مزامنات –
متوالية المطاليب العراقية بين الممكن والمؤجل والمستحيل
د. سيار الجميل ( مؤرخ عراقي مقيم في الامارات )
-
لا أعتقد أبدا بأن العالم كله بقي علي نفس أحواله كما كانت اوضاعه وتفكير شعوبه من قبل خمسين سنة مضت. ان من لم يعترف بذلك فهو في منتهي الغباء، وبقدر ما انحلت مشكلات ومعضلات مزمنة في هذا العالم، الا ان مشكلات العرب وازماتهم زادت وتفاقمت عند نهايات القرن العشرين.. ولعل العراق كان وما يزال واحدا من مشكلات العالم عند تلك النهايات الصعبة. واليوم، بعد ان زال نظام صدام والبعثيين علي ايدي التحالف الامريكي البريطاني وغدا العراق محتلا تفتحت كل جروحه بعد ان عاش متقرحا متورما لاكثر من ثلاثين سنة.. فهل لهذه الجروح ان تندمل؟ وهل باستطاعة العراقيين ان يؤسسوا لهم تاريخا جديدا وان يلد المجتمع العراقي دولته الجديدة التي ستخلف ركام آثار الدولة الراحلة؟ وهل ستمنح للعراق انفاسه بعيدا عن التدخلات الاقليمية التي تتربص به الدوائر من جميع الاطراف؟ هل باستطاعة العراقيين ان يباشروا بتأسيس مؤسساتهم واجهزتهم الجديدة بعيدا عن المخاطر الداخلية والخارجية؟ هل يمكن للعراقيين ان يعالجوا الخروقات والاثار وحجم المديونية والتعويضات المسلطة علي رؤوسهم ورؤوس اجيالهم من بعدهم؟ هل فكر العراقيون بمستقبلهم وهم يمرون اليوم بأخطر مرحلة من تاريخهم الحديث؟ هل حكموا عقولهم ودرسوا تواريخهم العراقية الثقيلة ليعرفوا بأن وقتنا اليوم لا مزاح فيه ولا اتكالية ولا انقسامية ولا صراعات جانبية ولا شعارات طائفية ولا تحزبات دينية او مخاتلات ايديولوجية ولا اتهامات تخوين مجانية.. العراق ايها العراقيون بحاجة ماسة الي وحدتكم الوطنية والي تكاتفكم والي العقل الراجح الذي يؤلب الرأي علي العاطفة ويغلب المصلحة العامة علي الذات.. ويسعي لفرض القانون وترسيخ سيادته بدل الانفلات والتسيّب والثارات.. عليكم بنزع كل ما ورثتموه من بقايا الحكم السابق.. عليكم اليوم ان تجدوا العالم كله في بيوتكم من خلال الستالايت الذي حرمتم منه ومن كل مستحدثات العصر وعليكم بالتآلف الاجتماعي الذي يبعد عنكم كل التباعدات وهل من صفحة جديدة من المحبة بدل الاحقاد والبغضاء التي كانت ولم تزل من مخلفات عهد التقارير السرية وحكم القبضة الحديدية.. عليكم ان تعولوا علي انفسكم في بناء تاريخكم الاجتماعي وان تستفيدوا من الاخرين في بنائكم السياسي.. وان تجعلوا ثمة مسافة وحدود بينكم وبين اخوتكم العرب كما هم يفعلون معكم دوما فلا يمكن لأحدهم ان يسمح بأن يتدخل عراقي في شأنه، فلا تسمحوا بعد اليوم لأي عربي ان يتدخل بشؤونكم الداخلية! فالواجب احترامهم لا تقديسهم واطاعة اوامرهم وسماع اذاعاتهم ومشاهدة قنواتهم الفضائية وقراءة صحفهم.. كما اعتدتم دوما طوال القرن العشرين، وعليكم ان تسمو بالدين منزها عن كل الموبقات السياسية والاجتماعية وخصوصا في العراق. ان زمنكم اليوم ومعضلتكم اليوم وقضيتكم اليوم لم تنقصها المشكلات التي يختلقها علماء دين نحترمهم، ولكن لا يمكنهم ان يحلوا معضلاته بان يفرضوا ما يريدونه علي مجتمع متنوع نال حريته من سلطة باغية وطغاة لا يرحمون..
