوازية الرأسمالية تقيم رخاءها على بؤس الجميع. وبهذا تتوفر الشروط لتقوم البروليتاريا الثورية بتنظيم تجمع واسع يضم مختلف طبقات الشعب الكادح: من فلاحين عمال، وطبقات متوسطة، وصناع، وحانوتية، الخ... ضد البرجوازية الكبرى المستغلة، وتقوم البروليتاريا بقيادة هذه الحركة الشعبية، لأنها، لما كانت طبقة ثورية، المدافع الأكيد من بين جميع ضحايا الرأسمالية. والشروط الضروري لتجمع البروليتاريا الأمة حولها هو أن تحقق هي وحدتها الطبقية الخاصة. ندرك هكذا الأهمية التاريخية للنضال المستمر الذي يقوم به، في فرنسا موريس توريز والشيوعيون ضد الاشتراكية الديمقراطية التي تهدف لمنع الوحدة بين العمال.
وليس إتمام هذه المهمة القومية موافقاً لمهمة البروليتاريا الثورية فقط، بل هو شرط أساسي لنجاح الثورة في وطنها. وجميع الذين يخلطون بين النزعة القومية البرجوازية والنزعة الوطنية البروليتارية -أمثال الفوضويين النقابيين-كما أن الذين يقولون للعمال: "قضية الأمة ليست قضيتهم، بل قضيتكم هي الثورة" كل هؤلاء يعملون ضد مصلحة البروليتاريا الثورية، وهم ينكرون واقع الأمة المادي، لأنهم مثاليون، بينما الطبقة العاملة لا يمكنها أن لا تعبأ بالشروط الموضوعية التي ينمو فيها نضالها الثوري، لأنها تحفظ تعاليم لينين، ومن بين هذه الشروط الحقيقة القومية، وهي وحدة أرض، ولغة" واقتصاد، وثقافة، ولهذا لا تسلم قيادة الجماهير الشعبية لمن يجهل هذه الحقيقة التاريخية. كما أنهم، لما كانوا ماديين سذجاً، يجهلون قوة الشعور القومي على التنظيم والتعبئة، وإلا فلماذا ظهرت الطبقة العاملة الفرنسية، بالرغم مما نالها من الاضطهاد النازي، في عام 1944، اشد قوة وأكبر احتراماً من ذي قبل؟ لأنها عرفت كيف تقود الأمة بأجمعها ضد الفاشية الهتلرية وأنصارها من البرجوازية الكبرى المناهضة للقومية إذا كانت النزعة العالمية تقوم على أساس من احترام سائر الشعوب، فإننا لن نكون عالميين إذا لم نحترم شعبنا ونحبه.
رأينا في هذا الدرس (3 ، ج) أن البرجوازية الرجعية لا يمكنها المحافظة على امتيازاتها الطبقية إلا باستعباد الأمة على يد الاستعمار الأميركي، بينما تدافع البروليتاريا الثورية على العكس، عن مصلحة الأمة في مجموعها (والطبقة الخائنة تطرد منها) حين تتبع سياسة فرنسية مستقلة. الطبقة العاملة هي الطبقة الوطنية لأنها طبقة صاعدة، فهي مسؤولة عن حياة الأمة وعن مستقبلها.
دلل موريس توريز، في استنتاجه لخلاص مؤتمر الحزب الشيوعي الفرنسي الثالث عشر (حزيران 1954)، كيف أن نضال الطبقة العاملة، في كل وقت، ضد البرجوازية بقيادة الشيوعيين يتفق والمصلحة القومية... وكذلك شأن النضال ضد معاهدة فرساي "التي تحتوي على جميع البزور لازدياد النزعة العسكرية وروح الثأر في ألمانيا، وكذلك كان شأن النضال القمع والحرب الاستعمارية (في مراكش، والهند الصينية)، والنضال ضد الاستسلام في مونيخ والحرب السخيفة، والاحتلال الهتلري وأنصاره، وتخريب النهضة الفرنسية. وكذلك الشأن، اليوم، حين تقود الطبقة العاملة المعارضة القومية لإعادة تسليح سفاكي دماء شعبنا، و "تقوم بحراسة السلم لمصلحة فرنسا الكبرى". كيف يمكن للطبقة العاملة، وقد ناداها التاريخ لتحرير بلادنا من الاستغلال الرأسمالي، أن تؤدي بنجاح هذه المهمة الثورية إذا لم تقم بدور القائدة في النضال الحالي للمحافظة على وجود الأمة ضد البرجوازية المناهضة للقومية؟
وبينما تتنكر البرجوازية الكبرى، التي تجعل شبح الموت يخيم على مستقبل فرنسا، لماضي شعبنا، تتغنى الطبقة العاملة، على العكس، بفخر بكل تقدم تاريخ بلادنا، نحو رفع مستوى الحياة والحرية.
حبنا لبلادنا، هو حبنا لأمجد تقاليدها، وعزمنا على إعادتها لهذه التقاليد كحاملة للمشعل. حبنا لبلادنا، هو حبنا لشعبنا الذي نريده حراً سعيداً، وأن تكون فرنسا للفرنسيين، وليست لأولئك الذين خرجوا من الوحدة القومية بكبريائهم وشرهم وخسة نفوسهم.
وطنية المساكين، وطنية جان دارك الفلاحة الفرنسية التي ودعها ملكها وإحراقها الإنجليز، تجتاز كل تاريخ كشهاب ساطع.
كتب لا برويير، حول مصير الأرقاء البائس، يقول: "لا وطن مع الاستبداد".
ولقد جهد ديمقراطيو الثورة الفرنسية الكبرى، لنيل استقلال وطنهم وكان يلهب نفوس جماعات "صانعي القباقيب والخياطين" الذين ربحوا معركة فالمي، وهم يرددون "تحيا الأمة". نفس من الوطنية الثائرة.
فضل الحزب الشيوعي، الذي يقوده موريس توريز، إذن، هو أنه أعاد "ألوان فرنسا" إلى شعبنا، الذي خانته البرجوازية المنحطة. فهو الداعي إلى اتحاد الأمة الفرنسية من أجل الخبز والحريات الديمقراطية، والاستقلال والسلام. وهكذا يتفق مع نضالهم أكبر ماركسي في عصرنا، وهو ستالين الذي صرح في المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي (تشرين الأول 1952) بقوله:
كانت تعتبر البرجوازية، في الماضي، رأس الأمة، فكانت تدافع عن حقوق الأمة واستقلالها، وتضع هذا الاستقلال وتلك الحقوق "فوق كل شيء" وأما الآن فلم يبق شيء من "المبدأ القومي" بل تقايض، الآن، البرجوازية حقوق الأمة واستقلالها بالدولارات، وتلقى جانباً براية الاستقلال القومي والسيادة القومي. لا شك انه عليكم، يا ممثلي الأحزاب الشيوعية و الديمقراطية ، أن ترفعوا الراية و تتقدموا بها إذا أردتم إن تكونوا وطنيين ، و أن تصبحوا القوة التي تقود الأمة ، إذ ليس من شخص آخر يستطيع رفع هذه الراية.

اتمام هذه المهمة على يد الطبقة العاملة مرحلة ضرورية على طريق الاشتراكية التي سوف تصفي الاستغلال البرجوازي

الدرس الرابع والعشرون
الأمة (2)



رأينا (في الدرس السابق، 3 ج) أن الاضطهاد البرجوازية الطبقي، في ظروف الاستعمار، يرتدي شكل الاضطهاد القومي.
