أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - حسن أمرير - المجتمع المدني : الشروط التاريخية والموضوعية















المزيد.....



المجتمع المدني : الشروط التاريخية والموضوعية


حسن أمرير

الحوار المتمدن-العدد: 7728 - 2023 / 9 / 8 - 18:48
المحور: المجتمع المدني
    


مقدمة
يعد المجتمع المدني من المفاهيم التي اقتحمت فضاء التنظير السياسي في السنوات الأخيرة وخصوصا في مجتمعات العالم الثالث بما فيها المجتمعات العربية، وهذا الاقتحام هو بمثابة العودة وليس التأسيس الأول، بالنسبة للمجتمعات الأوروبية، وظاهرة مستجدة بالنسبة لدول العالم الثالث، ذلك أن التنظير حول المجتمع المدني، وظهور هذا المجتمع كواقعة اجتماعية أثرت على سيرورة المجتمعات، وخصوصا الديمقراطية منها يعود الى ما يزيد على أربعة قرون حيث تواكب ظهور المجتمع المدني واقعيا مع الانتقال الذي عرفته المجتمعات من مرحلة الحكم الثيوقراطي الاستبدادي إلى مرحلة التعاقد الاجتماعي، وتحويل الشأن إلى مجال يخص الحاكمين والمحكومين، ويعود ظهوره نظريا ومفهوما إلى منظري العقد الاجتماعي وفلاسفة عصر الأنوار.
وإن كان من الصعب تحديد سنة بعينها كتاريخ لظهور المجتمع المدني ! ظهوره كان نتيجة تراكمات وإنجازات استغرقت وقتا طويلا، فان القرن السابع عش هو نقطة المنطلق المفضلة عند الباحثين الاجتماعيين والسياسيين الباحثين في المجتمع المدني، لأنه بدءًا من هذا القرن بدأت تظهر وقائع ومؤسسات وتنظيمات لأن تعتبر من مكونات المجتمع المدني أو ما يدل على وجوده.
كما عرفت المجتمعات الغربية بدءا من هذا القرن نضجا مؤسساتيا اجتماعيا وسياسيا تمثل في الثورات الدينية والثورات الاجتماعية والثورة الصناعية هذه العوامل ساعدت على أحداث النقلة النوعية في السيرورة الاجتماعية أو ما يشبه القطيعة ما بين المجتمع القديم والمجتمع الحديث.
وإذا كانت تساؤلات كثيرة ومشروعة تطرح اليوم حول أسباب استعادة المجتمع المدني -مفهوما وموضوعا- لحضوره فإن تساؤلات أكثر عمقا : حول مفهوم المجتمع المدني وعلاقته بالدولة من جهة وبالمجتمع من جهة أخرى وما هي مكوناته؟ وهل أن المفاهيم التي تعطى له اليوم والاستدلالات على وجوده تطرح مجتمعاتنا المعاصرة هي مرحلة ولادته الأولى؟ وهل أن اختلاف مجتمعات العالم الثالث عن المجتمعات نفس المفاهيم ونفس الاستدلالات التي عرفها في الديمقراطية المتقدمة يعنى بالضرورة اختلاف مكونات ووظائف المجتمع المدني في كليهما ؟
فإذا كان من الصعب الوقوف على تحديد لمفهوم المجتمع المدني، نظرا لاختلاف المرجعيات والشروط التاريخية والموضوعية التي رافق مختلف التعريفات، فإنه من الواجب الإحاطة بالإطار المفاهيمي للمجتمع المدني (المبحث الأول) والوقوف على التأصيل النظري له (المبحث الثاني)
المبحث الأول: الإطار المفاهيمي للمجتمع المدني
المطلب الأول: تعريف المجتمع المدني
ليس من السهل إعطاء تعريف دقيق وثابت للمجتمع المدني نظراً لأن مفهوم المجتمع المدني لم يظهر في بلد واحد أو على يد مفكر بعينه، ولا في حقبة زمنية ثابتة، فصياغة المفهوم عرفت تحولات تواكبت مع التحولات الاجتماعية والسياسية ومع ذلك فإن من الممكن الاقتراب من مفهوم المجتمع المدني أولا بتعريفه اصطلاحيا، ثم من خلال التمييز بينه وبين المجتمع السياسي، إلا أن استيعاب مفهوم المجتمع المدني لا يتم إلا برصد دلالاته عند رواده من المفكرين وهو ما سيكون مجال البحث في المبحث الثاني.
بداهة لا يمكن تصور وجود مجتمع مدني خارج المدن والتمدن والمدنية، بمعنى ان المجتمعات التي عاشت أو تعيش مرحلة الطبيعة أو ما قبل المدنية أو بشكل أما المجتمعات البدائية والبدوية المتنقلة لا تعرف مجتمعا مدنيا لأنها ببساطة تعيش مرحلة ما قبل الدولة، فغياب الدولة - المجتمع السياسي - يؤدي بالضرورة لغياب المجتمع المدني.
إلا أن هذه المقاربة التبسيطية لا تقربنا إلا قليلا من مفهوم المجتمع المدني من منطلق أن غالبية المجتمعات الإنسانية تعيش اليوم مرحلة المدنية أو التحضر ومع ذلك ففي داخل هذه المجتمعات يروج الحديث عن المجتمع المدني في بعضها وعن غيابه في البعض الآخر، وعن عملية تأسيس له في مجتمعات أخرى، إذ المجتمع المدني لا يعني تلقائيا وبالضرورة المجتمع المتحضر أو المتمدن.
إن المجتمع المدني ظاهرة أوروبية المنشأ، رافقت ظهور الطبقة البورجوازي كطبقة حملت ليست فقط فكراً جديدا بل ممارسات اجتماعية وسياسية جديدة حلت محل فكر وممارسات المجتمع القديم، مجتمع الإقطاع، وإذا كانت أهم المتغيرات التي ميزت المجتمع الحديث، الذي تقوده الطبقة البرجوازية عن المجتمع القديم الإقطاعي - هو كسر الهيمنة التي كانت تمارسها الدولة على المجتمع بأسد المقدس، أي وضع حد لاحتكار السلطة للديني والدنيوي وإخضاع الثاني للأول فإن ظهور المجتمع المدني هو المؤشر أو الدال الأهم على هذا التحول أو الانتقال فهناك علاقة تلازم بينه وبين العلمانية.
