أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - إبراهيم معروف - مذكرات الدكتور إبراهيم ماخوس - الحلقة الخامسة –















المزيد.....



مذكرات الدكتور إبراهيم ماخوس - الحلقة الخامسة –


إبراهيم معروف

الحوار المتمدن-العدد: 7390 - 2022 / 10 / 3 - 06:32
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


*النظرية والتطبيق:

إن النظريات الفلسفية السياسية ليست غاية بحد ذاتها، بل جاءت –كما يقول واضعوها- لمصلحة الإنسان، وتنظيم (المجتمع الفاضل)، وهي جميعاً –وصولاً إلى النظرية الرأسمالية (السائدة حالياً، والتي يعتبرها فلاسفتها الجدد "نهاية التاريخ")، والنظرية الماركسية اللينينية المناقضة لها، التي طالما جسدت أمل الجماهير الكادحة في العالم بالخلاص من الاستغلال، وبناء المجتمع الإنساني اللاطبقي العادل =ليست ولا يمكن أن تكون، نظريات (إنسانية) لا طبقية، خارج ظروف المكان والزمان والواقع الاجتماعي المعاش.

-فالرأسمالية، هي سلاح البرجوازية. في ترسيخ هيمنتها الطبقية ونظامها الاقتصادي –الاجتماعي- السياسي والثقافي القائم على ملكيتها الخاصة لوسائل الانتاج، واستغلالها الفاحش لجهود وعمل الكادحين، داخل (بلدانها)، وكذلك استعمارها ونهبها لبلدان العالم الثالث، ووصولها إلى مرحلة إستعمارية –إمبريالية متجددة، ومتداخلة، ومتعددة الأشكال، حسب الحاجة اللازمة لتحقيق أهدافها اللصوصية. فتعمل عبر شركاتها السرطانية العملاقة إلى احتكار وامتصاص دماء وعرق الشعوب، وفرض (نظامها) العالمي العبودي المهيمن بكل الوسائل، بما في ذلك العدوان المسلح المباشر، والعودة إلى الاحتلال العسكري، وإقامة القواعد الحربية في البلدان التي تعتبرها داخل منطقة (مصالحها الحيوية)، بصور أكثر فظاعة من مرحلة الاستعمار المباشر القديم، الذي تخلصت منه تلك البلدان، مستغلة انهيار المنظومة الاشتراكية، لتعتبر نفسها "نهاية التاريخ"، في الوقت الذي لم يعرف التاريخ لوحشيتها، وعدم إنسانيتها، مثيلاً من قبل.

-وحتى الماركسية= التي هي سلاح الطبقة العاملة في بناء المجتمع الاشتراكي الجديد، التي بشرت بقبر الرأسمالية إلى الأبد= هي نظرية طبقية –وستظل كذلك- رغم انها تعبر عن نزوع ومصالح الأكثرية الساحقة من البشر، حتى يصل التطور إلى المجتمع اللاطبقي ومرحلة الشيوعية، الأمر الذي يبقى مجرد حلم (ثوري) بعيد، لا يعرف أحد متى يتحقق، ناهيكم عن إمكانية تحقيقه من الأساس، وهكذا.. وعلى هذا الطريق، يبقى الصراع الطبقي واقعاً مستمراً بأشكال ووتائر مختلفة الحدة، وتبقى النظرية الماركسية، بالتالي كجوهر جدلي متجدد وليس كعقيدة وثنية جامدة، سلاحاً للكادحين باتجاه الهدف المذكور.

ورغم الزلزال الذي ضرب المنظومة الاشتراكية، والردّات الرجعية، التي عصفت بأنظمتها و(تجارب الاشتراكية المطبّقة)، بل وبسبب التجسيدات المرعبة لهذه الردات، تبقى الاشتراكية العلمية =التي قد تواجه أيضاً الكثير من العقبات والتعرجات، وربما الانتكاسات الجديدة اللاحقة= الصيغة الأكثر رقياً للمجتمع الانساني العادل حتى الآن.

-وقبل الذهاب بعيداً في موضوعنا، لابد من القول، أن الأزمات الطاحنة التي واجهتها الرأسمالية، داخلياً وخارجياً، وما رافقها من مآس وحروب محلية وعالمية ضارية معروفة، وما تواجهه حالياً من تناقضات وصراعات خفية وظاهرة بين أقطابها، وكذلك ما يوجد –حتى في مركزها الأمريكي الأعلى- من تفاوتات طبقية صارخة، وعنصرية، وبؤس، وظواهر مرضية مزمنة متفاقمة خطيرة، كالتفكك الأسري والاجتماعي، وانتشار المخدرات وكل أشكال الجريمة المنظمة، وغيرها.. لا تعود إلى أخطاء في تطبيق النظرية الرأسمالية بل إلى فسادٍ في جوهرها بالذات، وفي بنيتها الأساسية، كنظرية لتبرير و(تقنين) هيمنة الطبقة البرجوازية المستغلة، واحتكارها الذي يزداد تمركزاً بأيدي قلة معدودة من أصحاب الملايير، المهيمنة على المجتمع الأمريكي بل على معظم أرجاء العالم (كما ذكرنا في مكان آخر من هذه المقدمة)(1).

وبالتالي، فإن كل عمليات التجميل التي تعرضت لها –وستتعرض لها مستقبلاً- لتجديد شبابها، وتجميل وجهها المسوخي المتوحش القبيح، والتي أفلحت في إطالة عمرها حتى الآن، وستفلح كذلك في إطالته إلى مدد غير قصيرة، خاصة بعد انفرادها (بزعامة العالم)، واستغلالها لمعطيات الثورة العلمية والتقنية الهائلة.. إلخ. إن هذا كله –مع عدم الاستهانة به طبعاً- لن يجعلها "نهاية التاريخ" بأي حال، بل ستؤول –لا محالة- إلى مزبلة التاريخ، لا بفعل (الحتمية) التاريخية الآلية الانتظارية –كما كان يتوهم بعض المنظرين الماركسيين البرقراطيين سابقاً- بل بفعل تناقضاتها الأساسية الخاصة، ومجافاتها لقوانين الحياة والطبيعة ومصالح الأكثرية الساحقة من البشر العاملين داخل البلدان الرأسمالية ذاتها، وبقية شعوب العالم المقهورة المنهوبة.

وتبعاً لذلك، بفعل يقظة هؤلاء المستغَلين في الداخل والخارج، ووعيهم وإدراكهم لهذا الواقع الطبقي والإمبريالي ورفضهم له، ونهوضهم للنضال لإزالته وتغييره، وتحقيق معادلة التطابق المتوازنة والمنسجمة السليمة، بين الطابع الاجتماعي للقوى المنتجة والملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج، وكذلك حق الشعوب المقدس في تقرير مصيرها، في الحرية والاستقلال والتنمية الوطنية التقدمية المستقلة.