بعد أن كانت الرأسمالية محررة للأمم، في النضال ضد الإقطاعية، أصبحت أكبر مضطهدة للأمم.
ولهذا يتخذ النضال ضد الاستمار شكل نضال من أجل الاستقلال القومي. وتضم هذه الحركة الاستقلالية، في بلد معين، جميع الطبقات الاجتماعية المسلوبة أو المهددة بالاستعمار الأجنبي. وهكذا نفهم، مثلاً، أن فئات مهمة من البرجوازية شاركت، في الصين، إلى جنب البروليتاريا والفلاحين، في النضال من أجل التحرير القومي، كما أن قسماً من البرجوازية (التي يمثلها تشان كاي شك) كانت قد ربطت مصالحها بمصالح الاستعمار الأجنبي المضطهد المعتدي، غير أن هذا الاستعمار قد اعتدى على مصالح عناصر أخرى من البرجوازية (كالصناعيين، مثلاً) فاشترك هؤلاء في حركة الاستقلال.
وكذلك نجد أن الاستعمار الأميركي إذا كان يجد، في الوقت الحاضر، في فرنسا، تآمر البرجوازية الكبرى الرجعية، والمحتكرين، وتجار المدافع إلى جانبه، فأنه يسىء لمصالح فئات أخرى من البرجوازية: وهكذا يشل مشروع مارشال، الذي فرضه الاستعمار الأميركي على الاقتصاد الفرنسي، ازدهار فروع بأكملها من الصناعة القومية، ويحرمها من أسواقها في بلاد الشرق. ومن هنا أزداد الاستياء عند كثير من الصناعيين.
وتثير سياسة إعادة تسليح ألمانيا، الذي يؤدي إلى التقليل من شأن فرنسا ويسيء إلى سيادتها القومية، معارضة مختلف الطبقات، في البرجوازية نفسها، تلك الطبقات التي تخشى السيطرة الألمانية. وتشير الفكرة، التي تبناها المؤتمر الثالث عشر للحزب الشيوعي الفرنسي (حزيران 1954 ، إلى أن مصالح فئات اجتماعية عديدة بعيدة جداً عن الطبقة العاملة ومعادية مبدئياً للحزب الشيوعي قد أصيبت نتيجة للسياسة الأطلنطية. ولهذا تقف بعض الدوائر السياسية البرجوازية، مهما كان تعلقها بالرأسمالية، إلى جانب الشيوعيين ضد استعباد فرنسا.
وهكذا قامت جبهة قومية متحدة ضد الاستعمار الأميركي والبرجوازية الكبرى الرجعية التي تسانده، للدفاع عن استقلال فرنسا، وهي تضم – عدا الفلاحين الكادحين والبرجوازية الصغرى والطبقات المتوسطة – فئات البرجوازية التي تخشى نتائج السياسة التي يفرضها الاستعمار الأميركي على فرنسا. وهذا لا يقضي قط على النضال الطبقي في داخل بين البروليتاريا والبرجوازية، ولهذا سلمت البرجوازية الرجعية البلاد للاستعمار الأجنبي خدمة لمصلحتها الطبقية. لا تستطيع، إذن، البروليتاريا الفرنسية أن تفصل نضالها من أجل الاستقلال القومي عن نضالها الطبقي.
وسنرى اعتماداً على الطابع المناهض للقومية الذي اتخذته الرأسمالية الاستعمارية، كيف يطرح الماركسيون اخطر مسائل عصرنا وكيف يحلونها ألا وهي مسألة الاستعمار.

1 – مسألة الاستعمار: حق الأمم في أن تكون سيدة نفسها
أنهت أقوى الدول، في عصر الاستعمار، تقسيم الكرة الأرضية في أفريقيا وآسيا فيما بينها. واستغلت الشركات الاحتكارية المستعمرات والمحميات التي نشأت عن هذا التقسيم. ويشمل الاضطهاد الاستعماري جميع نواحي الأمة: فيحتل الأرض، ويفرض اللغة الأجنبية على حساب اللغة القومية، وينهب الثروات الاقتصادية، ويستعبد الثقافة القومية ولا شك أن النزعة الإمبراطورية الاستعمارية تقوم بقمع لا يعرف الشفقة كي تحفظ "حقوقها" المزعومة كقوة محتلة، ويأبى على الشعوب المستعمرة حقها في أن تنشيء لنفسها دولا خاصة بها.
نعرف قول ماركس المشهور: "لا يمكن للشعب الذي يضطهد شعوباً أخرى أن يكون حراً."
واستغلال شعب من الشعوب هو من صنع البرجوازية الكبرى والرجعية والاحتكارات التي تستولي على الشعوب الضعيفة، بحثاً وراء الربح الأقصى، فتسلبها خيراتها. من الواضح أن هذا العمل مناقض لمصالح البروليتاريين في البلد المستعمرة. فلماذا؟
أولا: لأن عدوهم الطبقي، أي البرجوازية الرجعية، هو يقوى باستعماره شعوباً أخرى. حتى ولو أن استغلال الشعوب المستعمرة (كما حدث في انجلترا) يتيح للبرجوازية الاستعمارية أن تتكرم ببعض الخيرات على البروليتاريا في بلدها من تلك الأرباح التي تنتزعها من العمال في المستعمرات. وتستعيض عن ذلك بازدياد قوتها التي تستمدها من الاستقلال الاستعماري. ولا تستخدم البرجوازية هذه القوة ضد العمال في المستعمرات فقط بل ضد البروليتاريا في الدولة المستغلة. لأن الاضطهاد الطبقي في الخارج يقوي الاضطهاد الطبقي في الداخل
ثم أن البرجوازية تدفع بالبروليتاريا في بلدها ضد العمال الأجانب لضمان نجاح مشاريعها الاستعمارية. وهي تبتز أرباحها الهائلة من دم هؤلاء وأولئك. فتعمل، لبلوغ هذه الغاية، على أقناع العمال في البلد المستعمر أن الاضطهاد الاستعماري يتفق ومصالحهم. ثم تعلم أطفال الشعب، في الكتب البرجوازية أن حرب النهب "دفاع عن المدينة"، فتختفي مصالح الشركات الاحتكارية (التي تستغل الشعب الفرنسي, كما تستغل الشعوب المستعمرة)وراء ((المصالح الفرنسية)). وكلما خدع العمال الفرنسيون والإنجليز بهذه الأكاذيب، جلبوا على أنفسهم أكبر الضرر، وخدموا أغراض الطبقية التي تضطهدهم، وأضعفوا نضالهم كطبقة مستغلة، فأضعفوا بذلك وحدة البروليتاريا العالمية.
تقودنا هذه الملاحظة الأخيرة إلى حل مسألة الاستعمار. ذلك لأن النزعة العالمية البروليتارية تضع بيدنا مفتاح حل هذه المسألة.
فمصالح عمال البلد المستعمر ومصالح عمال البلد المستعمر متضامنة ضد البرجوازية الاستعمارية عدوهم المشترك.
فما رأي النزعة العالمية البروليتاريا بهذا الصدد؟
أ – يؤكد عمال البلد المضطهد حق الأمم في أن تكون سيدة نفسها. يعني هذا، عملياً، أنهم يعترفون للأمم المضطهدة بحقها في أن تنفصل عن الدولة المستعمرة لتنشيء دولتها الخاصة، المستقلة. فالحديث عن "حرية تقرير المصير" ورفض الحق في الانفصال هراء كاذب، لأن ذلك يعني أن تمنع بيد ما تعطيه باليد الأخرى.
