أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الله ابو راشد - صفحة تحت عنوان أوراق عبد الله أبو راشد الثقافية















المزيد.....



صفحة تحت عنوان أوراق عبد الله أبو راشد الثقافية


عبد الله ابو راشد

الحوار المتمدن-العدد: 1682 - 2006 / 9 / 23 - 04:30
المحور: الادب والفن
    


"الورقة الأولى"
هذه الأوراق المرصوفة على صفحات موقع (الحوار المتمدن)، هي محاولة جادة لفتح مساحة من الحوار والمجادلة في مواضيع الثقافة عموماً والفن التشكيلي العربي وفلسفته وآليات فهمه ونقده على وجه التخصيص. مفتوحة على حساسية الرؤية ومفاعيل التذوق الفني والجمالي في قوالب معرفية مُكرسة لتراث الإنسان على الأرض في مستويات وعي وثقافة بصرية متنوعة المشارب والتيارات والاتجاهات والأوصاف، وليست محصورة في بلد معين وثقافة محددة أو مُنغلقة، بل هي مُشرعة الأبواب على المحاورة وتبادل الأفكار.
أوراق متصلة بذاكرة المكان العربي البصرية في أطيافه المحلية والدولية المُحيطة في رؤى نقدية، ومداخل بحث مناسبة تدور حول مفهوم (آليات تفكيك النص البصري) وأنماط التفكير التفاعلية مع كافة مُبتكرات منظومة الدول والحضارات.
أوراقنا واضحة في أهدافها المنشودة، ومتنوعة في مسارات التفكير والرؤى الذاتية المعمرة بالخبرة المهنية والمُعشبة بالدراسة الأكاديمية في ميادين الفن التشكيلي والنقد وفلسفته وجمالياته، والتربية والتعليم تدريساً وإشرافاُ تربوياً مُتخصصاً في كافة المراحل الدراسية الواقعة ما بين (الابتدائية والإعدادية والثانوية وما بعد الثانوية في المعاهد الفنية ذات الصلة والجامعية ودبلوم التأهيل التربوي خصوصاً) التي لها من العمر أكثر من ثلاثة عقود، وما زلنا طلاباً نجلس على مقاعد الدراسة مُتابعين وباحثين نمرح في واحتها المعرفية واسعة الطيف، مُتعلمين ومتأملين ومُحللين مؤمنين بمفاهيم التربية والمعرفة المُستدامة والتواصل الإيجابي مع جماليات الحياة والطبيعة والبشر. والتعبير عنها بوسائط معرفية متنوعة سواء عِبر تأليف الكتب أو الكتابة الصحفية أو مزاولة مهنة التعليم، وحسبنا في ذلك الإفادة.
وأخيراً نتوجه بكلمة شكر وتقدير وامتنان لإدارة موقع ( الحوار المتمدن) الذين ساهموا بفاعلية في تقديم صورة إيجابية لتقنيات المعرفية
الإنسانية في سياقاتها المعاصرة من خلال شبكة الإنترنت والتواصل الإلكتروني ومُساوقة روح العصر "المعلوماتية".

أوراق عبد الله أبو راشد الثقافية

"الورقة الثانية"

تقنيات التعلم المستعار وجدلية الاندماج في ثقافة الآخر
[email protected]


مما لا شك فيه، بأننا كعرب محكومين على الدوام بتقنيات "التعلم المستعار". مُثاقفة طواعية تُدخلنا في مجرّة التفاعل الحضاري والاندماج الإرادي مع واحته المعرفية والفكرية حيناً والقسرية في كثير من الأحوال. هروبًا إلى الأمام، سائرين في مظلة اللهاة وراء الآخر وعِبر تفاصيل شبكاته "العنقودية"(1). المُحددة لأنماط وعينا في سياق برمجة مؤد لجة لعقولنا، تستنهض هممنا ومساحة تفكيرنا للدوران مجرة لحمته المُفكرة وذوبان سافر في واحة معابره "البنيوية"(2). ومسالكه "التفكيكية"(3) المطابقة شكلاً ومضموناً مع ثقافته ومرجعياته المعرفية والجمالية، سواء أكان هذا الآخر متواجد في جهات العالم الأربع، أو في منظومة الدول الأوربية الغربية خصوصاً. باعتبار أن (تقنيات التعلم المستعار) تُمثل الطريقة الأفضل في تشكيل إطارنا النظري (التفكير) وسلوكنا العملي (التطبيقي) كمرجعية ثقافية لا بدّ منها في تشكل منظوماتنا الفكرية والجمالية. وكأننا "صفر" معرفي، مأزومين بدوامة التخلف وانعدام الوزن الذي لا يستقيم إلا في سياق تقليد ومحاكاة "استنساخية" ساذجة لثقافة الآخر واتخاذها منهجاً سلوكياً، وممارسات عملية لمنابت أفكاره، ونًصبح ونًمسي بمثابة معمل اختباري لتفريخ أفعاله. متساوقين مع كافة مناحي حياته الثقافية – الأيديولوجية واليومية المعايشة لتلك المجتمعات الأوربية الغربية من تفاعلات، وخبرات وإحداثيات ملموسة في مسارب الفكر، الفلسفة، الأخلاق، العلوم، الأدب، الاقتصاد، التربية، الفنون والسياسة.
نجد دواتنا كعرب بلا حصانة معرفية وذاكرة مُستلبة مشدودة نحو ثقافة الآخر بلا تخطيط وتمحيص ودراية مأخوذين بنظرياته ومذاهبه وتياراته ومداخله. انطلاقاً من مداخل "النظم"(4) المعرفية(النظرية) والعملية (التطبيقية) متنوعة الخصائص والسمات التفاعلية، والمُكرسة بثالوثها البياني. القائمة على منظومة المفاهيم المؤتلفة في آليات منطق تتابعي: المدخلات ((Inputالعمليات (Procedure) والمخرجات (Output). وما تحفل بها من محمولات فكرية وثقافية. إدخالاً "قيصرياً"على ثقافتنا العربية المعاصرة، تأخذ ملونات متنوعة بحسب المشارب الأكاديمية المستوحاة في حلول وصياغات "نصيّة" مُستندة إلى ماكينة تفكير الآخر كنمط من أنماط "تقنيات التعلم المستعار"، أي تمثل فكر ومعارف وطرائق وأساليب وجماليات ثقافة الآخر الأجنبي عموماً، والنزعات المركزية الأوربية الغربية على وجه الخصوص. من كونها المرجعية الثقافية الأكثر حضوراً في مساحة المنتج الثقافي العربي وبالتالي ارتهان مفاعيلنا الثقافية لمنتجاته مقاربة وتناص، ومراوحة دائمة الحدوث لترويج بضاعته، كطريقة مُثلى وأساسية في رصف المعطى الثقافي العربي، وبمثابة المجال الحيوي لسبك البنية المعرفية لمساقات أفكارنا وكأنها ثقافة مولودة ومتناسلة من صُلب النسج البنيوية لمكونات المجتمع العربي، واعتمادها كبدائل معرفية لذاكرة المكان العربي والإسلامي في أبعادها الحضارية. تلك الذاكرة التي أورثتها للبشرية جمعاء محمولة بمناهل الحضارة الأولى في بلاد ما بين النهرين والشام، بابل، أشور، نينوى، ماري، إيبلا، الفينيقيين). فضلاً عن وادي النيل؛ وموطن الكنعانيين العرب والمسلمين القدماء الذين كان لهم الباع الطويل، والأساس المتين في بناء تراكم الفعل الحضاري الإنساني لكل الشعوب والممالك والأقوام عبر مسيرة الحضارة الإنسانية الحافلة بالمآثر الخالدة، والأدوار الإنسانية الفاعلة في تشكيل بنى المجتمعات والعلاقات وتبادل المنافع وأساليب التفكير والتواصل المعرفي والحضاري متنوعة الثقافات. حيث لعب العرب في تأريخ التاريخ عموماً منذ بُزوغ فجر الإسلام والدعوة "المحمدية"خصوصاً. كرسالة سماوية شمولية لكل المجتمعات البشرية باختلاف ألوانهم وأجناسهم ولغتهم المكرسة بقوله تعالى في مُحكم تنزيله:" يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير "(سورة الحجرات- الآية 13). مروراً بالفتوحات العربية الإسلامية، واعتلاء سدة التنوير والمثاقفة العالمية حينذاك، ودورهم الريادي في صنع ثقافة الآخر، الآخر الأوربي الغارق في سبات ظلماته. وما أحدثته الفلسفة العربية الإسلامية في معابر المعرفة والنحت الفكري واللغوي والبصري والجمالي والاجتماعي العالمي من مقدمات معرفية وتجارب إنسانية حافلة بتنوع الثقافات. مًقدمة ذاتها المُبتكرة بوابة مفتوحة على التنوع الفكري والجمالي والسلوكي وحقائق المعرفة والعلم والجمال، ثقافة عربية عريقة السمات وإسلامية الانتشار في كافة دول العالم القديم بقاراته الثلاثة (أسيا، أفريقيا، أوربة)، حيث كانت السبب المباشر في خروج القارة الأوربية من بحور الظلمات(5). عبوراً موفقاً على يد "توما الأقويني"(6) الذي مهدت أفكاره المستوحاة والمأخوذة من الفلسفة العربية الرشدية (ابن رشد) جلّ مناهله المعرفية والثقافية، جسدت مُنطلقاً ومفتاحاً لوصول العالم الأوربي الغربي إلى عصر التنوير(7) والحداثة الغربية. وما تجليات المفكرين في عصر التنوير الأوربي بدءاً من عصر الحداثة وما بعد الحداثة (المعلوماتية) والتي بدورها اتكأت على علوم الثقافة العربية الإسلامية عموماً والخوارزميات (8) خصوصاً، مُشكلة الأساس العلمي لمعابر التجريب الأوربي الغربي كمقتبسات مكشوفة في سياق التكنولوجيات الغربية الحديثة والمعاصرة، والمستندة أساساً إلى مفاعيل الوعي والأفكار وتقنيات الهضم الحقيقي والفاعل لمعطيات الثقافة العربية – الإسلامية في سياق " تعلم مستعار"، ومن ثم إعادة صياغتها في أنماط فكرية وفلسفة علمية مُطورة لمفاهيم شجرة التفريعات الخوارزمية، واستخدامها الوظيفي في أساليب التفكير العلمي المنهجي المُؤسس على البحث التفاعلي الدائم ما بين مجموعة الثقافات في سياق حوار حضارات. وما الكومبيوتر والمعلوماتية الحالية إلا بعضاً من تلك الأنساق الإنسانية التواصلية لمفاعيل "تقنيات التعلم المستعار" التي فهمها ومارسها الغرب الأوربي في الضفة الثقافية الإنسانية الأُخرى وسبباً من مستوجبات تحقيق نجاحات كُبرى في ميادين إنتاج ثقافة معرفية تكاملية شمولية متجددة تجبّ ما قبلها من معارف وعلوم وخبرات.
من هنا يمكننا القول: بأن "تقنيات التعلم المستعار" هي تقنية معرفية تواصلية لا بدّ منها في مواكبة الذات والآخر. في حدود ظروفها وشروطها الزمنية والمكانية ذاتياً وموضوعياً، مرتبطة بعوامل تشكلها وتأثيرها، وتأثرها في منظومات ثقافات (محلية، قومية، عالمية) والسعي الحثيث لفهم مُعمق لوظيفية هذا التفاعل الإنساني، ماهية وكينونة واختماراً فكرياً وصيرورة وحركية تواصلية دون إقصاء أو اندماج وذوبان لأحد على حساب الأخر وأفكاره. أو الوقوع في فخ تغريبية مقصودة تقوم على مفاعيل مغلوطة تُضيع الذات والذاكرة المعرفية والبصرية والوجودية، وتقحمنا مجدداً في دوامة ولائمها الشهية، المفتوحة على خروجنا من الجلد بحجة التطور والتقدم ومواكبة روح العصر العولمي.
إن أية نظرة موضوعية مُخلصة مُتأملة في واقع حال الثقافة العربية المعاصرة، بكل ميادينها ومجالاتها المعرفية – الفكرية (الأطر النظرية)، والعملية – التطبيقية (الأطر التجريبية). نجدها تدور في فلك النزعات المركزية الأوربية- الغربية، باعتبارها نموذجاً صالحاً لقيادة جميع فعاليات حياتنا، ومفاعيلنا وحمولاتنا الثقافية. مُطابقة استنساخية ساذجة و"داعرة" في كثير من الأحيان. كثيرة هي الأدلة والبراهين المادية في أنماط ثقافتنا ومسالك وعينا وطرائق تواصلنا مع زخم المعلومات وتجارب الآخرين، سواء أكانت هذه الأدلة مستندة على مجموعة الكتب الجامعية ذات الصلة أو الدراسات النقدية المحكمة من هيئات مفترض أنها موثوق بها في الدوريات العربية متنوعة التخصصات.
هذا يقودنا إلى مرور عابر في نماذج عامة استرشادية دالة على عُقم التفكير النقدي العربي وخواء فاعليته. فضلاً عن تجاهل مقصود لكل تقنيات التواصل المعرفي التي زخرت فيها عقول العرب المفكرة منذ آلاف السنين، الذين تركوا لنا حفريات معرفة لا تُحصى في كافة معابر المنتج الإنساني التفاعلي، ومشروعية المساءلة تجعلنا نًمعن النظر في ذاتنا وما حولنا، وكأن ليس لدينا فنون بلاغية ونقدية، ولا علوم معرفية وتطبيقية في ميادين الفلسفية والفلك والجغرافيا والطبيعيات والدين والخلق وبدء التكوين ومسالك الآثار والجمال. لا وجود للبيان والبديع والإحالات الدلالية (الإشارة - السيموطيقيا). ولا مكان للحلاوة والحسن والطراوة والجمال (الاستيطيقيا). ولا وجود لعلوم المنطق والكلام والفلك والطب والهندسة، والرياضيات (السيومطريقيا). وتعامي عن منتجات الحضارات القديمة الأثرية الشامخة على امتداد الوطن العربي من محيطه إلى خليجه، نختزل جهودنا كافة في قصف مستمر للعقول تيهاً منشوداً في حب الأخر الأجنبي وثقافته، عزفا منفرداًً على تنويعة قسماته الفكرية والجمالية والمعرفية.
إن اجتياح "تقنيات التعلم المستعار" لكافة منتجاتنا وتفاعلاتنا الدراسية الأكاديمية في معاهدنا العربية، وجامعاتنا في مستوياتها وتخصصاتها المتنوعة. سواء أكانت جامعية أولى أو عليا من نوع الدراسات العليا والماجستير والدكتوراه. هي أكثر الأمثلة وضوحاً ونمذجة، ولا بدّ من التوقف مليّاً أمام آليات وأشكال تلك الدراسة وطبيعة الفروض والمتطلبات الأساسية المطلوبة من الدارسين.
إن غالبية أشكال الدراسة الأكاديمية ما بعد الثانوية مبنية على أساس المطابقة الشكلية للمناهج والطرائق والأساليب الغربية الأوربية، من بسط أفكار ومعلومات ومعارف وطرائق وكتب دراسية مقررة متسقة في انحياز مفاهيمي ومعرفي ملحوظ مع تلك الأكاديميات الغربية روحاً وعقلاً ومكاناً وآليات- وإن كانت مصاغة باللغة العربية - وكأن الثقافة العربية – الإسلامية قاصرة في إثبات ذاتها داخل المجرة الكونية. ولا تخلو كلية أو معهد دراسي أكاديمي ما بعد الثانوي في كافة مراحل الدراسة العربية من هذا الواقع الاستنساخي المبني فكرة وممارسة على أساس " تقنيات التعلم المستعار". بما في ذلك أنماط تعليم اللغة العربية وآدابها.
هي إشكالية دائمة التوهج وحقيقة موضوعية يجب أن نعترف بها كمثقفين وأكاديميين وأن نُقر بعقم وخواء منهجنا التفاعلي المعرفي مع ذاتنا ونظرائنا وطلابنا ومنظومات مفاهيمنا وطرائق تواصلنا. فضلاً عن أنماط التفكير والتخطيط والتنفيذ في كافة المعطى الإنساني. هي "تقنيات تعلّم مُستعار" نلبسها أثواباً فضفاضة في سياق عصاب مرضي. لا فكاك لنا من تكراره في كافة ميادين حياتنا العربية اليومية والمعرفية والعلائقية المفتوحة على ثقافة الآخر، وهي مسألة جديرة بالمناقشة ومحاولة تفاعيل أبجدية الحوار وفتحه على مصراعيه حفاظاً على سؤال الهويّة الذي بات بدوره من المحرمات ونوعاً من الإرهاب.