العراقيون.. ما الذي ينقصهم؟
لا يمكن للعراقيين ان يتخلوا عن عواطفهم الوطنية والوجدانية الوقادة التي عرفوا بها منذ القدم، ولا يمكنهم التخلي عن عادات وتقاليد غرست في اعماقهم غرسا منذ القدم.. وعلي الرغم من فقدانهم بعض أصالة ما يمكن الاعتزاز به في الخمسين سنة الماضية، وبرغم اعتقادي الراسخ بأن من الصعوبة تبديل طبائع شعب فان اشعال شمعة في الظلام خير من البقاء في سواد دامس! والكل يعرف بأن الموازين العراقية الاجتماعية قد اختلت في نصف قرن مضي، وغدا الخلط مفضوحا وانقلاب الحياة قد جري من اعاليها الي سافلها، الا ان جيلا عراقيا جديدا يمكننا ان نعّول عليه في بناء العراق الجديد في القرن الواحد والعشرين شريطة ان يغدو متخلصا من كل العقد والمواريث السيئة التي اكتسبها في العشرين سنة الاخيرة.. ودعوني اتساءل بيني وبين ابناء جلدتي بمعزل عن تدخلات الاخرين: هل الوطن تحتكره القلة بالمزايدات؟ هل الوطنية بحد ذاتها مشروع احتكار؟ هل مخالفة الرأي، مجرد مخالفة في الرأي، تعد خيانة عظمي؟ هل القومية العربية مقدسة كي تبقي شوفينيتها اداة لقتل القوميات والاقليات العراقية الاخري؟ هل بقي هناك حزب بعث نقي يمكنه ان يغدو مشروع مقاومة وطنية؟ بأي حق يبيح من كان بيدقا من بيادق السلطة السابقة ان يدين اليوم حكم الطاغية؟ هل من العدل ان يناضل البعض من العراقيين نضالا دمويا ضد الطاغية ويأتي اليوم من يقطف الثمرات علي مزاجه وبكل صفاقة؟ بل ويكيل الاتهامات لكل من ضحي بشبابه وحياته وكان من سكان الاقبية المظلمة او من جثث المقابر الجماعية؟ هل من الاخلاق ان يتبجح البعض بالامتيازات التي حققها علي العهد السابق وهو لاينشد اليوم الا مصالحه وليذهب العراق ــ عنده ــ الي الجحيم! هل من العقل ان يدعو بعض الاغبياء والمنتفعين والجهلة والمخابراتيين السابقين الي اشعال الموارد الحيوية للبلاد بحجة المقاومة؟ هل من العقلانية التراكض السياسي لنيل الاستحقاقات من المناصب الجديدة؟ نعم، لتتأسس الحريات والاحزاب والمنتديات والتضامنيات وكل مؤسسات المجتمع المدني، ولكن هل خرج علينا اي حزب من الاحزاب العراقية بأي منهاج او برنامج عمل سياسي يمكن ان يؤطر سبيل العلاقة الجديدة بين العراقيين وقوي التحالف وكذلك يطرح للتداول بين العراقيين اسئلة حول مصير البلاد علي الصحف التي تنشر يوميا؟ هل يجوز ان يضع نفر من العراقيين اليوم اقنعة علي وجوههم وهم يتحدثون سياسيا عن العراق بكل مواربة وخبث بهدف ارجاع صدام الي طغيانه؟ هل يمكن للبعض من العراقيين ان يتخلص من الاحقاد والبغضاء والصراعات السياسية التي زرعت عندهم وان يحّلوا بدلها مشروعات للاختلاف السياسي والاساليب الحرة المسؤولة ضمن برنامج وطني تضمنه مؤسسات المجتمع المدني بعيدا عن كل النعرات والانقسامات؟ هل يفكر العراقيون قليلا في مستقبلهم ومصيرهم وكيفية تعاملهم السياسي مع المحتلين بدل هذا الذي يلوكونه صباح مساء عن شن عمليات مسلحة غير منظمة ولا تنتج الا التعقيدات والقتل الجماعي والتأخر السياسي؟ هل يمكن للعراقيين ان ينزعوا من قاموسهم السياسي والاجتماعي اي نعرة طائفية او مذهبية او عشائرية او جهوية او شوفينية او تعصبية او همجية.. الخ.