ولهذا وجب على عمال البلد المستعمر أن يطالبوا بحق الانفصال للبلاد المستعمرة. والتخلي عن ذلك (بحجة أن الشعوب المستعمرة ليست "ناضجة للاستقلال") موقف رجعي، لا تقيد منه إلا البرجوازية المستعمرة التي تزيد بذلك من سيطرتها.
مثال ذلك: الهند الصينية. الموقف الوحيد العادل من النضال القومي ضد الاستعمار الفرنسي بقيادة شعوب الفيتنام واللاوس والكمبودج هو التأكيد على حق هذه الشعوب المطلق في الانفصال والاستقلال كدولة، ومساندة هذه الشعوب الفعلي في فرنسا نفسها.
ب – كما يؤكد، من ناحية ثانية، عمال البلد المضطهد وحدتهم العالمية الطبقية مع البروليتاريا في البلد المستعمر، ولهذا تحارب الأحزاب الثورية، في البلاد المستعمرة، في نفس الوقت الذي تحارب فيه النزعة الأمبراطورية المضطهدة" نزعة البرجوازية القومية في بلادهم. يقول القوميون البرجوازيون في البلد المستعمر لعمال هذا البلد: "كل الفرنسيين أعداء لكم"، فيجيب العمال الذين نشأوا على روح النزعة العالمية البروليتاريا: "كلا! شركات الاحتكار الاستعمارية الفرنسية هي عدوة لنا، بينما العمال الفرنسيون أصدقاء لنا".
وهكذا يناضل بروليتاريو البلد المستعمر، باسم النزعة العالمية، النزعة القومية البرجوازية الاستعمارية، كما يحارب بروليتاريا البلد المستعمر، باسم النزعة العالمية، النزعة القومية البرجوازية في بلدهم
يجدر بنا، أن نذكر أقوال لينين القيمة:
يجب أن يقوم مركز الثقل في تربية العمال العالمية في البلاد المضطهدة، على الدعاية والدفاع عن حرية البلاد المضطهدة في الانفصال، إذ بدون ذلك لا توجد النزعة العالمية. لنا الحق أن نصف بالاستعماري الحقير كل اشتراكي ديمقراطي، في أمة تضطهد، لا يقوم بهذه الدعاية. وهذا مطلب مطلق، وأن كان مثل هذا الانفصال لا يمكن "تحقيقه " قبل حلول الاشتراكية ألا بنسبة واحده بالألف.
بينما يجب، على الاشتراكي الديمقراطي، في أمة صغيرة، على العكس، أن يجعل محور الثقل في نشاطه حول القسم الأول من شعارنا "اتحاد الأمم اتحاداً حراً"، فهو يستطيع أن يقف إلى جانب استقلال أمته السياسي وأنضمامها إلى دولة مجاورة، دون أن يتنكر لواجباته كصاحب نزعة عالمية. ولكنه يجب عليه، في كل الحالات، أن يناضل ضد النزعة القومية الضيقة التي تميل للاتفاق والعزل لينظر إلى هذه الحركة العالمية في مجموعها وشمولها فيربط بذلك المصلحة الخاصة بالمصلحة العامة.
ويجد الذين لم يتعمقوا هذه المسألة أنه من "التناقض" أن يلح الاشتراكيون الديمقراطيون في الأمم المضطهدة على "حرية الانفصال"، كما يلح الاشتراكيون الديمقراطيون، في الأمم المضطهدة على "حرية الاتحاد". غير أنه يكفينا قليل من التفكير لنرى أنه، في هذا الوضع، لا يوجد، ولا يمكن أن يوجد، طريق آخر نحو صبغ الأمم بالصبغة العالمية ودمجها بعضها بالبعض.
أكد موقف لينين هذا، موريس توريز، في فرنسا، عدة مرات:
كان علينا، نحن البروليتاريين، في بلد استعماري يضطهد عشرات الملايين من العبيد في المستعمرات، أن نرفع الصوت عاليا مطالبين بحق هذه الشعوب بتقرير مصيرها، ومن ذلك حق الانفصال عن فرنسا. وكان علينا أن نحارب في بلادنا كل نزعة استعمارية، تاركين لرفاقنا الشيوعيين في البلد المستعمر أمر مقاومة كل نزعة قومية ضيقة في بلادهم، وأن يعلنوا الفائدة التي يجنيها شعبهم إذا تضامن في النضال مع البروليتاريا الفرنسية ضد نفس المضطهدين الاستعماريين. قال لينين: "الحق في الطلاق لا يعني وجوب الطلاق.
يبدو هنا جانب مهم من للحق في تقرير المصير. يفسره البعض بصورة ساذجة فيقولون بأن "الحق" يماثل "الواجب" فإذا كان البروليتاريون في البلد المستعمر يعلنون، بالاتفاق مع البروليتاريون في البلد المستعمر، حقهم في الانفصال فلا يعني ذلك أنهم ينادون بالانفصال في كل وقت، وأنهم يجدونه مفيداً في كل حين.
ولنضرب لذلك مثلاً: كانت روسيا القيصرية تضطهد عدة شعوب في آسيا (أهالي جورجيا، الأرمن) وكانت تأبي عليهم حقهم في إنشاء دول مستقلة. وكان الماركسيون الروس والجورجيون والأرمن ينادون بالحق في الانفصال ضد النزعة القيصرية. ثم وقعت ثورة تشرين الأول 1917. فماذا حدث؟
لقد حرر قيام الاشتراكية الجورجيين والأرمن من نير الاستعمار. ومع ذلك لم ينفصلوا عن الأمة الروسية، بل تكونت دولة متعددة الأمم، على أساس المساواة بين جميع الأمم التي تكون هذه الدولة.
فلماذا لم يمارس الجورجيون والأرمن حقهم في الانفصال؟لماذا، بعد أن نالوا الحق في الطلاق، لم يمارسوا هذا الحق؟ لسبب بسيط هو أنهم لو فعلوا ذلك لأصبحوا فريسة سهلة للبلاد الرأسمالية، عدوة الاشتراكية والاتحاد السوفياتي فقد كانت مصلحة عمال المستعمرات القيصرية القديمة الطبقية في عدم الانفصال عن الشعب الروسي، وأن تتحد معه ومع الأمم السوفياتية، داخل الدولة الاشتراكية المتعددة القوميات على أساس طبقي.
نرى، إذن، أن المصلحة الطبقية هي التي تقرر في النهاية فيما يتعلق بالأنفصال أو الاتحاد
غير أن الاختيار يرجع للشعب المعنى بالأمر (الشعب المستعمر أو الأقلية القومية).
وهكذا يجب على الشعب الفرنسي أن يحترم طموح الشعوب المستعمرة إلى الاستقلال، ولا سيما الفيتنام. إذ أن لهذا الشعب الحق المطلق في أن ينفصل عن فرنسا، وهذا ما تأباه عليه البرجوازية الاستعمارية، لأنها تزيد الاستمرار في استغلال الهند الصينية، بينما يساند العمال الفرنسيون حق الفيتنام في نضالهم ضد الحرب الجارية، في إرجاع الجيش إلى فرنسا. هذه الحرب ظالمة لأنها تهدف لاستمرار اضطهاد شعب. بينما الحرب التي تشنها الأمة الفيتنامية ضد الاستعمار المضطهد حرب عادلة ككل حرب تحرير قومي.