وعليه فإن الفهم الكلاسيكي للمجتمع المدني يشير إلى جملة الممارسات والتنظيمات والوسائل والمؤسسات التي تنشأ باستقلالية عن الدولة ويكون هدفها الحد من سلطة الدولة بوضع حد لتدخلها في الشؤون التي تخص أفراد المجتمع باعتبارهم مواطنين يقومون بواجباتهم المنصوص عليها قانونيا، وهذه التنظيمات والمؤسسات التي هي مشتملات المجتمع المدني قد تكون اقتصادية أو مهنية كالنقابات أو جمعيات المستهلكين أو تكون ذات طبيعة اجتماعية ودينية الجمعيات الدينية أو الروابط القرابية والعادات والتقاليد، أو ذات طبيعة سياسية، الأحزاب . التي يختلف البعض فيما إذا كانت تنتمي للمجتمع السياسي أو للمجتمع المدني والمنظمات السياسية والثقافية.
ومن هذا يمكن القول أن تعريف المجتمع المدني هو تعريف للتحولات التي تعرفها المجتمعات، وعليه يعرفه ادم فرجسون بأنه يشير إلى الانتقال من الأشكال الخشنة للحياة البربرية نحو مجتمع متحضر تنتشر فيه المبادلات التجارية ويطبق فيه مبدأ تقسيم العمل في الحرف والصناعات اليدوية.
كما يشير المجتمع المدني إلى كل المؤسسات التي يستطيع الأفراد من خلال مصالحهم بدون قيادة الحكومة أو تدخلها.
أيضا يمكن القول إن مفهوم المجتمع المدني يحيل الى مفهوم حكومة محدودة المجال والصلاحيات في أفق أزمة الدولة الكنزية، ويحيل إلى غياب التنظيم والضبط والتناسق والانسجام، ويؤكد فكرة التفكيك والتشتت ... ويستدعى وجود مؤسسات حرفية نقابية يخول لها سلطات اقتصادية واجتماعية وسياسية.
ويعرف برتراند بادي المجتمع المدني وذلك في كتابه sociologie politique بالقول إنه كل المؤسسات التي تتيح للأفراد التمكن من الخيرات والمنافع العامة دون تدخل أو توسط الحكومة ، ويعطيه تعريفا أخر فيقول إنه النسق السياسي المتطور الذي تتيح صيرورة تمأسسه مراقبة المشاركة السياسية.
إن كل التعريفات المشار إليها تذهب الى تعريف المجتمع المدني بكونه تلك الممارسات الممأسسة أو غير الممأسسة التي يقوم بها أفراد المجتمع دون أمر من السلطة السياسية ودون أن تكون هذه الأخيرة ممارسة للهيمنة عليها مع انها تسعى الى ذلك، ولكن هذا يجب أن لا يفسر بوجود قطيعة بين الطرفين بل يوجد شكل من أشكال التنسيق والتعاون، ذلك ان هذه المؤسسات والتجمعات التي يؤسسها الأفراد يجب أن تخضع للقانون وتمارس في إطاره وإلا سيكون هناك عودة الى حالة الطبيعة
ومن البديهي أن إعطاء أفراد المجتمع الحرية لتشكيل تجمعات ومؤسسات تعبير عن مطالبهم النقابية والسياسية أو تعبر عن انتماءاتهم الجهوية أو القرابية أو العرقية يعني ان المجتمع المدني الذي يشكل طبقا لذلك يكون مجتمعا تعدديا بما تعنيه كلمة تعددية من تنافر وتصادم مصالح إن لم يكن تناقضها، أنها تعددية تضامنية في مواجهة السلطة السياسية ولكنها صدامية وتنافسية في مواجهة بعضها البعض ولكن هذا التعدد والتنافر هو مصدر ثراء وإغناء للمجتمع المدني لأنها تعطي للمجتمع دينامية الإبداع والخلق والتغيير.
هذه السمة - التباين والتعدد - هي ما يميز المجتمع المدني جوهريا عن المجتمع السياسي فإذا كانت غاية السياسة هي التسامي والتجاوز من أجل الأشمل أو الدمج، فإن غاية المجتمع المدني هي حفظ التمايزات وكفالة التوحيد الخصوصيات والتضامنات الجزئية الحية والضرورية.
وحتى نفهم أكثر معنى المجتمع المدني يستحسن التمييز بينه وبين المجتمع السياسي، ويرى برهان غليون أن ما يميز التنظيمات المدنية - المجتمع المدني - عن التنظيمات السياسية - المجتمع السياسي – عنصران:
1- التنظيمات السياسية تتميز بمركزيتها بينما التنظيمات المدنية تنزع نحو الخصوصية والاستقلالية الذاتية البعيدة عن نشاط السلطة المركزية.
2- التنظيمات السياسية رسمية ومجردة وشكلية وثابتة تنبني فيها العلاقات على أساس القانون المجرد، في حين تخضع التنظيمات المدنية لقواعد غير رسمية وغير مقننة وذات طابع مرن وذلك باعتبارها من الشأن الخاص.
ومع ذلك فانه يؤكد على أنه من "الصعب فهم الحد الفاصل بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي من دون فهم طبيعة السلطة والسياسة، فحدود المجتمع المدني تختلف أيضا مع تغير النظم الاجتماعية، وما كان يعتبر في حقبة ما من شؤون المجتمع المدني يمكن أن يصبح من شؤون المجتمع السياسي والعكس صحیح".
هذه المحاولة لتعريف المجتمع المدني لن تؤدي غرضها إلا بالتعرف عليه من خلال رواده أو المدارس الفكرية التي لعبت دورا أساسيا سواء على مستوى نحت المصطلح أو تطوير دلالاته المعرفية ولكن وقبل ذلك فإن هذه المدارس الفكرية ما كان لها أن تظهر إلى الوجود إلا نتيجة تحولات اجتماعية كبرى طرأت على الحياة في أوروبا استدعت وجود مفكرين يعبرون عن هذا الواقع الجديد.
