أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جاسم عاصي - وظيفة الشعر وتحولاته















المزيد.....


وظيفة الشعر وتحولاته


جاسم عاصي

الحوار المتمدن-العدد: 7103 - 2021 / 12 / 11 - 22:16
المحور: الادب والفن
    



الشعر كبقية الأجناس تواق للتحول والاختيار لمكونات النص وتجديدها،دون التفريط بخصائصه الذاتية التي تُخضع المعاني للمعلم الفني.لذا ومن هذا المنطلق يتوجب أن تكون نظرتنا للشعر كونه ليس كلاماً واصفاً للأشياء والمشاهد،بقدر ما يرمي بفعاليته دون النظر إلى تشكله على أنه موجود وفاعل بما يتركه من تأثير مباشر وغير مباشر.الأثر والتأثر منالا الشعر،بالرغم من اختلاف مكوناته الفنية والبنيوية.فقد ذكر(شيللي/في دفاعاً عن الشعر)... انطلاقاً من وجهة نظر فلسفية دقيقة،لا يمكن قبول التقسيم الشعبي إلى نثر وشعر.فليس من الضروري أبداً إخضاع الشاعر للغه نظام معيّن من الأشكال التقليدية،وذلك بشرط أن يراعي الانسجام في فكره... ،فالشعر بهذا يعمل على تحقيق هوية الشاعر من اعتبارات تخص الشعر نفسه.فوصف المرئيات يجنح باتجاه تجسيد المؤثر الذاتي بواسطة استعمالات بسيطة وعميقة الجلالة.فرسالة الشعر ليس بما يقدمه من إبهار بفكرة غير متوقعة فحسب،بل أن يقدم لحظة من لحظات الكائن،فيحولها إلى لحظة ترسخ في الذاكرة،وتستعاد باستمرار في لحظات يحققها النص من خلال حيويته المتواصلة.لذا نجد الشعر لا يفصل بين فكرة الشكل والجوهر الشعري وإنما الاقرار بأن الشعر لا يكمن في أي شكل محدد سلفاً،وإنما ينحى في محصلته النهائية إلى تحقيق الوحدة العضوية في القصيدة.
التجربة الشعرية ترتبط بمستوى المعارف التي تفتح آفاق المسار الشعري،وتغني مضامينه وترسّخ بساطته من باب نبذ التركيب المعقد والمفتعل وصناعة الكلام. فعالمه ينساب كمجرى مياه النهر دو عائق والتواء .فالأفكار والانطباعات لدى الشاعر تتواجد من خلال تلقائيتها،وليس عبر تمثيلها بانفعال يسير نحو الغموض المفتعل.فالغموض في الشعر أو غيره من الأجناس مدعاة إلى الارتباك وليد عدم الوضوح في الموقف الفكري.فالفكر في النص ينبعث كناتج لطبيعة استلهام المعنى الذي ينتج الفكر كدليل على الموقف من الوجود وما يدور فيه.إذ يمكن أن يرشح الشعر مثل هذه الأفكار في استعمالات مختلفة لا تبتعد عن شعرية القول.فالوحدة العضوية للقصيدة مدعاة للتحقيق،إذا ما أُريد للشعر أن يكون أكثر جدارة في تناول مداراة الوجود وتناقضاته وصراعاته.ونعني هنا الاختيارات التي توازن بين الأشكال والمعاني،فليس طغيان جانب على آخر يحقق شعرية الشعر،بقدر ما يسحبه باتجاهات بعيدة عن كينونته.فإذا ما احتكمنا إلى أى موضوعة كون الشعر نظام والقصيدة تنظيم جمالي فإننا لا بد أن نضع في الحساب مثل هذا الميزان الذي يشكل نظامنا في التعامل مع الظواهر من باب الشعر.فالقصيدة بهذا تحافظ على خصائصها ومكوناتها التي لا تتخلى عنها وهي الايجاز،أي عدم الوقوع في الترهل والزيادة في التعبير واستعمال المفردات والجمل.ثم التركيز،بمعنى عدم الذهاب بالمعنى في ارباك الجمل الفضفاضة والذهاب خارج حاضنة الشعر .كذلك التكثيف،أي تنضيد الجمل ذات الايحاءات والدلالات.فنظرة الشاعر إلى الشعر لابد أن تنطلق من حقيقة كون الشعر أزلي لكن الوجوه التي يرسلها لنا مختلفة.هكذا يتوجب النظر إلى الشاعر وشعره