في بعض الحالات. أن يناقص الجزء الكل، فيجب عندئذ رفض الجزء" (لينين: مؤلفات" باللغة الروسية"، ج 19، ص 257 – 258)، ذكره ستالين ص 220). وهذا الرفض لا يعني فصله بل وضعه في المحل الثاني لفترة من الزمن. نجد هنا مثالا على الميزة الأولى للجدلية. وهي أن كل شيء مرتبط بالأخر.
نفهم بذلك أنه يمكن للبروليتاريا العالمية أن تساند حركة قومية معادية للاستعمار في بلد معين، وأن كانت هذه الحركة لا تقودها عناصر بروليتارية. فقد ساند البروليتاريون، قبل الحرب العالمية الثانية في جميع البلاد نضال الحبشة ضد جيش موسوليني وأن كان الشعب الحبشي يقوده إقطاعيون. لأن مثل ذلك النضال كان يضعف الفاشية العالمية العدو الرئيسي للبروليتاريا.
حتى إذا ما تحررت الأمة الفيتنامية من نير الاستعمار، كان من حقها أن تقرر بشأن علاقاتها مع فرنسا.
ويعتبر العمال في فرنسا وعمال الفيتنام، منذ الآن، أنه يستحسن، لمصلحة البلدين، قيام سياسة تبادل اقتصادية وثقافي. غير أن هذه السياسة تتطلب الفصل بين الأمتين والمساواة المطلقة بين الدولتين.
نرى إذن أن مبدأ النزعة العالمية البروليتارية يسمح لنا نظرياً وعملياً بحل المسألة القومية والاستعمارية، ونجد أنفسنا، إذن، مرة أخرى، أمام النضال الطبقي.
تتطلب مصالح الحركة البروليتارية في البلاد المتقدمة، وحركة التحرير القومي في المستعمرات، أن يتحد هذان الجانبان للحركة الثورية في جبهة مشتركة للنضال ضد العدو المشترك وهو الاستعمار.
2 – الأمم الاشتراكية
ا – المسألة القومية والثورية الاشتراكية
ساعد على نجاح الثورة الاشتراكية في تشرين الأول سنة 1917 تأليف هذه الجبهة المشتركة. ولما أمكن انتصار البروليتاريا الروسية على البرجوازية الاستعمارية لولا اتحاد الشعوب التي تستغلها هذه البرجوازية نفسها في إمبراطورية القياصرة الواسعة. وهكذا تكون ثورة تشرين الأول قد ضربت الاستعمار في قلبه وفي مؤخرته.
حطمت ثورة تشرين الأول، بقلبها لكبار الملاكين والرأسماليين، قيود الاضطهاد القومي والاستعماري التي نجت منها جميع الشعوب المضطهدة، بدون استثناء، في دولة شاسعة، إذ لا يمكن للبروليتاريا أن تحرر بدون أن تحرر الشعوب المضطهدة. وتمتاز ثورة تشرين الأول بأنها لم تقم بهذه الثورات القومية والاستعمارية، في الاتحاد السوفياتي، تحت لواء الحقد القومي والمنازعات بين الأمم، بل تحت لواء ثقة متبادلة وتقارب أخوي بين العمال والفلاحين في القوميات التي تقيم في الاتحاد السوفياتي، ولم تقم بها باسم النزعة القومية بل بأسم النزعة العالميةولم يكن قادة العالمية الثانية، بالرغم من خطبهم عن المساواة بين الأمم، ليهتمون بالشعوب المستعمرة: بل كانوا يأبون عليها أي إمكانية للعمل الثوري. وكل ما كانوا يعترفون لها به هو حقها "في الاستقلال الثقافي"، وأن يكون لها مؤسساتها الثقافية، وذلك داخل الدولة المستعمرة.
بينما يعني الماركسيون اللينينيون بحرية تقرير المصير الحق في الانفصال، وفي إنشاء دولة مستقلة. ولما كان نضال الأمم المضطهدة من أجل استقلالها موجهاً ضد البرجوازية الاستعمارية، العدو المباشر للبروليتاريا "الأم" Métropoitain كان لهذا النضال طابع ثوري.
المسألة القومية جزء من مسألة الثورة البروليتارية العامة، وهي جزء من مسألة الثورة البروليتارية العامة وهي جزء من مسألة دكتاتورية البروليتاريا.
تضخم حركة التحرير القومي الهائل في البلاد المضطهدة كأفريقيا وآسيا منذ عام 1917، وانتصار الشعب الصيني على الاستعمار وسيره نحو الاشتراكية، كل تلك وقائع لها أهمية كبرى بالنسبة للنضال الثوري العالمي.
ولقد أقبل زمن ثورات التحرير في المستعمرات وفي البلاد التابعة, زمن يقظة البروليتاريا في هذه البلاد، زمن سيطرتها في الثورة.

ب – ميزات الأمم الاشتراكية
ابتدأت الثورة الاشتراكية، بتحريرها للشعوب المضطهدة، مرحلة جديدة في تطور الأمم. وظهر نموذج جديد من الأمم، بفضل انتصار البروليتاريا، ألا وهي الأمة الاشتراكية.
رأينا في الدرس السابق أنه يجب أن نفهم من "الأمم البرجوازية" الأمم التي نشأت بقيادة البرجوازية في نضالها ضد الإقطاعية. وكان انتصار البرجوازية انتصار لعلاقات الإنتاج الرأسمالية. ومن هنا نشأت ميزات الأمة البرجوازية.
تقوم الأمة البرجوازية بالضرورة على عدم المساواة بين أفرادها، لأن الطبقة المسيطرة تستغل البروليتاريا.
الأمة البرجوازية عدوة لسائر الأمم البرجوازية لأن برجوازيات مختلف البلدان الرأسمالية تتنافس فيما بينما سعيا وراء الربح. ومن هنا كانت النزعة القومية.
وأخيرا، تخضع الأمة البرجوازية، في مرحلة الاستعمار، لها الشعوب المتأخرة في نموها الاقتصادي.وهكذا يتم الاستغلال في الداخل بواسطة الاستغلال في الخارج. نذكر مرة أخرى بقول لينين: "أصبت الرأسمالية الاستعمارية أكبر مضطهدة للأمم".
وتختلف عن ذلك ميزات الأمة الاشتراكية.
يقول ماركس وانجلز في بيان الحزب الشيوعي: "الغوا استغلال الإنسان للإنسان تلغوا استغلال أمة لأمة أخرى. قمتى زال تعارض الطبقات داخل الأمة، زالت العداوة بين الأمم.
فقد أوجدت الثورة الاشتراكية، بقلبها للبرجوازية المستغلة، وإزالتها للاضطهاد الطبقي، علاقات جديدة داخل الأمة الواحدة وبين الأمم المتعددة.
وقد برهن قيام الاتحاد السوفياتي وازدهاره على صحة ذلك.