المطلب الثاني: السياق التاريخي لظهور المجتمع المدني
كما سبق الذكر فظهور المجتمع المدني كان نتيجة تحولات تاريخية كبرى شهدها المجتمع الأوروبي، وهي التحولات التي كانت بمثابة ثورة حضارية، وعندما نقول ثورة حضارية فنقصد أن التحولات مست كل بنيات المجتمع، سياسيا واجتماعيا وثقافيا ودينيا واقتصاديا - وبالتالي فظهور المجتمع المدني مرتبط مـع هذه التحولات أو نتيجة لها يعنى ان انبثاق المجتمع المدني آنذاك إنما عبر عن إرادة المجتمعات الأوروبية في التخلص من النظام الاجتماعي السياسي الذي سار أوروبا طوال القرون الوسطى، وهو النظام الذي تميز بسيادة نموذج واحد في السياسة والاجتماع والاقتصاد والفكر، وهو النموذج الذي كرس تخلف أوروبا لأنه قام على أساس نظام اجتماعي تراتبي، سواء على مستوى ملكية الأرض حيث هناك الأسياد ملاك الأرض والحاقنان والعبيد العاملون فيها لصالح السيد، أو على مستوى المراتب الاجتماعية، فهناك طبقة رجال الدين وطبقة النبلاء وبقية الناس ادنى درجة الطبقتان الاولتان تحكمان وتملكان والآخرون لا يملكون ولا يحكمون هذا النظام الاجتماعي السياسي ساعد على استمراريته طوال القرون الوسطى التحالف الذي حدث بين الكنيسة والإقطاع، والربط بين السلطة والقدسية المطلقة، وهو الربط أو التحالف الذي أوجد نظرية الحق الإلهي للملوك والذي جاء المجتمع المدني لتحطيم مرتكزاتها.
وحيث أن المجتمع المدني أصبح يُقرن بالديمقراطية أو يعتبر أداة ضرورية القيام نظام ديمقراطي، فلأبأس أن نشير إلى طبيعة النظام السياسي الذي كان سائدا قبل ظهور المجتمع المدني وكيف ان تفكك هذا النظام هو الذي ساعد على ظهور المجتمع المدني وبالتالي وضع أسس الديمقراطية في ظل النظام القديم كان الملوك يحكمون حكما مطلقا ويوظفون فكرة التفويض اللاهي، وهي تعني ان الملك هو ظل الله في الأرض يمارس سلطاته بشكل مطلق دون رقيب أو حسيب، ففي يده تتجمع كل السلطات والصلاحيات، وقد عبر الملك لويس السادس عشر عن ذلك بقوله إننا لا نتلقى تاجنا إلا من الله وحده، ولسنا مسؤولين إلا أمامه، وقد صاغ المفكرون فيما بعد أسس العقيدة الثيوقراطية ومنهم بوسويه Boxstiet الذي وضع لها أربعة أركان وهي:
1- أن هذه السلطة مقدسة، فالملوك هم خلفاء الله في الأرض وعن طريقهم، ولذلك لم يكن العرش الملكي عرشا ملكيا وكفى، بل كان ذلك كبرى بدير العرش عرشه الإله ذاته.
2- اعتبار السلطة الملكية سلطة أبوية إذ الملوك يحلون محل الله الذي هو الأب الحقيقي للجنس البشري....
3- ضرورة اطلاقية السلطة، فلابد أن تكون سلطة الملوك مطلقة من أجل القيام بفعل الخير والمعاقبة على الشر، وليس عليه أن يقدم تبريراً عما يفعل.
4- بما أن السلطة سلطة مطلقة فلا يجوز معارضتها من طرف الخاضعين لها، ولا يجوز لهؤلاء أن يتذمروا أو يشكوا ، وإذا ما مارس الملك ما يوجب التذمر والشكوى، كالظلم الهائل والفاضح، فإنه ليس للرعية أن تعترض على عنف الأمراء، إلا متى كان الاعتراض في شكاوى ملؤها الاحترام والتعظيم من غير فتنة ولا شغب وفي دعوات صالحة لهم بالرشد والهداية.
وهكذا في ظل هذا النظام عملت السلطتان الدينية والسياسية -وفي كثير من الأوقات كانتا متداخلتين مع بعضها البعض- كل ما في وسعهما على تكريس الاستبداد والطغيان وتغييب إرادة الأمة وفاعلية المجتمع، فقد كان الفرد في ظل هذا النظام كالسجين مقيد بتعاليم وأعراف وتقاليد لا تسمح له بأخذ المبادرة أو التحرك في اتجاه وضع أكثر حرية ومدنية، فالسمة الغالبة على تلك المجتمعات هي غلبة التراتبية الحقوقية - حقوق الحاكم لا المحكوم - والروحية على الوظيفة الاقتصادية.
هذا النظام القديم السابق لظهور المجتمع المدني والذي لم يكن يعرف مجتمعا مدنيا استمر متماسكا حتى القرن السابع عشر، وان كنا نعتبر القرن السابع عشر تاريخا تقريبيا لظهور المجتمع المدني، فان مؤشرات تضعضع المجتمع القديم وظهور ما يدل على المجتمع المدني تعود إلى القرن الخامس عشر مع بداية عصر النهضة، حيث ظهرت حركات إصلاحية دينية على يد مصلحين دينيين . كالفن لوثر الخ - زعزعت الأسس الاجتماعية والأخلاقية والسياسية للنظام القديم ومهدت الطريق لإفقاد الطبقات القديمة لامتيازاتها السياسية والاقتصادية وإذا كانت حركة الإصلاح الديني وجدت معارضة شرسة من طرف رجال الدين فإنها وجدت تجاوبا شعبيا واسعا في مجمل أوروبا، الأمر الذي أدى إلى تحديد انجلترا في القرن السابع عشر وفي فرنسا في القرن الثامن عشر، بمعنى | وتعيين حدود العمل الديني ومجاله، وهو ما ساعد على انبثاق الفكر المدني في السياسي والمدني (الدنيوي) عن الديني، إنها العلمانية التي فكت الارتباط بين انفصال السماء والأرض على مستوى السياسة وتنظيم الأمور الدنيوية.
