أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - صالح دغسن - قراءة في رواية : طوفان من الحلوى... في معبد الجماجم















المزيد.....


قراءة في رواية : طوفان من الحلوى... في معبد الجماجم


صالح دغسن
باحث في فلسفة الفن وجماليات الحداثة


الحوار المتمدن-العدد: 7147 - 2022 / 1 / 27 - 21:38
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


إعداد : صالح دغسن

باحث في فلسفة الفن وجماليات الحداثة



إنّ الفنّ هو الشيء الوحيد الذي يقاوم الموت(1)

حيث يصير الفنّ هو من يخترع إمكانيّة القفز فيما أبعد ممّا بعد الحداثة نفسها نحو حدث جديد وفيض مغاير من الكينونة التي تمنح المعنى وتعيد للعالم قدرته على الفرح(2)

تتنزّل رواية " طوفان من الحلوى... في معبد الجماجم " في ما يمكن أن نسمّيه بالأدبيّات المقاومة أو إن شئنا الفنّ أو الجمال المقاوم لصاحبتها " أمّ الزين بن شيخة المسكيني " وهي دكتورة وباحثة في الفلسفة أو كما يحلو للعديد تسميتها " فيلسوفة الحياة " وهي تدرّس فلسفة الجمال بالجامعة التونسيّة ولها العديد من الإصدارات التي يصعب حصرها في هذه النبذة القصيرة. لكنّها تتركّز ما بين الفلسفة والمقالات وكذلك الرواية والشعر.

ومن ضمن هذه الكتب لا كلّها " تحرير المحسوس " و" الفنّ يخرج عن طوره " و" الفنّ في زمن الإرهاب ". وما يمكن أن نقوله بإجمال هو أنّ " أمّ الزين بن شيخة المسكيني " تجعل من الكتابة الروائيّة اِستئنافا جماليّا لمشروعها الفلسفي المقاوم في قراءتها لواقعنا المعاصر بعين فنّان زاده المخيّلة الخصبة لتأثيث عجينة الخبز الروائي في تزمينة القحط والجدب. وهو ما يضعنا أمام حدود المفارقة، مفارقة مشهديّة الكارثة والرعب التي زرعت واِستفحلت في واقع مجتمعاتنا العربيّة بوجه عام وبلادنا التونسيّة بوجه خاصّ في عشريّة القتل والخراب.

فكيف لهذا القبح أن ينقلب إلى اِحتفاليّة جماليّة مقاومة؟ وأيّ حاجة لنا لعجينة الخبز الروائي في تزمينة الكارثة ؟

ربّما درجنا في ثقافتنا العربيّة على أنّ المقاومة لا تستقيم إلاّ بالسلاح. لكن أن نقاوم بالجميل (الفنّ) فهذا أمر غير مألوف، لأنّ تاريخنا علّمنا ألاّ نتقن إلاّ المرثيّات، واللّطم والنديب في مواكب العزاءات.

ومن هنا، يصبح رهان المقاومة بالفنّ والأدب الروائي أحد تفرّعاته حدث جلل يستأهل منّا الوقوف عند أحد تجاربه الحيّة من خلال رواية " طوفان من الحلوى... في معبد الجماجم " للفيلسوفة والأديبـة " أمّ الزين بن شيخة المسكيني ". ونحاول الترحّل بين سطورها وتعاريجها للوقوف على أهمّ ملامحها وتجلّياتها.

وهكذا يصبح من اللّزوم التساؤل صحبة هذه الروائيّة عن مدى راهنيّة المسألة الفنيّة بوصفها سبيلا حقيقيّا لمقاومة الإرهاب ؟ وبالتالي كيف للفنّ أن يقاوم ثقافة الموت والتهميش ؟ وهاذين السؤالين يدفعان بنا إلى تساؤل آخر لا يقلّ أهمّية عن سابقيه وهو ما مدى قدرة الفنّ على اختراع عالمه الخاصّ الذي يختلف تماما عن الواقع المعيش ؟



الجمع بين متضادّين أو اِستحالتين :

هناك من الآثار الفنيّة التي تستوقفك بمجرّد ما يقع عليها بصرك بعمق الإحراج والتساؤل الذي تقذفهما في دواخلك، وهو ما نجده عميقا في عنوان هذه الرواية " طوفان من الحلوى... في معبد الجماجم " حيث يحتمل هذا العنوان أسلوبا بلاغيّا تعرفه القواميس بـ" الإرداف الخلفي " أو " الطباق " وهو الجمع بين متضادّين وقد اِستقدمته الروائيّة على شاكلة شذرة مركّبة، أو شذرتين تجمعان بين اِستحالتين يستحيل أن تجتمعا إلاّ في مخيّلة مبدع يجيد ترجمة أحاسيسه سردا وشعرا.