ما المطلوب من الامريكيين والبريطانيين؟
ليدرك الامريكيون بأن العراق وطن لأهله وما هم الا ضيوف لا يمكنهم ان يرسخوا انفسهم في بلاد قارية كالعراق.. وانهم بحاجة الي معرفة العراقيين عندما يتحولون من بشر في اقصي درجات الطيبة الي شبه وحوش كاسرة! علي الامريكيين وحلفائهم ان يبروا بوعودهم السياسية التي قطعوها للشعب العراقي وهم الذين جاؤوا تحت غطاء (قانون تحرير العراق).. وعليهم ان يدركوا مخاطر بقاء الحالة العراقية بين انفلات الامن والنظام وبين الحاجة الماسة لضروريات الحياة الصعبة! ولا اعتقد انهم غير قادرين ابدا علي انهاء تلك الحالة وتداعياتها.. انهم يدركون ادراكا حقيقيا قوانين الاحتلال وما تفرضه سلطات الاحتلال من اعالة الشعب وتأمين غذائه وفرض امنه وضرورات الحياة السياسية عنده.. ويدرك الحلفاء بأن العراق ليس افغانستان حيث يعيش الناس هناك كما اتفق، فالعراق بلد غني جدا بتقاليده ولا بد ان يسمحوا للعراقيين ان ينعموا بخيرات بلدهم الذي حرموا من خيراته عقودا طويلة من السنين! وعلي الامريكيين والبريطانيين ان يراعوا مشاعر العراقيين وما يحتاجه الملايين من القوي المعطلة عن الحياة وعن العمل وعن الدراسة وعن الانتاج.. الخ يكفي العراق والعراقيين، انه وانهم دفعوا ثمنا باهظا جدا في سبيل ان ينقلع ذلك النظام الجائر الذي سحقهم سحقا وعزلهم عن ممارسة ابسط حرياتهم وغلقهم عن العالم وعن كل ما وصل اليه حديثا! المطلوب من الامريكيين والبريطانيين حماية حدود العراق وسيادة اراضيه من التدخلات المتنوعة في اصقاعه تحت حجج مختلفة.. واسألهم: لماذا كل هذا الهدوء والسير البطيء من اجل تأسيس اي سلطة عراقية انتقالية يمكنها ان تفرض ارادتها الداخلية في الامن والنظام وخصوصا في بغداد ووسط العراق بعد ان نجحت كل من تجربة الشمال في كردستان منذ سنين طوال، وتجربة الموصل الرائعة، وتجربة البصرة في الجنوب بعد كل الذي حدث؟ لماذا الاوضاع غير طبيعية في وسط العراق وبغداد بالذات من دون ان نسمع عن اية قلاقل في مدن باكملها منذ التاسع من نيسان (ابريل) حتي اليوم: الكوت والعمارة وديالي مثلا؟ ان العراقيين لا يمكنهم ان يكونوا مستشارين لسلطة اجنبية محتلة، ربما يكون العكس وللضرورة احكام وخصوصا ما يساعد علي ادماج العراق في المجتمع الدولي من جديد، وتخليصه من مخلفات النظام السابق القاسية؟ وان العراقيين يتساءلون: ماذا حلّ بكل ما تبّقي من ثرواتهم وموجوداتهم المالية في الداخل او في العالم كله؟ اليس في الامكان اعالة الالاف المؤلفة من العائلات والمجتمعات الدنيا التي تعطلت طاقاتها منذ سنوات طوال وهي تعاني قساوة الحروب والحصار الاقتصادي والثقافي والاعلامي والتلهف لموعد الحصة التموينية؟ ولماذا تأخر اصلاح مستلزمات الحياة كالماء والكهرباء؟ الم تستطع الولايات المتحدة الامريكية ان تعيد تأسيس شبكة الهاتف في الداخل والخارج في زمن قصير طالما هناك اموال عراقية؟ ثم اسأل: اليس من حق العراقيين ان يعرفوا مصير قادة الحكم السابق والمسؤولين السابقين؟ وكيف ستكون عليها اجراءات الحكومة العراقية القادمة في حسابهم ومعاقبتهم حسب القانون؟
وأخيراً: من أجل عراق المستقبل
ان من حق العراقيين ان يكون لهم برنامج عمل سياسي واجندة عمل في ترسيخ الامن الداخلي من أجل ان يبدأ تأسيس دولتهم الجديدة ضمن مبادئ دستورية يختارونها ونظام سياسي ينتخبونه واستفتاءات وصناديق اقتراع لمجلس تشريعي وعلم جديد ونشيد جديد وسلطة تنفيذية متداولة للسلطة ومؤسسات جديدة واحزاب جديدة واعلام جديد وعملة جديدة واقتصاد حيوي جديد ومجتمع ناضج جديد.. ومن اجل حياة تاريخية عراقية جديدة منفتحة علي العالم، ربما ستكون لها شراكتها مع كل اطراف العالم بحكم الموقع الاستراتيجي للعراق القادم في القرن الواحد والعشرين، وبحكم ثرواته الطبيعية والسكانية.. فهل سيتحقق حلم كل العراقيين العقلاء في مستقبل مثل هذا؟ هذا ما سيوضحه رهان العراقيين انفسهم في كيفية تعاملهم مع المحتلين أولا ومع دول الاقليم ومجتمعاته ثانيا ومع كل هذا العالم الواسع ثالثا!
جريدة (الزمان)