لقد أدى تحطيم هيمنة الكنيسة والمقدس المطلق بشكل عام في أوروبا إلى تحرر العقل الإنساني، وانطلاق الفكر من عقاله، وأصبح ينظر إلى الإنسان باعتباره الحقيقة الأولى: كينونة مجردة ومشخصة في أن معا، وهذا التصور الجديد للإنسان ودوره في المجتمع ساعد على قيام علاقات جديدة ومؤسسات ومنظمات جديدة ينشط من خلالها الفاعلون الاجتماعيون الذين اكتشفوا أهميتهم في الحياة العامة، وقوتهم كرأي عام مؤثر وثقلهم في الحياة السياسية وخصوصا مع ظهور الانتخابات والنظم التمثيلية.
ويمكن القول إن ثلاثة متغيرات أساسية لعبت دورا مهما في بلورة المجتمع المدني:
1- حركة الإصلاح الديني التي قادها مجموعة من رجال الدين المتنورين أمثال مارتن لوثر، ودانتي وكالفن الخ
2- الثورات السياسية التي زعزعت ركائز الاستبداد السياسي والتي كرست مفهوم إرادة الأمة والحقوق السياسية للمواطنين، وأكدت على الأصول الاجتماعية للسلطة السياسية كبديل عن الأصول السماوية المزعومة.
3- الثورة الصناعية، والتي أدت الى إرساء الأساس الاقتصادي والمادي للمجتمع المدني، من خلال تشجيعها على قيام علاقات بين أمور ومنظمات ونقابات ألا تلعب فيها الدولة دورا مهما.
وهكذا فإن نشوء المجتمع المدني في عصره الكلاسيكي في الغرب ارتبط بلية، التحولات الكبرى التي أوجدت نظاما جديدا إذ كان المجتمع المدني من مكوناته، فإنه بالإضافة إلى ذلك تميز بتبلور النظام الرأسمالي، وتهيكل الدولة المركزية، واستقلال المجال السياسي وظهور مفهوم المواطن الانتقال من رعايا إلى مواطنين وظهور فصل السلطات بما يضمن حقوق الفرد واستقلال القضاء.
المبحث الثاني: التأصيل النظري للمفهوم
من التحولات والوقائع المشار إليها كانت الأرضية الموضوعية لنشوء المجتمع المدني، إلا أن المجتمع المدني كمفهوم أو اجتهادات فكرية احتاج إلى وقت حتى بتقعد مفاهيميا ويستقر كمنظومة فكرية سياسية، وهو الأمر الذي ساهم فيه عدد المفكرين والمدارس الفكرية كل منهم أو منها - ساهم في إغناء مفهوم ا المجتمع المدني. وإن كانت هذه المدارس الفكرية أو المفكرون اتفقوا على ان لحظة ولادة المجتمع المدني هي زمن انهيار المجتمع الإقطاعي القديم وظهور المجتمع البرجوازي فإن اختلاف الخلفيات السياسية لكل منهم لعبت دورا في تأطير مفهوم المجتمع المدني وأهم هؤلاء هم مفكرو المدرسة العقدية - هويس لوك روسو . وهيغل، والمدرسة الماركسية وخصوصا إسهامات غرامشي ثم المقاربات المعاصرة المفهوم المجتمع المدني، وسنتناول بإيجاز إسهامات كل مدرسة في تأصيل مفهوم المجتمع المدني.
المطلب الأول: رواد مفهوم المجتمع المدني
يعتبر منظري المدرسة التعاقدية من الرواد الأوائل لمفهوم المجتمع المدني ليليهم هيغل والتنظير مجتمع مدني متميز عن الدولة ولكن غير مستقل عنها، وعن التوجه الماركسي ظهر غرامشي، وبعدهم ظهرت مفاهيم معاصرة للمجتمع المدني.
أولا: مفهوم المجتمع المدني عند منظري المدرسة التعاقدية
المدرسة التعاقدية هي إحدى المدارس التي حاولت تفسير أصل الدولة -وقد بينا ذلك في فصل سابق- وبالتالي فإن مفكري هذه المدرسة وخصوصا، هويس ولوك وروسو اعتبروا أن الدولة هي نقيض للمجتمع الطبيعي، وان الانتقال من حالة الطبيعة -ألا دولة- إلى حالة المجتمع السياسي المدني -الدولة- تم نتيجة لعقد.
وهذه نقطة الالتقاء بينهم، إلا أنهم يختلفون فيما كان عليه المجتمع في حالة هي الطبيعة وشروط العقد وإطرافه.
ما يهمنا هنا هو أن مفهوم المجتمع المدني عند هذه المدرسة يقصد به مجتمع الدولة المناقض لحالة الطبيعة وهنا يتداخل مفهوم المجتمع المدني مع المجتمع السياسي أو الدولة، فمفهوم المجتمع المدني عندهم هو الدولة بحد ذاتها، وهذا هو المفهوم الأول للمجتمع المدني.
يعد هويس من أكثر الفلاسفة تشاؤما في تنظيره للحالة الطبيعية والوضع السيئ الذي كان عليه الناس في تلك الحالة، وهو في ذلك أراد تبرير الانتقال إلى المجتمع المدني حتى وإن كان هذا المجتمع محكوما بحاكم مطلق الصلاحيات فالانتقال من حالة الطبيعة التي يسودها شريعة الغاب حيث الإنسان ذئب لأخيه الإنسان إلى المجتمع المدني المنظم - الدولة - يعني انتقالا من حالة الفوضى والاقتتال إلى حالة الأمن والسلام أما بالنسبة لجون لوك فقد خفف من حدة حالة الطبيعة حتى يبرر ظهور مجتمع مدني سياسي - دولة - تحكم حكما فرضی أقل استبدادا، فإذا كان الأمر بالنسبة لهوبس ان الناس لا شيء يخسرونه إذا تخلوا من حالة الطبيعة وتعاقدوا فيما بينهم لقيام دولة - مجتمع مدني يحكمون فيه حكما مطلقا، فإن الأمر بالنسبة لجون لوك مختلف، فحالة الطبيعة كان فيها من الحقوق وحياة الحرية ما يبرر عدم تنازلهم عنها بدون شروط، فهم حتى ينتقلوا إلى حالة المجتمع المدني عليهم أن يضعوا شروطا على الحاكم، ومن هنا كان لوك من دعاة الحكم اللبيرالي.