الهوامش:
(1) العنقودية: هي نمط تقني لدراسة النص بأنواعه من نص السرد الكلامي في ميادين الأدب وقضايا الفلسفة والفكر والأيديولوجية، مروراً بالمناهل الدينية الاعتقادية، وانتهاء بالنص البصري والسمعي من فنون جميلة تعبيرية وحركية وجامعة لكل تقنيات الفنون المرئية. قائمة على تداعيات الشبكة المفاهيمية التفريعية ذات الطبيعة العنقودية التي تحيل هذا النص أو ذاك إلى أفكار رئيسة متفرعة إلى جزئيات مكونة مستندة لمقومات التحليل والتركيب. وصول مفاهيمي إلى غايات النص وقائله وخلفياته في إحالات إشارة متنوعة المشارب حول ماهية النص وكينونته والعوامل المساعدة في حدوثه.والتي تقف وراء أفكاره ومكوناته كذات إنسانية مُبتكرة وفاعلة.
(2) البنيوية: هي مذهب فكري. واتجاه منهجي في العلوم الإنسانية لاسيما (الفقه، اللغة، النقد، التاريخ، الفلسفة، والمجتمع)، وهي منظومة من المفاهيم"النصية" المترابطة الأجزاء المشكلة لأنساق الوحدة العضوية ما بين عناصرها الداخلية والخارجية المؤثرة. قائمة على الربط العضوي لبنية النص ووظيفته الإشارية (السيميائية).أي:" الدال والمدلول،العلة والمعلول،الحامل والمحمول) تسعى لخلق آليات جديدة في الأسلوب والمنهج وآليات التفكير العلمي وفاعلية التحليل والتركيب والربط المنطقي للمفاهيم. أوربيا تدين بالوجود إلى علماء اللغة والفكر الأوربي الغربي.أمثال: (دي سو سيور، ليفي شتراوس، فوكو، بياجيه).
(3) التفكيكية: هي اتجاه فكري مُعاصر قائم على الربط المفاهيمي ما بين ميادين المنتج الاجتماعي الإنساني في كافة المسالك والمجالات الحياتية المجتمعية، والمطورة لآليات تفاعله مع الخيرات المادية والبشرية في سياق تكاملي شمولي منظم. مرتبة في مجموعة من الخطوات العملية الإجرائية التواصلية "التجزيئية" الرابطة ما بين أطراف العملية ككل في سياق شمولي.
(4) مدخل النظم: هو اتجاه نظري وعملي في أنماط التواصل المعرفي الإنساني التفاعلي مع الخيرات المادية والبشرية والمكتشفات العلمية التطبيقية في مكونات الثلاثة الرئيسة كمدخلات وعمليات ومخرجات. معتمدة على السياق الغشتالتي (التركيبي – التحليلي- التركيبي).
(5) عصور الظلمات: هي حقبة زمنية عصيبة في تاريخ القارة الأوربية. عاشت في طياتها عصور مظلمة مثخنة بحالات القهر والتخلف والاستلاب، حيث عملت "الكنيسة" آنذاك على التحكم بمقاليد السلطة المدنية والتنفيذية والتشريعية والسياسية. ولها اليد الطولى والأحادية في فرض أنماط المعارف والتفكير بكل منتجات المجتمع وتفاعلاته وعلاقاته المتعارضة والمناقضة بطبيعة الحال مع الإيمان الإلهي ومعطيات التفكير العلمي للحوادث والوجود، امتدت طيلة حقبة زمنية عُرفت باسم (القرون الوسطى).
(6) توما الأقويني: هو مُفكر وفيلسوف أوربي(إيطالي). عاش ما بين (1224 –1274) تأثر كثيراً بفلسفة ابن رشد مثاقفة وإعادة لأفكاره في صياغات جديدة متناسبة وذاته الوجودية كمواطن إيطالي. مؤسساً بذلك المدرسة والاتجاه الفكري في الفلسفة الأوربية (التوماوية) التي صارت مجالاً حيوياً للفلسفة الكاثوليكية. من أشهر أعماله "الرد على الخوارج،الخلاصة اللاهوتية".
(7) عصر التنوير: هو حقبة زمنية عايشتها القارة الأوربية التي سبقت الثورات البرجوازية ضد سلطات الإقطاع وسطوة الكنيسة. وأنتجت في تفاعلاتها أفكار ومفكرين مثل: (فولتير، روسو، هيافيتيوس، ليسنغ، غوته) امتدت مؤثراتها ما بين "1700 – 1900".
(8) الخوارزمي: هو محمد بن موسى واحد من أهم العلماء العرب الذين كان لهم الفضل الكبير في استنباط مفاهيم جديدة ومبتكرة في علوم الرياضيات والمنطق الرياضي القائمة على تسلسل الخطوات العملية في حلول المسائل الحسابية، والأساس العملي في الأتمتة ونمذجة التفكير في مجموعة متواليات منطقية ربطية ما بين جزئية وأخرى وصولاً إلى كليات جماعية.وعلومه هي الأساس الموضوعي التي قامت عليه مبتكرات التقانة العالمي المعاصرة (الكمبيوتر).