فزوال الطبقات المستغلة، السبب الرئيسي للاصطدام بين الأمم، وزوال الاستغلال الذي يغذي الريبة المتبادلة ويؤجج الأهواء القومية، ووجود الطبقة العاملة، في الحكم، وهي عدوة كل استعباد، تدافع بإخلاص عن أفكار النزعة العالمية، وتحقيق التعاون المتبادل، بصورة عملية، بين الشعوب في جميع ميادين الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وأخيراً ازدهار الثقافة القومية لشعوب الاتحاد السوفياتي، وهي ثقافة قومية في الصورة، اشتراكية في المحتوى: كل هذه العوامل وما يشبهها غيرت طابع شعوب الاتحاد السوفيتي بصورة جذرية وعملت على زوال شعور الريبة بينها، ونمت عاطفة صداقة متبادلة، فنشأ، بذالك، تعاون أخوي حق بين الشعوب داخل الدولة الاتحادية الواحدة.
تلك هي نتيجة انتصار الطبقة العاملة. كانت البرجوازية، بتحطيمها للاضطهاد الإقطاعي، قد صنعت أغلالاً جديدة. وأما الطبقة العاملة،فأنها بتحررها قد حررت جميع الناس. فزال النير الطبقي كما زال النير القومي.
كانت إمبراطورية القياصرة "سجنا للشعوب" حتى إذا ما تحررت القوميات المختلفة من الاضطهاد نالت حقها في تقرير مصيرها. وقد رأينا أن ممارسة هذا الحق لها وجهان: أما الانفصال وأما الاتحاد الحر.
ولقد اختارت القوميات المذكورة، آنفا، الاتحاد مع الشعب الروسي.
وهكذا نشأت دولة اشتراكية متعددة القوميات.وتحتفظ القوميات، التي تتكون منها هذه الدولة، بحقها في تقرير مصيرها: فهي تستطيع، أذن، إذا شاءت أن تنفصل عن الاتحاد.
ما هو طابع العلاقات الأساسي بين الأمم الاشتراكية، التي يقارب عددها الستين؟ المساواة في الحقوق. وقد قال للينين: "لا أمتياز لأمة على أخرى... ولا أقل أضطهاد أو ظلم للأقليات القومية". ليس هناك، أذن، أمة مسيطرة في الاتحاد السوفيتي، بل جمهوريات متحدة بحرية "جمهورية روسيا، جمهورية أوكرانيا، جمهورية كازافي، جمهورية استونيا، الخ..." فإذا ما وجد، داخل الجمهورية المتحدة، أقليات قومية، كونت جمهوريات مستقلة "مثال: يوجد داخل الجمهورية المتحدة الروسية جمهورية تارتاري وجمهورية بشكيري، وجمهورية داغستان. الخ." كما يوجد شعوب صغيرة، ومناطق مستقلة، وأقاليم قومية.
تقوم الدولة الروسية المتعددة القوميات بالدفاع عن المصالح المشتركة بين جميع القوميات التي تكونها. كما أنها تشرف على تخطيط الاقتصاد الاشتراكي وإدارة السياسة الخارجية، والجيش، والتنشئة الثقافية.
غير أنها تخضع من أسفل إلى الأعلى، بواسطة السوفيات، لأشراف جميع المواطنين المتساوين في الحقوق، مهما كانت قوميتهم أو جنسيتهم. فيستطيع، مثلاً، جميع المواطنين، تولى جميع الوظائف الدولة السوفياتية من أصغر وظيفة إلى أعلى وظيفة، ويتولى الحكومة أناس من القوميات وأجناس مختلفة.
أما المصالح الخلاصة بكل قومية، فأنها من اختصاص الجمهورية المتحدة أو المستقلة التي تتمتع، ضمن الدستور السوفياتي، بدستورها الخاص، وقوانينها الخاصة.ويعكس هذا الدستور. كما تعكس هذه القوانين، الخواص القومية "الاقتصادية، والثقافية، والتاريخية" لكل شعب.
وهكذا يتحقق ازدهار القوميات في كل الميادين، على عكس ما يجري في النظام الاستعماري القيصري.
ولنضرب على ذلك مثلا: انشأ الشعب الأوزبكي، الذي أستغل قبل الثورة، جمهورية اشتراكية لها دستورها، وسوفياتها، ومجلس وزراؤها، داخل اتحاد الجمهوريات السوفياتية، وازدهر اقتصادها القومي، الصناعة، الزراعة، تربية الماشية، ازدهاراً هائلاً، بفضل مشاريع الخمس سنوات. فلقد تضاعفت الصناعة الثقيلة خمس عشرة مرة منذ عام 1913. فهناك مركز حراري ومائي. وتنتج الزراعة الآلية بكثرة الأقطان المتنوعة. وتقوم مراكز تربية أغنام أستراكان الرئيسية في أوزبكي. أما تحسين مستوى المعيشة والتقدم الثقافي فهما يناقضان مناقضة شديدة البؤس والضغط الثقافي اللذين تفرضهما البرجوازية الرأسمالية على مستعمراتها، فبينما يوجد في منطقة "القبلي" في الجزائر طبيب لكل 30 ألف شخص "حسب الإحصاء الرسمي" يوجد في أوزبكي طبيب لكل 895 شخصاً وكذالك أقل من 10% من الأطفال المسلمين، في مراكش، يدخلون المدارس. بينما، زالت الأمية، في أوزبكي، بعد أن كانت عامة في عهد القياصرة "98% أميون"، وكذلك يتردد 81% على معهد ثانوي عال "في فرنسا 36/1000 فقط".
ولغة التعليم هي اللغة الأم، التي هي رسمية. وهذا شأن جميع القوميات التي تكون الاتحاد السوفياتي.
كما أن جرائدها ومطبوعاتها بالغة القومية. وبذلك سهلت نهضة التقاليد الأدبية والفنية لكل شعب.
فقد أنشيء، عام 1943، والحرب دائرة الرحى ضد هتلر، مجمع العلوم الأوزبكي، فلم يمض عليه عشر سنوات حتى أصبح يضم 25 مؤسسة علمية، يعمل فيها 1500 باحث. وهكذا لكل جمهورية سوفياتية ملاكاتها الخاصة "من علماء، ومهندسين ومهندسين زراعيين، وأطباء، ومربين، الخ".
ونستطيع ضرب الأمثلة الكثيرة على ذلك. غير أن أصدق الأمثلة هي تلك التي نجدها عند شعوب بعض المناطق المستقلة التي أودت بها النزعة الإمبراطورية إلى موت مؤكد، فإذا بالاشتراكية تنفذها من هذا المصير.
يسكن في سيبيريا، على ضفاف نهر(Haut-jenissei9) ورافده(Abakam) شعي الهاكاس (Hakasse) وقد قام المونغول، منذ أكثر من عشرة قرون، بغزو هذا الشعب الذي كان من أقوى شعوب أسيا وأكثرها ثقافة، فكان مصيره الخراب. حتى أنه فقد أحرفه الكتابية، وزادت النزعة الإمبراطورية في خطورة الحال فأخذ شعب الهاكاس بالأقوال رويداً رويداً. كان أذن في وضع يشبه وضع الهنود الحمر على يد المستعمرين الأمريكان. بيد أن الثورة الاشتراكية أعادت الحياة لهذا الشعب. فأصبح يعد أكثر 50ألف مواطن، يقيمون في منطقة مستقلة، ويتمتع هذا الشعب باقتصاد مزدهر "فحم حجري، ذهب، معدن الحديد، غابات، أقنية" وفيه 350 مدرسة، و3 مدارس تقنية، معهد تربوي. كما له صفحة وادبه ومسرحه.
