أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مأمون أحمد مصطفى زيدان - حزن














المزيد.....

حزن


مأمون أحمد مصطفى زيدان
روائي وقاص


الحوار المتمدن-العدد: 7677 - 2023 / 7 / 19 - 18:52
المحور: الادب والفن
    


حُـزْنٌ


لا أعرف ما الذي يعتريني؟ ولا أعرف كيف يتحول الرأس إلى مخزن للألم الضارب؟ حتى لتحس للحظات بأنه سيتوقف عن العمل، وربما من شدة الضغط والترجرج، سيتناثر إلى شظايا على شكل ذرات موزعة، لا ترى ولا تلمس، ويبقى الألم مسيطرا، فلا الرأس متوقف، ولا الشظايا متناثرة.

أَخرُجُ إلى باب المنزل، أُعَرّضُ رأسي لصقيع الرياح المحملة ببرد الثلج الآخذ بالذوبان، محاولا تبريد غليان الدماغ المتأجج، والأفكار المكومة كجنين معتصم في رحم يعجز عن دفعه للحياة والنور، بكل ما فيه من طلقات ولادة متسارعة في النمو النابت من صراع الآلام المنبثقة من عذاب جنين يسكن رحما لا يستطيع الوصول إلى لحظة الميلاد.

يكويني الصقيع، تصطك أسناني، وتبدأ رجفة البرد تتلاعب في جلدي، ترقصه، أتوزع بين رأس مثقل، وجسد خزن بردا إلى أمد غير محدود.

أشعر بحاجة عميقة إلى البكاء والنشيج، بكاء يجمع الناس والأشياء حول معاناتي المتراكمة، لكنني أدرك وبلحظة ما، أن دموعي قد نضبت، جفت ينابيعها المتدفقة كشلال متساقط من أعالي لا يمكن الوصول إليها بالنظر.

أَحْمِلُ نفسي على نفسي المحطمة، أتعثر، أكاد أَنْكَفِئُ على وجهي، يتخلل مفاصلي وَهَنٌ عارم، يقودني نحو التهاوي على أريكة تكره وجودي ورائحتي، لكنها تستقبلني بعجز من لا يستطيع دفع ما لا يحب وما يكره.

تتشنج أعصاب الرقبة، تضغط بكل قوتها على أعصاب الرأس، يتعاظم الألم، ويستفحل الوجع، أشعر بثقل يشدني نحو الغوص في مسامات الأريكة، كبخار يتلاشى في الجزيئات المكونة للقماش والخشب.

تتساقط الآلام نحو القلب، يتضخم، يبدأ بهز العظام، بخلخلة القفص الصدري، تتحطم المشاعر الملوثة بأفكار وهواجس مضطربة، مشوشة، ينتظم الألم كله وينعقد، كَلَبْلابَةٍ عملاقة تمتد إلى كل المساحات المفتوحة والمغلقة.

أحاول النهوض، تتآمر أعضائي وأنفاسي، مفاصلي ومشاعري، على جسدي المنهك، المدمر، فأعجز.

أشاهد ابني وهو يقترب، محشوا بالفرح، ممتلئا بالنشوة، يقوده شعور الحاجة إلى الحنان، وإحساس في مسح رأسه، طلبا لدفء الأبوة، ورأفة الوالد.

يقترب وهو يرسم على محيا البراءة استِجْداءَ الطفولة، وتلهف الطيبة المرتبطة بفطرة لم تلوثها الأيام، ولم تسودها وجوه الناس المخترقة حجب الواجب، يتقدم، يرمي رأسه الصغير على فخذي، ثم يسحب جسده ببطء على جسدي، يصل خده الطري الناعم إلى شفتي، وينتظر.

أحاول رفع رأسي، يدي، فأشعر بالعجز، بالتصلب، بالتخشب، تتقد نار من بؤرة خيبة عينيه الصغيرتين، تشتعل بداخلي، أتوزع بين البرد الكاوي والنار اللاسعة، والعجز المتمكن من أطرافي، وخيبة طفل نهض مكسور الخاطر، محطم الحنان.

تقترب زوجتي وهي تعرف حالي، تَمْسُدُ ما تبقى من شعر على رأس أسقطت النوائب والأحزان ما عليه وما فيه، أحس يدها جبلا يهوي على قشرة الدماغ، وينبت بداخلي شعور معذب، حين أتخيل أناملها تنبت أشواكا تحز جلد الجبهة لتفرغ فيها ألما من نوع جديد.