لقد وضح لوك مفهوم المجتمع المدني كنقيض لحالة الطبيعة عندما قال: وهكذا فحيث يؤلف عدد من الناس جماعة واحدة ويتخلى كل منهم عن سلطة تنفيذ السنة الطبيعية التي تخصه ويتنازل عنها للجميع، ينشأ عندنا حينذاك فقط مجتمع سياسي أو مدني. فالمجتمع المدني بالنسبة له هو تنظيم للحالة الطبيعية وتحديد للحقوق والواجبات، وعملية التنظيم والتحديد هذه تعنى انتقال المجتمع عن طريق عقد إلى حالة جديدة هي المجتمع المدني أو السياسي، هذا المجتمع هو مجتمع المدينة والمدنية، ومجتمع المدينة هو مجتمع التحضر والتحضر لا يتم إلا يسمو القانون في علاقة الأفراد بعضهم مع بعض، فالمجتمع المدني هو مجتمع القانون لأن القانون هو ضامن الحرية ومهد لها في نفس الوقت.
وعلى نفس الطريق سار جان جاك روسو في اعتبار المجتمع المدني ظهر نتيجة لعقد بين الناس والحاكم، وان هذا المجتمع نقيض لحالة الطبيعة، ويظهر مفهوم المجتمع المدني عند روسو من خلال قولته إن من سبح أرضا وقال هذه لي ثم وجد أناسا سذجا فصدقوه، هو أول مؤسس للمجتمع المدني. ويظهر لنا ذلك أن روسو اعتبر حق الملكية الخاصة وحق حمايتها من مبررات ومؤشرات ظهور المجتمع المدني أو الدولة.
فالمجتمع المدني عند روسو هو نظام اجتماعي قائم على أساس تعاقدي يحيل على التوفيق بين المصالح المتضاربة للناس، ويضمن حقوق الجميع بقيامه على عقد اجتماعي ببرمه الأفراد هذا العقد وان كان يحتم على الأفراد التنازل عن كامل حقوقهم التي كانوا يتمتعون بها في حالة الطبيعة، فإن هذا التنازل يكون القائدة إرادة عامة تمثلهم وتعبر عن إرادتهم، وبالتالي لا يفقدهم هذا التنازل حرياتهم وحقوقهم نهائيا، لأنهم بمقابل هذا التنازل سيحصلون على حقوق وحريات تقررها لهم الجماعة المدنية التي أسسوها بإرادتهم.
ومن هنا نستنتج أن الخلفية السياسية المؤطرة لمفهوم المجتمع المدني عند رواد نظرية العقد الاجتماعي، ترتبط بفلسفتهم السياسية المعادية لنظرية الحق الإلهي للملوك، والمعادية لهيمنة الكنيسة ومؤسساتها ، ولتحالفها مع الإقطاع، فهم بذلك أرادوا إعطاء مفهوم جديد للدولة - المجتمع المدني السياسي - يرتبط بإرادة الأفراد وحريتهم لا بالمقدس والغيبي، وعليه تصبح الدولة - المجتمع المدني السياسي - نتاج لتجربة تاريخية معاشه.
لم يستقر طويلا مفهوم المجتمع المدني كما صاغه رواد المدرسة العقدية، وهو المفهوم الذي يجمع بين المجتمع المدني والدولة، ذلك أن الحركة الفكرية التي أطلقها مفكروا النظرية العقدية، وخصوصا لوك وروسو ثم مونتسكيو وآخرون والتحولات الموضوعية التي نتجت عنها . كان لابد وان تخلق تمايزا ما بين الدولة المحتكرة للسلطة السياسية والممتلكة للهيمنة الشمولية من جهة والمجتمع المدني باعتباره فضاء يسمح للأفراد والجماعات بحرية التحرك للتعبير عن مطالبهم ومصالحهم من جهة أخرى، بمعنى أن المجتمع -الناتج عن النهضة الفكرية والنضج المجتمعي اللذان اسقطا دعاوى المصدر الإلهي من هيمنة للسلطة، وحررا المجتمع من هيمنة تحالف الكنيسة مع الإقطاع -انتقل خطوة إلى الأمام ليحرر الأفراد من الدولة ذاتها التي هم صانعوها، لأنه طرفا في العقد المنشىء لها، وكان مبررات هذا التطور هو بالإضافة إلى تطور مفهوم حقوق الإنسان وإرادة الأمة، ومفاهيم الحرية والمساواة، ظهور استبداد جديد ليس كسابقه حكم تيوقراطي، ولكن استبداد الحاكم الزمني، استبداد الدولة وأجهزتها. وكان أول من أشار إلى هذا التمييز هو توماس بين Thomas Paine في كتابه (حقوق الإنسان) الصادر سنة 1791 إذا أكد على ضرورة تقليص هيمنة الدولة لصالح المجتمع المدني الذي يجب أن يدير بنفسه أموره الذاتية، وان لا يترك للحكومة إلا القليل حكومة بسيطة وغير مكلفة محددة الوظائف تحترم الحقوق الطبيعية للإنسان مقابل مجتمع مدني حر وسامي.