أوراق عبد الله أبو راشد الثقافية
"الورقة الثالثة"
الفن التشكيلي السوري المعاصر ما بين تعبيريتين
[email protected]


من أكثر السمات المميزة للحركة الفنية التشكيلية السورية المعاصرة. هو انحيازها الملحوظ للمدارس والتيارات الأوربية الغربية عموماً، والتعبيرية الألمانية على وجه الخصوص. اقتباساً ومحاكاة وتقليداً "استنسابي – استنساخي" في كثير من الأحيان. وأمست الأنماط الفكرية والتقنيات الأسلوبية لهذه التعبيرية الألمانية المجال الحيوي والمرجعية البصرية والفكرية للعديد من الفنانات والفنانين التشكيليين السوريين، منذ بداية تَشكُل الحركة الفنية التشكيلية السورية المعاصرة في الربع الأول من القرن العشرين وحتى اللحظة الآنية المعايشة.
لم يكن الفنانون الأوائل (الرعيل الأول) الذين اتجهوا في أعمالهم، وأساليبهم الفنية استعارة وصفية وتقنية تفاعلية مع ثقافة الآخر، بل مُقتصرة على شكلية متناسلة من أشكال ورؤى بصرية مأخوذة في سياق "تقنيات التعلم المُستعار" المستوحاة كلياً أو بنسبة عظمى شكلاً وموضوعاً من النزعات المركزية الأوربية الغربية في الفنون. في مدارسها واتجاهاتها ومعاييرها الفلسفية والجمالية المكانية والمحتوى الموضوعي لأفكارهم، ونجواهم وحدسهم البصري التخيلي ومنتجاتهم الفنية متعددة التقنيات. وما الحقبة الزمنية السابقة إلا ربطاً منطقياً مع اللاحقة في خط بياني متدرج في آلياته ومعطياته. طريق مُعبد نحو عبور مُعمق بالتجربة والخبرة للأجيال الفنية المتعاقبة والتي تأخذ من أنماط التماهي المطلق مع تداعيات الاستحضار المجازي لرموز وأشكال ومواضيع ومفردات، وتوليفات لنصوص فنية تشكيلية مستوردة ومطابقة لمرئيات التعبيرية الألمانية في كثير من الأحوال، ِلما فيها من توافق مفاهيمي وحس إنساني ومكونات فنية تشكيلية مفتوحة على الابتكار. هروباً ملحوظاً من الأنماط المدرسية الأكاديمية ذات النزعات الأوربية الغربية "الكلاسيكية"خصوصاً. ولم يكن الفنان التشكيلي السوري "مروان قصاب باشي" الذي فُتن بالتعبيرية الألمانية، وطاب له المُقام في ألمانيا كفنان عربي وحيد اخترق حدود المألوف البصري الألماني. حضوراً مميزا له خصوصيته وأهميته في الحركة الفنية التشكيلية الألمانية. باعتباره أول العابرين السوريين والمتخذين من الأسلوبية التعبيرية الألمانية مجالاً حيوياً لمقولاتهم، وتجاربهم الفنية التشكيلية المشغوفة أبداً بروحية العبث الشكلي مع التوجه الفلسفي ( فرو يد) المشبع بالانفعالات الداخلية والمؤثرات الخارجية، وصخب الإسقاط الأيديولوجي وروحية الأسطورة والأديان، وهموم متنوعة تُصوِر انسحاق الإنسان من قِبل أخيه الإنسان. بل توالت قائمة المشتغلين والمعجبين بفتنة المدرسة التعبيرية الألمانية من داخل البيت الفني التشكيلي السوري في كافة مجالات وميادين المنتج الفني التشكيلي، حتى أن بعض الكتابات "النقدية" الجادة الموضوعية في الصحافة السورية. تُحاول أن تُجسد مفاهيم ومقولات وآليات وقوانين المدرسة (الغشتالتية) الألمانية (التحليلية التركيبية) كسياق نقدي حافل بالمفاهيم الفلسفية والفكرية واعتبارها رائدها المرجعي الأول. تقوم على أساس الدخول المعمق في تفاصيل الإنسان، ومنتجاته وأدواته وروافعه وخصوصيته وتفرده الأسلوبي، وتُحيل الذات الإنسانية الابتكارية، ومنتجها إلى إحالات دلالية (سيميولوجية) إشارية. يُنظر من خلال تقنياتها، وآلياتها إلى العمل الفني ومنتجه نظرة موضوعية نقدية. بلا محاباة أو تزلف مدحي أو انتقاد قدحي. عاملة فاعلة مُفكرة في جزئيات العمل الفني تحليلاً وتركيباً، وتوصيفاً فكرياً وفلسفة جمال وسطوة ملحوظة لمقولة فنية تشكيلية حافلة بروحية الأنسنة، والعمل الجاد في خدمة الإنسان ومشاكله وهمومه ويومياته وضروراته الوجودية. بحثاً عن سُبل تعبيرية تبوح المرئيات البصرية والفنية التشكيلية بعشرات الأسئلة والقضايا التي ما زالت عالقة في ذاكرة وخيال ومبتكرات الفنانين التشكيليين السوريين. دائمة الحضور والتوهج محاولة اكتشاف المزيد مع تفاعلات الإنسان مع ذاته المُبتكرة، ومحيطه البيئي وثقافته المجتمعية بكل أشكالها وصورها وآلامها. وجدت فنون التصوير بأنواعه، والنحت بأشكاله والحفر بتقنياته والكتابة النقدية بأساليبها المتنوعة في التعبيرية الألمانية اتجاهاً مناسباً للتفاعل البصري والمعرفي مع واحة فسيحة لتأليف هذا التآخي الإنساني التواصلي من كون الفن التشكيلي عموماً، من أكثر اللغات العالمية البصرية انفتاحاً على ثقافة الذات والآخر في صور ومفردات و"نصوص فنية" تشكيلية حاشدة بالجماليات والمقولات، رغبة وتوسماً في الوصول إلى خصوصية تعبيرية في مساحة الفن التشكيلي السوري المعاصر، مؤسسة على دراسة علمية منهجية وفق قواعد وأصول التذوق والنقد الفني المدرسي (الأكاديمي)، الذي لا يُمكن الاستغناء عنه في قراءة أي منتج فني تشكيلي سوري. لنتمكن جميعاً وبجهود تفاعلية مشتركة على تأسيس رؤية فكرية، وذاكرة بصرية حاملة لثقافة المكان السوري وجماله.