- أما بالنسبة للماركسية- اللينينية وفشل التجارب الاشتراكية المطبقة "في الاتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية، فإن منظري الرأسمالية يتخذون ذلك الفشل منطلقاً للانقضاض على النظرية ذاتها، كونها –كما يزعمون- نظرية فاسدة أصلاً، والخلل يكمن في اساسها هي لا في تطبيقاتها الخاطئة فقط، وذلك بغية تدميرها نهائياً، وتجريد الطبقة العاملة من سلاحها النظري العلمي الطبقي الذي لا غنى عنه في عملية التغيير الثوري، ويشاركهم في ذلك –مع الأسف- بعض الماركسيين السابقين المرتدين، الذين ساهموا –بشكل أو بآخر- في تشويه الماركسية وتجميدها وتجويفها من مضامينها الديمقراطية ومنهجها الجدلي – الحي، وفي فشل تلك "التجارب المطبقة" المذكورة.

وثمة قسم هام من الشيوعيين يفسر ذلك الفشل "بالخطأ في التطبيق"، وقسم آخر يعزوه إلى "الانحراف"،(2) كما يعيده البعض إلى "التحجر والدوغماتية والجمود العقائدي.."، وكذلك إلى "عدم فهم النظرية"، ونقص الوعي عامة... إلخ.

ولسنا هنا في مجال دراسة أسباب سقوط تلك التجارب المتداخلة المعقدة التي تعرض لها الحزب في عدد من افتتاحيات "الديمقراطي"، ومازالت قيد البحث لدى الكثير من الجهات المهتمة في العالم.

ولكننا نود الإشارة هنا، إلى بعض المسائل الهامة، فنقول أولا: أن الحياة أغنى من النظرية، والنظرية أداة لفهمها، ونهج وآليات تغتني بها جدلياً، وهكذا بلا نهاية. وأن النظرية –مهما كانت- هي في خدمة الحياة، من أجلها، ولتحسينها وليس العكس. وأن الماركسية لم تطرح نفسها كنظرية كاملة شاملة مغلقة ونهائية للكون والحياة، حتى يجري تحميلها ما ليس فيها، بل كنظرية علمية وثورية، ودليل عمل للطبقة العاملة، لاستخدامها كنهج علمي جدلي في تحليل الواقع، وفهمه، وإدراك قوانينه المحركة، ومعطياته المستجدة المتتابعة، وكدليل عمل ثوري لوضع إستراتيجية وتكتيكات النضال الملائمة لتغييره، وإقامة المجتمع الديمقراطي الاشتراكي الجديد، الخالي من الاستغلال، على طريق المجتمع اللاطبقي الشيوعي المقبل.

وخلال هذه المسيرة النضالية، المعقدة الطويلة، والمتعددة المراحل، يتم تفاعل النظرية الجدلي مع معطيات الواقع المستجدة، أخذاً وعطاءً، بحيث تغتني باستمرار بالاكتشافات العلمية الجديدة، بما يزيد من قدرتها على مواصلة دورها في عملية التحليل العلمي لهذا الواقع المتطور، والتغييرات الثورية المطلوبة.

ولكن هناك من عمل على تحويل الماركسية-اللينينية إلى (صنم) مقدس، و(علبة سوداء) خارج إطار الزمان والمكان، وهناك من حرّفها وفسّرها حسب مصلحته (عن وعي) كامل بها، وبمصالحه الخاصة المناقضة لها، وكذلك من لم يستطع استيعابها وفهمها جيداً، أو لم يتيسر له ذلك، ومن طبقها بالتالي بصورة خاطئة بدون وعي.

وهنا نؤكد على دور الوعي وأهمية استمرار التوعية القصوى، بالنسبة للكادحين أصحاب المصلحة الحقيقية بهذه النظرية، ونشير إلى إصرار الرئيس كاسترو ورفاقه على محو الأمية من كوبا خلال عام واحد من انتصار الثورة، وتجنيد كل الطاقات اللازمة لذلك، باعتبارها امتداداً أساسياً لسنوات الثورة، لأن الاشتراكية العلمية لا يمكن أن يبنيها الجهال.

وبالتالي فكل ما ذكرناه عن "أخطاء التطبيق"، والانحراف (الواعي) بالنظرية واستخدامها وفقاً لمصلحة الشرائح الاجتماعية البرقراطية القائمة بذلك، ومن نقص الوعي، وعدم الاستيعاب، والجهل بحقيقة النظرية من أوساط غير قليلة من المواطنين المعنيين، الذين يمكن تضليلهم وخداعهم من قبل الطبقة المتبرجزة الجديدة، وعدم يقظة الطلائع القيادية المخلصة، وتصديها لذلك في الوقت المناسب، تعد من الأسباب التي تؤدي إلى عدم الانسجام بين النظرية والتطبيق، وصولاً إلى التناقض والطلاق، وشتى أنواع الازدواجية بين الفكر والعمل، الشعار والممارسة.. إلخ، المعروفة عبر العصور، كما سنرى عند استعراضنا لبعض هذه الظواهر.

ويجب أن نفرق بين الفكرة والأهداف والقيم الثابتة، المرتبطة بفطرة الإنسان السليمة، ونزوعه الطبيعي نحو الحرية والعدالة والمساواة والتقدم، وأشكال ووسائل التغيير المختلفة عن ذلك، وفشل التنفيذ، حيث كان –ولا يزال- يجري التركيز على الخلط، والربط الالي بين التطبيقات الخاطئة والمبادئ الصحيحة، أقوى سلاح تضليلي بأيدي القوى المعادية.

-كالخلط بين أخطاء نظام الوحدة (1958)، التي كان يستخدمها الانفصاليون الرجعيون لتبرير خيانتهم، وبين الوحدة كهدف قومي أساسي مقدس.

-وبين أخطاء (التجربة الاشتراكية المطبقة في الاتحاد السوفياتي) وبين الاشتراكية العلمية كنزوع إنساني خالد للعدالة، وأفضل صيغة اقتصادية-اجتماعية لتجسيدها في الواقع.

-وكذلك بين واقع الأنظمة الرجعية الديكتاتورية الفاسدة المتخلفة والتابعة للإمبريالية، التي تحاول (التستر بالإسلام) واستخدامه –تعسفياً- ضد الحرية والعدالة والتقدم، وبين الإسلام كرسالة سماوية خالدة ينبع من الفطرة الإنسانية، ويكرس نزوعها الثابت نحو الحرية والعدالة والمساواة والعلم والتقدم والكرامة والأخوة والإنسانية.. إلخ، مما يدفع بالجماهير البسيطة نحو (الكفر) بالمبادئ نفسها، والتوهم أن العلل فيها ذاتها.