وكان الشعب "الننت" (Nenets)، في شمالي سيبيريا، يخضع لاضطهاد موظفي القيصر الوحشي، والتجار الروس الذين كانوا يستولون على ثرواته "من فرو، وأسماك"وكبار مربي الوعول (Rennes). كان هذا الشعب في طريق الانحلال فبلغ عدده 16 ألف نسمة عام 1899، و2000نسمة عام 1913.
وقد غيرت الثورة الاشتراكية هذه الحال. فكون هذا الشعب مقاطعة قومية وعادت إليه القوة والحياة. فبلغ عدده عام 1939، 12 ألف نسمة. وأزدهرت صناعته من صيد بحري وبري، وظهرت زراعة صناديق الزجاج (Serres)وأصيح عدد المدارس 56. منها سبع مدارس ثانوية ومدرسة تقنية لتربية الوعول، وثلاثة مراكز للبحث العلمي... كل ذلك في هذه المنطقة التي كان يخيم عليه الجهل والخرافات .
هكذا يضمن الاتحاد السوفياتي ازدهار مختلف الشعوب التي يتكون منها. فاستعادت قوميات قديمة مضطهدة استقلالها واستطاعت شعوب خاملة. بفضل الاشتراكية، أن تكون أمما. كما استطاعت شعوب ذات اقتصاد بدائي وعقلية قديمة "كالننت" أن تنقل في بضع سنوات إلى طريقة الحياة الاشتراكية.
وهكذا ندرك كيف أن العلاقات بين الأمم "كبيرة وصغيرة" قد تغيرت تغيراً كلياً في مثل هذه الظروف.
فحل محل الريبة والعداوة الثقة المتبادلة والتعاون الأخوي. ولهذا ذهبت جهود الغزاة الهتلرية سدى. أولئك الذين كانوا يأملون تحطيم العلاقات التي أقامتها الاشتراكية بين الشعوب السوفياتية بالقوة، كانوا يعتقدون، مثلا، أنهم يستطيعون تأجيج العواطف القومية القديمة من جديد في أوكرانيا ضد الشعب الروسي، فلم يحدث شيء من ذلك.وبينما نرى الحرب العالمية الثانية قد أضعفت كثيراً النظام الاستعماري الذي أقامته الرأسمالية، إذا بإتحاد الأمم الاشتراكية يقوى في نضالها المشترك ضد النازية العنصرية، عدوة الشعوب.
وهكذا تحققت صحة وجود وطنية سوفياتية تعارض النزعة الوطنية المتعصبة البرجوازية.
لا تقوم قوة الوطنية السوفياتية على المعتقدات العنصرية البالية أول المعتقدات القومية، بل هي تقوم على إخلاص الشعب وولائه العميق لوطنه السوفياتي، وعطف جميع العمال، المقيمين في بلادنا، الأخوي.
تشترك في الوطنية السوفيتية، بانسجام، تقاليد الشعوب القومية ومصالح عمال الاتحاد السوفياتي الحياتية المشتركة. والوطنية السوفياتية، بدلا من أن تفرق، تجمع على العكس، جميع الأمم والقوميات في بلادنا ضمن عائلة واحدة أخوية، من هنا تظهر أسس الصداقة المتينة التي لا نتزعزع بين شعوب الاتحاد السوفياتي، كما أن شعوب الاتحاد السوفياتي، من ناحية ثانية، تحترم حقوق شعوب البل الأجنبية واستقلالها. فقد أظهرت دائما رغبتها في أن تعيش بسلام وصداقة مع الدول المجاورة. وهذا هو أساس العلاقات التي أخذت تنمو بين دولتنا وبين الشعوب المحبة للحرية
رايات الدولة الاشتراكية هي رايات الصداقة بين الشعوب التي كونت هذه الدولة، كما أنها رايات الصداقة مع جميع شعوب العالم، ومن الشعوب التي لا تزال ترزح تحت نير الرأسمالية. ولهذا كان من العبث الحديث عن "استعمار روسي": ذلك لأن الثورة الاشتراكية، بإزالتها للبرجوازية الإمبراطورية، قد اجتثت النزعة الإمبراطورية من جذورها. فالاتحاد السوفياتي مسالم، في أساسه، لأنه اشتراكي. والوطنية السوفياتية على نقيض النزعة القومية البرجوازية، فهي حب يحمله العمال السوفياتيون لبلاد الاشتراكية، وهي أروع مظهر للنزعة العالمية البروليتارية.
نستطيع الآن أن نخلص للقول بأن الاشتراكية، في نفس الوقت الذي توفر فيه ازدهار كل أمة ماديا وأخلاقياً، تعجل في التقارب السلمي بين جميع الأمم. ولما كانت الاشتراكية محررة للأمم فأنها تمهد لاتحادها.
3 – مستقبل الأمم
دللنا في الدرس الثالث والعشرين على أن الأمم لم توجد دائما بل أن الأمم حقيقة تاريخية كونتها البرجوازية على أساس سوق واحدة.
حتى إذا ماحطمت الطبقة العاملة، وبواسطة الثورة، النير الطبقي، حطمت في نفس الوقت، النير القومي: وهكذا تضمن الاشتراكية لجميع الأمم ازدهارا منسجما تاما.
وليس هذا الازدهار نفسه سوى بداية ازدهار أشد روعة هو الازدهار الذي ستوفره الشيوعية للإنسانية جمعاء متى انتصرت في كل مكان.
إذ سيكون من نتيجة انتصار الشيوعية الشامل تكوين اقتصاد عالمي واحد. وهو شرط ضروري لتقديم قوى الإنتاج المطرد. ومن ثم تفقد الحدود الأرضية مغزاها. إذ سوف يقرب ازدياد التبادل المادي والثقافي بين الشعوب. فتسير نحو لغة عالمية واحدة، غنية جداً، لأنها سوف تتولد من اندماج عدة لغات قومية بصورة تدريجية.
متى زالت النزعة الإمبراطورية وولت الطبقات المستغلة، وانقضى عهد الاضطهاد القومي والاستعماري، وحل محل العزلة القومية والربية المتبادلة، الثقة والتقارب بين الأمم، وظهرت المساواة في الحقوق بين الأمم في الحياة، وماتت سياسة الاضطهاد وتمثل اللغات، وتنظيم تعاون الأمم وأمكن اللغات القومية، في تعاونها، أن تغذي بعضها بعضاً... لا يمكن، في مثل هذه الظروف، الحديث عن اضطهاد واندحار بعض اللغات وانتصار البعض الاخر... سنجد أنفسنا أمام مئات اللغات القومية التي سينفصل عنها أولا، بتأثير تعاون اقتصادي وسياسي وثقافي طويل الأمد بين الأمم اللغات الخاصة بكل منطقة من مناطق العالم، ثم سوف تندمج هذه اللغات في لغة واحدة عالمية مشتركة، لن تكون طبعاً الألمانية أو الروسية أو الإنجليزية بل سوف تكون لغة جديدة قد تمثلت أفضل عناصر اللغات القومية ولغات المناطق العالمية.
سوف تكون اللغة الواحد وسيلة ثقافية مشتركة، في محتواها من العواطف والأفكار، وفي صيغتها وتعبيرها، من أجل أولئك الناس الذين أدركوا، في كل مكان. أسمى مرحلة في تطورهم التاريخي وأصبحوا أفرادا في وطن واحد هو وطن الشيوعية الشاملة.
وهكذا نجتاز الحدود القومية.