من هذه الخصائص يمكننا التعامل مع شعر(سلام البناي)،كونه ينطوي على هذه التلقائية المنطوية على عمق دلالي يتوزع على أطياف شعرية تتجدد في قصائد ديوانه(ما يفسره البياض).والتفسير هنا ينطلق من مكمن أُسطوري حصراً مرتبط بالبياض،باعتباره يرمز إلى النقاء.والبياض رمز أزلي دال على ازاحة الشوائب ،وقد ارتبط كثيراً بالماء ((خلقنا من الماء كل شيء حيّ))كما هو عند أداء طقوس (الصابئة المندائيين) قرب ضفاف الأنهار.والتقديس ينبثق من (الماء قرين البياض) متحدين في مواجهة الظواهر كالتعميد للزواج مثلاً.بمعنى تمتين العلاقة وخلق شرعية لها بالوسيطين. فالماء في الأنهار تتغير لتحديد مقول(أنت لا تدخل النهر مرتين)مثلاً.فالإزاحة التي يُحدثها الماء(البياض) قادر على ابعادالشواب. لذا يكون العنوان هنا فاتحة مبكرة للدلالة على المحتوى الشعري الذي زخر بالتنوع. كذلك شمل هذا تصميم الغلاف الذي خلق بؤرة للبياض،وهي بؤرة أرضية توصل بياضها باتجاهات أُخرى.أما ظهر الغلاف،فقد اتصف بلون محايد مع البياض،وهو الرمادي.كذلك تأثير المقطع الشعري الذي يُلخص نظرة الشاعر والقائلة:كان يعرف/أني لا أُطيق /فوضى الخريف/لذلك قال لي/ وهو يخنق انكساره:أحرث بظلّك/ما تساقط في عنق السواقي/واحترف قطاف الضوء في المساء).إذ تبدو واضحة توجهات القصائد من التزام.
فقصيدة(البنّاي) تحاول جاهدة أ، لا تكون خطاباً مباشراً،وإنما عملت على تعميق الشفافية الشعرية من جهة،كذلك شعرية القول من جهة ثانية.لذا نجد في شعره حياداً ينطلق من الانتماء إلى الحياة اليومية وللتاريخ والمعارف.وهو ما رشحه إلى اطلاق فعالية خاصية السهل الممتنع.

عتبات القصائد/
ما نرمي إليه في تتبع ثريات القصائد؛التأكيد على فعالية العنوان وعلاقته بمسار النص مهما اختلف الجنس.كذلك الكشف عن مدار يقترب من الشفاهي الذي يجد له ارتباطاً بالمتن.فمن المؤكد أن اختيار العنوان مرتبط بالمحتوى كما سنرى. إذ لا يمكن فصل المتن عن الثريا بأي شكل كان،ذلك لأن المنتج يضع في حسابه التفكير في صيغة يُشير إليها العنوان من باب احتواء المعنى الذي سيشرع بتنضيده على شكل كلام شعري كما سنرى:
ــ سيدة البياض/ربط رمز النقاء بالمرأة باعتبارها الأكثر قدرة على الاستقرار كما تقول الأساطير.فعالمها منتج ومطور للوجود،وهي بحق سيدة الحياة(البياض)والعلاقة الخفية يمكن أن تكشفها المعرفة بدور الأُنثى في مواجهة سلطة البطريارك في التاريخ/منذ نزوء (حوّاء وآدم) إلى الأرض،وكما لحق هذا النزول صراع بين(قابيل وهابيل)وارتباطه بالأُنثى أيضاً،وهي رمز الأرض(الزراعة)بمواجهة الرعوي غير المستقر.لذا نشأة الحياة بانتصار الأُنثى وتأسيسها لمسار الحياة الزراعية،اي الاستقرار ونشوء الحياة بتفاصيلها.