التعبيرية (Expressionism):
هي اتجاه ومدرسة فنية معاصرة، تنتمي إلى حقبة الحداثة الأوربية "التنويرية" التي لامست مسارات الحياة الثقافية والمجتمع الأوربي بعد انهيار النظام الأرستقراطي الإقطاعي. وانتقال السلطة إلى الطبقة البرجوازية الصاعدة والمتحولة بفعل نمو الحس القومي، والانتماء لجماليات المكان وثقافته وعلاقاته مع رموزها وأبطالها مرتبطة بالمفهوم الألماني، والثقافة البصرية الألمانية التي أنتجت التعبيرية في كافة ميادين ومجالات المنتج الفني التشكيلي، متوسمة منتجات وأساليب ومواضيع فنية معبرة عن هذه الأيدلوجية القومية، الخارجة من عِقال السطوة النمطية التقليدية "الكلاسيكية" الأوربية بأنواعها المعروفة. حيث يؤرخ عام 1903 ولادة لهذه التعبيرية الألمانية في تقنياتها، وطرائق معالجتها التقنية، والشكلية وبنائية المواضيع والغائية التي تود الإفصاح عنها كخصوصية تعبيرية ألمانية غير مسبوقة. لتُشكل التعبيرية الألمانية الواضحة البصمات والقسمات بذاتها الابتكارية مدرسة واتجاه فني في حركة الفنون الجميلة "التشكيلية" العالمية منذ العام 1914 وحتى ظهور مدرسة "فرانكفورت" عام 1923 كحاملة لواء الفكر والفلسفة والجمال ذات النزعات الألمانية المفتوحة على نقاء العرق والتفوق والتفرد الأُنثروبولوجي، والتي ظهرت آثارها جلية الوضوح في تقديم تعبيرية فنية تشكيلية حافلة بالخصوصية الألمانية على يد فنانين وفنانات لهم حضورهم الملموس في مساحة الفن العالمي. وأمست التعبيرية منذ بداياتها بوابة مفتوحة على الاجتهاد والبحت التجريبي البصري. ومنها ولدت مجموعة الفنون البصرية "الحداثية" المعاصرة في الفنون الأوروبية، وخلّفت مدارس واتجاهات فنية مثل: " الوحشية عام 1905. التكعيبية عام 1908. المستقبلية عام 1910. التجريدية عام 1916، الدادائية عام 1916، السريالية عام، 1922، البنائية عام 1923، اللا شكلية عام 1954" وغيرها من حركات وتيارات ما بعد الحداثة "الشيئية".
التعبيرية في إحالات المصطلح ودلالاته المادية والمعنوية في الفنون التشكيلية، قائمة على إبراز القيم الإنسانية المسحوقة من قِبل الإنسان في مسالكه الحياتية المثقلة بهموم العصر وصخب التطور التقني، ومخاطر أساليب احتواء الآخر في صيغة استعمار بشري ومادي مُزود بكل أدوات القهر المعاصرة التي حملت الطفرة العلمية، ومسلك البحث التجريبي"التطبيقي" كل آلات دماره وسلخته عن إنسانيته لمصلحة رأس المال. وإيثار السلطة والتحكم بخيرات المجرة الكونية على حساب وجوده وكيانه وتاريخه وإنسانيته.
تعبيرية وصفية مبالغة في تفاصيل العناصر المؤلفة في بناء وتكوين العمل الفني، وغير ملزمة أو ملتزمة بالقيود النمطية الأكاديمية، لا تستجيب لقواعد المنظور والنسب الذهبية القياسية في الفن الكلاسيكي القديم (عصور الإغريق والرومان) أو الوسيط (عصر النهضة الإيطالية) أو الحديث (الانطباعية والواقعية والكلاسيكية المحدثة). بل تُحاول اللجوء إلى نقل أحاسيس وانفعالات الفنان في اللحظة التخيلية والحدسية. بعيداً عن النموذج "المودلة" والاستعانة بمصادر الوحي والإلهام المباشر والرغبة الجامحة في التعبير عن محسوسات النفس وتفاعلاتها، واختزال الذاكرة البصرية في سياق فني تشكيلي غير واقعي. متساوقة مع اللحظة الابتكارية غير المخطط لها. حيث يُشكل الجسد الإنساني العاري والوجوه المشوهة مُبالغة وانسحاقاً مجالها الحيوي. والخطوط المتداخلة واللمسات اللونية القوية (الحارة) والباهتة (الباردة) لحمتها الحاضنة لتفاعلات المهارة والموهبة المكتسبة، والحرفة التقنية والصياغة الابتكارية في كثافة اللون وتواشيح طبقاته الدسمة وحركية الخطوط الجامحة مقامات بصرية توليدية لأنساق تخيلية مُفكرة. نجد للأبعاد الإنسانية الفكرية، والحالة البصرية الانفعالية من داخل إيقاع الشعور بالحالة أو من خارجها، فنياً وموضوعياً باعتبارها مسألة حيوية لازمة وضرورية لتوصيف الفكرة الجمالية تصويراً صادقًا، منحازاً لحقيقة الواقع الاجتماعي، والبؤس الشديد الذي تتعرض لها البشرية من كوارث، وحروب وعوامل دمار. يقوم في إجرائها الإنسان بحق أخيه الإنسان في ذات الأرض التي يقف عليها. أو في الضفة الإنسانية الأُخرى.
لوحاتها التصويرية - كما أشرنا - حاشدة بالخطوط والملونات التغريبية، المفارقة على الدوام لواقعيتها وسياقها البصري التقليدي والكلاسيكي. تأخذ من نسيج اللون الأحادي المتدرج في تداعيات خطيّة ولونية حدة وتناقضاً أو توافقاً، مساراً تقنياً في توصيف المحتوى الموضوعي لحالات ( الرعب والخوف - الحزن والنحيب)، المصاحبة لضجيج الإيقاع الإنساني الحسي والنفسي والانفعالي وحالات الاضطراب والانتظار والبكاء الخافت، والظاهر المُترقب لمعطيات الراهن المعايش والقادم المجهول، الُمحمل بعلامات الألم والمساءلة. لوحات وأعمال فنية مشغولة بتَفكُر تعبيري فكري، وفني بصري وتقني وأسلوبي. مُثخنة بإحالات دلالية "سيميولوجية"، أي إشارية رمزية تقف وراء كل عمل فني يدخل في عمارتها البنائية (التكوين، توزيع العناصر، الفكرة، التقنية) وجرسها الموسيقي، كألوان وخطوط وتضاريس مفتوحة على الابتكار الشكلي، والمحتوى الموضوعي المتاح والمباح. ابتكار مشفوع بأسلوبية فنان وخصوصية موقف تفاعلي تعبيري. مُقدمة صورة بصرية شمولية "بانورامية" لنص فني تشكيلي زاخر بذاكرة بصرية فكرية وتجريبية، عاكسة لأنماط الوعي البصري لهذا البؤس الاجتماعي، وذلك المحدد البيئي المشحون بذات الإنسان المأزومة على الدوام. وما ينطبق على فنون التصوير، نجده في كافة فنون النحت متنوع الخامات مطابقة لشكلانيته ومحتواه الموضوعي والتعبيري، وكذلك الفنون الحفرية المطبوعة متعددة التقنيات. الإنسان أولاً وأخيراً هو المجال الحيوي لكل منتج فني – تشكيلي باعتباره العنصر الحاضر في كل تكوينات العمل الفني في سياق كتل ومجموعات بشرية أو ما يدل على وجودها "سيميائياُ " أو إحالة إشارية.
من البديهي بمكان، أن نجد التعبيرية في الفن التشكيلي السوري المعاصر، خارجة من عباءة التعبيرية "الألمانية" التي انطلقت بشائرها الأُولى، كما ذكرنا عام 1903 وأنه وليد طبيعي في أحضان المدرسة التعبيرية الألمانية المتأتية من وسائط الاتصال والتفاعل الثقافي الفكري والبصري المباشر (البعثات الدراسية الأكاديمية في ألمانيا) أو غير المباشر عِبر الثقافة البصرية التي تُقدمها وسائط الاتصال البصرية التقليدية (المعارض الفنية التبادلية والكتب والمجلات ذات الصلة)، والمعاصرة (المعلوماتية) وبما تحفل به الفضائيات وشبكات الحاسب والانترنيت في الراهن المعايش من معلومات وبصريات جامعة كمصادر مرجعية، ومادة ثقافية للفنانين التشكيليين السوريين، وما محاولات ألمانية الناهضة بعد الحروب العالمية (الأولى والثانية) من استقطاب ثقافي - حضاري للآخر من أجل الوصول الثقافي والتجاري والسياسي لمنطقتنا العربية عموماً وسورية خصوصاً منذ بدايات القرن العشرين إلى حالة تفاعلية أكثر جدوى وتواصل مصلحي ما بينها وكافة دول العالم والوطن العربي على وجه التحديد، وما البعثات الأثرية الألمانية المنقبة، والكاشفة عن حضارة سورية التاريخي العريق، وما وصلت إليه الأبحاث من كنوز جمالية وحضارية تُغني الثقافة العالمية بكل ما هو مُشرق ومزدهر وحافل بالقصص والحكايات ازدانت بها متاحف العالم، مُعبرة عن حقب زمنية وأبعاد حضارية وجمالية للفن السوري القديم إلا واحداً من هذه المؤشرات. إذ شكلت الآثار المكتشفة مادة دسمة للفنانين الأوربيين والألمانيين والعرب السوريين بأن معاً. لتكون مصادر إلهام وهيام مع روحية الأسطورة والتداعيات الحدسية والاستحضار لتأريخ هذا التاريخ، وتسجيل بصري لتلك الحضارة السورية المغرقة بالقدم. مُقدمة بيانها الفني التشكيلي (مانفيستو) إعلان، كنص بصري في سياق مُعاصر، هذا من ناحية. وأن التعبيرية الألمانية جاءت كرد مباشر لدوامة الصراع الأوربي – الأوربي الذي كانت الأمم والمملك الأوربية مسرحاً حافلاً ليومياته في حروب دموية ضروس تلوك رحاها كل أنواع الحياة، وتدوس أقدام فرسانها كل القيم والأخلاق مُمهدة لحروب عاتية اجتاحت الكرة الأرضية في حربين عالميتين ذهب ضحيتها أكثر من ستين مليون إنسان قتيل، وآلاف الجرحى والمعوقين والثكلى وملايين من الخسائر المادية والبيئية، وما خلفته هذه الحروب من أوبئة وكوارث وأمراض نفسية خيمت أحزانها على كافة أرجاء المعمورة. إذ كانت ألمانية الناهضة والتواقة لإعادة وهجا تراثها الفلسفي والفكري وحضارتها القومية " الجرمانية"، أي الأراضي المنخفضة. لاسيما في مجال الفنون الجميلة التشكيلية التي أنبتت غراس أبنائها المبدعين في كافة ميادين المنتج الفني والتشكيلي على وجه التحديد، ذاكرة بصرية حافلة بالمرئيات الثقافية التي تحاكي بؤس الإنسان وتصويره في مواقف إنسانية وشكلية ومحتوى موضوعي، تفيض من خلالها كل حالات الخوف والدمار وحقد الإنسان المعلن والدفين لأخيه الإنسان، من ناحية ثانية.
حيث وجدت هذه التعبيرية الألمانية متسعاُ لمكان في أعمال ولوحات ومنحوتات وحفريات الفنانين التشكيليين السورين، من كونها تلامس هواجس الصراع والخطوب التي تمر بها يوميات منطقتنا العربية عموماً، وقضية الصراع العربي – الصهيوني خصوصاً، وما تحتله القضية العربية القومية "فلسطين" في وجدان الفنان والمبتكر السوري من خلفيات ومضامين وقدرة المدرسة التعبيرية الألمانية في أفكارها وخطوطها وملوناتها ومواضيعها على تحقيق نوع من الطباق الروحي – الإنساني، مع حقيقة ما جرى ويجري في دول العالم المتحضر خصوصاً من مؤامرات ومجازر تُرتكب بحق البشرية وحرية الإنسان، تحت عين وبصر وبصيرة هذا العالم الأكثر تطوراً بحجج وأكاذيب واهية لا تروم إلا تراكم الثروة للأقلية المالكة والمحتكرة على حساب الأكثرية المسحوقة، وآلام الآخرين ووجودهم الإنساني في المحطة الكونية والأرضية، واعتبار الوطن العربي منطقة اختبار مناسبة لطموحات العالم الأوربي الغربي ومجالاً حيوياً لاستمرار عمليات نهبه لثرواتنا العربية، وسرقة أبنائنا وعقولنا وإقحامنا في دائرة لعبته الاحتوائية. نجتر أفكاره ومنتجاته وابتكاراته، ونخرج من جلودنا ووجودنا في كافة معابر الحياة الاجتماعية والحضارية. لأن الحداثة في الفن التي كانت نتاج فلسفة عصر التنوير بقيت راسخة الوجود في الأفكار والأذهان، وتستوطن مساحات التفاعل البصري مع جماليات المكان العربي وفق الرؤية الأوربية الغربية من كونها المرجعية ذات الأهمية في ترسيخ ثقافة التابع في كل الظروف والأحوال.