ثانيا: هيغل والتنظير مجتمع مدني متميز عن الدولة ولكن غير مستقل عنها
إن أبرز من كتب بالتفصيل عن مجتمع مدني متميز عن الدولة هو المفكر الألماني هيغل Hegel في كتابه مبادئ فلسفة الحق الصادر عام 1821 وضع تمايزا بين الدولة والمجتمع المدني، فهذا الأخير يشكل واحدا من مستويات تمظهر الدولة أما المستوى الآخر فهو الأسرة، فالمجتمع المدني في نظره لحظة. من لحظات الحياة الروحية وهي تقع بين العالم البسيط للأسرة الأبوية والدولة المتحكمة في ذاتها. وهو بذلك يضع حدا لافتراض النظرية العقدية حول التماهي او الانسجام بين الدولة والمجتمع، ولكنه مع ذلك لم يذهب الى حد القول بانفصال كامل للمجتمع المدني عن الدولة، فالمجتمع المدني يعجز لوحده عن إقامة وتحقيق العقل والحرية من للقاء ذاته، وبالتالي تعتبر الدولة الإطار القوي القادر على تحقيق هذه الغاية أن الخلفية التي تحكم تنظير هيغل للمجتمع المدني ليس فقط إظهار أهمية المجتمع المدني وتميزه عن الدولة، ولكن تأكيد أهمية الدولة وقوتها وضرورة أن تبقى لها اليد لحظة الطلبً حتى في علاقتها مع المجتمع المدني. إن المجتمع المدني الذي هو في نظره في التطور التاريخي يتميز بالتنافس في المصالح الفردية طبقا لطبيعة الاقتصاد البرجوازي، فهو فسيفساء تتشكل من أفراد وطبقات وجماعات ومؤسسات تنتظم كلها داخل القانون المدني، وهذه الفسيفساء لا ترتبط بالضرورة مباشرة بالدولة، فهذه الأخيرة لها هيكلتها وفضاها الذي هو اقتصاد السوق والطبقات الاجتماعية والجماعات المهنية والمؤسسات المتعلقة بالإدارة وبالحقوق المدنية.
فالمفهم الهيغلي للمجتمع المدني يؤكد تحرر هذا المجتمع إزاء الدولة واستقلالها، وهو في نفس الوقت يضع حدودا لهذا التحرر من ربق الدولة، لأن المجتمع المدني لا يتحقق إلا عبر الدولة على الدولة أن تؤمن حل التناقضات الداخلية للمجتمع المدني، ومن واجب المجتمع المدني بالنتيجة أن يخضع لسلطة الدولة.
وهيغل بهذا التصور للمجتمع المدني يختلف مع سابقيه وخصوصا توماس باین وادم سمت اللذان افترضا التناغم والانسجام بين مكونات المجتمع المدني. الأمر الذي يفترض عدم تدخل الدولة، وهذا التباين في التصور يعود إلى ضعف البرجوازية الألمانية عن مثيلاتها في انجلترا وفرنسا، وبالتالي عدم قدرتها على خلق مجتمع مدني قوي ومتماسك ومنسجم، فهيغل ينظر إلى المجتمع المدني في بلده باعتباره حقل صراع مضطرب تتصادم فيه المصالح، حيث كل فرد منشغل بمصالحه ويسعى لتحقيق مآربه، الأمر الذي يجعل المجتمع المدني يتميز بالاضطراب ومهددا بالانفجار، وما يعزز حالة الاضطراب وعدم الاستقرار صراع المصالح والطبقات الاجتماعية.
وكخلاصة فالمجتمع المدني عند هيغل ليس هو الدولة ولكنه لا يمكن أن يوجد وبحافظ على وجوده إلا بدعم من الدولة ومن خلالها فالعلاقة بينهما هي علاقة صراع وتكامل في نفس الوقت.
إن هذه المقاربة لعلاقة المجتمع المدني بالدولة عند هيغل سنستحضرها عند الحديث عن المجتمع المدني في الوطن العربي، حيث يكثر الحديث عن مجتمع مدني هو صنيعة الدولة أو خاضع لها.
ثالثا: الماركسية ومفهوم المجتمع المدني (انطونيو غرامشي ـنموذجا)
اهتمت النظرية الماركسية الكلاسيكية بالمجتمع المدني، حيث كان لماركس تصورات حول المجتمع المدني إلا أنها بقيت تدور في فلك التصور الهيجلي، ولم تبلور الماركسية منظومة فكرية متكاملة حول المجتمع المدني إلا مع المفكر الماركسي الايطالي انطونيو غرامشي.
فبالنسبة لماركس فقد مر تعريفه للمجتمع المدني بمرحلتين: مرحلة الشباب ومرحلة النضج، ففي المرحلة الأولى استعمل مفهوم المجتمع المدني بمعان قريبة مما قال بها هيغل، فالمجتمع المدني هو مجال لتضارب وتصارع المصالح الاقتصادية وفقا لطبيعة المجتمع البورجوازية، هذا التقارب بينه وبين هيغل في مفهوم المجتمع المدني صاحبة تباعد أو تعارض في مفهوم كل منهما للدولة، فإذا كان هيغل أوجد تمايزا بين الدولة والمجتمع المدني فإن ماركس اعتبر المجتمع المدني هو الأساس الواقعي والحي للدولة البورجوازية، فهو مجموع العلاقات المادية للأفراد في مرحلة محددة ومعينة من مراحل تطور قوى الإنتاج، معنى هذا إنه أعطى للمجتمع المدني دلالة ومحتوى اقتصاديا ، فالاقتصاد السياسي هو العلم المؤهل الدراسة التركيب الداخلي للمجتمع المدني.
وهكذا أصبح مفهوم المجتمع المدني عند ماركس - بعد أن نضح فكريا . متطابق مع مفهوم البنية التحتية، الأمر الذي جعله يستعد في كثير من الأحيان عن استعمال مفهوم المجتمع المدني الذي هو في نظره مفهوم برجوازي واحل محل الحديث عن ثنائية مجتمع مدني ودولة الثنائية المفهومية بنية تحتية وبنية فوقية والمجتمع المدني ما هو إلا تلك البنية التحتية التي تتم فيها المواجهة بين المصالح الاقتصادية المختلفة انه ميدان الصراع الطبقي بقطبية الأساسيين الطبقة البورجوازية والطبقة البروليتارية.
