أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - عبد الرزاق دحنون - ثماني سنوات عجاف على رحيل: هادي العلوي البغدادي















المزيد.....


ثماني سنوات عجاف على رحيل: هادي العلوي البغدادي


عبد الرزاق دحنون

الحوار المتمدن-العدد: 1689 - 2006 / 9 / 30 - 09:32
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


ثماني سنوات عجاف على رحيل: هادي العلوي البغدادي
بقلم: إعداد: عبد الرزاق دحنون
Friday, 29 September 2006
مثقفاً كونياً لم يترجّل عن ركابه
من أقوال هادي العلوي
الصلاة اليومية إلى روح الكون
سلام عليكِ أيتها الروح السارية في وجودي.
أيتها النار الأبدية التي تتوقد في صدري فتحميه من برد النسيان.
سلام عيكِ أيتها الحروف العاليات.
هأنذا أبدأ يوماً جديداً من صراعي ضد الأغيار الأربعة مستعيذاً بك من الخساسات الثلاثة
ومستمداً منك القدرة على الاقتحام
يا معيني على البلوى أعنِّي على التأويب في ديار الهم والغربة.
- الأغيار الأربعة: الحكام، المثقفون، الرأسمالية، الاستعمار
- الخساسات الثلاثة: السلطة، المال، الجنس

- 1 -
صباح الأحد السادس والعشرين من أيلول سنة 1998 رحل عن دنيانا المفكر الجليل الباحث هادي العلوي سليل الحضارتين الإسلامية والصينية. وها قد مرّت ثماني سنوات عجاف على انفلات قدمه من ركاب الحياة التي أعطاها أكثر مما أخذ منها لأنه صوفي النزعة والسلوك وانطلق حصانه دون فارسه يجول سهوب آسيا متلمساً بين الخَلقْ مشاعية قادمة.
بموت هادي العلوي يشعر المرء بأنه فقد شـيئاً من نفسه، مع أنه لا شيء يحمل إلينا المواساة إلا أننا لن ننساه مدى الحياة لأنه كان صرخة مستديمة في وجه الظلم والعبودية. ونواسي أنفسنا بأن الحظ حالفنا لنعيش معه ونعرفه ونحبه ونتعلم منه ونحني رؤوسنا نحن والكثيرون من أهل هذا العصر أمام إنسانيته الجبارة المقاتلة، وبأن الكثير من الناس سيولدون ويفتخرون به.
أحياناً أُفاجئ نفسي وأنا أفكر على النحو التالي:
هرب هادي العلوي من الشهرة والأضواء، بل كان يمقتهما و يعدّهما من خساسات المثقفين مع ذلك وصل إلينا بعلمه وفضله، أحببناه وتلهفنا لقراءة أي بحث يكتبه، لأنه كان باحثاً من الطراز الفذ. وعندما جاء إلينا في معرة النعمان كي يجاور أحمد بن عبد الله التنوخي ويأنس به ويكتب عنه دراسة لعلها أجمل وأوضح ما كُتب عن أبي العلاء المعري على مرِّ العصور، وقد صدرت في كتاب (المنتخب من اللزوميات نقد الدولة والدين والناس) عن مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي سنة 1990.
والحقيقة أن جهل الإنسان لهذا الباحث الجليل لا يُغتفر إذا كان لديه أدنى اهتمام بعلم اللغة والفلسفة والتاريخ والتراث الإسلامي والصيني.