أوراق عبد الله أبو راشد الثقافية
"الورقة الرابعة"
الأكاديمية في الفنون الجميلة التشكيلية
[email protected]


تُعتبر كلمة (الأكاديميةAcademia - ) ومشتقاتها اللغوية في دلالات المُصطلح، من أكثر الكلمات ترداداً واستخداماً وظيفياً في مسارات حياتنا اليومية المهنية والدراسية منذ ما بعد الدراسة الثانوية والجامعية على وجه الخصوص، المُتجلية في معابر المعرفة الإنسانية من علوم (الفكر، الفلسفة، الجمال، اللغة، الآداب، الفن) وسواها.
من كونها مادة خصبة للتجاذب الثقافي والادعاء المعرفي، حيث تأخذ هذه الكلمة "المُصطلح" مشروعيتها المُستمدة من أساليب وتقنيات "التعلم المُستعار" المتناسلة من مَعين لغة وبيئة جغرافية محددة المعارف والمفاصل والتوجهات، لابسة دثار "النزعات المركزية الأوربية الغربية" السردية والبصرية والتقنية في كافة ميادين الدراسة ما قبل الجامعية الأولى مروراً بالثانية وصولاً لمرحلة الدكتوراه.
إن أهمية تداول مُصطلح "الأكاديمية" تنبع من أهمية الموضوع المنضوي تحت رايتها وعباءتها المعرفية، ومُحددات خصوصيته ومجاله الأكاديمي سواء أكان في ميادين العلوم البحتة أو الإنسانية أو الفنون الجميلة عموماً، والفن التشكيلي خصوصاً. وجدنا من المُفيد والضروري لمنهجية البحث العلمي وصحة دلالته في ميادين "الفنون الجميلة التشكيلية" أن نتطرق إلى خلفيات وجذور التسمية ونسبتها الوجودية، والتاريخية في محمول المدلول والمعنى المتوالدة من الصيرورة والتطور وحركية التفاعل المعرفي الإنساني في منظومة الدول المنتشرة في كافة جهات الخارطة الأرضية. وما تحمله عبارة "الأكاديمية" من ترجمات ومعاني كمدلول قيمة جمالية ومعيار معرفي ومنهجي ونقدي، وما تعنيه في كافة أدبيات ومناهل الفكر والمعرفة والفلسفة والفن والجمال من خلفيات وإحالات ومعابر رؤى متنوعة المناهل، والمرجعيات المتفاعلة في واحة الاجتهاد المُشرعة الأبواب، طرقاً أنيقا لسطوح المعرفة ومسالك فاعلية الأفكار والحوار. يقودنا هذا الأمر إلى المرحلة الزمنية المُغرقة بالقدم، والتي عايشت الحقبة الإغريقية في القرن الثالث قبل الميلاد منذ عصور "أفلاطون وسقراط وأرسطو" وكافة فلاسفة ذلك العصر بما يحمله من تَفكُّر وجدل ومنابر حوار وتنوير. تعود التسمية إلى "أكاديميوس" الإغريقي صاحب تلك المنطقة الشاسعة من الأرض التي تحمل اسمه"Academia" بالقرب من مدينة "أثينا" وتتوسطها حديقة كبيرة وارفة الظلال بُنيت فيها مدرسة خاصة لتعليم "النخبة" من الطبقات الحاكمة عام 387 قبل الميلاد، وتضم شتى العلوم والمعارف والمهارات وفي مقدمها الرياضيات وآداب السلوك والتعاملات الإنسانية وآليات إعداد القادة العسكريين والمفكرين والفلاسفة. كان الفيلسوف "أفلاطون " يقود كافة عمليات التعليم فيها، وبقيت مُحافظة على مكانتها ودورها الوظيفي في سياقاتها المنطقية حتى تم إغلاقها على يد الإمبراطور "قسطنطين" عام 529 بعد الميلاد لأسباب دينية، ومنذ ذلك الزمن شكلت وما زالت تلك المدرسة في تقاليدها الدراسية نموذجاً مُتبعاً في آليات التواصل المعرفي والعلمي والفلسفي الجمالي بما فيها الفنون الجميلة وما تشمله من فلسفة وتقنية ومعابر معلومات وأفكار.
الأكاديمية "Academia" هي كل ما يتصل بالتعليم والتعلم النظامي الحاصل داخل جدران وصفوف وقاعات وأماكن مخصصة للدراسة ولتحقيق أهداف وغايات تعلم نبيلة ومهارات مُفيدة للفرد وضرورات المجتمع وحاجاته، ومشمولة بمهارات معرفة متعددة ومرتبطة بزمن متعين وأعمار وفئات اجتماعية دارسة في مختلف المراحل التعليمية والتخصصات. تؤهل أصحابها الحصول على شهادة علمية في ميادين التخصص، تكتسي معاني متعددة بتعدد المجالات والميادين المتصلة بوجودها والمرتبطة بتحقيق أهداف وغايات إنسانية مقصودة ومتوافقة ومصالح القائمين على إدارة مفاعيلها وفق سياق نظام مدرسي منظم ومنضبط. تسير في خطواتها الفكرية (النظرية) والعملية التطبيقية (الإجرائية) المقننة في إطار معرفي تراكمي ونوعي باعتبارها شروط لازمة لاستمرار وجودها في إطار عائلة المفاهيم والمصطلحات العلمية المتداولة وفق ماكينة كل تخصص دراسي، يدخل في مشروعية وجودها المؤتلفة مجموعة العناصر والمكونات والشروط المادية والبشرية المتفاعلة كمؤسسات أكاديمية وكوادر مؤهلة ومحتوى دراسي وطرائق وأساليب وطلبة دارسين.
محطات عابرة في مسيرة أكاديميات الفنون الجميلة التشكيلية:
شكلت القارة ألأوربية الحضن الدافئ لنشوء الأكاديميات في كافة مناطق المعمورة منذ بدايات تشكلها في منتصف القرن السادس عشر الميلادي في سياق متوال ومحكوم بثقافة أسميها ثقافة "الانتقال بالعدوى" ما بين طبقات اجتماعية حاكمة. تُعتبر "أكاديميات الفنون الجميلة التشكيلية" المُتصلة بفنون التصوير والنحت في إيطاليا عام 1546 نقطة البداية في هذا الإطار من خلال إنشاء "أكاديمية "بيلا للفنون" بمنطقة "بيريجيا". ثم "أكاديمية ديسينو" بمنطقة "فلورنسا" عام 1563 وظهرت أكاديمية " سان لوقا" في مدينة "روما" عام 1652 وأكاديمية " البرتينا" في منطقة تورين. وفي فرنسا أنشئت "الأكاديمية الفرنسية الملكية" للمصورين والنحاتين عام 1692 وأكاديمية "كوبنهاجن" في الدنمرك عام 1754، وأكاديمية "سان بطرس بورغ" في روسيا عام 1757 والأكاديمية الملكية في لندن عام 1768، و أكاديمية "فينا" في النمسا عام 1770 وظهرت أول أكاديميتين للفنون الجميلة في الأمريكيتين "ريو دي جانيرو" بالبرازيل عام 1816، والأكاديمية "القومية لفن التصميم" في مدينة نيويورك عام 1825.
أما على الصعيد العربي تُعتبر مصر هي السباقة في هذا الميدان من خلال "مدرسة الفنون الجميلة" بالقاهرة عام 1908 والتي تحولت إلى "مدرسة الفنون الجميلة العليا" عام 1928 ولتُصبح أكاديمية في إطار "كلية الفنون الجميلة" التابعة لوزارة التعليم العالي المصرية عام 1952. كذلك الأمر بالنسبة لسورية التي تم إحداث "كلية الفنون الجميلة" بجامعة دمشق عام 1961، والسودان في إطار "كلية الفنون الجميلة" بالخرطوم عام 1924. ومعهد الفنون الجميلة في بغداد. ثم توالت مجموعة الأكاديميات الخاصة بتعليم الفنون الجميلة في كافة الجامعات العربية الرسمية والخاصة في البلدان الممتدة من محيطه الوطن العربي إلى خليجه في أزمنة وأماكن وتواريخ متعددة تبعاً لمتغيرات الحياة الاجتماعية وحاجة الناس إلى مثل هذه الكليات الصاقلة للمواهب والقدرات الفنية المتنوعة.
الأكاديمية في فن التصوير والنحت:
يُقصد بها كافة الأعمال الفنية المُنتجة بأيد فنانين مهرة ومُبتكرين من أصحاب القدرات العالية بصرياً ومُخيلة ومقدرة تقنية، قائمة على فنون المُشابهة والمحاكاة التمثلية للنماذج المرسومة والنحتية والمُصورة ومُحققة للقوانين الصارمة في فنون وفلسفة الإغريق الجمالية وفنون عصر النهضة الإيطالية لاحقاً. الشاملة لكافة قواعد الفنون الذهبية( السبعة) من حيث النسبة والتناسب والانسجام ما بين مكونات وعناصر النموذج المنقول أو المُتخيل، وضبط قواعد المنظور (الطول العرض، العمق أو الارتفاع) وقدرة الفنان على تمثلها في مُحددات الأبعاد القريبة والبعيدة ومصداقية المحاكاة البصرية وتخير الأوضاع الشكلية في سياقاتها الصحيحة من تجسيم الأشكال والشخوص وفق التقنية المُتاحة، وبما تشمل من درجات لونية وحيز كتل وفراغات وخطوط رئيسة ومعابر ضوء وظلال وانعكاسها على السطوح والأجسام والمكونات، وما تتمتع بها تلك الأعمال من ملامس متعددة المواد والتقنيات وبنية فنية تشكيلية (التكوين) متماسكة في هندسة عمارتها البصرية. يخوض "الأكاديمي" الدارس غمار لعبتها التقنية بهدوء وروية وكثير من الصبر والوقت، وتأتى من عدة مراحل فنية متتابعة، لا مكان لمزاجية "الأكاديمي" الدارس في تمثل نماذجه بل هي محكومة لموازين التأمل والعقل في كافة عمليات التوصيف والنقل تقوده إلى جماليات مُفرطة في دقتها الشكلية وتُبرز مقدرة عالية من المهارات المتقنة والمُقننة. أكاديمية إغريقية أنتجت لوحات فنية خالدة وتماثيل رائعة في حقب زمنية متواترة، وجدت فيها جماليات عباقرة كبار متوالدين في عصر النهضة الإيطالية التي أنتجت فنوناُ أكاديمية بأنفاس كلاسيكية، ما تزال هذه "الأكاديمية" الأوربية تفرض واقعها المعرفي والجمالي والتقني في كافة أكاديميات ومعاهد الفنون الجميلة التشكيلية وبكافة أمصار المعمورة.


