أ. د. سيّار الجميل
مؤرخ واكاديمي عراقي مقيم في الامارات
اعتقد انه موضوع حيوي جدا في مثل هذه المرحلة التي تزداد فيها الافكار والمشروعات والرؤى وخصوصا بعد ان انطلقت السنة العراقيين ، وكانت قبل ذاك في افواه مكبلة على امتداد عهود وحكومات البعثيين والقوميين والعسكريين الذين مارسوا كلهم الاستبداد والقمع باوجه مختلفة . ان ما حدث مؤخرا من ازالة نظام حكم صدام حسين ودولته على ايدي جيوش التحالف من الامريكيين والبريطانيين قد غّير من خلال الاحداث اوضاع العراق ، وبدا العراقيون ليسوا بحاجة الى بناء دكاكين حزبية أو اطلاق شعارات واستمرار تناقضات .. وعقد مسيرات ومظاهرات .. الخ ان اي خطة لاستئصال البعثيين ورموزهم من السلطة لا يكفي فقط لنقول بأن العراق قد تخّلص نهائيا من معضلاته الصعبة . ان ما حدث على ايدي جيوش التحالف قد غير نظام سياسي جائر ويطلق المحتلون اليوم نداءات باستئصال البعثيين ، ونقول : ليس مهمة كل العراقيين ان يعملوا بالركض وراء تشكيل حكومة صورية حسب بل لابد لهم من تأسيس حكم وطني حقيقي .. وان من اهم الاشتراطات التي تستوجب من القوى السياسية الجديدة والنخب العراقية المستقلة : العمل على ترسيخ اسس وركائز مستحدثة من اجل العمل لأعادة التفكير السياسي والاجتماعي عند العراقيين الذين بقوا اسرى ثوابت شعاراتية مؤدلجة وخطابات تافهة لا نفع فيها ابدا .. ان من اكبر مصائب العراق هي الثقافة البعثية وأساليبها التي خيّمت عليه ردحا طويلا من الزمن مسيطرة على كل المرافق الحيوية في العراق لتجعل الذهنية العراقية مقّيدة تقييدا كاملا بها نصا وروحا .. مصطلحا ومضمونا ! لقد بقيت تلك الذهنية الاحادية مقفلة ومتعبة ولا تقوى على الاستقلالية . وعليه ، فلقد انخرط الجميع في الاداء الببغاوي والنفاق المدّجن والهتاف البدائي الذي فيه مضامين كاملة من التزييف والمداهنة والدجل والتعتيم والترديد والتأييد والتسبيح والمديح والتفخيم وصولا الى التقديس والاجلال والاكرام ونجح الافاقون والمنافقون ( والكلاوجية بالبغدادية ) بكسب المصالح الشخصية .. انها ذهنية الخوف والرعب التي تسيطر على كل الحواس ولا تفسح المجال ابدا لأي جزئية من الحرية او نسمة من الانفتاح كي تهمس همسة مخالفة او تقول كلمة معينة او تكتب عبارة حرة واحدة !
ماذا نتذكر من عمق المأساة ؟
نراهم اليوم ونرى فلولهم تتنطع بنفس الاسلوب الذي تربت عليه ليل نهار في كل بقعة عراقية .. نعم ، لقد ترّبى جيل كامل على اساليب ببغاوية او في احسن الاحوال على الشعارات والمزايدات والمناورات ! نراه يتردد كثيرا .. نراه يتأتىء أو نجده صامتا او انه ما زال يفكر بنفس التفكير السابق ! لقد استخدم المنظرّون البعثيون أساليبهم القهرية السيئة التي ارادوا من خلالها ان يكّونوا جيلا يتوهم الاشياء كلها في لون زيتوني واحد .. جيل لا يعرف غير الاوهام والتربية على الجهل بالحقائق .. جيل لا يسمع او يرى الا اعلاما مزيفا كاذبا مليئا بالتحريفات ! جيل لا يدرك الا الخطابات الصدامية الجوفاء ! جيل ترّبى على القهر والروادع والمحرمات والممنوعات التي لا تتضمنها القوانين في البلاد ، بل تنشرها المؤسسات الحزبية في كل مكان ! جيل لم يعد يفّرق بين الحزب والدولة ، بل ان الحزب عنده اخطر من الدولة فغدا المجتمع مرتهن بايدي الحزبيين! جيل ترّبى على اقانيم الحزب وتقارير مؤتمراته القطرية والقومية وخصوصا تقرير المؤتمر القطري الثامن الذي عد دستورا مقدّسا بالنسبة للحزبيين اجمعين ، ومن يخالفه فكأنما خالف الالهة ! جيل يستمع الى رئيسه وهو يفسّر له كل الذي في الحياة على طريقته الرعوية الخاصة ! جيل دجنوّه على ان العراقيين هم في الدرك الاسفل دوما وغيرهم في اعلى السموات ! ولا يمكنني نسيان ما باح به الرئيس تلفزيونيا على الملأ في العام 1989 عندما قال بمنتهى الاحتقار لمواطنيه العراقيين : " اذا العراقي في البصرة اشتكى في المحكمة على المصري فخذوا الحق من العراقي ! فحنّا عرب هيجي احنا " ! فكيف لم تقتل الروح الوطنية في القلوب ؟ جيل صبغوا كل اوعيته وشرايينه بالالوان الداكنة ولم يدرك من حياته الا الفجاجة والاساليب الهمجية في الحياة . جيل لا يعتني باساليب الحديث ولا بتمدن الحياة ورقيها ! جيل علمّوه لغة واحدة هي الوشاية والاغتياب والتجسس وكتابة التقارير السرية واساليب الاختلاس والنهب والرشاوى ! جيل لم يقدّس المال العام ، فيخرق كل الاعتبارات ويغدو انويا متوحشا في سبيل مصلحة خاصة ليس الا ! جيل تعلّم بأن لا نظام يمكن ان يسود ابدا ! وقد سمعناها دوما من الدكتاتور : " القانون مجرد قصاصة ورقية نبدلها متى نشاء ومتى نريد ! " و " الاقتصاد هو ساجية ( يقصد : ساقية ) نفتحها ونغلقها على مزاجنا " !! ان البعثيين لم يعرفوا لا القانون ولا التقاليد السياسية ، فمنذ زمن بعيد وعندما بدأت الاضرابات على عهد عبد الكريم قاسم استباحوا المال العام واحرقوا الباصات والمباني ! وكأن الدولة هي العدو اللدود للمجتمع ، كما ومنحوا عبد السلام عارف رتبة المشير ونصبوّه رئيسا للجمهورية من دون انتخابات ! وهل ينسى العراقيون ما فعلوه في العام 1963 ؟؟
نماذج وحقائق
جيل كامل رضي بالقناعات المزيفة وساهم في تصدير الهتافات الكاذبة في الشوارع ويا ويل من ينطق بالحقيقة ! جيل لم يعرف الا التناقضات وحمل المزدوجات ، فهو يحمل قناعات خفية في صدره لا يعلنها ابدا .. ولكنه بنفس الوقت يشيد بالنظام والقائد الضرورة صباح مساء ! جيل تحطمت كل اماله وتطلعاته عندما غرست في مخيلته جملة هائلة من الافكار المضادة للانسانية والحضارة المعاصرة ! جيل زرعوا عنده روح الكراهية ومقت كل ما لا يتفق والنزعة الشوفينية وتقديس الذات ! جيل زيفوا حقائق التاريخ امامه ليغدو كل ما قام به البعثيون هو الصواب بعينه ! جيل شوشوا له فكره بنبذ كل الفلسفات والاراء الحرة وابعدوه عن كل المعرفة ! جيل افسدوا عليه ذوقه بما كانوا يسمعونه في كل مكان من الاغاني السمجة والهوسات الهمجية ! دعونا فقط نقرأ نموذجا مما كان يلقيه الدكتاتور على مدى ثلاثين سنة من الترهات ولنتأمل معا في قوله التالي: " في حساباتنا حين نتحدث ( هـه) عما هو استراتيجي ضمن الظروف المرحلية ، فاننا نجزم بأن ما هو علني .. ( هــه) ضمن صيغة الظروف الموضوعية التي يراد بها استثناء من قبل البعض ان يكون مجرد نظرة صرف لما هو قائم شرط ان لا تتفق مع النظرة الذاتية للفرد (هــه) وفي منظور البعث العظيم فان هذا قد يبدو اعتباريا واعتياديا رغم انه قد يبدو استثنائيا للكثيرين ممن لا يمكن ان تبدو استراتيجيتهم في حسابتنا النوعية والا لما كان هناك ظرف حقيقي يؤكد تلك القياسات .. " !! اسألكم بالله هل هذا كلام عقلاء ؟ وهل له معنى محدد ؟ كلام سمعه جيل كامل وسمع من مثله يوميا واصغى اليه ، فكيف يمكننا ان نخرج البعير من هذه الوحلة ؟ رحم الله صديقنا الاستاذ عبد الباسط يونس عندما كان يحضر مجلسه نخبة من المثقفين من بينهم الاخ القاضي زهير كاظم عبود ويعّلق قائلا مستهزءا : كيف يخسأ الخاسئون اذا كانوا قد عرفوا بالخسة أصلا ؟ هل كان باستطاعة رجالات المجمع العلمي العراقي ان يعترضوا على ذلك ؟؟ لقد عاشت هناك ثقافة قميئة وادبيات ساذجة على امتداد اكثر من ثلاثين سنة من الحكم العنيف الذي أجبر الناس على اعتناقها ، وكان لكل عقد من السنين نكهته الفاسدة وروائحه المنتنة، ففي السبعينيات تمثلت كل الدعارات السياسية والدعايات التجسسية والافاعيل الهمجية والكرنفالات الاشتراكية وحلت في الثمانينيات ثقافة الحرب القاسية ورعونة الجيش الشعبي وخطابات وصور المعارك الدموية وبرامج تلفزيونية داعرة يقدمها اساتذة جامعيون عراقيون مخابرتيون مهمتهم تزييف التاريخ بيننا وبين الاخرين ! وفرضت في التسعينيات لغة الايمان الديني المزيف بالحملة الايمانية والاعلاميات البالية وماراثونات بالروح بالدم وهياجانات اعياد ام المعارك .. الخ
هل من طريق جديد نحو مستقبل عراقي ؟
لقد قضي الامر بعد خراب العراق كله ! ولابد للعراقيين ان ينطلقوا من اجل تأسيس ما فاتهم منذ خمسين سنة قضوها بكل ما يؤلم حقا .. ثمة اعتبارات لابد ان يقتنعوا بها حقا ، ومنها ان الحياة قد تغيرت اليوم ، فالمجتمع العراقي لابد ان يعتمد على نفسه الان في تأسيس ما يحتاجه بعيدا عن الدولة التي اعتمدوا عليها قرنا كاملا .. وليعتمدوا على انفسهم لا على السلطات التي لم تحقق لهم الا الخراب والضياع ! عليها بمؤسسات المجتمع المدني ، بالجمعيات والمنتديات والنقابات والتجمعات والبرامج الذاتية والاعمال الجماعية .. عليهم ان يفتحوا نوافذهم ويشعلوا شموعهم بمعزل عن انتظارهم لما ستقوم به الدولة لتقدمه لهم .. عليهم ان يدركوا بأن هناك جيلا عراقيا جديدا وراقيا تربى في الخارج يمكنه ان ينطلق الى جانب جيل عراقي كان حبيسا في الداخل لتأسيس ما يعجز عنه الاخرون عجزا اكيدا .. عليهم ان يدركوا فقط اين هم من العالم اليوم بعد ان تراجعوا زمنا طويلا وانهم بحاجة الى ان يستعيدوا الثقة بانفسهم للانطلاق الى المستقبل . ان الطريق نحو المستقبل سوف لن ينفتح على مصراعيه ابدا للتقدم الا اذا استطاع العراقيون من تغيير المركبات المعقدة التي سيطرت بقوة الترغيب وقسوة الترهيب على ذهنياتهم ! انهم بحاجة ماسة الى ان يعيدوا التفكير في كل الشؤون التي تتعلق بواقعهم اولا وبمصيرهم ثانيا . انهم بحاجة ماسة الى واقعيتهم بعد ان فعل البعثيون على غسل ادمغتهم لأكثر من ثلاثين سنة ! عليهم ان يقللوا من غلواء الاحادية والتعصبات للرأي الواحد والقائد الواحد والحزب الواحد والامر الواقع وان يتخلصوا من كل الاحاديات ! عليهم ان يتقبلوا الاخر مهما كان رأيه مناقضا ، وان يزرعوا النسبية بعيدا عن المطلقات ويتقبلوا النقد مهما كان مرا ! عليهم ان يتحرروا من اطواقهم التي كبلوهم بها ! عليهم ان يزرعوا روح الالفة والمحبة والتعاون في ما بينهم بدل اي نوع من التناحر ولقد اثبتوا للعالم بأن وحدتهم الوطنية فوق كل اعتبار ! انهم بحاجة ماسة الى ان يعيدوا القيم والاعتبارات والتقاليد والاعراف الاجتماعية العراقية الاصيلة التي اراد الحكم السابق قتلها ووأدها ! عليهم ان يعتزوا برجالاتهم ونسوتهم وكافة مبدعيهم ويفخروا بامجادهم الحضارية والثقافية والتاريخية ! عليهم ان يقلبوا الصفحات ويخرجون من السراديب المقفلة التي حبسهم الحكم السابق فيها زمنا طويلا .. من اجل ان يشاركوا في رفد الانسانية بكل الروائع ويجعلوا من العراق مركزية حيوية خطيرة في القرن الواحد والعشرين .. نأمل ان يتحقق ذلك بحول الله بعد ان يفتح العراقيون نوافذهم ويشعلوا شموعهم وينيروا طريقهم الى الغد المأمول .. اننا متفائلون جدا اذا نجح العراقيون وخصوصا الاجيال الجديدة في التغيير الجذري .. وعند ذاك في الذروة .. وما ذاك عليه ببعيد ! ( نشرت في الزمان ، الاثنين 9 /6/ 2003 ) .