- 2 -
هادي العلوي والفلسفة الصينية

من منجزات هادي العلوي الكبرى في رأيي اكتشافه الفلسفة الصينية وشرحها لأهل المشرق العربي. يقول هادي العلوي في فاتحة كتابه (المستطرف الصيني) الذي ألفه في بكين سنة 1992: (حين تأهبتُ للرحيل من بغداد إلى الصين سنة 1976 بمعونة صديقي الشيخ جلال الحنفي البغدادي، الذي كان يدرِّس اللغة العربية في جامعة بكين، أخبرني أن الصينيين طلبوا منه أن يرشح لهم من يحل محله ممن يرضى خلقه ودينه، فاختارني - لم يكن في حسابات سفري أن أجدد ذكرى ابن بطوطة. إذ كان الغرض أن أغادر بلدي فراراً من الاضطهاد إلى بلد آمن. وحين استقر بي المقام، بدأت تتكشف لي معالم حضارة مجهولة عندي كما هي عند بقية الأحفاد المنقطعين عن ابن بطوطة، ممن استهلكتهم معرفتهم للجار الأوربي فذهلتهم عن أنفسهم. وكان اكتشافي حذراً متهجساً، لأن الصين لا تفتح نفسها للأجنبي. وكان اضطراري إلى الاشتغال لكسب الرزق يأخذ مني مواعيد اللقاء مع أهل الصين، فلا يبقى منها غير الهنيهات. وربما حسدتُ ابن بطوطة، الذي جاء سفيراً من ملك الهند إلى ملك الصين، بينما جئتُ هارباً من ملوكنا أحمل سفارة الوطن والأمة التي ترفع الحصانة الدبلوماسية عن حاملها. وأحمد الله على أي حال أنه لم يكن هروباً كهروب ابن هبّار من البصرة ساعة دخلها الزنج وأخرجوا منها التجار.
كان الأول الذي ملأ هنيهاتي بالمعنى هو المناضل الأمميّ إسرائيل ابشتاين. وكان قد دخل الصين في السنة الثانية من عمره ولازمها حتى أكمل عامه السادس والسبعين. وكان من فضله علي أن نبهني إلى الفلسفة الصينية، وهداني إلى مصادرها المكتوبة بالإنجليزية. فأقبلتُ عليها حتى استوفيت الإطلاع على الخطوط العامة للمدارس الفلسفية. ثم شرعت أتدخل في شؤون أهل الصين مخترقاً محرماتهم لكي أتعرفهم عن كثب. وقد أودعت الخلاصة مما عرفته عن أهل الصين في كتاب سميته (المستطرف الصيني)إذ هو من نفس طراز(المستطرف الجديد) الذي تضمن الخلاصة مما عرفته عن ماضينا، الذي أردتُ منه مزاحمة حسين مروة - رائدي الأكبر - في سيرورة إنهاض تحتاجها أمة غافلة بتنبيهها إلى إرثها الحضاري، الذي كان سيعصمها من الذل لو لم تنقطع عنه. وفي (المستطرف الصيني) أريد من العرب أن يعرفوا من ثقافة الشرق ما يعادل معرفتهم بثقافة الغرب محدوّاً بالأمل في أنهم سيعيدون اكتشاف أنفسهم ليس فقط من خلال تراثهم، بل وأيضاً من خلال الثقافة الشرقية التي هي من نسيجهم نفسه. وليس في الكتاب ما يستهدف خدمة الصين لأنها أنعمت عليّ بالأمن والحياة بعد أن تعذَّر في وطني العربي، لأني لست من أهل الإعلام).
سيجد القراء أن أوسع أبواب كتاب المستطرف الصيني هو باب الفلسفة لأن هادي العلوي وجد فيها حياة الحكمة الشرقية التي يتمناها بعض المنوّرين في الغرب وتستعصي عليهم. وقراؤنا في حاجة إلى باب الرحمة والحنان البشري مع حق الدفاع عن النفس في وجه الثروة والقوة بعدما عانوا مما يزيد عن الكفاية من قهر الحكام وتسلط الأقوياء، والحكمة الصينية هي ما يؤلف مع التصوف القطباني في الإسلام فرعين متكاملين للحس الإنساني يستريح إليهما المتعوب، فيما يجهدان به كلاً بوسائله الخاصة لرعرعة شخصية إنسانية حرة بازدراء ما يتمتع به الأقوياء وحكامهم من وسائل التسلط. وهما في ذلك مسكونان بالهاجس البشري القديم، هاجس إخراج الناس من ورطات الذل والفقر وتمليكهم ما يستغنون به عن التعب والكد، مما لا يتم دون إخراج الذهب واليشب - جوهر ثمين - من قصور الأباطرة إلى بيوت الناس.