ففي حين يطفح الأوّل " طوفان من الحلوى " تعشّقا للحياة وإقبالا على مقارعة وقائعها، والركوب على تضاريسها ومراسها وممارستها، يأخذنا الثاني أو إن شئنا العجز " في معبد الجماجم " في مشهد مرعب وقبيح تستقدمه الروائيّة من عالم اللاهوت أو إن صحّ القول عالم الموت والعدم.

فكيف السّبيل إلى الجمع بين عالم الحياة من جهة وعالم الموت والعدم من جهة أخرى ؟

يرشدنا هذا العنوان المركّب أنّ الروائيّة تودّ إقحامنا كقرّاء أو متلقّين لأثرها الفنّي في عراك مع النصّ لتكون " القراءة صراع مع النصّ " من أجل الظّفر بحقيقة ما أو حتّى تحسّسها ومحاولة الولوغ من شبقها. هذه الحقيقة التي أراد لها الفاعلون في واقعنا الجيوسياسي أن تبقى طيّ النسيان أو متحجّبة وغير مفكّر فيها في أفقنا السياسي الذي شهد في العشريّة المنصرفة صخبا وضوضاء عنيفة قلّ نظيرها. حيث اِعتلى صبية السياسة والمدفوعين للمشهد بأجندات خارجيّة ويافطات حقوقيّة زائفة أعلى هرم السلطة في وطن معطوب أصلا بالاختلال الاجتماعي وغياب العدالة الاجتماعيّة. هذا المشهد العام الكارثي ساعد المنكّلين بالتاريخ (الأصوليين والمتشدّدين وأصحاب المال الفاسد) من الانتشار على مساحة هذا الوطن كالفطريّات. هذه الصورة اِستحالت إلى نوع من الاستلاب والاغتراب للمواطن والمواطنة على حدّ سواء. حيث لم يبقى لهذا الكائن المعطوب أمام هذه الاهتزازات والرجّات في تزمينة الذبح والعنف غير أحلام اليقظة وحاسّة المخيّلة علّهما يمثّلان له حالة مقاومة ممكنة علّها تستطيع العبور به إلى عالمه الأصيل والظّفر بالحياة في طبيعتها.

هذه الحالة المبعثرة والمتشظّية التي لا تستقيم إلاّ في حركتها العنيفة ومشهديّتها المرعبة التي عرّفها " هيقل " بـ" التاريخ العرضي" حفّزت الروائيّة " أمّ الزين بن شيخة " على المقاومة باستجلاب مخيّلتها لأنّها تعلم جيّدا أنّ " للكلمة والخطّ المرسوم وقع أشدّ من طلقات الرصاص ".

إنّ تلك الوقائع المنفّرة ورعب اللحظة في واقع متشظّي أصيب بالسأم والقفر من جهة، وقوّة المخيّلة والخوف على ذاكرة من أن يلفّها النسيان كوّنت تقابلات جعلت من الرواية مزجا بين متضادّات، ومن ثمّ معتمدة عليها لتنتج من هذه التقابلات حالة مصلحة يقول عنها "جان فرانسوا ليوتار" فـي كتابـه " لماذا نتفلسف" "والمصلحة هي علاقة متوقّفة على أضداد، أي على الضدّ، وهذه المصلحة هي التي تكوّن من الأضداد زوجا، وداخل الزّوج توجد وحدة الفصل والوصل، وهذه الوحدة الحيّة لأنّها ما تنفكّ تكوّن ذاتها بالرغم من الحدود التي تؤلّفها والتي يضادّ بعضها بعضا، فإنّها تكوّن ذاتها لصالح هذه الحدود التي تشكّل عناصرها " (3).