ولا يوجد ضابط في الدنيا يمنع التحريف والتقوقع والوثنية الفكرية، سوى العقل والديمقراطية. أي وجود الاجتهاد والمعارضة السياسية والتعددية بالمفهوم الديمقراطي الصحيح. وهذه أيضاً، لا تنزل من السماء هكذا، بل تنتزع انتزاعا من قبضة الأنظمة الرجعية والقمعية عامة، بتراكمات النضال المتواصلة، إذ لا توجد وصفات جاهزة كافية شافية وافية، لا تحول ولا تزول..

وبالطبع، ليس ثمة وصفات جاهزة صالحة لكل شعب في كل زمان ومكان، رغم ثبات بعض المبادئ والأسس والقواعد العامة، التي أصبحت معتمدة عالمياً.

وهذا ليس في مجال النظرية فحسب بل ينطبق حتى على العلوم الأخرى، فحسب المثل الفرنسي الشهير: "ليس ثمة مرض بل مريض"، اي ان المرض ذاته (كالزكام مثلاً) يتجلى بتأثيرات وأعراض واختلاطات متفاوتة الخطورة، حسب حالة المريض الصحية العامة، وبقية أجهزته البدنية الأخرى، وسنه: طفلاً أو شيخاً، أو شاباً قوياً او ضعيفاً، إلخ.. ويكون علاجه بمقادير ومعايير دوائية مختلفة من الدواء تبعاً لذلك.

ولكن هذا لا يعني الذهاب بعيداً في (اختراع قوانين) ذاتية خاصة، بحجة الخصوصية والأصالة وغيرها، لتبرير واقع الجمود والتخلف والاستغلال.. إلخ. إذ ثمة قوانين علمية واحدة.. ولكنها تستخدم حسب ظروف كل بلد ومستوى تطوره الاقتصادي والاجتماعي –كما ذكرنا- وفقاً لمقولة "التحليل الملموس للواقع الملموس" فالتفاحة تسقط بفعل قانون الجاذبية في أي مكان من هذه الأرض.

-وبالنسبة لنا، فإننا نرفض ما يمكن تسميته بمفهوم (النظرية الحلقية) المغلقة إلى الأبد، الذي حاول (منظرو السلطة)، المحترفون البيروقراطيون التجريديون، فرضه على الماركسية-اللينينية ومسخها وتحنيطها، بحيث يمكن لهذه الحلقة ان تتسع لمعطيات الواقع القائم في البداية وربما في المراحل الأولى للتجربة، ولكنها سرعان ما تضيق بتطور الحياة ومستجداتها المتلاحقة، وتتحول إلى إطار خانق للتطور، ينتهي –ما لم يتم تجاوزه ديمقراطياً في الوقت المناسب- بانتفاضات عنيفة لتحطيمه والخروج من إساره، قد لا تأخذ –دائماً- شكلاً ثورياً متجدداً صحيحاً إذا لم توجد القيادة الثورية الواعية، بل قد يجري تزييفها وإجهاضها، وتحويلها إلى ردة رجعية مضادة للثورة، كما حصل –بشكل أو بآخر- في الاتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية، التي كان من الممكن –كما طرح في البداية- إنجاز عملية الإصلاح الديمقراطي الثوري في إطار الاشتراكية، لو تم ذلك بقيادة أحزاب ثورية حقيقية.

-ومع رفضنا، أيضاً، "للتجريبية" التي يحاول البعض فرضها على الشعوب، كونها قد تبدأ من منطلق صحيح، لتنتهي باتجاه آخر معاكس، يدخل الشعب المعني في حقول ألغام خطيرة، وتقوده إلى التخبُّط والضياع في متاهاتها المظلمة المدمرة، فالشعوب ليست فئران تجارب، وقضاياها وحياتها ومصيرها أقدس من أن تخضع لهذه (النظرية التجريبية) العقيمة.

ولذلك، لا يجوز الوقوع في فخ التنظيرات البرجوازية المضللة، حول (أسطورة) سقوط "عصر الأيديولوجيات" التي يقصد منها سقوط الأيديولوجية الماركسية-العلمية والثورية فقط، في الوقت الذي يبشرون أكثر من أي وقت مضى بنظريتهم الرأسمالية، ويحاولون فرضها كأيديولوجية وحيدة (خالدة) ونهائية على العالم بأسره.

الأمر الذي يدعو الجماهير الكادحة وطلائعها الثورية، إلى التشبث الشديد بجوهر نظريتهم العلمية والثورية، كسلاح لابد منه لمواجهة هذه المرحلة العبودية المتجددة الخطيرة.

-وفي هذا المجال نحن نطرح ما يمكن تسميته ب، "فلسفة السلسلة" التي نمسك بها في مسيرتنا النضالية الشاقة عبر الدروب الملتوية الوعرة، فلا تخطئ (بوصلتنا) الهدف النهائي، المتمثل بالتغيير الثوري المنشود، بحيث تتشكل كل حلقة من هذه السلسلة من مجمل القوانين العلمية الاجتماعية-الاقتصادية، التي أثبتت صحتها وقائع الحياة (مع التخلي عما يتبين خطؤه)، لتبقى الحلقة الأخيرة مفتوحة دائماً، لتغتني بالمستجدات العلمية المثبتة، وبتجربة أمتنا النضالية، وكذلك بالتجارب الثورية الناجحة لشعوب العالم. وهكذا، لا نقسر الحياة الغنية على الاختناق في (حلقة نظرية) مغلقة واحدة، لا تضم –مهما بلغت من العلمية والاتساع- سوى ما هو معروف، أو مستنتج علمياً، في مرحلة تاريخية معينة، ووعي نظري مرتبط بتلك المرحلة. وفي حدودها، أو اكثر قليلاً، كما نتجنب فخ (التجريبية) المدمرة، لنمسك بالنهج الجدلي العلمي الثوري في تحليل الواقع المتجدد والملموس، وكشف واستخلاص وبلورة قوانينه ومعطياته المستجدة، وربطها بحلقات السلسلة المتصلة والمتواصلة، لتضاف إلى (ترسانتنا) النظرية السابقة، وهكذا دواليك، وتكييف نضالنا وفقاً لذلك، بما يخدم عملية التغيير الثوري، وصولاً إلى تحقيق المجتمع الديمقراطي الاشتراكي الإنساني المنشود(3).
o ويبقى التساؤل المقلق: حول كيفية وقاية الحركات التاريخية التقدمية من التحريف والانحراف والانتكاس؟ ولماذا لا تنطوي النظرية العلمية في ذاتها على عوامل حمايتها، وتضع ضمانات وآليات تقود إلى التطبيق الصحيح، وتمنع الانحراف والتحريف، وتقيها من احتمالات الانتكاس والردة. وما هي مسؤوليتها في ذلك؟ وكيفية تفاديه والخروج من هذه المعضلة الأبدية؟