- 3 -
من أهم ما كتب هادي العلوي في سنوات عمره الأخيرة كتابه الملحمي (مدارات صوفية) تراث الثورة المشاعية في الشرق الصادر عن دار المدى سنة 1997. يقول في تقديم هذا الكتاب:
(جاء في مجمله لتعزيز الوجدان، الشيوعي عند أجيالنا الجديدة لمساعدتهم في الخروج من حجاب العقيدة إلى فضاء الوجدان، ولزعزعة المألوفات التي تعلموها من الثقافة المترجمة. فلكي يكون الإنسان شيوعياً يجب أن يكون له قلب شيوعي لا مجرد فكر شيوعي، بل إن الشيوعية لا صلة لها بالفكر بل هي ليست من الثقافة في شيء، بل إن أسوأ غرارات الشيوعيين هم المثقفون.
الشيوعية أو المشاعية كما أحبُ أن أسميها موقف وجداني مؤنس بحب الناس وكره الدولة والأغنياء وأهل الدين. وهذا الموقف يأتي من داخله ولا يحتاج إلى معرفة إضافية).
مثل هذه الأفكار عند هادي العلوي كثيراً ما تصدم أهل الثقافة المترجمة، فيقولون عن الرجل إنه خَرِف ولا يعقل ما يقول مع أنه يدري ويعقل. وإن فهم أفكاره مهمة غير شاقّة، فهو في كل ما كتب سعى لتأصيل ثقافة شرقية خارجة عن دائرة الهيمنة ومستندة إلى المثقفية الشرقية المتماهية مع الجماهير. ومن هنا حديثه عن الثقافة الأُمية والمثقف الأمُي والشيوعي الأمي والنبي الأمي مع وجوب التميز بين الأمي والجاهل، فالجاهل قد يكون مثقفاً كبيراً، والأمي إذا نظرناه في غرارية الفرد العادي قد يكون أصح وعياً من المثقف الكبير. فالأمُية لا ترادف الجهل بل قد تجد ترادفاً بين الجهل والثقافة.
الأمي هو الفرد العادي، من عامة الناس، الذي لا يقرأ ولا يكتب. والجاهل قد يقرأ ويكتب ويكون له نصيب من الثقافة، لكنه يسيء فهم حقائق الأشياء، ويفتقر إلى الوعي الاجتماعي والسياسي. ويصدر عن الجاهل المثقف من التصرفات والأفكار الضارة أكثر مما يصدر عن الأُمي.
والفكرة الأخرى التي صرّح بها هادي العلوي وصدمت أهل الثقافة المترجمة وأهل الدين معاً هي الآتية: (روحانية الحكيم نقيض الدين. وهذه صرّح بها شيخ المعرة الذي يرجع إليه كشف النقاب عن سر مجهول يخالف ما عليه الناس. فالدين والروح متخالفان. الدين علاقة حسية بإله مجسم أصبح مرئياً وملموساً عند الوثنيين، ورجل جالس على العرش عند السماويين ومن هنا الجوهر الحسي البدني للشخصية الدينية. إن رجل الدين يحمل عقيدة دنيوية في مجمل تفاصيلها التي تشمل العالم الآخر، لأن الآخرة نعيم مادي حسي يتمتع به الجسد ويكون مكملاً لنعيم الدنيا أو معوضاً عنه.
وليس للروح ما تفعله في هذه العلاقة الحسية وقد انتبه المعري إلى المنحى اللذائذي للشخصية الدينية بينما رسم بتجربته الخاصة صورة النقيض الروحي للملحد. فالروحانية وصف حاصر للحكيم، واللذائذية الحسية أمر مشترك لرجل الدين ورجل الدولة. وبين الدين والدولة اتفاق حولها، لكن الدين يتميز عن الدولة بمبدأ سعادة الدارين - التي تجتمع لرجل الدين دون صاحب الدولة الذي يقتصر نصيبه على الدنيا.
الروح نتاج مرحلة متقدمة في المعرفة وقبل هذه المرحلة لا يمكن الحديث عن الروح والروحانيات إنما يوجد الغيب والغيبيات، التي تشكل جانباً من البُنى الدينية عند الوثنيين والطوطميين ثم السماويين.