غير أن المشكلة، في الأيام، ليست مشكلة تجاوز الأمم، بل أن مشكلة الشعوب، اليوم، هي مشكلة تحريرها من النير الرأسمالي وازدهارها الاشتراكي، أجل ازدهارها الاشتراكي، لأن الماركسية حين تتحدث عن "توحيد الأمم" لا تعني بذلك قط فنائها، والطريق إلى الاتحاد هو الازدهار الذي يشترط الانتقال إلى الاشتراكية.
يجب أن ندع الثقافات القومية تنمو وتكشف عن قواها الكامنة لتتوفر الظروف التي تسمح بصهرها في ثقافة واحدة مشتركة، ذات لغة واحدة مشتركة. ويحدث ازدهار هذه الثقافات القومية في صورتها، الاشتراكية في محتواها... من أجل انصارها في ثقافة واحدة اشتراكية "في صورتها ومحتواها، ذات لغة واحدة مشتركة متى انتصرت البروليتاريا في العالم أجمع، وتسربت الاشتراكية إلى العادات. هذه هي جدلية الطريق اللينينية في طرح مشكلة الثقافية القومية.
ملاحظات حول الألزاس والموزيل
يساعدنا مبدأ النزعة العالمية البروليتارية، لوحده، على حل مشكلة الأقليات القومية بصورة صحيحة.
وهذا هو حال سكان مقاطعات ثلاث: الرين الأسفل، الرين الأعلى، والموزيل.
لا يوجد "أمة" ألزاسية بالمعنى الكامل لهذه الكلمة. ولكنا، إذا رجعنا إلى تعريف الأمة العلمي، نلاحظ أن هذه المقاطعات لها وضع خاص.
لا يمكن أن نتحدث عن "وحدة لغوية" مع فرنسا، متى وجدنا البالغين، فوق الأربعين "ما خلا بعض المناطق" والشبان بين 16 – 20 سنة لا يعرفون تقريبا اللغة الفرنسية، كما أن الذين تعلموا الفرنسية لا يتكلمون أن يكتبونها ألا بصعوبة لقلة الممارسة – لأن لغة التخاطب في العائلة وفي العمل هي لهجة أصلها ألماني. ويكفي أن نقارن بين ما تطبعه صحف اللغة الألمانية وبين ما تطبعه صحف اللغة الفرنسية لنتأكد من ذلك.
أما التكوين النفسي، فيصعب علينا أن ننكر أنه يختلف عن التكوين النفسي الفرنسي بسبب الاختلاف اللغوي ولا سيما الاختلاف في تطور الألزاس التاريخي
إذ أن سلسلة من التجارب التاريخية التي قامت بها الأمة الفرنسية بين عامي 1870 – 1919 "فصل الكنيسة عن الدولة وقضية دريفوس مثلاً" لم تنطبع في وعي سكان الألزاس واللورين انطباعها في وعي سائر الأمة. كما لا يمكننا أن ننكر أن فترة 1940 1945 عاشها الشعب في الألزاس واللورين بطريقة تختلف عن سائر الناس في فرنسا.
وكذلك لا توجد وحدة قومية بين ألمانيا والألزاس لنفس الأسباب التاريخية بالرغم من وجه القرابة اللغوية، ولهذا فأن تجربة الثورة الفرنسية الكبرى أو تجربة 1936 قد أثرتا تأثيرا قويا في الألزاس بينما هما لم تؤثر في الشعب الألماني.
نلاحظ إذن وجود خواص قومية في الألزاس واللورين، فهل هي لا تخلو من القيمة؟ أو ليست مصدراً لعدد من المطالب؟
أجل. وتجاهل هذه المطالب على يد الحكومات الفرنسية سبب شعوراً بالنقص وأثار الاستياء بين صفوف سكان الألزاس واللورين.
وهذا بديهي فيما يتعلق بالمطالب المادية الخاصة... كالضمان الاجتماعي، وكساد المحصول الزراعي "الخمر التبغ"، والفروق في الضرائب، ووضع الموظفين، وضحايا الحرب... الخ.
وهذا بديهي أيضاً فيما يتعلق بمشاكل اللغة: فاستعمال اللغة الفرنسية فقط في النشرات الأدارية "ما عدا أوراق الضرائب" وأمام المحاكم، وفي مجالس الشركات يؤدي إلى مظالم عدة يشعر الناس كأنها عقاب لهم.
كما أن تعليم اللغة الفرنسية لوحدها يؤدي، من جهة، إلى أن الأطفال الألمان الذين يتخرجون من المدرسة الابتدائية لا يعرفون اللغة الألمانية الأدبية كما أنهم يعرفون اللغة الفرنسية عند دخولهم إلى المدرسة في السادسة من عمرهم، كما يتكلمونها في الشارع، وفي العائلة، بينما على صغار الألزاسيين – الذين يتكلمون لهجتهم الخاصة خارج ساعات الدرس – أن يتعلموا اللغة الفرنسية بأكملها.
ومن جهة ثانية فأن تعليم اللغة الفرنسية فقط يؤدي إلى أن الشاب الألزاسي الذي يبتعد لسبب ما "كالعمل أو الخدمة العسكرية"، عن عائلته، لا يستطيع مراسلتها باللغة التي يفهمها والداه أو جداه، كما يجد صعوبة في قراءة رسائلهم باللغة الألمانية.
تمثل الألزاس .اللورين على المستوى التاريخي، واللغوي، والفني، والثقافي، الاقتصادي شخصية أصلية بالنسبة للأمة الفرنسية والأمة الألمانية على السواء.
وتنكر البرجوازية الفرنسية هذه الصالة. وهي تناقض، لا سيما، مطلب العمال الألزاسيين الواضح بازدواجية اللغة "الألمانية والفرنسية" في المدرسة الابتدائية وهي تدعي أن مثل هذا المطلب لا أساس له بالرغم من الوقائع البدائية. "حتى إذا وجب معاقبة جزاري أورادور عارضت بذلك بحجة أن بعضهم الزاسيون".
غير أن ينبغي أن نلاحظ أن نفس هذه البرجوازية، بعد أن شجعت في الألزاس واللورين عمل صنائع هتلر، سلمت الألزاسيين واللورينيين إلى عام 1940 بدون أية صعوبة.
وهي تغمرهم اليوم، بالرغم من رفضها لسد مطالب العمال الألزاسيين "لا سيما فيما يتعلق بالغة" بدعاية "أوروبية" ضخمة، فهي تود لو يقع العمال الألزاسيون في فخ "أوروبا المتحدة"، على أمل أن تعطيهم "أوروبا" أخيراً ما رفضته فرنسا. وهكذا تريد البرجوازية الفرنسية، مرة أخرى، تحول عمال الألزاس واللورين إلى طيارين في الطيران الألماني. فهل هناك موقف أكثر تعارضا مع مصالح عمال فرنسا ومصالح عمال الألزاس؟
بينما يختلف موقف الطبقة العاملة الفرنسية. فهي تعترف، حسب النزعة العالمية البروليتارية، بمطالب القلية الألزاسية القومية كما تعترف لها بحقها في تقرير مصيرها. "أي حق الأنفصال".
غير أن الحق في الطلاق ليس وجوب الطلاق.
إذا كان على شيوعي فرنسا أن يلحوا في القول على الحق في الانفصال، ضد النزعة الأمبرطورية المضطهدة، فأن على شيوعي الألزاس واللورين أن يوضحوا الاتحاد الحر الذي رضيته شعوب الألزاس واللورين مع العمال فرنسا، مخافة التردي في النزعة القومية الضيقة.