ــ ذاكرة الليل/الليل يحفل بالمتغيرات التي ترتبط بسحر الحياة.لذا فالفعاليات في زمنه تشكل خزين الذاكرة،كما هو الجدار في الفن التشكيلي.
ــ شجرة التين/ شجرة مباركة كما هي شجرة السدر.فحضورها كعنوان يمنح النص قوة العطاء. .
ــ البستاني/
ــ بائع الحلوى/ليس أنقى وأحب للجميع من إنسان ارتبط وجوده بالذوق والمذاق.وهو عنوان عابر لخاصيته المكشوفة. ليس أدق من إنسان ارتبط بالأرض.فهو صفة لأفعال غير مخبأة
ــ كي لا أتمادى بالبوح(اعتراف متأخر)/البوح يعني إظهار وكشف غير ما هو واقع.فالتمادي بطبيعة الحال الاسراف في الاعتراف بالخطيئة افتراضاً.لكن الاعتراف المتأخر هنا قد ضيّع الفرصة في حسم الأمر. العنوان يرتبط بالمتن من باب نقد الذات.
ــ ثمة أسباب أُخرى للعزلة/تأكيد على حقيقة مسببات العزة وطبيعتها.والذي تعنيه الثريا إضافة نوع من الاسباب بقيت مستترة بمسار القصيدة.
ــ لا تعنيني كل هذه الأشياء/رفض الاعتراف بما هو ماثل في الوجود من أشياء تؤشر الظواهر،فلا تعنيني أساساً تؤشر وجود أشياء تستهويها الذات.
ــ في مواسم اخضرارها نتأمل حنين الماء/تأشير للسبب والنتيجة،فالماء أصل الأشياء.إذاً هي قصيدة تتأمل الخصب.
ــ فوضى مشفرة/تعني الأسباب الخفية للضياع وسط الفوضى.اذاً ليست لها معالم مباشرة.
ــ ما تخبئه الخيبات/الخوف والوجل مما تخفيه العثرات،فهي إشارة إلى الاحباط الذي يتوجب اليقظة.
ــ ما زلت أتذكر/بمعنى البقاء على حنين الأزمنة،أياً كانت خصائصها.المهم البقاء على صفة التذكر،أي عكس النسيان.وهذا يمنح الذات درساً بليغاً من الحذر.
ــ ملتف بذيل رحلته/لم يزل يتواصل بمسيرته،والالتفاف هنا نوع من الشد ونبذ الارتخاء.
ــ عازف على أطلال ترابه/يقترب العنوان من خواطر المهجرين في انثيالاتهم الشعرية والنثرية.فـ(عازف) تعني في القراءة معنيين:أما العزف من باب الموسيقى،أي التواصل؛أو من فعل عزوف بمعنى الابتعاد.فهو عنوان ملغز ينتظر متن القصيدة لكشف المعنى.
ــ ما تنسله الحرب/التناسل صفة إيجابية،أيتواصل طرح الصفات الحميدة؛لكن ارتباطها بالحرب،تعني الخراب.وحصراً هنا في ما تولده الحروب في الأزمنة القادمة.
ــ لست وحدك/بمعنى اطمأن فلا ضياع في الوحدة والعزلة.
ــ تعويذة/نوع من اتقاء الشر قبل أن يقع،وهو معتقد شعبي تُقام له الطقوس،وتهيأ له مستلزمات الوقاية.