أعود بعد ساعات من مشفى، مثقب العضل، وعلى معصمي سوار يحمل اسمي وتاريخ ميلادي، أحدق، فأرى الدموع تتغرغر في أعين أولادي وزوجتي، يتحولون إلى أشباح تتمايل نحو الاختفاء.

أصحو من جديد، أحمل أعصابي، واتكئ على مفاصلي، أغرق تحت مياه ساخنة، أشعر بقليل من الراحة، بقليل من الوجود، بقليل من الحياة، أحاول أن ارسم بسمة، فأسقط من جديد بهوة من حزن وكآبة.

كم أنا بحاجة إليك يا والدي؟ !
وكم أنا بحاجة إليك يا أمي؟ !

ينتصب القبر المتلاصق لجثتي أمي وأبي بين عيني، يتسع، يتمدد، تبدو مقبرة ذنابه أمامي، تماما كما تركتها قبل رحيلي من موطن الطفولة والشباب.

تخرج رائحة الموت، وتتسلل شقوق القبور الحاضنة أعشاب صفراء، صلتها الشمس ولوحتها، وأشاهد الحراذين المتنقلة بسرعة التفافية وهي تدخل فمي لتستقر في المعدة، ويصل لسع نبات البصلون إلى حلقي، ويتناثر طلع النباتات المحروقة المعذبة في صدري، وتدور زوابع مجنونة، في كل ما املك من رؤى وأحلام.

رحماك يا ربي،
رحماك.

جسدي الضئيل الضئيل، لا يحتمل كل هذا الحزن، كل هذا الوجع، كل هذا العذاب.

رحماك يا ربي
رحماك.

تمنيت لو ملكت الفرح ليوم واحد، لساعة واحدة، لوهلة أو هنيهة.

ولدت هناك، في مخيم منسي، لا تعرفه الشمس ولا يزوره القمر، يغرق في الوحل والبرد، ويتلظى بالشمس والقيظ، شقق الحرمان جلدي، وأنهك البؤس نفسي، ومزق الفقر حلمي.

وكبرت هناك، أتجرع عذاب القهر، والضغط، أكدسه من حيث لا أعلم بذاكرة غيبية، إلى يوم ضاقت الذاكرة بما فيها، فتخلصت منه دفعة واحدة بنشره في كل خلية من خلاياي، وفي كل وجبة من وجبات قلبي، وفي كل خفقة من خفقان روحي.

بي ما ينهك الصحارى، وما يثقل المحيطات، وما يطفئ البراكين، ويهدئ الزلازل، ولست سوى وجود صغير، تقتله شوكة، وترهقه دمعة.


فلسطين- مخيم طول كرم
النرويج- 20-11-2006



#مأمون_أحمد_مصطفى_زيدان (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حرب التحرير
- حديث البطولة
- حديث المرايا
- حاجز الزمن
- تَـوْقُ الدُّنُـوّ
- صبحية القلب والنفس والروح 5
- ذات قول
- صبحية القلب والنفس والروح 4
- صبحية القلب والنفس والروح 3
- صبحية القلب والنفس والروح 2
- صبحية القلب والنفس والروح
- تيه
- بدون مقدمات
- آه يابا
- آه يا حيفا
- أبي
- ألم
- حوارية صمت مع الموت
- أول الراحلين


المزيد.....




- حي المِسكيّة الدمشقي عبق الورق وأوجاع الحاضر
- لا تفوت أحداث مشوقة.. موعد الحلقة 195 من قيامة عثمان الموسم ...
- أزمة فيلم -أحمد وأحمد-.. الأكشن السهل والكوميديا المتكررة
- بي بي سي أمام أزمتي -والاس- و-وثائقي غزة-... هل تنجح في تجاو ...
- من هم دروز سوريا؟ وما الذي ينتظرهم؟
- حسان عزت كما عرفناه وكما ننتظره
- -الملكة العذراء-: أسرار الحب والسلطة في حياة إليزابيث الأولى ...
- مكتبة الإسكندرية تحتفي بمحمد بن عيسى بتنظيم ندوة شاركت فيها ...
- زائر متحف فرنسي يتناول -العمل الفني- المليوني موزة ماوريتسيو ...
- شاهد فنانة إيرانية توظّف الفن لخدمة البيئة والتعايش


المزيد.....

- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مأمون أحمد مصطفى زيدان - حزن