ليست مصلحة عمال الألزاس واللورين، الحالية، في الانفصال. بل مصلحتهم في الدفاع عن مطالبهم القومية في اتحادهم الوثيق مع عمال فرنسا. وهذا ما حدث في عام 1936 حينما حارب عمال الألزاس الجبهة الشعبية. كما حدث أثناء الاحتلال النازي، فقد ناضل عمال الألزاس واللورين، متحدين مع الطبقة العاملة الفرنسية، ضد الهتلريين "وأعوانهم". وسائق القطار الشيوعي فولدي هو رمز بطولة هذا النضال الموحد ضد العدو المشترك.
ومصلحة عمال الألزاس واللورين، اليوم، هي في النضال مع عمال فرنسا ضد البرجوازية الرجعية من أجل الحريات الديمقراطية والتقدم الاجتماعي، وضد بعث النازية في ألمانيا، وضد اديناور وجيشه.










الفهرس
الدرس الخامس عشر 4
الإنتاج : 4
القوى الإنتاجية وعلاقات الإنتاجية 4
1 – ظروف حياة المجتمع المادية 4
ا – البيئة الجغرافية 5
ب – السكان 7
2 – طريقة الإنتاج 8
ا – القوى الإنتاجية 9
ب – علاقات الإنتاج 12
3 – ملكية وسائل الإنتاج 15
4 – تغير طريقة الإنتاج مفتاح تاريخ المجتمعات 18
5 – الخلاصة 21
الدرس السادس عشر 23
قانون الترابط الضروري بين علاقات الإنتاج 23
وطابع قوى في الإنتاج 23
1 – قوى الإنتاج هي أكثر العناصر ثورة في الإنتاج 23
2- تأثير علاقات الإنتاج على قوى الإنتاج 25
3 – قانون الترابط الضروري 27
4 – تأثير عمل الإنسان 30
الدرس السابع عشر 34
نضال الطبقات قبل الرأسمالية 34
1 – أصول المجتمع 35
2 – ظهور الطبقات 36
3 – مجتمعات الرقيق والإقطاع 41
4 – تطور البرجوازية 45
الدرس الثامن عشر 51
تناقض المجتمع الرأسمالي 51
1 – علاقات الإنتاج الرأسمالية: تناقضها النوعي 51
2 – قانون الترابط الضروري في المجتمع الرأسمالي 56
ا – الترابط بين علاقات الإنتاج الرأسمالية وطابع قوى الإنتاج 57
ب – النزاع بين علاقات الإنتاج الرأسمالية وطابع قوى الإنتاج 59
3 – نضال طبقة البروليتاريا منهج لحل التناقض بين علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج. 64
4 – الخلاصة 70
الدرس التاسع عشر 72
البناء الفوقي 72
1 – ما هو البناء الفوقي 72
2 – يتولد البناء الفوقي بواسطة الأساس 76
3 – البناء الفوقي قوة فعالة 79
4 – ليس البناء الفوقي مرتبطاً مباشرة بالإنتاج 83
5 – الخلاصة 85
الدرس العشرون 87
الاشتراكية 87
1– التوزيع والإنتاج 87
2 – أساس الاشتراكية الاقتصادي 89
3 – الشروط الموضوعية للانتقال إلى الاشتراكية 94
4 – قانون الاشتراكية الأساسي 96
5 – الشروط الذاتية للانتقال إلى الاشتراكية ولنموها 98
6 – الخلاصة 106
الدرس الواحد والعشرون 109
من الاشتراكية إلى الشيوعية 109
1 – مرحلة المجتمع الشيوعي الأولى 109
2 – مرحلة المجتمع الشيوعي العليا 113
3– قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج في الاشتراكية 117
4 – شروط الانتقال من الاشتراكية على الشيوعية 121
5 – الخلاصة 125
النظرية المادية عن الدولة والأمة 128
الدرس الثاني والعشرون 129
1 – الدولة و "المصلحة العامة" 129
2 – الدولة ثمرة تعارضات الطبقات المتنازعة 132
ا-أصل الدولة 133
ب – مهمة الدولة التاريخية 140
3 – محتوى الدولة وصورتها 147
ا – محتوى الدولة الاجتماعي 147
ب – صورة الدولة 154
4 – نضال الطبقات والحرية 157
ا – البرجوازية و "الحرية" 157
ب – البروليتاريا والحريات 160
الدرس الثالث والعشرون 170
1 – الأمة والطبقة الاجتماعية 170
2 – النظرة العلمية للأمة 172
ا- ما هي الأمة؟ 172
ب – بعض أخطاء يجب تجنبها 177
3 – البرجوازية والأمة 180
ا – تكوين الأمم البرجوازية 180
ب – البرجوازية على رأس الأمة 181
ج – البرجوازية خائنة للأمة 183
4 – الطبقة العاملة والأمة 189
ا – النزعة العالمية البروليتارية 189
ب – النزعة الوطنية البروليتارية 193
الدرس الرابع والعشرون 198
الأمة 198
1 – مسألة الاستعمار: حق الأمم في أن تكون سيدة نفسها 200
2 – الأمم الاشتراكية 206
ا – المسألة القومية والثورية الاشتراكية 206
ب – ميزات الأمم الاشتراكية 207
3 – مستقبل الأمم 212
ملاحظات حول الألزاس والموزيل 214



#جورج_بوليتزر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أصول الفلسفة الماركسية


المزيد.....




- تحت حراسة مشددة.. بن غفير يغادر الكنيس الكبير فى القدس وسط ه ...
- الذكرى الخمسون لثورة القرنفل في البرتغال
- حلم الديمقراطية وحلم الاشتراكية!
- استطلاع: صعود اليمين المتطرف والشعبوية يهددان مستقبل أوروبا ...
- الديمقراطية تختتم أعمال مؤتمرها الوطني العام الثامن وتعلن رؤ ...
- بيان هام صادر عن الفصائل الفلسطينية
- صواريخ إيران تكشف مسرحيات الأنظمة العربية
- انتصار جزئي لعمال الطرق والكباري
- باي باي كهربا.. ساعات الفقدان في الجمهورية الجديدة والمقامة ...
- للمرة الخامسة.. تجديد حبس عاملي غزل المحلة لمدة 15 يوما


المزيد.....

- تحليل كلارا زيتكن للفاشية (نص الخطاب)* / رشيد غويلب
- مَفْهُومُ الصِراعِ فِي الفسلفة المارْكِسِيَّةِ: إِضاءَةِ نَق ... / علي أسعد وطفة
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة 5 :ماركس في عيون لينين / عبدالرحيم قروي
- علم الاجتماع الماركسي: من المادية الجدلية إلى المادية التاري ... / علي أسعد وطفة
- إجتماع تأبيني عمالي في الولايات المتحدة حدادًا على كارل مارك ... / دلير زنكنة
- عاشت غرّة ماي / جوزيف ستالين
- ثلاثة مفاهيم للثورة / ليون تروتسكي
- النقد الموسَّع لنظرية نمط الإنتاج / محمد عادل زكى
- تحديث.تقرير الوفد السيبيري(1903) ليون تروتسكى / عبدالرؤوف بطيخ
- تقرير الوفد السيبيري(1903) ليون تروتسكى / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الارشيف الماركسي - جورج بوليتزر - 2-أصول الفلسفة الماركسية