ومع التأكيد على ضرورة وضع كل القواعد والأسس القانونية والتنظيمية المناسبة، لحماية التجربة الثورية، من تلك المخاطر المذكورة، وغيرها.. والمحافظة على استمراريتها، وتطوراتها التقدمية المتلاحقة على طريق الهدف النهائي للثورة، فالجواب، الذي أكدته الحياة، هو استحالة تفادي احتمالات تلك المخاطر اعتماداً على تلك القواعد والأسس والقوانين والتعليمات والتنظيمات فقط، مهما بلغت من الدقة والصرامة والشمول، الأمر الذي لم يتحقق عملياً حتى في مجال الأديان بالذات، رغم كل المبادئ والأسس والأوامر والنواهي التي تحث على تنظيم (المجتمع الفاضل)، التي وصلت بمستوى "الثواب والعقاب" إلى التعبير الأقصى (بالجنة والنار)، ومع ذلك لم يتورع البعض عن الارتداد أو الانحراف، أو استغلال الدين (عن وعي) تبعاً لمصالحه الخاصة(4).

فالمسألة إذا ليست في النظرية كدليل عمل ثوري، ولا في الأديان كعبادات ومعاملات و"قواعد ضابطة لسلوك الفرد مع نفسه ومع المجموعة البشرية التي ينتمي إليها..."، بل هي في الواقع الاقتصادي الاجتماعي القائم، ومجمل الظروف المادية والموضوعية عامة، التي تساعد على الانحراف والخلل وأخطاء التطبيق، وصولاً إلى الردة. فالمسألة تتعلق بمصالح البشر والصراع الطبقي الذي يبقى مستمراً في المجتمعات الطبقية، مهما اختلفت صوره وأشكاله.

وفي مواجهة "المنهج المثالي، الذي يؤدي إلى نتائج لا عقلانية ومتناقضة منطقياً..."، بتفسير بعض الأخطاء المرتكبة في التجربة السوفياتية في مجال "الحزب الواحد"، بكونها: " نتيجة انحراف، أو تطبيق خاطئ لنظرية لينين حول الحزب الطليعي، وكذلك بكونه نتيجة منطقية لهذه النظرية نفسها في آن معاً..".

يقول تقرير "الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين:(5)"" إنه مازق لا مخرج منه سوى بالعودة إلى منهج الجدل المادي: بإدراك حقيقة أن الظواهر التي تنتمي إلى عالم الوعي لا يمكن تفسيرها إلاّ بتحليل أساسها الاجتماعي والشروط التاريخية لنشوئها، وليس العكس، وهنا فإن "الأخطاء والانحرافات" هي بذاتها خيارات سياسية وايديولوجية، تعكس رؤية وموقع ومصالح قوة اجتماعية معينة في ظرف تاريخي محدد، ولا يمكن فهمها إلاّ على هذا النحو...".

هذا صحيح، ولكن كيف؟ ولماذا؟ أتيحت مثل هذه الظروف و(الفرص) لتلك القوى البيروقراطية أن تسود وتدمر الثورة؟ ذلكم هو السؤال الملح المطروح على القوى الثورية، لتفادي هذه الحلقة الجهنمية المفرغة، حيث يضحي الثوار وحملة الرسالات حتى النصر، وما أن يتم ذلك حتى يقفز الانتهازيون و(الطلقاء) إلى السلطة الجديدة تدريجياً، ويبادرون إلى تصفية بقايا ذلك الجيل الثوري، ومن ثم قيام الردة، وهكذا...

إن هذه المشكلة مازالت قائمة، وتحتاج إلى دراسات معمقة مستفيضة، تساهم فيها كل القوى التقدمية المعنية، ونكتفي هنا بالتذكير، باستحالة منع الانحراف في المجتمع الطبقي، طالما توفرت الظروف الاقتصادية-الاجتماعية التي تعزز ذلك، وتجعل استغلال الإنسان للإنسان ممكناً؟ (وطمع) هذا الإنسان للاستحواذ على أكثر من حقه متاحاً، خاصة إذا علمنا أن (طبيعته) المتكونة بحكم العادات القديمة المتوارثة "التي يصبح لها احياناً قوة الغرائز"، كما يقول لينين بحق، والمتعلقة بالملكية الخاصة، ما زالت مستحكمة وسائدة حتى الآن.

وحتى في تلك "التجارب الاشتراكية المطبقة" في الاتحاد السوفياتي وبلدان أوروبا الشرقية، بدءاً من مراحل الانتقال الأولى، إلى ما أطلق عليه في حينه، مرحلة "الاشتراكية المتطورة..." التي تشكل المدخل لبدايات المرحلة الشيوعية اللاحقة، ظل الانحراف متاحاً بدرجات متفاوتة، وصولاً إلى الردة الحالية، لأسباب كثيرة معقدة، ليس مجال الدخول بتفاصيلها هنا.

ولذلك نقول باختصار، ووضوح، أن الحرية لا يمكن أن تحلق إلاّ بجناحيها: الديمقراطي الاقتصادي-الاجتماعي والديمقراطي السياسي، أي الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج واقتصار الملكية الخاصة على وسائل الاستعمال الشخصي فقط، التي يمكن اعتبارها بمثابة الامتداد الخارجي للجسد (كاللباس ووسائل العيش الضرورية والمسكن، ووسيلة النقل العادية إذا كان الوضع العام يسمح بذلك، وربما أية وسيلة أخرى بسيطة (قطعة أرض صغيرة أو حرفة خاصة)، يتولاها الشخص المعني فقط، دون استغلال جهد الآخرين، مع التأكيد على إدارة العاملين المنتجين لجميع مؤسساتهم، ووسائل إنتاجهم، بصورة ديمقراطية كاملة (=وعدم تجمدها كما كان سابقاً، في مرحلة رأسمالية الدولة (الاشتراكية) كأبشع أشكال الرأسمالية المعروفة=) وكذلك مشاركتهم في وضع خطط المؤسسة، وتوزيع أرباحها بين أجورهم المرتبطة بالإنتاج، والخدمات الاجتماعية اللازمة لهم ولأسرهم، وبين متطلبات الصيانة والتجديد، وكذلك حصة المجتمع، ممثلاً بالدولة الديمقراطية، للاستخدامات العامة المشتركة كالصحة والتعليم والمواصلات وغيرها.. إلخ. التي تقر أيضاً عبر ممثلي الشعب العامل المنتخبين ديمقراطياً في مؤسسات الدولة المختصة، بحيث يعرف العامل جيداً مردود عمله، ويشارك في توزيعه، والحصول على حقه العادل فيما يعود إليه مباشرة من كل ذلك. إذ بدون هذه المشاركة الديمقراطية الشاملة الشفافة، لا يمكن أن يتحقق الرضى في نفوس العاملين، ويعم الشعور بالعدالة، والطمأنينة الحقيقية في المجتمع بأسره.