هذه المصلحة التي تكوّن من الأضداد وتوتّراتها ألفة روائيّة في تقلّب مشهديّة سرياليّة في تاريخ أو في تزمينة كثيرة التفلّت والتمنّع عن أناس قنعوا بمسايرة الواقع والركون والقبول بأشباه الحقائق التي ظنّوا جهلا أو طمعا أنّها الحقيقة. لكنّ المغرمين بمعارك الحقيقة تستفزّهم هذه التشويهات والمغالطات فيبحثون عن فرح مفقود وسعادة منشودة بأحلامهم وتخيّلاتهم لتأسيس وجودهم الأصيل. فينسجون من المرعب والقبيح عالمهم الخاصّ فعندما يحوّل " كوشمار " أو " عبد الباقي " أو "عماد" هذه الشخصيّة التي حمّلتها الروائيّة أكثر من تعريف واسم. عالم الرؤوس المذبوحة إلى " مرسم يرسم فيه هذه الرؤوس، ولكلّ رأس لوحته الخاصّة. ولئن اشتمل هذا المكان على الرؤوس فإنّه تحوّل إلى فضاء شاء فيه الرسّام " كوشمار " أن يبعث الحياة فيها " (4). وكذلك هو الأمر مع " ميّارى " هذه الشخصيّة التي استقدمتها " أمّ الزين " من نصّ السدّ للمسعدي لتقحمها في عالم البورجوازيّة وعالم الفيروسات والأوبئة التي تتربّص بحياة الإنسان وتجبره قصرا على سجن نفسه بالحجر الصحّي والحدّ من حريّته المنقوصة أصلا بحكم السياسة والمجتمع.

" ميّارى " تجد البديل في عالمها الخاصّ للخلاص من شعورها "بالسأم القاتل " " فترتمي في عوالم روايات، مورافيا ودوستويفيسكي وبيكيت بحثا عن خلاص من سجنها وهي الدكتورة في علم النّفس"(5).

إنّ المخيّلة الفنيّة لـ"أمّ الزين" تجعل من المتعذّر واقعيّا أمرا ممكنا لتجعل من مشاهد الموت والرؤوس المقطوعة وعالم الفيروسات والأوبئة ومؤسّسات الدولة التي سطى عليها الفاسدون والإرهابيّون جغرافيا للمقاومة على امتداد جبالها ومدنها المنهكة " لكن بين صمتها الأبدي وضجيج الموسيقى الدائم كان كوشمار يقف وحيدا هو وصوته وبعض الرسومات... كان مطالبا بتحويل كوابيسه إلى لوحات ديستوبيّة لأمكنة اِحتلّها الخراب في شكل دوائر مربّعة أشبه بقطع من الحلوى " (6).

تصرّ الروائيّة في نصّها على مواصلة الإرباك والتوتّر في نسقها الجدلي الذي ما ينفكّ يستدعي إلى نثره وسرده وأحيانا أخرى شعره المتضادّات بغية الظفر بنصّ مقاوم يستعصي عن المسك والإلمام. بل هذه المقاومة تجد ماهيتها في تربتها المتحرّكة لأنّ في تعدّد الأمكنة والأزمنة ووقائع الرعب والقبح تجد ديمومتها وسيرورتها. فمن عالم الرؤوس المقطوعة وعالم الأوبئة والفيروسات تترحّل بنا إلـى "كراذين الرضّع " و" محتشد الرقاب " واغتصاب أطفاله ومنهم إلى عاملات الفلاحة اللّوات قضين غدرا من إهمال دولتهم وكذلك حافلة عمدون التي قتلت قرابة أربعين شابّا من أبناء الفقراء بسبب التهميش وبيروقراطيّة مؤسّسات دولة منهكة ومريضة.

كلّ هذه الوقائع والأحداث مثّلت " عجينة الخبز الروائي " لتكون هي نفسها في مخيّلة الروائيّة ساحة المقاومة لأنّ هذه الأخيرة لا تهرب من ساحة النزال بل تغيّر تكتيكاتها وأسلوبها وفقا لمتطلّبات المعركة. ولهذا كان التوتّر والجدل صنعة وتأثيثا للنصّ الروائي.







الوجود من العدم أو في الفصل والوصل :

" إنّ الفنّ قدرة بنّاءة، اِقتدار مثمر على نحو أنطولوجي " أنطونيو نيغري (7)

" الفنّ والجموع " ص 87-88

أن نؤرّخ للكارثة كما يطرحها الواقع، فهذا أمر هيّن، لكن أن ينقلب مشهد الموت ولادة وحياة، فهذا أمر يستعصي عن الكثيرين. وحدهم الفنّانون من يستطيعون الإفلات من شراك هذا الواقع العدمي، والتأسيس لوجود آخر. فحين رسم " بيكاسو " لوحته الشهيرة "غيرنيكا" التي فاضت بالحياة على أجساد الضحايا، أو حين وثق " ناجي العلي " بريشته للمجازر التي اِرتكبت في حقّ الشعب الفلسطيني، وجعل من الأبيض والأسود رمزا للوجود والعدم.