وعندما نتحدث عن الروح في هذه المرحلة المتقدمة من المعرفة يمكننا استخلاص عناصرها المكونة بالاستناد إلى سيرة الحكماء والمفكرين الذين سلكوا هذا الدرب.
الروح أولاً تُلغي تشخص الذات الإلهية فلا يكون الإله تمثالاًً مرئياً أو طوطمياً نباتياً أو حيوانياً ولا نوراً جالساً على عرش، يأمر وينهى وحوله أعوان ينفذون أوامره. وبإلغاء هذا التشخيص يصبح الإله قوة داخلية، وهو لكي يكون كذلك يجب أن يكون جاهزاً بسيطاً، لأن المتشخص لا يسري في الموجودات. ويأتي من هنا إسباغ صفة الروح على الوجود الحق، أو التاو عند أهل الصين.
وعند هذه المرحلة ينتهي الدين أي تنتهي التصورات الحسية للألوهية مما يترتب عليه إنكار الإمكان الذي ينتج النبوة، لأن النبوة تأتي من الذات المتشخصة. أما القوة السارية في الموجودات، فغير واعية وغير عاقلة وهذا التصور يُمهد للمفهوم الفيزيائي عن الوجود).
- 4 -
من التراث إلى الماركسية
ولد هادي العلوي في بغداد سنة 1932 ونشأ في (كرادة مريم) وهي ضاحية ريفية من ضواحي بغداد يصدق على أهلها وصف فريدريك إنجلس: فلاحون مستقرون لكنهم في حالة انحطاط.
والده عامل بناء أمي، وجدّه السيد سلمان فقيه لم يدركه، فقد مات وعمر هادي العلوي خمس سنوات. ولما بلغ الرابعة عشرة من عمره وبدأ يميل إلى القراءة عثر على بقايا مكتبة الجد التي أهملها أولاده الأميون، ومنها نهل علومه الأولى. حفظ القرآن ونهج البلاغة. ولما مضى في قراءة مصادر الفقه والتفسير والتاريخ تبين له حقيقة أولية هي التي كانت نقطة الانتقال، وهي أن التاريخ الإسلامي ليس من عمل السماء بل من عمل البشر.
أنهى دراسته الثانوية سنة 1950 وتخرج من كلية التجارة والاقتصاد بتفوق سنة 1954، وزاغ عن مصافحة جلالته حين وزع الشهادات على المتفوقين، لأنه اعتقد بأن جزءاً غير يسير من مأساة الشعب سواء في جانبها الوطني أو الاقتصادي تعود إلى تخاذل الأسرة المالكة وخضوعها لإرادة الأجنبي.
درس هادي العلوي التراث العربي الإسلامي بعمق، وساح في كل أطرافه مكاناً وزماناً، دخل التراث عن طريق الدين. فقد قرأه بحكم نزعته المتدينة في صباه والموروثة عن جده السيد سلمان. وكان قد وقع بين يديه كتاب الماركسي اللبناني جورج حنا، والمعنون (ضجة في صف الفلسفة) فاستأنس به كثيراً، وهو كتاب بسيط يعكس شفافية جورج حنا وأسلوبه الظريف الطليق. وهذا يعني أن هادي العلوي انتقل إلى الماركسية من خلال التراث نفسه.
ولم يتخلّ عن التراث لأنه صار ماركسياً، كما يفعل كثيرون عندما ينتقلون من حالة التدين أو الاعتقاد فينبذون كل شيء وراءهم، ليتأدبوا بطريقة أحادية، لأن دراستهم السابقة للتراث إيمانية وليست شكيّة. والدراسة الإيمانية لأي مذهب تمكن من الانتقال الفجائي والقاطع إلى المذهب الآخر. إن الطريقة المثلى للتطور الفكري عند الإنسان كما اكتشفها هادي العلوي بتجربته الشخصية ومن قراءته لتجارب مفكري الإسلام في عصورهم الذهبية هي أن يكون تداخلياً وليس ارتدادياً، وذلك حين ينطلق من نقد المقروء بالاستناد إلى معرفة فلسفية. وأغلب الظّن أن الذي مكّن هادي العلوي من السير في درب الماركسية الرحب هو تأثيرات وضعه الطبقي في العائلة، لأنه عاش الفقر والجوع مع والدته مما غرس في وعيه المبكر كرهاً للأغنياء ولدولة الأغنياء. ومما زاد الطين بلّة اكتشافه أن الإسلام يبيح التملك الخاص ويسمح بتقسيم الناس إلى مالك ومحروم وخادم ومخدوم. ترافق ذلك مع استمراره في القراءة واكتشافه المزيد من النقاط الحساسة التي صدمت وعيه الطبقي ونزعة الشك والبحث عنده وعدم خضوعه للجو السائد، وهذه حقيقة زاملته منذ الصغر. كل ذلك رفده كي ينتقل إلى صفوف الماركسيين.