وكذلك بضمان الديمقراطية السياسية، التي تشكل الجناح الثاني للحرية، بتعدديتها الحزبية التي لا يمكن أن تزول –واقعياً- إلاّ بزوال المجتمع الطبقي، وسائر الحريات الفردية والجماعية الأخرى المعروفة، وقيام مؤسسات الدولة الديمقراطية التشريعية القضائية والتنفيذية.. إلخ. يتم ضمان الرقابة الشعبية اللازمة في مواجهة ومعالجة احتمالات الأخطاء واستئصال بذور الانحراف.

وبذلك تكون مصالح الجماهير العاملة المنتجة في كافة المجالات (والتي تشكل أكثرية الشعب الساحقة)، المحققة في هذا النظام الاجتماعي الديمقراطي الاشتراكي المنشود، وحتى في ظل النظام الديمقراطي التقدمي الانتقالي السابق له، هي الضمانة الأساسية لاستمراريته المتطورة، وتفادي احتمالات ومحاولات الانحراف والردة، في الوقت المناسب.

وهنا ايضاً، رب قائل يقول –ومعه الحق في ذلك- وما الذي يمنع بعض القوى الطبقية المستغلة من الانقلاب على النظام الديمقراطي الانتقالي، او حتى الديمقراطي –الاشتراكي بالذات؟

والجواب، أن إلغاء الملكية الخاصة المستغلة، وتعميم ملكية المنتجين الجماعية لوسائل إنتاجهم، وإدارتها ديمقراطياً، وتوفير الديمقراطية السياسية الكاملة –كما ذكرنا- أي إلغاء الشروط المادية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للردة، ووضع الآليات لمحاصرة القوى المحافظة، بحيث يتم تجريد (المرتدين) من أسلحتهم، بل ويحول دون وجودهم من الأساس -(كطبقة متبرجزة جديدة- كما حصل في التجارب السابقة الفاشلة) من الشروط الأساسية –التي لا غنى عنها- في تفادي احتمالات تلك المغامرات الانقلابية المضادة للثورة.

ولكن –ومع ذلك كله- فالأمور لا تتم هكذا بصورة آلية سكونية، بل هي أكثر تشابكاً وتعقيداً، وتبقى الضمانة الأساسية في نضال ووعي ويقظة الجماهير الكادحة المعنية، ومدى إخلاص والتزام وصرامة طلائعها الثورية، وحرصها على تجسيد النموذج الملهم المؤمن فعلاً بالديمقراطية كنهج شامل في العمل والحياة، وكأفضل الصيغ المعروفة حتى الآن –لمواجهة الأخطاء والانحرافات، وعلاجها في الوقت المناسب، وبدون إبطاء، والوقاية من الردات الديكتاتورية، وغيرها.

وحتى يستحيل –أو على الأقل- يصعب ضرب وإسقاط الأنظمة الديمقراطية الثورية (الانتقالية)، أو الديمقراطية الاشتراكية، يجب وضع إستراتيجية حضارية شاملة لتربية وتكوين المجتمع الجديد. تنبثق عنها برامج مرحلية متتابعة ومتواصلة، تتناول كافة مجالات البنى الفوقية: الروحية والأخلاقية والثقافية وغيرها، في عملية جدلية متكاملة ومتبادلة مع تغييرات البنى التحتية المذكورة، بغرس، وتنمية، وترسخ، قيم الحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية، والشعور بالمسؤولية والحس المدني، وروحية العدالة والتضامن والإيثار والقناعة، في حدود جدلية معادلة "الحرية-الضرورة" وحبّ العمل والإنتاج، ورفض، ومحاربة الباطل، والظلم، والاستغلال، والاستبداد، والأنانية والنزعة الاستهلاكية والطفيلية. والتركيز على رفع وعي الجماهير السياسي، والقضاء ليس فقط على (أمية القراءة والكتابة) العادية، بل على الأمية الفكرية بمعناها الواسع العميق. والاهتمام بإغناء الأبعاد الروحية السامية للإنسان والمجتمع، وتشجيع الفنون والآداب، واستخدام المسرح والسينما والتلفزة والإعلام العلمي الصادق لترقية ذوق الجماهير وإحساسها الفني، وإسعادها بالمتع الرفيعة المستوى، وتسليحها بالوضوح، وتعريفها بما يدور في العالم من أحداث وتطورات هامة وخلفياتها الحقيقية، بحيث يتم تهذيب وإثراء وإرواء كافة أبعاد الشخصية الإنسانية المتكاملة، التي تتفتح وتعبر عن جماع كينونته المتميزة، ونزوعه الحضاري، كوسيلة وهدف للنظرية والرسالات، كما تتحول الوان قوس قزح الجميلة عبر حركة تمازجها وتوحدها إلى نور.
وهذا كله، يحتاج إلى عمل منظم متواصل، وزمن طويل، للتغلب على عادات مجتمعات الاستغلال السابقة الفاسدة، وترسيخ صورة المجتمع الديمقراطي الاشتراكي وقيمه الإنسانية المذكورة.

وهكذا تتجسد جدلية النظرية والتطبيق الخلاقة، ويمكن أن يتم الشفاء من مرض "انفصام الشخصية" الفردية والجماعية السائدة في مجتمعات الاستغلال الطبقي، ومظاهر الطلاق بين الفكر والعمل، والإزدواجية المضللة التي تستخدمها الأنظمة المرتدة...
• وخلاصة القول أن الضمان الوحيد هو استمرار وعي البشر، أصحاب المصلحة لا بصورة نظرية مجردة –بل بمضمونه الاقتصادي الاجتماعي الملموس، ويقظتهم وتجندهم للمحافظة على الثورة القومية الديمقراطية-المتداخلة، بالثورة الديمقراطية الاشتراكية اللاحقة، وتجسيداتها في النظام الذي يمثل كل مرحلة، مع التأكيد على دور ومسؤولية القيادات الثورية المستمرة، التي عليها ليس فقط الاكتفاء بواجب استيعاب واستلهام النظرية الثورية، بل الوعي بكل المستجدات وتوظيفها لصالح التقدم، واستخدام كل الأسس والآليات الموضوعة لهذه الغاية، وصولاً إلى ممارسة حقهم –بل واجبهم- في الثورة على جميع محاولات الانحراف والارتداد، إذا سدت أبواب ووسائل النضال الديمقراطي السلمي التي تحول دون ذلك.