كذلك أسّست " أمّ الزين " بقبح العدم وعبثيّته الواقع بأسلوب بلاغي يرفض الاستكانة لنمط بعينه. أسّست للوجود ولتزمينة الحياة على هيكل الجماجم، ليمنح الفنّ بذلك حياة أخرى للضحايا الذين اختير لهم بخازوق الدولة والإرهاب طرق موت فضيعة ومرعبة. فليس العيب في أن نموت، فتلك حتميّة هذا الكائن البشري، لكن بربريّة ووحشيّة الطريقة هي ما يستفزّ إنسانيّتنا المحطّمة.

هنا يتدخّل الفنّ ليقلب هذه الكوابيس لوحات فنيّة، ليغدو الفنّ وبالتحديد الرسم مع "كوشمار" ذاكرة لمن ليس لهم ذاكرة، ليشيّد بجماجم إخوته ومن أحبّهم معبدا، لا بل مرسما يعيد فيه الحياة لمن فقدها. وما لوحة " الحلم المستحيل " أو " حلم ينزف " لأصغر إخوته يوسف، وما يحتمله هذا الاسم من دلالة ورمزيّة في ذاكرتنا الإيمانيّة العميقة، وما هي إلاّ تذكير من الروائيّة بحادثة الجبّ، وكيف ألقى إخوة يوسف أخاهم فيه، ولكن بطريقة فنيّة متفرّدة فيوسف دلالة على الإيمان الطاهر والنقيّ. أمّا إخوته فهم الإرهاب والعدم الذي لم يرحم نضارة وبراءة ذلك الطفل الصغير الأبكم. لكنّ الفنّ وفي حركة اِرتداديّة اِستطاع أن يبعث الوجود في ذلك الطفل الأبكم وإنطاقه ليصبح مكتمل الوجود بعد أن صيّره كائنا صواتيّا " يوسف الصغير الذي ولد أبكم قد اِستعاد على صدر اللوحة صوته... ربّما كان جسده عائقا أمام صوته... يا لها من معجزة... معجزة الرسّام حيث تعود اللّغة سالمة إلى أصحابها..."(8).

إنّ الفنّ هنا بمنحه الحياة للموتى يحقّق حركة مجاوزة للبديهيّات والمسلّمات الميتافيزيقيّة في كلّيتها وإطلاقيّتها، ويعطيها أو يهبها معنى آخر مختلف بعد أن ظنّت الحداثة أنّها أنهتها في هذه التزمينة الظلماء ليكون الفنّ ذلك " الرائع " « Sublime » كما أطلق عليه " أنطونيو نيغري " في رسائله عن "الفنّ والجموع " التي كتبها بين 1988 و2004. والرّائع هو " ما يخرج عن حدود التخييل والتمثيل والقيس الرياضي " (9)

والرّائع هو أفق بديل عن اِستيطيقا الجميل الحديث، لأنّ الجميل يروق ذوق متفرّج يطلب اللّذة الجماليّة. أمّا الرائع فيصدم ويعطّل قوى النّفس ويستفزّ فيها مشاعر الألم تجاه ما يخرج عن دائرة المخيّلة الجماليّة. وبهذا يكون الجميل حديثا، والرائع ما بعد حديث " يهدم جدران الواقع المهزوم في كلّ مكان..."(10). هذا الواقع الذي حوّلته الحداثة بمسوخها العنصريّة والإرهابيّة إلى سديم لأنّنا في مجتمع لم يستقبل من الحداثة إلاّ مسوخها التي حوّلت واقعنا إلى كابوس وتزمينتنا إلى كارثة وتاريخنا إلى مآتم. في هذه اللحظة يتدخّل المبدع للأثر الفنّي ويجعل من مخيّلته مادّة يقتات منها الفقراء، فقراء المال، فقراء النفوذ، فقراء الحبّ، فقراء الحياة. لأنّ المخيّلة هي آخر قلاع هذا الكائن للدّفاع عن وجوده لتكون المخيّلة مادّة للمقاومة وتأجيلا للسقوط. وإذا كان لابدّ منه فلماذا لا نسقط ضاحكين ؟

ربّما تكون الرؤوس المقطوعة مشهدا مرعبا إلى حدود اللّعنة والعبث والبربريّة، لكن هذه المشهديّة العدميّة تنجح الروائيّة من خلال لوحات كوشمار أو لوحات الذبائح وحالات السأم والعزلة في الوجه الآخر للرواية (ميّارى) إلى لحظات اِقتدار على الحياة ولوحات فنيّة تتحدّى الواقع الذي حكم عليها بالإقصاء والتغييب من خلال فعل القتل إلى وجود بالقوّة في عالم تتغلّب فيه إرادة الحياة على إرادة الفناء التي ما تنفكّ مسوخ الحداثة تنثرها في هذا الواقع المتشظّي ما بين رغبة القتل ورغبة الحكومات المارقة " لكنّها كانت تتمنّى لو تتحوّل هي الأخرى إلى شبح سردي قادر على اِختراق كلّ الجدران التي بناها العالم الواقعي حولها "(11).