ــ بجيوب فارغة/الفراغ يعني تلاشي الأشياء،وارتباط الفراغ بالجيوب .وهنا لا يعني الفقر المادي،وإنما الفقر من مسببات الحياة ووجودها الرحب.
ــ انتظار/تعددت حالات الانتظار والأسباب مقتربة من بعضها،حيث اتخذها مؤلفي الأدب ايقونة يعبّرون بواسطتها عن المغيّب،سواء المثل الأعلى،أو القيّم،كما في مسرحية(يونسكو)في انتظار كَودو
ــ لا أحد/لا تعني لا شيء،وإنما لا أحد يمكن أن يكون بمقابل الذات.
ــ بصمات الأسى/البصمات هي الآثار التي يتركها الزمن بأحداثه،والأسى تأكيد على طبيعة البصمات،فهي غير مفرحة.
ما يبوح به المتن الشعري/
القراءة كحاصل تحصيل لكل مكونات النص،ومنها كما ذكرنا في دراسة عتبات القصائد التي تُشكّل اطلالة مبكرة لكشف صورة وسمة ما ورد في النص.وقد تكون التورية جزءاً من اللعبة الشعرية الميالة إلى تغيير الرؤى والانطباعات وتأشير ما يساعد على وأد المباشرة التي يبتعد عنها الشعر.المهم أن الشاعر(سلام البنّاي)ووفق ما قرانا له من شعر يمكننا أن نستنتج أنه منتج نص،تعنيه تحولات نصه الواضحة ضمن تشكل القصيدة،فهولا يُبقى على نمط تقليدي في طرح المعاني،بل يختار الأُطر والأساليب والأشكال المناسبة لتنضيد قصائده،ويشمل هذا ما تبوح به على نمط ً(أنت لا تدخل النهر مرتين تأتي).لذا يحاول تغيير نمط القول بما يتناسب مع متغيرات الوجود الإنساني.فما كان يقوله مباشرة ــ افتراضاً ــ،ينزع إلى نوع من التورية المفعمة بجمالية التعبير وبساطته.غير أنه وكما ذكرنا في التقديم من خصائص قد تبدو عامّة،لكنها تمثل خلاصة لقراءة متأنية لقصائد الديوان والخروج بها نحو أُفق الكتابة الشعرية متعادلة الأطراف .
يحاول الشاعر أن يُفعّل التعبير من خلال أنسنة الأشياء وجعلها قادرة على التعبير عن رؤاه،كالأنهار والأشجار،كذلك توظيف السرد عبر الأفعال التي تستهل مفاصل القصائد والذي يكسب الشعر صورة لروي متمكن من كشف الظواهر وإضفاء جمالية خاصة.فقصائده لا تتعامل مع الظواهر مهما كانت مستوياتها بمواجهة مكشوفة وحدّة عالية،بل بحيادية مبدئية،ونعني بها مبدئية الشعر ككيان مستقل عن الأجناس في وظائفه،ومشترك معها في بعض الخصائص الرئيسية.