أوراق عبد الله أبو راشد الثقافية
"الورقة الخامسة"
تصحر الفنون التشكيلية حضور لذات وغياب لمجتمع
[email protected]

إن الفن التشكيلي كمُنتج بصري ومعرفي، هو فن ابتكاره الإنسان من خلال صيرورته الوجودية ولحمته التطورية. فن متوالد ومتواصل في بنيته وتقنياته وغايته ومُنتِجه أو دوره الوظيفي في سلم القيم الاجتماعية المُعبر عن كائن عاقل وعامل وموهوب حيناً ومفتوح على الابتكار وأسرار الصنعة الفنية التشكيلية أكاديمياً ولمسات تقنية وجماليةً في كافة الأحوال. له أطواره وأدواره في مراحل التاريخ الإنساني المتعاقبة، مُتخفي في المرحلة الآنية المعايشة بأثواب ما بعد الحداثة والمُعاصرة الشيئية ذات الأنفاس "العولمية".
وصل فيه الفنانون التشكيليون والعرب خصوصاً إلى الدرك الأسفل من المبالغة المُقلدة لأعمال فناني الغرب الأوربي في سياق "ناسخ ومنسوخ" لم تُبق لذ واتهم الفنية العربية ومواهبهم وذاكرة مكانهم أية ملامح فنية تشكيلية مُعبرة عن الخصوصية في الفن. بقيت فرديتهم المغرقة سابحة في تجريدية مساحاته وملوناته، وتركيبية مواده وبنائية رموزه المعبرة عن (ذات مأزومة). خارجة من جلد الواقع والمعطى الثقافي المعرفي والمكاني لمصلحة توليفة شكلية مغادرة لوجودها الموضوعي كواقع اجتماعي عاكس لجماليات وطن ومواطنة، وأزمنة وأماكن ووجوه تاريخية وحضارية، دخولاً منظماًً في نُسج (تركيبية - مركبة) من عقد النقص والخواء البصري رغبة منها بالتماهي مع ذات الآخر الفنية. ثقافة منسوخة ومحاكاة، ودوران متكرر في مجرته التفاعلية، تبدو لقليلي الثقافة المعرفية والذاكرة البصرية بأنها شديدة الخصوصية، تًوّلد حالة بصرية ملتبسة للفنان والناقد والجمهور بأن معاً، وكأن المجرة الكونية ما قبل الحقبة العولمية بدأت من "صفر" معرفي أو من واقع خواء بصري جمالي.
هذه العولمية المقصية لذات الفنان والمجتمع، تُعلب النفوس والشخوص والمواهب في سياقات ثقافة بصرية حاشدة بالخواء المعرفي والجمالي، ومليئة بمساحة العبث الشكلي والعابثين. تُقصي المواهب الأصيلة والخصوصيات وتكتم على أنفاس الهويّة استبدالاً قسرياً ومقصوداً لمعارف وذوا كر بصرية وجمالية في صبغها وخواءها، وحمولاتها التوليفة في سياق تغريبي مُستجدة لنسج علاقات مجتمع وثقافة بصرية منحازة إلى تكنولوجيا المعلوماتية وجمود الآلة.
عولمة متوحشة، مُستندة ومتكئة في كل مراحل تكونها كظاهرة على مفاعيل القوة ورأس المال والقيمة المضافة للمعلوماتية، وآليات صناعة النجوم، الملغية بطبيعة الحال للنمط التقليدي الحاضن لمنتجات الفن التشكيلي في سياقاته التاريخية المعروفة وحقيقة القوى الطبقية التي كانت تقف وراءه من فئات ومصالح طبقية حيوية. معبرة عن ذات محض فردية مدعومة من قِبل رأس المال والروافع الفكرية الطبقية - الاقتصادية المُُساندة والسابقة في وجودها وتبلورها لعصر العولمة، من كونها معابر سائدة في صناعة تاريخ الفن والنجوم ومكوناته المجتمعية التي وقفت خلف المنتجات الفنية وتحديد جديد لمسالك الابتكار وتكوين علاقات تفاعل جامعة وشاملة لثقافة مجتمع وثنائية الانتماء للموهبة (الأنا) الفردية، وطبيعة المجتمع (الأنا) الجمعية حيث نسفت الحقبة العولمية هذه المناقب الوجودية من جذورها، لتُحيل كافة الفنون الجميلة والتشكيلية خصوصاً إلى جزر ثقافية غريبة عن مجتمعاتها، وتدخل مفاصل الفعل الثقافي فيها بدائرة مجرتها وسطوتها الاقتصادية والثقافية، وما تمتلكه من وسائط اتصال مُعاصرة وقدرة ملموسة على كافة مساحات التأثير المباشر على كافة أرجاء المعمورة، وبصور وأشكال ثقافة بصرية مثيرة فيها إعمال قصدي للحواس وسرق الأضواء ولباب المعرفة.
عولمة سبورية تجوس كل المشاعر والأحاسيس وتلبي أهواء الناس على اختلاف مشاربهم وأنماط وعيهم لفتنتها البصرية مقدمة طبيعية لعولمة العقول اختراقاً موفقاً لكل تفاعلات الكائن البشري الوجداني والأخلاقي من محسوس الوجدان ومسالك التفاعل العقلية. ليُمسي الإنسان والمجتمع في نهاية المطاف أسيراً لسطوة الصورة البصرية التي تقدمها آليات العولمة على اختلاف مؤثراتها المُبهرة للعيون والعقول بأن معاً. من تعدد الأنماط والأشكال الاستيعاب التقني المختلفة، ويصبح الخلاص الفردي قبّلة المبتكرين من الفنانين والمتذوقين، وتذوب المواطنة والوطن وسؤال الهويّة لمصلحة منطق السوق ومتطلبات السوق العولمي. كلغة عالمية جديدة خادعة مًُعمقة لذات الفرد المطلقة بعيداً عن ذوق المجتمع وجمالياته ومتطلباته.
عولمة محمية ومدعومة بماكينة الإعلام والصحافة ورجال المال والأعمال والساسة المحترفين في إدارة فعاليات استلاب الشعوب والثقافات. وأمست بطانة مؤسساتها الكاسحة تعمل سراً وعلانية في سعيها الحثيث لتقديم بضاعتها البصرية السائدة والمحاطة والمدعومة بكل وسائل الدعاية، تسويقاً طبيعياً لحقيقة تلك الروافع المُساندة، وما تُقدمه من حوافز ومغريات مصحوبة بأبواق فكرية وتعبوية قادرة ومؤثرة من كونها صناعة تنتمي إلى عوالم (القيمة المضافة) للمعلوماتية. المكرسة للحمة التفاعل المدروس مع دينامكية صناعة النجوم والقرارات الحاسمة في الغرف السرية المغلقة كعمل مهني احترافي ونوعاً من البضاعة المعروضة في تجارة السوق.
هذه "البطانة" المتساوقة مع آلية تبادل المنافع وعقل التاجر "المرابي" المنحاز كلياً لمصالحه، والمتفاعلة بشكل ما أو بآخر مع سياسة وفلسفة الفئات الطبقية القادرة، والمتحكمة بكافة ميادين صُناعة الثقافة السائدة ولعبة الإعلام. والمندرجة في سياق عمل مُحترف ومبرمج وفق أحدث لطرق الدعائية، والمُتكئة على العقل الصناعي الربحي المُتخذ من الفن التشكيلي مُنتجاً (الفنان) ومنتجات العمل الفني وأفكار (المقولات) وعلى الذاكرة البصرية (المكونات) مقصودة التوجه والتأثير والإبهار في عملية (صناعة النجوم). واعتبار هذه المكونات والعوامل مجتمعة بمثابة سلعة من بين عشرات السلع في ميادين ابتكار أنماط جديدة من البضائع الرائجة والمرغوبة في المستويات النوعية المماثلة كمعادل موضوعي لبقية ميادين الابتكار الأُخرى.
مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بثقافة "المركز العولمي" المسيطر على الفن والمنتج الفني في كل مكوناته وآلياته الفاعلة والعاملة والمبتكرة والمسوقة والمقتنية فالفن في سياقه العام، هو حرفة مهنية تتضمن شروطاً دائمة التواجد، وعاملة على استمراره وقدرة المنتجين على تكيفهم مع ذاتهم المبتكرة وموضوع الابتكار والمحيط الاجتماعي، وفرص التواصل مع القنوات المُسيطرة التي تقود مفاعيل التواصل البصرية في ولائم عرض متناسبة وأهدافها المرسومة. في مضامين ومحتويات وأساليب متميزة ومتمايزة ما بين تجربة فنية تشكيلية وأُخرى، فالفن في كل مراحله التاريخية يُشكل في تفاعلاته الإنتاجية "الإنسان" الفرد المندمج بالمجتمع حجر الأساس في بناء قاعدة هرم الابتكار الاجتماعي وقمته في أن معاً الذي يجعله جزءاً من ذلك النسيج الاجتماعي الحاضن لقانون الفطرة، والحفاظ على النوع وإحياء لجدلية قانون البقاء وفق منطق "الحاجة أم الاختراع". وشكلاً منطقياً لترتيب الأوليات، والتعبير عن الدافع والحاجة والرافعة المروجة والمقتنية، ونمطاً مجازياً في اكتشاف لذات في شقيها الفردي والجمعي " الأنا والمجتمع".
كما هو معلوم بأن للفن والتشكيلي خصوصاً يلعب أدواراً ووظيفة باعتباره منتج اجتماعي بالضرورة الوجودية في حمولاته ودلالاته، وإحالاته ونوازع القيمة المعرفية والأخلاقية والبصرية الجمالية، ومحددات التفاعل مع الذات والآخر سواء أكانت هذه الاجتماعية في خدمة مجموعة من الأفراد أو المشكلة في إطار قبيلة أو سلطة ما. أو أية جهة رافعة ودا عمة لهذا المنتج الإنساني بامتياز اقتصادي تقني وفلسفي وجمالي.