وهذا الاختراق لا يكون إلاّ بالمخيّلة " توجد إمكانيّات لا متناهية من العوالم يا ابنتي... تشبّثي بالخيال هو من سيصنع لنا عالما جديدا... "(12). لكنّ هذا العالم لا يسكنه إلاّ المبدعون والفنّانون، ربّما يكون عالما من خيال لكنّه مع ذلك جدير بأن يستشعر ويعاش ليكون " الفنّ وحده بوسعه إعادة المقتولين إلى الحياة "(13). أو لسنا اليوم في حاجة إلى أن نحلم ونتخيّل في لحظة اِنسداد أفق واقعنا ؟





الخاتمــة :

" قصيدة المقاومة لا يمكن أن تنتهي لأنّ المقاومة نفسها لم ولن تنتهي فهي مثل طائر الفينيق، والحياة مبنيّة على مفهوم الصّراع وليس على مفهوم التسليم والثبات والسكون. المقاومة لا تعني فقط أن تقاتل بمسدّسك أو بحجارتك... المقاومة أن تقف أمام الشمس عاريا تبحث عن هويّتك أو وجودك"(14).

في زمن الكارثة والقحط الانطولوجي أو عندما يعمّ الخراب يهرع المبدع إلى اللّغة كآخر سكن للوجود كما حدّثنا بذلك " هيدغير" علّه يجد في مفرداتها أملا في فتح أفق جديد يؤثّث به معاركه القادمة، لأنّ المبدع مجبول على الصّراع، وعدم التسليم لمجريات الواقع وما يفرضه من عروج للعنف وتأبيد للمأساة. في هذه اللّحظة يتدخّل الفنّ للبحث في ممكنات أخرى غير آبه بالتضادّات والتقاطعات لتنبثق في هذا المسير الحياة من الموت، ويولد الوجود من العدم والخصب من القحط والجدب لأنّه ببساطة يداوم في التشبّث بأمل ينبلج نوره من عمق الظّلماء. هكذا هي رواية " طوفان من الحلوى... في معبد الجماجم " التي تسترشد بالمخيّلة دفاعا عن آخر معاقل هذا الكائن متسلّحة في ذلك بأسلوب لغوي يغلب عليه التوتّر وفوضى الحواسّ حيث المزج بين المجاز والسّرد، وأحيانا أخرى ما بين الشعر والنثر غير آبهة بنواميس الأدب وكلاسيكيّاته وما تفرضه من رتابة أسلوبيّة في الكتابة.

لقد وثقت هذه الرواية لعشريّة الدم والنّفاق واِستطاعت بذلك أن تعرّي المحتجب والمتخفّي وأن تجعل اللامرئي مرئيّا في هذا العالم الذي فقد حياءه، فهي في تفكيكها لتزمينة البؤس والقتل، إنّما هي تهدم بمعولها الأدبي أصنام السياسة والثقافة والأخلاق في مجتمع فقد هويّته وبذلك تُخرج الفنّ عن طوره لتحرّره من اِدعاءات " نيتشة اللعين" بأنّ "الفنّ للفنّ " بل هي بذلك بصدد التأثيث لتزمينة أو مقولة أخرى مختلفة يصحّ لنا أن نسمّيها " تزمينة الفنّ والجموع " وهنا نقصد جموع " أنطونيو نيغري" التي تصنع كينوناتها باقتداراتها على العبور والقفز إلى ما أبعد من العالم الذي فُرض عليها (الجموع) سكناه أو ما عبّر عنه نيغري بـ" المقبرة " و" برودة الموتى ".

بهذه الحركة الأدبيّة المتوتّرة والارتداديّة تفتح لنا الروائيّة إمكانيّة لإعادة اِختراع الواقع واختراع الكينونة وإعادة من أريد لهم أن يبقوا خارج دائرة التاريخ إلى صلب التاريخ حتّى يشاركوا في صناعته بعد أن أسكنوا الهوامش " إن كلّ المقتولين إنّما هم جديرون بحياة أخرى " (15). هذه الحياة التي يكون المهمّشون هم صنّاعها في لحظة اِنسداد الآفاق حولهم فـ" إنّ أقوى اللذّات لتأتينا في حالة اليأس تحديدا" (16).