لعل قصيدة(سيدة البياض)تعبير شامل لرؤى الشاعر وما يعنيه البياض من رمز.والذي يؤكد قدرة القصيدة على معالجة مثل هذا الحس؛هو توكيل البياض للأُنثى (الأُم)ذات الخاصية الأُسطورية منذ بدء الخليقة كـ (حوّاء)وميلها للإنتاج والتناسل وما يمنحاه من ديمومة للحياة عبر الاستقرار في الأرض.والقصيدة وهي تقدم كشفاً للعلاقة مع الأُم من خلال تواصل العام في خلق عالم إنسان القصيدة. إذ يستهل القصيدة:
{في محاولتها الأُولى
لتدوين البكاء
اتخذت من ضوء القمر متكأ
فارتعشت روحها بالبياض}
لعل هذا القول يرتبط مباشرة بما حققته(حوّاء) وهي تُنزل(آدم) إلى العالم الأرضي.أما البكاء فهو تعبير مجازي يكشف رؤاها المتعلقة بالبقاء في ملكوت عالم لا يعطي ديمومة التحول في الوجود.أما اتخاذها ضوء القمر دليلاً،فهذا لا يعني عدم معرفتها به،بل أنها تعرف خصائصه الذاتية والموضوعية كمصدر ورمز للنقاء(البياض),وما الارتعاش الذي خلفه البياض ووفرة ضوء القمر إلا استقبال لما يحصل جراءه من نتائج.فالدليل المنطقي هنا كامن في:
{وهي تختفي مثل نجمة
يطاردها الفجر
لتشطب الجوع
بمحراث مواسمها
وتصوغ لنامن سنابل شعرها
تيجان الرغيف}
هذه الصياغة الشعرية لا تتوسل بالمباشر لتغطية الوجود،بل أنه يعطي توصيفاً له علاقة بالإنسان المنتِج،فهي دالة على وجوده بدليل:
{ وإذا داهمني الحزن
تدق طبول قلبها
فتلمني بعباءة صبرها
وتعمدني
حتى أفيق}
فالقصيدة تقدم بانوراما للخصائص التي تكشفها مستويات الرؤى الشعرية من خلال كشف العلاقة مع الأُم.ولعل حرص الأُم المتمثل بالحب والحرص على وجود الابن مما يداهم حياته من أحداث لعل الحروب التي ابتلى بها البلد في مقدمتها.لذا لجأت إلى الرجاء من الرب أن:
{توسلت بالتراب
الذي تحت قدميها
أن يسأل الله لكي أصغر}
ويعني الابن،لأن القصيدة مكتوبة بضميره. وتستمر القصيدة في طرح مصادر الأذى إزاء الابن:
{وفي الحروب
تغزل جدائلها
أدعية وتعاويذ
وتقف مكسورة
كقطرة ماء
تلوذ في التراب
حتى أعود}
الشاعر يحاول وهو يصوغ صوت قصيدته باتجاه تركيز لا يأخذ سوى بالأهم المؤثر والكاشف،دون الوقوع في نفس التوجع وتراكم العاطفة،فالشعر صوت شفاف للذات التي لا تقبل القسمة إلا على الشعرية.وهذا يتطلب التوفر على عناصر لغوية أكثر كثافة وتركيزاً حيث تمسك برهافة الحس الإنساني لإنسان القصيدة.وما ورد في قصيدة (سيدة البياض) سوى نوع من الحفر في أدق ا ما تنم عنه العلاقة بمصدر البياض ونقائه.
إن التحري في مفردة(التشهي)توقظ الرغبة الذاتية في كل ما يوفره وجود الإنسان في الكون.فعبارة(قدرنا أن نشتهي الحزن) تقود إلى الرغبة في الاستعادة للمفقود،وهو الفرح.لذا يسوق العبارة ليوصلها بأصل الأشياء والرغبات:
{لنفرح
ونعشق
ونزرع ضحكاتنا بالمجان
ولا نميّز بين الأمس واليوم
كلاهما يقودناــ دون رغبة ــ
إلى أزمنة
غابت عنها مجالس السمر}
نلاحظ في هذا الكلام نوع من رثاء الذات لخسارتها المتواصلة،ولكن ليس برثاء مرّ،بل بتصفح مرايا الوجود من خلال ايقاظ الذاكرة وخلق نوع من الأُلفة والتوائم الذي يُعطي للذات استقراها النفسي وإبعاد صورة الفقدان .
الذاكرة والمكانية/
يستعين الشاعر في معظم قصائده بالذاكرة المرتبطة بالمكان،حيث يصوغ عباراته الشعرية ليجعلها أكثر حميمة عبر استعادة صور الأمكنة.وبهذا استطاع كما نرى أن يحقق توازن في معادلة الماضي والحاضر.وكما ذكرنا في كونه كشاعر لا يفرط بالأشياء وخصائصها في توازن مشاعره.إذ يتخذ من شجرة التين عيّنة لعكس مثل هذه المشاعر.فالشجرة وجود وصرح مكاني قادر على تقديم تفاصيل سردية تحتوي سيرة الشجرة الرمز وما تشهده في علاقتها بالإنسان كشاهد مكاني:
{في مدخل الحيّ القديم
الذي لم أعد

هذه الاستعارات المكانية تمكنت من تقديم صورة للشيء وأثره،والذي تمركز على شاهد شجرة التين.