فالمعجزة تكمن في نضال البشر المعنيين الواعي المنظم والمتواصل، ومن ينام على حرير (الحتميات التاريخية) يستيقظ على كوابيس الواقع الرهيبة. فالحتميات التاريخية الحقيقية لا تكون بغير ذلك.
* وخلاصة القول: لابد من دليل نظري عملي –بدل التجريبية- لكن النظرية لا تضع كل التفاصيل لكل زمان ومكان. بل تضع المبدأ –الجوهر- تبعاً لوعي واضع النظرية، وعلى ضوء المعطيات المتوفرة في زمانه، ومدى رؤيته للمستقبل.. بينما تتغير الكثير من المعطيات لاحقاً، ووفقاً لظروف المكان والزمان.. فلا احد في العالم يستطيع أن يضع لهذا العالم (نظرية شاملة إلى ابد الآبدين مثالاً عن السرعة: الحصان-والطائرة)...
فالنظرية ليست (ديانة) جديدة و(وثنيات) جامدة، وغاية في حد ذاتها، بل هي اجتهادات إنسانية لخدمة الإنسان والمجتمع.

وبالتالي فإن الثوابت الحقيقية هي: كرامة الإنسان والمجتمع، والحرية والعدالة والمساواة والتقدم والسلام الأخوي على الأرض، إذ لا تستطيع أي نظرية في العالم، لا الماركسية ولا غيرها أن تشكل (حتمية) أبدية للعالم، الذي يتطور باستمرار، بالإضافة إلى أهمية البعد الروحي في حياة الإنسان، علماً أن الإسلام (كدين سماوي) يركز على تكريم الإنسان (ولقد كرمنا الإنسان)،

ويقول حسب الحديث النبوي (إن الله يرسل كل مئة عام إلى هذه الأمة من يجدد لها دينها) أي اعتماد الاجتهاد وإعمال العقل والتدبر في مستجدات العالم لخدمة الإنسان، وفق متطلبات الحياة (وبما يعزز الثوابت في الحرية والكرامة والعدل والمساواة والتقدم والأخوة والإنسانية).
هذا مع العلم أن المجتمعات بحاجة لقواعد عامة لضبط علاقات البشر، وحماية حقوقهم، وتنظيم حياتهم، وهذه القواعد قد تتحول إلى سجون و(قبور)، فكيف يجب تفادي ذلك؟ بالديمقراطية الحقيقية الشاملة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، وإمساك الشعب بمصيره.

ومن هنا فقد اعتمد حزبنا (الاشتراكية العلمية) كأفضل الصيغ المعروفة لإقامة المجتمعات الإنسانية الديمقراطية العادلة –دون أن يطوق نفسه (بالجانب الأيديولوجي) من الماركسية، لقناعته باستحالة استيعاب الحياة بأسرها في نظرية أيديولوجية مهما كانت، لأنها قد تتحول –كما ذكرنا- إلى حلقة خانقة للحياة، لأن الحياة اغنى من النظرية، ولأن البشر يحتاجون إلى البعد الروحي في حياتهم الإنسانية حتى لا يقعون في العدمية.

ولعل فلسفة (السلسلة) المتواصلة الحلقات أفضل دليل نظري لمسيرة المجتمع.

هوامش:

1- المصدر "تقرير الأمم المتحدة للتنمية في عام 1996"، المذكور سابقاً.

2- «إن اللجوء إلى فكرة "الأخطاء في التطبيق" يعني محاولة الرد على الأطروحة الليبرالية انطلاقاً من التسليم بصحة معادلتها الأساسية.

وهي محاولة محكوم عليها بالفشل سلفاً. فهي أولاً تفتح الباب للحجة القائلة أنه إذا كانت تلك "الأخطاء في التطبيق" بالحجم الذي يؤدي بنظام اجتماعي كامل إلى الانهيار، أليس من الضروري إذن البحث عن جذور هذه الأخطاء في النظرية نفسها؟ إن إيديولوجيا تسمح بالوقوع في هذا القدر من الأخطاء، هي إذن أيديولوجيا لا تصمد أمام اختبار الحياة. وهذا هو بالفعل ما يقوله منظرو الليبرالية الحديثة، وهي ثانياً تعطي المنطق الليبرالي سلاحاً لتبرير مساوئ الرأسمالية وأزمتها، بكونها مجرد أخطاء في التطبيق، لا تمس صحته وسلامته الأساس الذي يقوم عليه المجتمع الرأسمالي والأيديولوجيا الليبرالية. والحقيقة أن هذه هي الفكرة التي تلجأ إليها المدارس الليبرالية الحديثة في تفسيرها لمظاهر الخلل في المجتمع الرأسمالي سواء على الصعيد الاقتصادي، أو في مجال الاجتماع والسياسة. وهي هنا في موقع أقوى وأكثر تفوقاً من منظرينا "الاشتراكيين" فهي تستطيع، على الأقل، أن تزعم أن "الأخطاء" التي ينطوي عليها نظامها وأيديولوجيتها ليست بالجسامة التي تؤدي بها إلى السقوط والانهيار، وأن هذا يثبت تفوقها.

وهكذا يعود السجال إلى النقطة التي ابتدأ منها، ويبقى يدور في حلقة مفرغة. ولا سبيل إلى كسر هذه الحلقة المفرغة إلا بدحض الفرضيات التي ينطلق منها السجال، أي بالخروج به من دائرة "الأيديولوجيا" إلى دائرة التحليل الملموس للواقع الملموس، من دائرة التفسير المثالي للتاريخ إلى دائرة المفهوم المادي للتاريخ، المفهوم الذي يبحث عن عوامل التغيير ليس في الأفكار بل في الصراع الدائر في الواقع، وضمن شروط تاريخية محددة بين قوى اجتماعية، تلعب الأفكار (الوعي) دور التعبير عن مصالحها في الصراع، دور المنظم والمعبئ لقواها في الصراع، لا دور المحرك للصراع نفسه". (ص 206-207) من الجزء الأول: كراس "حول الأزمة في الحركة الثورية العالمية واتجاهات التغيير في عالمنا المعاصر" [التقرير النظري المقدم إلى المؤتمر الوطني العام الثالث-للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين] الذي ننصح الرفاق بقراءته كاملاً بجزئيه الأول والثاني...
ونضيف هنا – على ما ورد في هذه الفقرة الهامة، ما يوضح أن الوعي – والبنية الفوقية عامة، لست مجرد انعكاس آلي للبنية التحتية، والتأكيد على العلاقة الجدلية المتبادلة التأثير بين الوعي والواقع الاقتصادي الاجتماعي القائم.