في أوائل الخمسينيات اكتشف جريدة (الأهالي) لصاحبها المناضل الوطني كامل الجادرجي فصارت جريدته المفضلة.في نفس الفترة الزمنية تعرف إلى (علي الشوك)، أملأ مثقف عراقي وأحد أميز المثقفين في العالم العربي. توطدت معه علاقة متأخرة في الزمن لكنها أضافت الكثير إلى مخزونه المعرفي. والأهم في هذه العلاقة أنها ساعدت هادي العلوي على التخلص من عناصر تخلف حضاري حملها معه من بيئته البائسة المتحللة حضارياً، كان علي الشوك مصدر تأهيل للوعي والسلوك الحضاري واسترفاده.
بدأ هادي العلوي نشر بحوثه بعد أن استكمل أدوات المنهج الماركسي، وكان أول بحث قد نُشر في مجلة (المثقف) سنة 1960 التي كان يصدرها العّلامة الفاضل الباحث علي الشوك، وكان البحث عن أبي حيان التوحيدي وكتابه (مثالب الوزيرين).
- 5 -
هادي العلوي من المجاهدين الكبار عمل من خلال بحوثه وكتبه على كشف مآثر تاريخنا وخطاياه دون انحياز أو مستبقات عقائدية مع الاستعداد دوماً لتقبل التفكير في الأضداد والنقائض في أي مسألة يختلفون عليها.
إن العقيدة هي شر ما يملكه أهل العلم، وهي الرقيب الداخلي الذي لا يقل سوءاً عن الرقيب الرسمي. والمسؤولة عن تكوين الوجدان القمعي للأفراد ومصادرة حرية الضمير. وهي وإن كانت مفيدة لتحريك الجمهور في منعطف تاريخي معين، يجب أن تبقى في منأىً عن العقل الباحث لئلا تكون كما يقول الغزالي حجاباً يمنع من النظر إلى حقائق الأشياء. فمثلاً حين يُفرِّق هادي العلوي بين إسلام حي وإسلام ميت يرجع إلى التفريق بين إسلام الدين وإسلام الحضارة. فالإسلام كمصطلح تاريخي يشتمل على العنصرين، وقد عاشا معاً فيما نسميه العصر الإسلامي، وهو عصر الحضارة الإسلامية الذي بدأ وانتهى. بمعنى أنه لم يعد قائماً، أي أننا لا نعيش الآن في عصر الإسلام. ولقد تعايش النمطان من خلال الصراع واقتسما الساحات، وكان لكل منهما بصماته على مجمل السيرورة التاريخية لذلك العصر.
إسلام الحضارة يشتمل على العلوم والفلسفة والفقه بوصفه حقوقاً، وعلم الكلام بوصفه فكراً فلسفياً و ثورة اجتماعية، والتصوف بوصفه معارضة.
أما إسلام الدين فيشتمل على العقائد والعبادات والفقه بوصفه شرعاً دينياً، وعلم الكلام بوصفه لاهوتا،ً والتصوف بوصفه منحى غيبياً.
مع حلول القرن الثامن الهجري، توقفت بوجه عام الفعالية الحضارية فلم تبق الفلسفة ولا الفلاسفة ولا التصوف بمنحاها الأصلي، ولا علم الكلام كفكر فلسفي. كما توقف مد الثورة الاجتماعية وحركة المعارضة. في الوقت الحاضر لدينا شيوخ دين وليس عندنا ابن رشد أو الشيرازي، عندنا الدرويش وليس عندنا محيي الدين بن عربي.