اختفى مفهوم المجتمع المدني من التداول في الأوساط الفكرية الغربية والشرقية على السواء منذ منتصف القرن التاسع عشر لاعتبارات متعددة أهمها تجاوزه من قبل الفكر السياسي الاشتراكي وإحلال مفاهيم جديدة محله وتدعيم أساس الديمقراطية الليبرالية في الغرب واستقرار المنظومة الفكرية الغربية على مرجعيات وثوابت خلقت نوعا من التعايش والتفاهم ما بين المجتمع المدني والدولة. فالمصالح المشتركة بين الطرفين وثبات وترسخ مؤسسات المجتمع المدني كواقع وحقيقة مسلم بها أذهب مبرر الحديث عن وجود أو عدم وجود مجتمع مدني وعلاقته بالدولة، ذلك ان الدستور ودولة القانون جعلا من المجتمع المدني معطى ومسلمة لا تقبل النقاش.
إلا أن مفهوم المجتمع المدني عاد للتداول مجددا بعد الحرب العالمية الأولى على يد المفكر الماركسي الايطالي انطونيو غرامشي (1891 - 1967)، وكان نجاح الثورة البلشفية في روسيا القيصرية 1917 ، وظهور حركات فاشية ونازية وخصوصاً الفاشية في بلده إيطاليا، وعجز الحركات العمالية والقوات الشعبية عن تغيير الأوضاع في المجتمعات الغربية، دافعاً لإعادة الاعتبار لمفهوم المجتمع المدني والبحث عن الكيفية التي ستجعل منه أداة نضالية في يد الطبقة العمالية تستعملها في مواجهة هيمنة الدولة الرأسمالية.
شكلت اجتهادات غرامشي في موضوع المجتمع المدني نوعا من الإحياء والتجديد للمفهوم وأهم مراحله الفكرية، بل يمكن اعتبار آراءه في المسألة قطيعة ابستمولوجية مع ما سبقها، وتتجلى مستجدات الطرح الغرامشي في كونه اعتبر المجتمع المدني قضاء التنافس الإيديولوجي والفكري والثقافي. وبذلك أخرج المفهوم الماركسيون المفهوم فيها هذا التصور للمفهوم ينطلق من وعي غرامشى لطبيعة المجتمعات الغربية التي عاصرها والتي تتميز بحضور مكثف وفعال للمجتمع المدني في مواجهة الدولة، فهذه المجتمعات ويفعل الثورة الديمقراطية وتجديد الليبرالية لنفسها استطاعت إيجاد صيغة التفاعل المجتمعين السياسي والمدني في إطار علاقة جدلية تفرز قنوات يقوم المجتمع المدني، من خلالها بدوره في ترشيد وتأطير المجالات الخاصة به التي تهمه إلى جانب الدولة، أو ينفرد بمجالاته الخاصة به دون تدخل الدولة، وغياب هذا التعارض والتكامل بين المجتمع المدني والدولة كان وراء نجاح الثورة الروسية حيث ى كل شيء أو الفاعل الوحيد، أما في الغرب فوجوده كان وراء فشل كانت الدولة هي . الحركة العمالية في الثورة على النظام الرأسمالي.
ومن هنا رأى غرامشي أن وصول الطبقة البروليتارية إلى السلطة في المجتمعات الغربية - إيطاليا تحديدا - لن يتحقق إلا بعد تبلور وصياغة مجموعة وسائل هيمنية تستطيع بواسطتها هذه الطبقة تعبئة المجتمع وتكسير الهيمنة الثقافية والإيديولوجية للبرجوازية، بمعنى أن البروليتاريا لن تستطيع انتزاع السلطة السياسية من البورجوازية إلا بعد تحقيق شرط الهيمنة الثقافية والإيديولوجية، حيث يقول انه من أجل أن تتخلق وتنمو إرادة جماعية لابد من الكشف عن الشروط اللازمة لذلك.... وهذه الشروط تكمن في خلق آليات وقنوات تستطيع استنفار همم الطبقة العاملة وحلفائها - الفلاحين - من خلال الهيمنة الايديولوجية التي يجب أن تأخذ بعين الاعتبار تركيبة المجتمع.
يلاحظ هنا أن غرامشي لم يقتصر على إضافة مفهوم الحلف الجماعي الواسع أو الكتلة التاريخية التي تضم العمال والفلاحين وكافة الفئات المضطهدة بل انه أيضا وسع من طبيعة هذا التحالف بحيث لا يقتصر على وظيفته السياسية كما قالت الماركسية الكلاسيكية، بل جعل له وظيفة الهيمنة السياسية والإيديولوجية والأخلاقية والثقافية، وبذلك يصبح لدينا طرفان متواجهان: هيمنة تمارسها الفئات الاجتماعية -الكنيسة -الحزب- النقابات -المدارس- بوسائلها التنظيمية الخاصة، في مواجهة السيطرة التي تعبر عنها الدولة عبر مؤسساتها وأجهزتها - الجيش الشرطة - والقانون. فإذا كان المجتمع المدني فضاء للهيمنة الإيديولوجية والثقافية فإن المجتمع السياسي -الدولة- فضاء السيطرة السياسية بواسطة القوة ووسائل الإكراه المتاحة لها كالجيش وغيره. ولكي تكون هيمنة المجتمع المدني، فاعلة وذات أثر بالنسبة لفئاته الاجتماعية لابد من وسائط تعمل على إكسابها بعدا عمليا تنويريا، وهنا يأتي دور المثقفين في تنظيم وتوجيه الهيمنة الاجتماعية للطبقات التي تفرزهم، يقول غرامشي إن الوعي الذاتي النقدي يعني تاريخيا وسياسيا خلق نخبة من المثقفين، فالكتلة لا تميز وتصبح مستقلة من تلقاء نفسها بدون ان تنظم نفسها بالمعنى الواسع ولا تنظيم بدون مثقفين أي بدون منظمين وبدون قيادة.