من هنا، نعتقد يقيناُ بأن الفن التشكيلي لا يمكن له إلا أن يكون وسيطاً بصرياً ومعرفياً معبراً عن أنماط التواصل الاجتماعي ومواكب ومؤرخ لصيرورة الإنسان التطورية، ومسلكاً مهماُ في قدرته على اكتشاف ذاته وفطرته ومواهبه وتكيفه مع الخيرات المادية والروحية والبشرية. وأنه حالة من الضرورة المنطقية الموضوعية لاستمرار وجوده من كونه مُنتج اجتماعي أولاً وأخيراً. وقد شكلت الفنون التطبيقية المهنية والتصويرية في مرحلة تاريخية مغرقة بالقدم نمطاً من أنماط العبادة وحالة وجودية مهمة ومعبرة عن الآلهة والخوارق ولبنة أساسية من لبنات بناء المجتمع. إذ شكلت الصورة البصرية كلغة تعبير أولى سابقة للكلام والكتابة لغة التفاهم والتواصل في سياقاتها الفطرية المشمولة بقانون البقاء والتكيف مع الطبيعة والآخر. وكانت سلاحًا فاعلاً بأيد الكهنة ونُساك المعابد، يُوجهون آلياته خدمة لذ واتهم السحرية، واللاهوتية والسلطوية في نهاية المطاف، بينما شكلت الفنون الجميلة "التشكيلية" في مراحل لاحقة نوعاً من الترف الفكري والطبقي والتعبير العملي عن ذات "كاريزمية" للأرستقراطية الحاكمة. ثم أخذت نمطاً معبراً عن الأيديولوجية أو البرجوازية المتدثرة بعبارات الثورة والتغيير تعبيراً جمالياً عن سلوك وأمجاد هذا الحزب أو القائد العسكري أو ذلك السياسي وما تحتله الصورة البصرية من قدرة على التمجيد والتأثير في نفوس الذات والآخر، وبالتالي إدراك أهمية الفن كدور ووظيفة وفسحة ذاتية مجردة محققة لتبادلية المنافع والمصالح ما بين كافة الفئات الطبقية والسلطة السياسية الحاكمة في مواقف بصرية تسجيلية وجمالية مُخلدة للقادة والأثرياء والحكام وأصحاب النفوذ. وتجلى ذلك في مرحلة النهضة الإيطالية بالفن وعصر التنوير الأوربي. عصور الإسقاط الأيديولوجي في سياقاته الطبقية الوطنية والقومية الثائرة على الأنظمة الإقطاعية والأرستقراطية السابقة. أنظمة وطنية قومية مُكرسة لبدء تأليه الذات الفردية ودخول المجتمع في دوامة مثقفي النخب المثقفة "الانتلجنسيا" ودورهم الفردي التطهري الرسولي في صنع التاريخ، وبناء المرتكزات الثقافية والحضارية كمقدمة منطقية وطبيعية لركبهم الموجة الثقافية الأيديولوجية المجتمعية وصولاً مقيتاً بكافة مفاصل الحياة الاجتماعية لهذا الكوكب الأرضي إلى العصر الحالي "العولمي والمعولم" من استحواذه الكامل على ماكينة صناعة النجوم وإدارة وجهة الفنون الجميلة التشكيلية السياقية نحو صناعة فن الصورة البصرية "الشيئية" الإلكترونية ذات القيمة المالية النفعية، كسلعة يومية عِبر شبكات الإنترنت والفضائيات والبرمجة الحاسبية. تُقيد كمدا خيل وعُمولات مضافة لحسابات رجال المال والسياسة.
إن الفن التشكيلي كمنتج اجتماعي في ماهيته وكينونته، وبدايات وجوده في مساحات الفطرة والموهبة الإنسانية. هو فردي اصطفائي انتخابي مخصوص بالإنسان طبقي منذ البداية، حمل في منتجاته الأولى ملامح الفردية "الذاتية" المجتمعية. وروحية التفاعل مع الآخر(المحيط المادي والبشري والحيوي) منحاز لدينامكيته الوجودية في شخص إنسان مُبصر مُتأمل ومُفكر وعامل وفاعل وعاقل مُدرك لحساسيته الجمالية وجمال محيطة البيئي بلغة تعبير مناسبة لا تخرج عن سياقه الجماعي. أي التفكير البصري الجمعي المحمول بقيم ونوازع أخلاقية تحكم سلوكه وتصرفاته ومرئيا ته من كونه المحطة الأساسية في صناعة مجتمع مُعافى كحافز ودافع جامع لجماليات الإنسان، وكمالياته في احتضان ورعاية واقتناء المنتجات الفنية التشكيلية وتشكيل روافع مدعمة لأغراض وظيفية ونفعية شتى.
إن الفن التشكيلي يُمثل لغة سرد بصري وحالة متفاعلة من التفاهم ورموز قادرة على تحقيق نوعاً من الانسجام وتقبل الآخر. لغة دلالة وإشارة "سيميولوجية" مُعبرة وموحية، متفاعلة مع المرئيات البصرية تسجيلاً وتوثيقاً وإحالات جمالية لصيقة بواقع معين وثقافة محددة الأمكنة والأزمنة والسلطات الفاعلة والحاضنة هنا أو هناك.
إن الفن التشكيلي في معاصرته. هو نتاج طبيعي تراكمي لمعطياته المغرقة بالقدم الذي خط أسطره الأولى الإنسان الأول في بدء تكوين الخليقة الآدمية على الأرض. ذات فردية دلالية وبما يحمله من مضامين وشكليات. وغايات الخلق "الإنساني" الملهمة، والمشكلة من ثنائيات متناقضة"أمشاج" أي مجموعة من الخلائط الكونية الأرضية. يحمل قدرات ذات إلهية قادرة على كل شيء: " بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ"(سورة الآية 117). تناقلاً لهذه الفطرة، والموهبة الممنوحة من "الله" جلَّ وتعالى، اكتساباً وراثياً عِبر تعاقب الأجيال الإنسانية، انسجاماً مع الآية القرآنية: " وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا "، آدم، ذلك المخلوق الإنساني من"مادة وروح" وذو اسم ورمز ودلالة ودور وظيفي. ومحمول فكري وشكلي. ونقطة البداية في اصطفاء "الله" سبحانه لهذا المخلوق في أجمل هيئة وشكل وصورة بصرية وتفكير ومناهل روحية. مطابقاً لذات إلهية فاعلة كمخلوق ناطق عامل عاقل وفاعل مُتفكر في ذاته ومُتكيف مع محيطه وأفعاله ومنتجاته ومتطلباته الحياتية.
من هنا يُمكن القول: بأن الفنون الجميلة مجتمعة مخصوصة بالإنسان في ذاته الإنسانية الفردية المفطورة على الموهبة الكامنة، وشغوفة بالبحث الدائم والاكتشاف المستمر واختبار لقدرات لذات وآخر، قدرات حسيّة ومعرفية مجسدة في سياق لغة سرد حس عقلي مؤتلفة في سياق ذاكرة بصرية جامعة لكل عمليات التواصل المعرفي الإنساني بأن معاً. حمالة الأوجه والدلالات "السيميائية". من لغة نصية تعبيرية (اللسانيات) أو نصية فنية تعبيرية (الفن التشكيلي) في كلا الحالتين الرموز والإشارة، والإحالات الفكرية - الدلالية هي المساق الحيوي لاستمرار عمليات التواصل ما بين الكائن البشري والآخر في الضفة الإنسانية الأُخرى، لغة معرفية"طبقية" منتمية للكائن الإنساني في ذاته المُبتكرة تستنهض مساحة الوعي والتفاعلات الفكرية والأخلاقية والجمالية والدينية والحقوقية والوجودية، منحازة إلى ذاته ونوعه ومهاراته وقدراته وميادين تفاعله مع القيم المادية المتاحة، اجتماعية في ضروراتها وعلاقاتها، لا يُمكن لها إلا أن تكون وسيطاً معرفياً في تحقيق التوازن الوجودي الشمولي التكاملي للكائن البشري مع محيطه البيئي.
لذا نجد من الضروري، والمفيد التطرق بموضوعية البحث العلمي - المنهجي في مسألة إشكالية مثل (تصحر الفنون). وإحالاتها كإشارة ودلالة. كمصطلح مفاهيمي ذا صلة بموضوع (حضور لذات وغياب لمجتمع)، والبحث عن أسباب حدوث هذه القطيعة والإشكالية التي هي باعتقادي تعود إلى الحقبة الزمنية الأوربية الغربية التي بدأت عجلة إقلاعها الأولى خطوة أساسية من خطوات الألف ميل في صحراء الحالة البصرية المُتشكلة (تصحر الفنون وغياب المجتمع)، كناتج طبيعي لحركة النهوض الصناعي الأوربي مع نهايات القرن الثامن عشر وانتقال بنى المجتمع من أشكال سلطوية طبقية إلى أشكال سلطوية قمعية موازية وبديلة مغايرة ومتناقضة في كثير من الأحيان. تفرض فلسفتها وثقافتها وتوجه مسالك أفرادها عموماً والفنانين التشكيليين والمشتغلين في ميادينها على وجه التخصيص، لما لهم من أدوار وظيفية فاعلة في خدمة قضاياهم الوجودية. رعاية وإعلاماً وترويجاً سلعياً لمنتجاتهم الفكرية والبصرية والتقنية باعتبار أن المؤسسة الرسمية "الأيديولوجية"، هي النموذج الأفضل والأكثر توافقاً وتناسباً مع الحقبة التي تلت عصور الإقطاع ومجتمعات الأرستقراطية، كطبقة برجوازية صاعدة ومُقصية لكل تركة الماضي وتراثه حملت الثورة الفرنسية رياح التغيير الشمولي لكل حيثيات النسيج الاجتماعي للمجتمعات الأوربية الغربية، وبكل أشكال المنتج الإنساني فكرياً وفنياً وجماليا وعلاقات طبقية محكومة بأيديولوجية الطبقات السياسية الجديدة المنتصرة.