وفي ذات مرة مالحهُ صديقه الراحل يوسف عبد القادر فقال: أنت يا هادي رحمك الله إذ أخرجك من الكرادة الشرقية، ولولا ذلك لكان طول عمامتك ذراعين ولحيتك ذراعاً. مع ذلك بقي هادي العلوي ملتصقاً بمهده الريفي الذي عبر منه إلى سلك التصوف. فقد أبكاه منظر المتعوبين والجياع، وهكذا صار من أتباع ماركس الحكيم. واستطاع التعامل مع الماركسية بعيداً عن الدين الذي تخلص منه في وقت مبكر، لأن التحرر من الدين بالفلسفة يضمن من جهة عدم العودة إليه ومن جهة أخرى عدم اعتناق دين جديد.
انضم هادي العلوي إلى هيئة تحرير مجلة (النهج) التي كانت تصدر عن مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي. وراح ينشر على صفحاتها دراساته المهمة، وقد أضاف إلى مجلة (النهج) بعداً جديداً كانت بأمس الحاجة إليه، وقد ساهم في إعادة تأسيسها.
كان شعلة متوهجة يعمل في التحرير يكتب ويهمش ويبدي الرأي في الكثير من القضايا المطروحة. وقد تميزت فترة ارتباطه بالنهج بغزارة الإنتاج وارتقاء في النوعية. كان ينتج وكأنه في سباق مع الزمن، وكان يريد أن يخلّف لنا شيئاً من روحه وقد فعل.
وقد نعته أسرة تحرير مجلة (النهج) في يوم وفاته قائلة: (أسرة النهج إذ تنحني اليوم إجلالاً لذكرى الزميل الراحل تتقدم بأحر تعازيها لأسرة الفقيد. وداعاً أيها الراحل الكبير نفساً وفكراً.. وداعاً أيها الزميل الذي سوف يبقى معنا ما بقينا.. وداعاً يا نبراسنا الذي لا ينطفئ).
عاش هادي العلوي سنوات عمره الأخيرة في ضاحية د ُمّر السكنية في مدينة دمشق. وعلى باب بيته تطالعك عبارة تقول: مرتقى الحضارتين.
رحل عن دنيانا في خريفٍ باهت وحزين، دفن في مقبرة السيدة زينب قرب دمشق. فإلى روحه الطاهرة نطأطئ رؤوسنا ونشعل شمعة علّها تضيء لنا نحن الأحياء دروب الحياة.
--------------------------------------------------------------------------------


كتابات هادي العلوي
أنصح من يريد أن يتعرف على أفكار هادي العلوي ويصير من مريديه أن يقتني الأعمال الكاملة. وقد رصدْتُ له الكتب الآتية:
• نظرية الحركة الجوهرية عند الشيرازي
• الرازي فيلسوفاً
• فصول من تاريخ الإسلام السياسي
• من قاموس التراث
• المستطرف الجديد
• المنتخب من اللزوميات نقد الدولة والدين والناس
• شخصيات غير قلقة في الإسلام
• المستطرف الصيني
• كتاب التاو
• مدارات صوفية
• ديوان الوجد
• المرئي واللامرئي في الأدب والسياسة
• ديوان الهجاء
• قاموس الإنسان والمجتمع
• قاموس الدولة والاقتصاد
• قاموس العلوم والصناعات
إضافة إلى مئات البحوث والدراسات المتناثرة في الجرائد والمجلات شرقاً وشرقاً.
--------------------------------------------------------------------------------

إلى الحسين بن منصور
من كتابات هادي العلوي
متزملاً بالاسم اِلأعظم أتملّى وجهك السماوي. لكي تراني أتطلع.
الرؤية غايتي، هي سبب غربتي وانقطاعي.. تسألني كيف مشيت وراء ذي القرنين حتى مطلع الشمس؟
هلك الْهالك بالحسرة، وتزوّد الغريب من زاد القرب، وتواردت عليه الأحوال فرفعته إلى مقام الخوَاص، ثم جاء مستفيداً من حامد بن العباس حتى يُكمل الطواف حولك.