لقد ربط غرامشي مفهوم المجتمع المدني بالهيمنة الثقافية، واشترط لنجاح هذه الأخيرة وجود ما سماهم (بالمثقفين العضويين، بمعنى أن كل فئة اجتماعية تنتج بشكل عضوي مثقفيها، فللسلطة مثقفوها وللفئات الاجتماعية الثورية مثقفوها ، وهؤلاء المثقفون يعملون على إكساب فئتهم الاجتماعية نوعا من التجانس الاجتماعي والسياسي، وذلك بترويج وتخصيب الايدولوجيا التي تعبر عن طموحات وتطلعات فئتهم، وبالتالي فالشرط الثقافي ضروري في تعبئة الجماهير وجعلها قادرة على فرض هيمنتها الإيديولوجية، ولكن يتحقق هذا الشرط يجب كسر نخبوية المعرفة وإلى إنتاج معرفة جديدة تغيب فيها الفروق بين الثقافة العالمية والثقافية الجديدة.
ویرى غرامشي أن المثقف - طليعة المجتمع المدني - يستطيع مقاومة الهيمنة التي تمارس من طرف الدولة، واعتبر ذلك بمثابة المهمة الأساسية للمثقفين العضويين الذين عليهم القيام بها حتى يحققوا لطبقتهم الهيمنة الفكرية والاجتماعية، فالهيمنة الثقافية والإيديولوجية لا تتم لفئة أو طبقة إلا إذا استطاع ناع مثقفوها العضويون الارتقاء بوعي الفئات أو الطبقات الاجتماعية ذات المشروع المستقبلي وإيصاله إلى درجة أعلى من التجانس عبر الإصلاح الثقافي والقيمي الذي يعتمد فلسفة الممارسة ) الموجهة بالعلم والتي تهدف إلى عملية تطهير من بقايا الايدولوجيا المسيطرة من خلال الأحزاب وعبر المثقفين العضويين وتخلص إلى القول إن مفهوم المجتمع المدني عند غرامشي يقوم على أساس أنه فضاء للتنافس الاديولوجي والثقافي من اجل الهيمنة.
المطلب الثاني : المفاهيم المعاصرة للمجتمع المدني
وحيث أن المجتمع المدني هو بنية وعلاقات ومؤسسات اجتماعية، وحيث انه بهذا المعنى لا ينفصل عن حركة المجتمع وتطوره، وما يستجد من تطورات على علاقات أطرافه مع بعضها البعض وعلاقته بمجمله بالمجتمع السياسي، كما أنه مفهوميا يتأثر بالموجات الفكرية المتسارعة وبتجديد الفكر الديمقراطي لمقولاته لكل ذلك فإن مفهوم المجتمع المدني لابد وأن يتكيف مع هذه المستجدات. وهكذا فان المفهوم في السيولوجيا السياسية اليوم يستعمل بمعان لا تتفق تماما مع ما جاء به رواده الأوائل سواء رواد النظرية التعاقدية، أو هيغل أو الماركسيون، وهكذا ترصد اليوم التعريفات التالية الأكثر رواجا للمجتمع المدني.
- المجتمع المدني هو النسق السياسي المتطور الذي تتيح صيرورة تمأسسه -تشكله في إطار مؤسسات- مراقبة المشاركة السياسية.
- المجتمع المدني هو مجموعة العلاقات التي تتم بين الأفراد البنيات العائلية الدولة: الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية الدينية، داخل مجتمع ما خارج إطار تدخل الدولة.
- المجتمع المدني هو كل المؤسسات التي تتيح للأفراد التمكن من الخبرات والمنافع العامة دون تدخل أو توسط الحكومة.
وغالبية التعريفات المتداولة حديثاً حول المجتمع المدني تسير في هذا الاتجاه، ويلاحظ على هذه التعريفات تأكيدها على عدم الربط بين المجتمع المدني والدولة، وأنها تعطى هامشا من الاستقلالية للمجتمع المدني في تسيير نفسه بنفسه بعيدا عن مجال تدخل الدولة. وهكذا أصبح المفهوم في الأدبيات السياسية المعاصرة -وهي أدبيات ليبرالية - تتجه (لتركيز دلالة التوسط كدلالة قارة للمفهوم)، وهذا يعني أنه تم تجاوز الحديث عن العلاقة المباشرة بين المواطن والدولة بل أصبح الحديث يدور عن علاقة غير مباشرة، حيث تتوسط بين الطرفين تنظيمات المجتمع المدني من أحزاب وهيئات وجمعيات ونقابات، دون أن يعني الأمر بطبيعة الحال قطيعة بين الطرفين فالدولة يبقى لها دور الهيمنة لأنها دون هذه الدور لا تستطيع أن تقوم بوظيفتها السياسية والحقوقية، كما أن مؤسسات المجتمع المدني تبقى مقيدة بشبكة من القوانين والضوابط التي تحددها الدولة.



#حسن_أمرير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السياسات العمومية: أية مكانة للفاعلين غير الرسميين؟
- قراءة تركيبية في كتاب : -صورة موريطانيا الطنجية من خلال النص ...
- مدينة الدار البيضاء : النشأة والمسار


المزيد.....




- برنامج الأمم المتحدة الإنمائي: الدمار في غزة هو الأسوأ منذ ا ...
- اليونيسكو تمنح جائزتها لحرية الصحافة للصحفيين الفلسطينيين في ...
- وكالة -أ ب-: اعتقال ما لا يقل عن 2000 شخص في احتجاجات مؤيدة ...
- مجلس رؤساء الجمعية العامة للأمم المتحدة يناقش بالدوحة مستقبل ...
- لأول مرة منذ بدء الحرب.. الأونروا توزع الدقيق على سكان شمال ...
- الأمم المتحدة: بناء منازل غزة المهدمة قد يستغرق عقودا
- اللاجئون.. رحلة الهروب (الجزء الثاني)
- إروين كوتلر.. والدفاع عن حقوق الإنسان
- اللاجئون.. رحلة الهروب (الجزء الأول)
- على غرار مصر وتونس - الاتحاد الأوروبي يدعم لبنان لمنع تدفق ا ...


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - حسن أمرير - المجتمع المدني : الشروط التاريخية والموضوعية