أما (البستاني) فيقدمه مثلاً يُحتذى بوجوده ومجموع أفعاله ذات الطابع المغيّر لما حوله.وهو يعمد إلى الاستعانة بالمثل الأكثر عطاء في الحياة من خلال تقديم توصيف لأفعاله مع الطبيعة وإخصاب الحياة:
{ليتني رافقته
منذ زمن بعيد
وهو يُعبد
خريطة التراب
ليمر ضاحكاً
بين يديه الماء}
هذا التمني لا يشفع كدليل للخلاص من كابوس الزمن.لذا نجده يغلق بوابات قد كشف عن صورة الانقاذ:
{ لأن الحدائق
بلا رفيق
ولا تأمن خذلان الفصول
......................
.......................
ني لا أُطيق
فوضى الخريف
....................
.................
احرث بظلك
ما تساقط في عنق السواق
واحترف قِطاف الضوء
في المساء...........}
في هذا القول واسترسال التداعي باتجاه التخلص من مهيمنات اليأس والانزواء،بقدر ما فيه دعوة لممارسة الفعل الذي يرفد الذات بقبول الوجود.بمعنى أن الشاعر يسعى للتوفر عللى توازن معادلة الوجود فـ(أني لا أُطيق فوضى الخريف)إنما هي دعوة لرفض السلبي بدليل (ن لا أُطيق فوضى الخريف)،في الوقت نفسه يدفع إلى التمسك بـ(أحرث بظلك).وبهذا يحقق توازن المعادلة في الوجود.
بينما نجده يتناول الكثير من الظواهر في قصائده،مما يضع شعره بمواجهة الواقع من باب كشف التأثير الذي يتركه إيقاع الحياة اليومية عبر التعامل الواعي الذي يُبعد المماحكة الشعرية والتوصيف المباشر.فالشعر فينظره يبقى شعراً خالصاً،له مجالاته ومرتكزة الفني والموضوعي. فبائع الحلوى يبقى إنساناً متفرداً بيومياته،قريباً من مهنته .لكنه يمتلك رؤاه الخاصة:
{أتذكر كل ليلة
دورانه في الأزقة
وشعره معفر
بغبار الأسى والحرمان
يجمل بيدين طريتين
علبة الحلوى
وبين صوت وآخر
يدس في فمه
ما فاض من سكرها.}
بينما نجده في(كي لا أتمادى في البوح) يتحرى كل ما تخزنه الذاكرة من صور ليصل إلى خلاصة القول والرؤى:
{ضائعون نحن بلا عناوين
ولفرط محبتنا بادّخار الذكريات
نعجل بلملمة متاعنا
متضرعين نمضي
على ظهر كل قافلة
تقصد عافية الوجوه ... }
لعل هذا القول لا يعني الاستسلام،بقدر ما يعطي تنبيهاً،ذلك لأن قصائد الديوان مجتمعة تنبئ بصوت الاحتجاج شعراً لا يفرط بلغته ورؤاه وشعريته.فالبناي يترك انسيابية الشعر تأخذ طريقها دون قسر وليّ لتغليب صوت الاحتجاج على صوت الشعر.