مرّ عليّ زمان كنت أسـتوطن الريح أبحث عن وجوه لا أراها، صائماً كالنهار في هجير الصحراء. ليس لصومي ميقات. ومن أُصلّي له مات. فلمن أُصلّي؟.. قطعتُ صلاتي وصار ذِكْري تمتمة.
خلعتُ رداء الأرض. مشيتُ عارياً حتى المغيب، فلم يسترني الظلام. عدتُ إلى مطلع الشمس فلم أر من السّور إلا الحجارة. تيممت الشّمال فَزَوى وجَهه عني. تجرّدتُ من علائق الحضور فاشتعلتِ النار في ثيابي. غبتُ عن نفسي فلم أتجرد. رجعت إليها فرأيتها تركض في الغابات. نَهرتُها فلم تسمعْني. ألقيت عليها ذراعي فلم ترجع، أحسستُ حينها أنّي بلا ذراعين.
أردتُ الخروج كما خرجتَ أنت من أقطار العقيدة إلى أقطار الحقيقة، فقالوا لا تخرج إلا بسلطان. وإنما غايتهم أن يقطعوا عنك عارفيك، فلا تبقى لَهم من المعرفة إلا اللغة، ومن الكشف إلا البصر، ومن الذوق إلا الحواس. حتى لقد قال قائلهم: إنّ قبرك مهجور في فلاة مهجورة. ولو نظروا إليه بعيوننا لرأونا من حولك نطوف ونسأل.
يا حسين بن منصور..
لا صَمْتَ لمن تأخذه يداك.. لا انقطاع لمن حَملَته النجوم إليك.. لا انطفاء لمن يشتعل بنارك الأبدية.
أيها الباحث عن المستقر بكل أرض، لو استعبدتك المطامع لما قتلوك. لكنه كيد التنين وغفلة من ينادمه في عز الصيف. فخذ مني العهد أن لا أنادمه وأن أرفض الشرب من كأسه ما دمتُ مُترعاً بكأسك. وأن لا أقرّ بالواسطة بعد أن علمتني أنّ الحقّ لا يؤخذ من غير الحق. ولن يكون دليلي بشراً يأكل الناسُ من يديه. وقد خرجتُ من شرط الإيمان إلى شرط العلم، ثم تخلصت منه إلى شرط المعرفة، فشربتُ من أسرار الوجود ما أغرقني في بحار الاستغراق. ولما غرقتُ في البحر لقيت الذين سبقوني إلى قراره، فأخذوا بيدي إلى مقام الصعود وقالوا:
المالك للشيء مَملوك له.
ومن أراد الحرية فليخرج من ملكوت الرغبة.
وبيوت الأغنياء لا تصحّ فيها الصلاة.. ومن استمع إليهم لم تدخل الحكمة إلى قلبه.
قلت لهم:
أجوع مع الجائعين، فذلك هو شرط المعرفة.
وألتحف بالمنافي، فذلك هو شرط الحرية.
وإذا رضي عني الحسين بن منصور فليغضب عليّ كل سلاطين العالم.



#عبد_الرزاق_دحنون (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- ماذا كشف أسلوب تعامل السلطات الأمريكية مع الاحتجاجات الطلابي ...
- لماذا يتخذ الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إجراءات ضد تيك ...
- الاستخبارات الأمريكية: سكان إفريقيا وأمريكا الجنوبية يدعمون ...
- الكرملين يعلق على تزويد واشنطن كييف سرا بصواريخ -ATACMS-
- أنطونوف يصف الاتهامات الأمريكية لروسيا حول الأسلحة النووية ب ...
- سفن من الفلبين والولايات المتحدة وفرنسا تدخل بحر الصين الجنو ...
- رسالة تدمي القلب من أب سعودي لمدرسة نجله الراحل تثير تفاعلا ...
- ماكرون يدعو للدفاع عن الأفكار الأوروبية -من لشبونة إلى أوديس ...
- الجامعة العربية تشارك لأول مرة في اجتماع المسؤولين الأمنيين ...
- نيبينزيا: نشعر بخيبة أمل لأن واشنطن لم تجد في نفسها القوة لإ ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - عبد الرزاق دحنون - ثماني سنوات عجاف على رحيل: هادي العلوي البغدادي