3- لقد تبنى حزبنا في "بعض المنطلقات النظرية" التي أقرها المؤتمر القومي السادس /1963/ "العلمية والثورية"؛ العلمية: في تحليل الواقع وفهمه، والثورية: في كيفية وأساليب تغييره، وبناء المجتمع الاشتراكي الجديد، مركزاً على الاشتراكية العلمية بالذات، دون التعرض للجانب الفلسفي المادي من النظرية.

وقد استمر الصراع الخفي والظاهر حول "المسألة النظرية" داخل الحزب.. منذ نشأته.. وشكلت قرارات المؤتمر القومي السادس محطة متقدمة أساسية، ثم حسم لصالح النهج اليساري بعد حركة 23 شباط 1966، وحتى مرحلة "الازدواجية" ثم قيام الردة 1970، حيث تحرر فكر الحزب بعد ذلك –رغم كارثة ضياع السلطة المعروفة- من إرهاب وابتزاز بقايا القوى اليمينية والانتهازية داخل الحزب، فواصل تطوره، الذي كرسه المؤتمر القومي الحادي عشر صيف /1980/ باعتماد النظرية العلمية كمنهج في التحليل ودليل عمل ثوري، مع تكليف اللجنة المركزية القومية ومكتبها السياسي، بإعداد وتقديم تقرير "أيديولوجي" معمق وشامل لا يقتصر فقط على استعراض الجوانب النظرية التقليدية المعروفة والمعتمدة عالمياً، بل على استخدام هذه النظرية العلمية في دراسة تحليل وفهم واقع وقضايا الأمة العربية الأساسية، والمسائل والقضايا والمهام الكبرى المطروحة على الثورة القومية-الديمقراطية-الاشتراكية المتداخلة في وطننا العربي في كافة المجالات، على ضوء ذلك. ومن ثم الاستراتيجية الثورية لتحقيق المشروع العربي الحضاري المعاصر، ولكن (الجهة الحزبية) المكلفة بذلك، عجزت – مع الأسف- عن القيام بهذه المهمة الضرورية التي لاتزال قائمة حتى الآن، وخاصة بعد انهيار المنظومة الاشتراكية.

4 - بما أني لست من علماء الدين المختصين، ولا أريد أن أخطئ في هذا المجال، أكتفي بذكر بعض النقاط المعروفة، التي تؤكد عدم وجوب الخلط بين النظرية الصحيحة والتطبيق الخاطئ، وبين جوهر الدين وممارسات بعض المنافقين وأنظمة الحكم الرجعية المستبدة التابعة، التي تحاول التستر بالدين –لحماية عروشها وتضليل الجماهير، والمناقضة كلية: وجوداً وممارسة للدين، وكون الانحراف لا يتوقف على وجود التعليمات فقط، مهما بلغت من السمو، لأنه ينطلق من مصالح المنحرفين ومواقعهم الطبقية في المجتمع. فالقوى الاجتماعية (العليا) المنحرفة، لا ينقصها الوعي بتعاليم الدين، التي تخالفها عمداً، بالانحياز إلى مصالحها الطبقية، بينما يسهل عليها تضليل وخداع عامة المواطنين المتدينين البسطاء، الذين لم تتح لهم الظروف اللازمة لامتلاك الوعي الكافي بجوهر الدين.

فلم يكن (بابوات) روما، الذين تحالفوا مع الأنظمة الملكية الإقطاعية الطاغية في أوروبا طيلة العصور المظلمة، وكانوا هم أيضاً من كبار الإقطاعيين، يجهلون مقولة السيد المسيح المشهورة (على سبيل المثال): "الحق أقول لكم إن دخول الجمل من سَمِّ الخياط أسهل من دخول الغني ملكوت السموات".

حيث دور (معظمهم) حتى الآن وخاصة (البابا الحالي) بنديكت السادس عشر والسابق بالذات يوحنا بولس الثاني في خدمة الإمبريالية والصهيونية.

(وتبرئة اليهود من دم السيد المسيح، خلافاً لما كان معتمداً، لدى المسيحيين قبل ذلك، علماً أن الإسلام ينفي (صلب السيد المسيح) (بالآية "لم يصلب ولكن شبه لهم...) ومحاربة كل الحركات الشعبية والثورية المناهضة للأنظمة الفاشية العميلة في أمريكا اللاتينية خاصة، وحيثما وجدت، وفي مطاردة و(تكفير) "القساوسة الحفاة" الذين، انطلقوا من فهمهم الحقيقي للدين المسيحي، لمساندة تلك الثورات والمشاركة فيها إلى جانب الثوريين اليساريين والشيوعيين بمصلحة الفقراء والكادحين المستغلين في تلك البلدان.

ودور (البابا السابق) يوحنا بولس الثاني البالغ النشاط في هذه المجلات، وفي تخريب المعسكر الاشتراكي، (بدءاً من بولونيا بالذات)، أشهر من أن يذكر، ولم يسبق له مثيل من قبل، بالإضافة إلى استمرار (الكنيسة) الكاثوليكية خاصة، كواحدة من أغنى المؤسسات وكبار الملاك في العالم.
• أما بالنسبة للإسلام خاتم الأديان السماوية وأعظمها، بتعاليمه الشاملة المعروفة، فنذكر في هذا المجال، كنماذج معبرة فقط: ما جاء في الآية الكريمة: التي تلاها الرسول الكريم في خطبة الوداع: «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا» [سورة المائدة /الآية 03]..

وكذلك ما جاء في الآية 38 من سورة الأنعام: «ما فرطنا في الكتاب من شيء...» ثم الحديث النبوي الشريف: «لقد تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله».