وفي حب غامر يواجه مدينته،وكأنه يتحدث عن امرأة لها تأثير على وجوده.فالمدن تأريخ وذاكرة،لذ -ا يتوجب فعل التعامل معها على أنها حياة واسعة.والشعراء تغنوا بمدنهم،فخلدوا وخلد شعرهم:
{ المدينة التي لا مناصّ من عشقها:
نستند عليها كلما نجوع
وتلوذ أحلامنا
عند تخومها
حين لا نجد سماء
للتأمل والتحليق}
هذا لاستهلال ينحو باتجاه تقديم شعور العرفان للمدينة.فهو يقرّب صورة المدينة من صورة الأُم لما تمتلك وتفي به من حنان وحنو على أبنائها.هذا الشعور يعبر منطقة العلاقة التاريخية ليحقق علاقة إنسانية أُخرى.ومن تاريخ وجودها أنها:
{هذه المدينة
لا تجيد اللغة المبتكرة
للسرّاق
ولا تربطها
بقاطعي الطريق
ظلمة مشركة
فهي تحمل مروءة الفرات}
مؤكاً أيضاً:
{هذه المدينة
منسوخة منفجر
تنفست الحياة
رحيق ضيائه
فانبلج الدمع المضيء
واحداً من مواسم شروقها ...}
لعله بهذه الخاتمة جسّد تراجيدية المدينة التي ارتبطت بتاريخ الدم والشهادة.ثمة علامات دالة على الشهادة والخصب في(الفرات)،فالسمة التي توسم تاريخ المدينة؛هي استعادتها لمأساتها على مر الزمن.فهي مدينة لها طقوسها كالمدن القديمة التي ارتبطت بأُسطورتها كبابل وسومر،فكانت الاستعادة لتاريخها عبر طقوس خاصة يمثل هويتها القارّة لوجودها.
لم يكن الشعر هنا دليل كشف ملكته هم آخر وربما آخر،وربما هموم تخلقها المشاهد التي تبنيها وتتبناها نوايا.لذا فالشعر وسواه من الأجناس يجد وظائفه عبر أساليبه الفنية.والشاعر(سلام البناي) كما نرى يجدد من أدواته الشعرية،ويوسع من رؤاه بما يكلفها صفة تكليف الشعر وظائف متجددة.ولعل قصيدة(ما تنسله الحرب) نموذج لمثل هذا.والحرب من وجهة نظره متعددة الوجوه بدليل(تنسله)،فهي فعل تجديد الأساليب في القهر والمحو. فهو لا يبتعد عن التاريخ الدامي بسبب ما تركه من وشم في الحياة.فالأثر باق والحياة جارية.والشاعر يجده في:
{حروب النخبة
حروب العروش
حروب المتخمين
الحروب التي أوهمتنا
أن الأناشيد تعويذة
لحفظ أسرار البيوت
وأن البلاد تضيع
والحياة في قطرة دم}
لعل وظيفة الشعر ومن خلال ها المقطع من القصيدة،أو سواها،والتي تعلن عن تقديم موقف مما تفرزه الحياة وسط صراعات قد تبدو خفية لكنها تُعلن عن وجودها في تشويه مسيرة الوجود،لذا فالموقف منها وكما يجده الشاعر مبدئياً من ناحية وضمن وظيفة الشعر من باب آخر كما هي وظائف الأجناس الأُخرى.والشاعر (سلام البناّي)من خلال قصائد ديوانه(ما يفسره البياض)،يعطي للشعر اهتمامه الفني والموضوعي،فهو يعني بالبياض نقاء السريرة وفيضها الذي يكشف كل سواد الوجود.فالصراع الدائر في الوجود أزلي ودائم،لكن ما يبدد ظلمته الكلام المفعم بالشفافية كالشعر. وهذا شأن الشعراء عبر الأزمنة والعصور،فقد اتخذت موقفاً كاشفاً للممارسات الخطاءة،فشنت حرباً لا هوادة فيها.
[email protected]
ــ سلام البنّاي/ما يفسره البياض/منشورات الاتحاد العام في العراق 2021



#جاسم_عاصي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة في ديوان ابراهيم الخياط
- الواقعي والتاريخي في النص : رواية / المقهى والجدل / انموذجا


المزيد.....




- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جاسم عاصي - وظيفة الشعر وتحولاته