إنّ رواية " طوفان من الحلوى... في معبد الجماجم " تؤثّث لقران أو تماه زوجاه الفنّ والمقاومة يكون الإبداع خيطهما النّاظم، والذي ما ينفكّ يخترع أدواته وأساليبه ليتخطّى المأساة ويعبر الكارثة، وهي بذلك تجيب عن إحراج أو تساؤل كان قد طرحه "أدرنو" "أيّ وجه أو دور للفنّ ما بعد المحرقة؟".

فهل بوسعنا نحن ككيانات معطوبة أن نتحرّر من هزائمنا ونصنع اِقتداراتنا ؟

هذا التساؤل مرهون بمدى رغبتنا وقدرتنا على المقاومة والسخرية من الواقع لصناعة المشترك.

الهوامــش

أندريه مالرو (1901-1976) فيلسوف وناشط فرنسي.

أمّ الزين بن شيخة المسكيني، الإبداع والمقاومة في أنطولوجيا الرائع، الفلسفة والمقاومة والإبداع، ص 121، دار محمد علي للنشر، ص ب 3027، ط1، تونس، 2016.

جان فرانسوا ليوتار، لماذا نتفلسف ؟ ترجمة يوسف السهيلي، تقديم : كورين انودو، دار التنوير للطباعة والنشر، تونس 24، نهج سعيد أبو بكر - 1001 تونس، ط 1، تونس 2017.

أمّ الزين بن شيخة المسكيني، رواية " طوفان من الحلوى... في معبد الجماجم "، ص 9، الدار التونسيّة للكتاب، ر.د.م.كـ: 6-73-942-9938-978- ط1، تونس 2021.

محمّد خبّو، تقديم رواية " طوفان من الحلوى... في معبد الجماجم " أمّ الزين بن شيخة المسكيني، ص 9، الدار التونسيّة للكتاب، ر.د.م.كـ: 6-73-942-9938-978- ط1، تونس 2021.

نفس المصدر، ص 25.

انطونيو نيغري، الفنّ والجموع، ص 87-88، الإبداع والمقاومة في انطولوجيا الرائع، أمّ الزين بن شيخة المسكيني، الفلسفة والمقاومة والإبداع، مصدر سابق، ص 127.

أمّ الزين بن شيخة، طوفان من الحلوى... في معبد الجماجم، مصدر سابق، ص 102.

أمّ الزين بن شيخة، الإبداع والمقاومة في أنطولوجيا الرائع، الفلسفة والمقاومة والإبداع، ص 116.

أمّ الزين بن شيخة، طوفان من الحلوى... في معبد الجماجم، ص 45.

نفس المصدر، ص 145.

نفس المصدر، ص 215.

نفس المصدر، ص 117.

فايز خضّور، جريدة تشرين، دمشق، العدد 8720. 1 أيلول سبتمبر، سوريا 2003.

رواية " طوفان من الحلوى... في معبد الجماجم "، مصدر سابق، ص 117.

نفس المصدر، ص 119.



#صالح_دغسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- بالتعاون مع العراق.. السعودية تعلن ضبط أكثر من 25 شركة وهمية ...
- مسؤول إسرائيلي حول مقترح مصر للهدنة في غزة: نتنياهو لا يريد ...
- بلينكن: الصين هي المورد رقم واحد لقطاع الصناعات العسكرية الر ...
- ألمانيا - تعديلات مهمة في برنامج المساعدات الطلابية -بافوغ- ...
- رصد حشود الدبابات والعربات المدرعة الإسرائيلية على الحدود مع ...
- -حزب الله-: استهدفنا موقع حبوشيت الإسرائيلي ومقر ‏قيادة بثكن ...
- -لا استطيع التنفس-.. لقطات تظهر لحظة وفاة رجل من أصول إفريقي ...
- سموتريتش يهاجم نتنياهو ويصف المقترح المصري لهدنة في غزة بـ-ا ...
- طعن فتاة إسرائيلية في تل أبيب وبن غفير يتعرض لحادثة بعد زيار ...
- أطباق فلسطينية غيرتها الحرب وأمهات يبدعن في توفير الطعام


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - صالح دغسن - قراءة في رواية : طوفان من الحلوى... في معبد الجماجم