أيديولوجيات مفتوحة على المتغيرات بكافة مسارب المنتج الفني ومعابر الابتكار والفنون الجميلة التشكيلية خصوصاً، لتشكل حلقة بدائية لفرض شعاراتها واتجاهاتها الفكرية والفلسفية والبصرية وخطوة متقدمة على طريق تصحر الفنون الجميلة التشكيلية، المقصية لفنون الإغريق والرومان والنهضة الإيطالية، لتحل مكانها فنون عصر التنوير والحداثة الأولى في امتياز تقني وتفرد تعبيري مُقدس للخصوصيات الفردية والأيديولوجيات، والانحياز المكشوف إلى ذات وطنية أو قومية. مولدة بطبيعة الحال لأنماط التشكيلة الاجتماعية "الرأسمالية"، ومرحلة الصراع القومي ما بين الدول والحكومات الأوربية التي وجدت في الاستعمار مجالاً ضرورياً لتكريس وجودها الثقافي والسياسي والعسكري في مختلف الميادين التنافسية المحققة للثروة وفرض النموذج الاستعماري على الآخر المستعمَر. عِبر بوابة (الاستشراق) الفني التشكيلي بالحداثة حيناً. والكلاسيكية الجديدة حيناً آخر، وفنون ما بعد الحداثة "الشيئية" في كثير من الأحوال. هذه الإشكالية ثنائية متبادلة ما بين الغرب الأوربي الاستعماري من ناحية، وما بين دول العالم المستعمَرة من ناحية ثانية. فالأول باعتباره مركز الاستقطاب الكوني والثقافي والحضاري، والثاني تابع يدور في حلقة ثقافة المركز الغربي الأوربي، متقمصاً ثقافته كنموذج أمثل في حياته الاجتماعية. هذه الإشكالية التي أسميها كدلالة معرفية (تقنيات التعلم المستعار) في الثقافة العالمية والعربية خصوصاً، وبكل ما تحويه هذه التقنيات من عناوين كبرى وميادين رئيسة وفرعية متصلة بكافة أنماط المنتج الإنساني ابتكاراً وفي مقدمتها الفنون الجميلة التشكيلية. هذه التقنيات المستعارة المستندة أساساً على مركبات "عقد النقص" عند كثير من المؤسسات والأفراد في دول العالم الأقل تطوراً منه عن دول العالم الصناعي المتطور ومحاولة التماهي مع منتجاته والالتحاق بفنونه ومنتجاته تجاربه ومدارسه وتقنياته ومواضيعه. والاندماج الكلي في تفاصيله أملاً بالوصول إلى لحظات الكمال "الكاذبة" لثقافة المركز الغربي الأوربي. فضلا على أن شعوب العالم الأكثر تطوراً في الضفة الإنسانية المتعارضة طبقياً وفكرياً ومالياً وسياسياً وأيديولوجية. تبدو أكثر اعتزازاً وانحيازاً واستكباراً واعتداداً في ذاتها الوجودية وأوضح في الممارسات القهرية للآخر تلك القائمة على نظرة الاستعلاء، والدونية المقصودة لوجود وثقافة الآخر، المجبولة على تعظيم الذات وعقد التعالي وازدراء الآخر ثقافياً وإنسانياً.
تؤدي بالتالي إلى استلابه ثقافة ووجوداً وجعله مجرد سلعة ذيلية تابعة تدور في فلك مرجعياته ونزعاته المركزية، تكوِّن منتجات (المُقلد) بمثابة نسخ مطابقة أو مشوهة في أغلب الأحيان والأمثلة المادية الحسيّة في هذا الاتجاه أكثر من أن تُحصى والابتزاز المفضوح من أكاديميات الفنون الأوربية الغربية لفنانين العالم والعرب خصوصاً كثيرة وغريبة. لاسيما إذا حاول أحد الفنانين العرب إثبات حضوره الفني التشكيلي إعلامياً وفكرة وثقافة بصرية تحمل جماليات المكان، والثقافة والنسب التي نشأ في أحضانها، فإن أقلام النقاد الأوربيين والغربيين المقللة من شأنه كآخر تكيل له المديح الذي يُراد به باطلاً في سياق الذم المبرمج، بأن تُحيل كل أثر فني أو موهبة مميزة بذاتها الوجودية والأصلية (الوطن الأساسي) إلى مجرد تجربة أوربية معايشة وكأن الآخر صفراً معرفياً أو جمالياً. وكم هي الجرائم التي تُرتكب بحق الموهوبين والثقافة العالمية وجماليات الدول والشعوب، تارة تحت خانة الحداثة وأخرى تحت مقولات ما بعد الحداثة الشيئية. وتجعل من الدارسين الموهوبين من شعوب العالم والعرب على وجه التحديد مطية ومجالاً لتفريغ سمومهم وعقدهم العدوانية اتجاه العرب والإسلام. أولئك الدارسين في المعاهد والأكاديميات الأوربية الغربية ما هم إلا مجرد "فئران" مختبرات في خدمة توجهات المركز الغربي الأوربي الذي يُقدمهم ولائم دسمة فوق موائد صناعة النجوم. يُمسي الفنان المشرقي أو العربي في حالة خواء فني ومُصاب في أمراض نفسية متعددة، موزع ما بين ثقافته "الغربية" الغريبة عن مجتمعه وثقافته الشخصية. لأن هذه الثقافة "الغربية" تحقق له (الأنا) الفردية المغرقة في نجوميتها، وتُمكنه من تجاوز عقد النقص والشعور بالخجل والدونية والتخلي المفضوح عن جماليات المكان الذي ولد فيه وينتمي إلية نسبة وأصول كسلالة وأنساب وقوميات. تكون الغلبة في نهاية المطاف للانحياز الكلي لثقافته الوافدة الجديدة (ثقافة الآخر).
وإن أية نظرة موضوعية في أساليب الدراسة الأكاديمية في جامعاتنا ومعاهدنا العربية المتخصصة بالفنون الجميلة التشكيلية، وملاحظة محتواها الفكري والتواصلي البصري وآليات التواصل مع المعلومة النظرية والخبرة العملية من طرائق تعليم وتعلم لنجدها مُطابقة لثقافة وذاكرة النموذج الأوربي الغربي وهي السائدة، وفنون الحداثة وما بعد الحداثة الشيئية هي المجال الحيوي لمناهج وطرائق وتقنيات وخبرات المدرسين والدارسين في أن معاً. ولا وجود لذات ثقافية عربية "الخصوصية" والمحلية إلا بقدر مطابقتها لتوجهات ثقافة المركز العولمي.
إن الفنون الجميلة التشكيلية الحالية مصابة بانفصام شخصية وأسلوبية تعبيرية ونمط فني استغرابي عن جماليات المكان والتراكم الحضاري لوجود الإنسان عِبر حقب التاريخ كلغة بصرية جامعة للخصوصيات. وأمست فنون معاصرة سطحية نعيش يوميات إنتاجيتها المعلبة في أروقة العولمة. وهي اقتحام سافر لأسوار المألوف وكسر لأدبيات التواصل الجمالي مع جماليات الإنسان ومجتمعه، وثقافته وتفاعله الشمولي الفكري والبصري والنوعي وتفرده ككائن مفطور على مواهب وقدرات متمايزة عن سائر الكائنات الحية، وأنماط علاقاته في سياق أمة وكرة أرضية مفتوحة على التنوع والتكامل البشري في إطار دينامكية الجماعة، وإن تصحر الفنون والخروج عن أكاديميا الفنون الجميلة الطبقية النوعية التي أرست جذورها عموم الحضارات الإنسانية وصولاً إلى فنون عصر النهضة الإيطالية. هو دخول في معابر التيه المعرفي والبصري المرتبطة بالمتغيرات الطبقية الاجتماعية من زوال طبقات وحلول أخرى متعارضة ومتناقضة. وأمسى للفن أدواراً وظيفية مغايرة لقيم المجتمع وروافعه السائدة، لتلعب الأيدولوجيا دورها في حرف الفنون الجميلة عن مسارها الطبيعي والتقني والإنساني باتجاه خطوات تصحرها الشكلي ومحتوى المفاهيم والمعالجة التقنية. لتحافظ على سطوة النزعات الأوربية الغربية بالفنون من كونها مركز الاستقطاب العالمي، لنجد بأن الحقبة العولمية بما تحمله من آليات كاسحة في كافة الميادين والمجالات لاسيما على صعيد (المعلوماتية) وسيادة منطق الصورة البصرية كسلعة وفيض مالي تُقدمه وجبات (القيمة المضافة) المتأتية من ريع شبكات الاتصال والتواصل الفضائي والإعلامي عِبر شبكات الحاسب والإنترنت. تُوصل الفنون الجميلة التشكيلية لأقصى مراحل التصحر الفني قسوة وإيلاماً وإنزياحاً عن البعد الإنساني والجمالي والأخلاقي في جعل الإنسان (الفنان) عبداً مطلقاً للآلة، ولمغرياتها التقنية وقدراتها البارعة في الدقة واختصار الجهد وروحية الأنسنة من داخل العمل الفني المنتج، وتقديم حلول نفعية مغرقة في منافعها الضيقة على حساب أداء الإنسان المتقن الذي أنتج واخترع بيده آلات دماره وفناء نوعه وقيمه الأخلاقية والاجتماعية والإنسانية.



#عبد_الله_ابو_راشد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الله ابو راشد - صفحة تحت عنوان أوراق عبد الله أبو راشد الثقافية