ومع ذلك، بدأ الصراع على السلطة والخلافة، في سقيفة بني ساعدة بين المهاجرين والأنصار خاصة، الذين رفعوا شعار: «منا أمير ومنكم أمير» قبل أن يدفن الرسول (ص)، وإذ أمكن حلّ ذلك الخلاف سلمياً، بفضل حكمة الصحابة، وإيمان وحرص جمهور المسلمين الأولين من المهاجرين والأنصار، وقرب عهدهم بالنبي.. فلم يبق الأمر كذلك لاحقاً، إذ لم يلبث الصراع على السلطة أن تفجر بكل أبعاده الشرسة، حيث تمَّ اغتيال ثلاثة من الخلفاء الراشدين الأربعة (وإن كان اغتيال الخليفة عمر بن الخطاب بمؤامرة فارسية معروفة)، ثم تحول إلى معارك دامية، قادها نفر من الصحابة بالذات، وخسر فيها المسلمون ما يزيد كثيراً عما خسروه في حروبهم مع المشركين!! حيث بدأت الانشقاقات، وظهور الفرق العديدة والمذاهب المتنافرة، التي تعتبر في معظمها (رغم تسترها بالدين) بالمفهوم الحالي نوع من (الأحزاب والتكونات السياسية) المتصارعة على السلطة.
ومنذ ذلك الحين - وحتى الآن- كان كل طرف – وما يزال- يستخدم الإسلام لتثبيت شرعيته وأنه على الحق، وغيره على الباطل، وله مفتوه الذين يفسرون له القرآن والحديث لمصلحته، بل يخترع بعضهم أحاديث جديدة منسوبة "غير مثبتة وفق أسس التوثيق الإسلامية المعتمدة جمعياً"، وحتى وصل الأمر –أحياناً- ببعضهم إلى تكفير البعض الآخر، وإجازة الاقتتال الضاري، واستباحة دماء المسلمين، حتى بين الصحابة وآل البيت. حيث بلغت حدوداً مأساوية فظيعة، انعكست على التاريخ العربي الإسلامي حتى الآن، كما يعرف الجميع، خلافاً لمبادئ الإسلام وتعاليمه الواضحة الصريحة، التي لا تسمح بأي شيء من ذلك بأي حال، وإذا كانت بعض الأحداث والتصرفات الشاذة، تقع بسبب الجهل ونقص الوعي بالدين، كالردَّات التي قامت بعد وفاة الرسول، أيام خلافة أبي بكر الصديق، والتي يمكن تفسيرها بجهل القبائل المرتدة بحقيقة الإسلام، كما جاء في الآية 14 من سورة الحجرات: «قالت الأعراب آمنا. قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمَّا يدخل الإيمان في قلوبكم...»، وذلك لحداثة أولئك الأعراب بالإسلام، وكون القبيلة كانت تدخل الإسلام جماعياً بدخول زعيمها، ولم يتيسر الوقت الكافي، والظروف المناسبة واللازمة، لتثقيفهم وتفقيههم بأمور الدين والسياسة.

فإن تلك الصراعات الدموية الكبرى المذكورة، لم تحدث بسبب نقص وعي القادة المتصارعين بالدين، وفيهم -من فيهم- من كبار الصحابة وكتاب الوحي، وبعض المبشرين بالجنة، وكذلك الحال بالنسبة لمعظم حكام الأنظمة الأموية والعباسية اللاحقة، حتى في العصور الذهبية الحضارية الرائعة بممارساتهم الملكية العائلية الوراثية والعشائرية الاستبدادية.. وأنماط حياتهم الباذخة السفيهة المعروفة، وغناهم الفاحش، وتحكمهم ببيت مال المسلمين...إلخ (باستثناء الخليفة العظيم عمر بن عبد العزيز، الذي اغتاله (أهله) بالسم هو وابنيه، لأنه جردهم من الامتيازات غير المشروعة، وجاهد بإيمان راسخ، وعزم لا يلين، لتطبيق مفاهيم الإسلام الصحيحة)- وتحقيق العدالة والمساواة والأمن بين المسلمين جميعاً.

علماً أن تلك الصراعات، التي حولت الإسلام الثوري إلى ملكية استبدادية، لم تستطع منع المد الإسلامي الصاعد إلى معظم أقطار العالم، لأن تيار الإسلام التاريخي العظيم كان أعمق وأقوى من جميع تلك الصراعات، التي كانت تطفو على سطحه، رغم أهميتها البالغة، كالزبد والحطام على سطح النهر الكبير المتدفق، التي غشت سطحه تماماً، وكادت تحجب صورته الحقيقية.

ناهيكم عن عصور الانحطاط المتواصلة، بعد انهيار مركز الخلافة في بغداد وحتى الآن، حيث تمثل الأنظمة الرجعية الحالية لتي تدعي الإسلام –والعربية منها خاصة- حلفاء وأتباع للإمبريالية المعادية للعروبة والإسلام، وهذا كلّه لا يضير الإسلام في شيء، ولم يستطع كبح مده الحضاري الكاسح الذي انتشر –رغم ذلك- في معظم أقطار الأرض، وليس من مسؤوليته قطعاً بل هو نقيضه تماماً، ولعل وعي جماهير المسلمين بجوهر الإسلام وتمثلهم الصحيح لتعاليمه وقيمه، سيساهم ولا شك، في تغيير هذه الأنظمة الاستبدادية الفاسدة، ويسهل الحوار الديمقراطي، الذي قد يؤدي إلى تحالف –وربما توحيد- العديد من الفرق والمذاهب الإسلامية المختلفة حالياً في مجرى الإسلام العام الموحد.

5- ص 218 + 219.



#إبراهيم_معروف (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عن الديمقراطية.. هذا -الترف (Luxe)- بعيد المنال في بلداننا ا ...
- مذكرات الدكتور إبراهيم ماخوس - الحلقة الرابعة -
- مذكرات الدكتور إبراهيم ماخوس - الحلقة الثالثة -
- مذكرات الدكتور إبراهيم ماخوس - الحلقة الثانية
- حزب البعث الديمقراطي الاشتراكي العربي - مراجعة وتوسيع وإغناء ...
- الحل السياسي طريق الخروج من الأزمة – المأساة التي تعيشها سور ...
- وضع جميع الأوراق بيد الخارج ليس حلاً وطنياً
- وقفة مع بيان للمنبر الديمقراطي السوري
- مبادرة هيئة التنسيق الوطنية والبحث عن مخرج وطني من الأزمة ال ...


المزيد.....




- نتنياهو يعلق على قبول حماس وقف إطلاق النار والسيطرة على الجا ...
- لوكاشينكو: العالم أقرب إلى حرب نووية من أي وقت مضى
- غالانت: عملية رفح ستستمر حتى يتم التوصل إلى صفقة لإطلاق سراح ...
- الرئيس الجزائري: لا تنازل ولا مساومة في ملف الذاكرة مع فرنسا ...
- معبر رفح.. الدبابات تسيطر على المعبر من الجانب الفلسطيني مع ...
- حرب غزة: هل يمضي نتنياهو قدما في اجتياح رفح أم يلتزم بالهدنة ...
- اتحاد القبائل العربية في سيناء.. بيان الاتحاد حول رفح يثير ج ...
- كاميرا مثبتة على رأس الحكم لأول مرة في مباراة الدوري الإنكلي ...
- بين الأمل والخوف... كيف مرّت الـ24 ساعة الماضية على سكان قطا ...
- وفود إسرائيل وحماس والوسطاء إلى القاهرة بهدف هدنة شاملة بغزة ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - إبراهيم معروف - مذكرات الدكتور إبراهيم ماخوس - الحلقة الخامسة –